الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
إذا روى جماعةٌ من الثِّقاتِ حديثاً، وانفردَ أَحدُهم بزيادةٍ لا تُخالفُ المزيدَ عليهِ، مثل إنِ اتَّفقوا على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ البيتَ، وانفردَ أَحدُهم بزيادةٍ فقالَ: دخلَ البيتَ وصلَّى، وكذلكَ لو أَرسَلوُه كلّهم وأسندَهُ واحد، وكذلكَ لو أَوقفوه كلّهم على صحابي ورفَعَهُ واحدٌ إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، كانَ المسنِدُ والرافع والراوي للزيادةِ مقدَّماً، وكانَ [يَجِبُ] (2) الأخذُ بزيادتِهِ وإِسناده ورفعه. نصَّ عليه أحمد في عدَّةِ مواضعَ، فقالَ: الزَّائدُ أولى، والمثُبِتُ يشهد على النبيِّ بالإثباتِ فهو أوكد. وبهدْا قالَ جماعة [الفقهاء] (1) والمتكلمين.
وذهبَ جماعةٌ منْ أصحابِ الحديثِ إلى أَنَّ التفرِّدَ بالروايةِ عنِ الجماعةِ مردود، وأبداً يقولونَ في الردِّ: تفرَّدَ بِهِ فلان، وعن أحمدَ مثلهُ، فيكون في المسألةِ روايتانِ، لأَنَّة قالَ في الحجَّاج بنِ أَرْطاةَ: هوَ مِنَ الحفَّاظِ، قالوا له: فَلِمَ هو عندَ النَّاسِ ليسَ بذأكَ؟ قالَ: لأَنَّ في حدييهِ زيادةً على حديث النَّاس [ما]، يكادُ له حديثٌ إلاَّ فيه زيادةٌ.
__________
(1) في الأصل: "أن".
(2) ليست في الأصل. انظر "العدة" 3/ 1006.

(5/67)


فصلٌ
في دلاِئِلنا على الروايةِ الأولى
فمنها: أنَّ جماعةً لو رَوَوْا أَحاديثَ في حكمٍ منَ الأحكامِ، واتَّفقُوا على نَقْلِها، وانفردَ واحد بروايةِ حديثٍ يَتَضَمَّنُ حكماً زائداً على الأحكامِ التي اجتمعوا على نقلِها، عملنا بالخبر الذي رواه الواحد، كذلك الزيادة في الخبر الذي أجمعوا على نقله دونَ الزيادةِ، إنَّ الذي أوْجبَ الثقةَ بِهِ في الخبرِ الذي انفردَ بروايتهِ، هُوَ المعْنَى الذي أَوْجَبَ العملَ بقولِهِ في هذه الزيادةِ: وهي عدالتُهُ وحفظُهُ للحديثِ.
ومنها: أَن الشَّهادةَ نوعُ خبرٍ، وهي آكدُ منْ حيثُ اعتبارُ العدد فيها، والعدالةِ الباطنةِ في بعضِها، والذكورةِ والحريةِ، ثُمَّ إنَّ ألفَ عدْلٍ لو شَهِدُوا بأنَّ لَهُ عليه ألفاً، وشهدَ شاهدانِ بألفينِ، حُكِمَ بالزيادةِ، كذلكَ [في الخبرِ مثلُه] (1).
ومنها: أَنَّ السَّامع للزِّيادةِ يجوزُ أنْ ينْساها بعدَ أَنْ حَفِظَها، أو يَذهَلَ عن حفظ الزيادة فلم تَنضَبِطْ لَهُ، فأَمَّا أَنْ يَتَخَيَّلَ لَه زيادةً ويرويَها، هذا ممَّا لا يُظنُّ بالعدلِ الثقةِ، بلْ ما شَكَّ فيهِ يسكُتُ عنهُ، فلمَّا أقدمَ على روايَتها دلَّ على أَنَّهُ ضبطَها وتَحَقَّقَها.
ومنها: أَنَّ الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- لم ينكِرُوا الشُّذوذَ المرويةَ في القراءاتِ، فنُقِلَ ما انفردَ بهِ ابنُ مسعودٍ وأُبيٌّ، مَعَ كونِ القرآنِ احمَدَ من السُّننِ.
__________
(1) ما بين المعقوفين من "العدة" 3/ 1010.

(5/68)


فصلٌ
في الأسئلةِ لهم على أدلتنا
فمنها: أَنَّ أحمدَ صاحب مقالتِكم لمْ يأخذْ بالزِّيادةِ، فإنَّه روى عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ أعْتَقَ شِخصاً لَهُ من عبدٍ، قُوِّم عليه نصيبُ شريكِهِ ثم يعتق" (1)، وانفردَ ابنُ أبي عروبةَ فروى: "مَنْ أَعْتَقَ شركاً له في عَبْدٍ اسْتسْعيَ العبدُ غيرَ مشقوقٍ عليه" (2). فقالَ أحمدُ: حديثُ الاستسعاءِ يرويه ابنُ أبي عروبةَ، فأمَّا هشام وشعبة فلم يذكروه، ولا أَذْهب إلى الاستسعاء (3).
وأَمَّا اَلشَّهادةُ، فيجوزُ أَنْ يكونَ أَقرَّ بألفٍ بمحضرٍ من جماعة شهود، وأَقَرَّ بألفَيْنِ في مجلسٍ آخرَ فيه شاهدانِ.
وأَمَّا الخبرُ المنفردُ، فمنفصلٌ عن روايةِ الجماعةِ، وأَمَّا الزِّيادةُ في الخبرِ الواحدِ الذي اتفقتِ الجماعةُ على روايتِهِ من غير زيادةٍ وانفردَ الواحدُ بروايةِ الزيادةِ، فيَبعُدُ أَنْ تكونَ الزِّيادةُ مسموعةً، ولهذا رجِّحَ بالكثرةِ على خبرِ الواحدِ.
__________
(1) أخرجه أحمد (397)، والبخاري (2522)، ومسلم (1501)، وأبو داود (3940) والنسائي في "الكبرى" (4957)، وابن ماجه (2528) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه أحمد (7468)، والبخاري (2492) (2527)، ومسلم (1503) (4)، وص 1288 (55)، وأبو داود (3938) و (3936)، والترمذي (1348)، والنسائي في "الكبرى" (4962) (4963)، وابن ماجه (2527) من حديث أبى هريرة.
(3) انظر "المغني " لابن قدامة 14/ 359، و"العدة" 3/ 7، 100 - 1008.

(5/69)


فصلٌ
في الأجوبةِ عنِ الأسئلةِ
أمَّا قولُ أحمدَ في زيادةِ الاستسعاءِ، فليست من قِبَلِ المَزيد عليه، بلْ هي مخالفةٌ له، وهذا ليس ممَّا وقعَ الخلافُ فيهِ في هذا الفصلِ، فقدَّم ورجَّح روايةَ غير ابنِ أبي عَرُوبةَ بكثرةِ الرُّواةِ، وعَدَلَ عن روايةِ الاستسعاءِ لانفرادِ ابنِ أبي عروبةَ بها، ونحنُ في زيادةٍ لا تخالفُ المزيدَ فيهِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ قالَهُ على تلكَ الرِّوايةِ الأخرى، فيكونُ مذهباً آخرَ، والمذاهبُ لا يُحَاجُّ بعضُها بعضاً.
وأمَّا ما اعتذَروا بهِ في الشَّهادةِ من تجويزِ أَنْ يكونَ الإِقرارُ بأَلفينِ في
مجلسٍ آخرَ فموجودٌ في الزِّيادةِ، وأنْ يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعادَ الخبرَ في موطنٍ آخرَ، فزادَ تلكَ الزِّيادة، فسَمِعَها الواحدُ، فرواها.
وأمَّا اعتذارُهم في الخبرِ الذي انفردَ بِهِ، وأنه لم يَشهَدْ ما شَهِدَه الجماعةُ، والزيادةُ في الخبرِ الذي سمعوه مَعَهُ بخلافِ ذلكَ، ليسَ بعذرٍ صحيعِ، لأَنَّ التخصصَ بالحفظِ غيرُ مُنكَرٍ في الوجودِ، وكما يجوزُ الانفرادُ بسماع الخبرِ من أصلِهِ، يجوزُ أَنْ ينفردَ بحفظِ الزِّيادةِ دونَ الجماعةِ، أَلاَ تَرى أَنه يجوزُ أنْ ينفردَ بالحفظِ لأجلِ الحديثِ وإنْ شاركَهُ غيرُهُ في السَّماع، فكذلكَ الزِّيادةُ.

فصلٌ
في حميع شُبَههم
فمنها: أَنَّ الذي نَقَلَهُ الجماعةُ متحققٌ، والأصلُ نفيُ الزِّيادةِ، فلا يُتركُ

(5/70)


التحققُ والأصلُ الذي يَعضُدُ روايتَهم لخبرِ الواحدِ.
ومنها: أَنَّ الثِّقةَ بالجماعةِ أوفى، والظاهرُ أَنَّ الأمرَ ينضبطُ للجماعةِ ولا ينضبطُ للواحدِ، فلا يجوزُ تركُ ما روته الجماعةُ، والأخذُ بالزِّيادةِ عليه بروايةِ واحدٍ لعلَّهُ سها أو أخْطَأَ فتحمَّلَ الزيادةَ.
ومنها: أَنَّ الواحدَ إذا زادَ فقد خَالَفَ أهلَ الصِّناعةِ، فأُلْغِيَ قولُه، كما لو اجتمَعَ المقوِّمُونَ على قِيْمةِ مُتلَفٍ، وخالَفَهم واحدٌ بزيادةٍ في القيمةِ [فلا يُؤخذ] بتقويْمِهِ.
ومنها: أَنَّ بعضَ الرُّواةِ قدْ يسمعُ الحديثَ فيفسِّرُهُ ويتأَوَّلُهُ، فَسُمِعَ عنه التأويلُ والتفسيرُ فرُوِيَ عنْهُ معَ التفسيرِ فيصيرُ زيادةً، وهذا قَدْ وُجِدَ مثلهُ، فإنَّ ابنَ عباسٍ وأبا هريرةَ رَوَيَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُغْسَلُ الإناءُ من وُلوغ الكلبِ سَبْعاً" (1) قالَ ابنُ عباسٍ وأبو هريرةَ: والهرِّ (2).
وروى ابنُ عباسٍ: "أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبلَ أَن يُستَوفى (3) قالَ ابنُ عباسٍ: ولا أحسبُ غير الطعامِ إلاّ كالطَّعامِ. فأدرجه بعضن الرُّواةِ في كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلكَ ما رُوِيَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا زادتِ الإبلُ على مئةٍ
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 148.
(2) انظر: "سنن " أبي داود (72)، والتر مذي (91) من حديث أبي هريرة.
(3) تقدم تخريجه 2/ 150.

(5/71)


وعشرينَ استُؤْنِفَتِ الفريضةُ" (1) فَظنَّ الراوي أَنَّ الاستئنافَ إعادةُ الفرض الأولِ في المئةِ الأولى، فقالَ: في كلِّ خمسٍ شاة، فادرجَ في كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانَ كذلكَ، وَجَبَ التوقّفُ في الزِّيادةِ، وعمِلَ. بما رواه الجماعة.

فصلٌ
في الأجوبةِ عن شُبَههم
فَأَمَّا تعلّقُهم بالأَصْلِ والكثرةِ، فنحنُ أبداً ننقلُ عَن الأصلِ الثَّابتِ بدليلِ العقلِ بخبرِ الواحد المظنون، اعتماداً على أنَّ وجوب العمل به مقطوع، ولأنه قد ينفرد الواحدُ بالقربِ منْهُ في مجلس فيَسمَع (2) ما لم يسمعْهُ مَنْ بَعُدَ عنه، ويحتملُ أَنْ يَنْفَرِدَ بجَودةِ الحِفْظِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ شُغْل عَرَضَ لجماعةٍ بداخلٍ دَخَلَ، أو مُسلِّمٍ سَلمَ وهذا الواحدُ ناصتٌ مصغ لم يلتفتْ إلى الشُّغلِ الذي شغلهم. هذا كلّه مِنَ الممكنِ، وقد يستوونَ في السَّماع والحفظِ، ثُمَّ ينفردُ الواحدُ باستدامةِ الحفظِ، ولايستديمُ الباقونَ حفظَ أصلِ الخبرِ فضلاً عَنِ الزِّيادةِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (257) ومن طريقه البيهفى في "الكبرى" 4/ 94، وقال أبوداود: اسند هذا ولا يصح، رواه يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أييه عن جده.
(2) في الأصل: "يسمع".

(5/72)


وأَمَّا تعلّقُهم بأَنه خَالَفَ أهلَ الصِّناعةِ، فلأ يجوز أَنْ يُطلَقَ على الحفظ والرِّوايةِ بأنَّها صناعةٌ يُقَدَّمُ الحاذقُ فيها (1) على غيرِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ المستَهدِف لحفظِ الأحاديث ونقلِها لا يُقدَّمُ إمساكه وعدم علمِهِ بحديثٍ رواه واحدٌ ليسَ من أهلِ الصناعةِ، بلْ يجبُ على الحافظِ المستهدِفِ لهذا العلمِ أنْ يعملَ بروايةِ الثِّقةِ فيما يرويهِ لَهُ، وإنْ لمْ يكنْ حافظاً للحديثِ، ولا مكثراً لرواييهِ، وفارقَ التقويمَ، فإنَّهُ نوعُ موازنةٍ، وإذا اتفقَ المقوِّمونَ في رؤيةِ العينِ المقوَّمةِ، وإدراكِها بصفاتِها، والإحاطةِ. بمعانِيْها الخاصَّةِ التي توازيها الأَثمانُ، غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّ العددَ الأكثرَ هم المصيبونَ في القيمةِ، وأنَّ المكثرَ للقيمةِ تخيَّل زيادةَ قيمةٍ لِمَا خُيِّلَ إِليهِ منْ جَودةٍ أو صفةٍ أَعطاها ظنُّهُ من التقويمِ ما لا تُساوي.
فأَمَّا الزيادةُ في مسألتِنا، فإنَّها لفظٌ مسموعٌ وقولٌ مدرَكٌ، فلا يدخلُ التخيُّلُ والاشتباهُ في الإِثباتِ، فأمَّا الذُّهولُ عنْ أصلِ الحفظِ، والنسيانُ بعدَ الحفظِ، فمجوَّزٌ على الجماعةِ.
وأما قولهم: إنَّ الراويَ قد يفسِّر تفسيراً يزيد به في لفظ الخبر، فيظنُّ السَّامع أنَّها من جملةِ الخبرِ، فليس بكلامٍ لازمٍ؛ لأنَّه وإنْ جاز ذلكَ، إلاَّ أنَّ الظَّاهرَ أنَّه لا يُدرِجُ في كلامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منه، ولو عَوَّلْنا على مثلِ هذا، لكان الشَّكُّ واقعاً في جميع الأَخبارِ، فالذي أَجْمعوا عليه يكون زيادات فسَّرها روأتُها، فظنَّ السَّامعونَ لها أَنها منْ أَصْلِ الحديثِ، وليست كذلك.
__________
(1) في الأصل: "منها".

(5/73)


وأمَّا المنفردُ بزيادة قِيمةٍ على جماعةِ المقوِّمين، فالتقويم ظنٌّ واجتهادٌ، وآنئذٍ الخطأُ في جانب الواحد، وهو عن الاثنينِ أبعدُ، فأمَّا البيِّنةُ، فلا يغلطُ الإنسانُ، فيروي ما لم يسمع، وما لم يشهد.

فصل
إذا سمع خبراً فأرادَ أنْ يرويَ بعضَه ويتركَ بعضَه، ففيه تفصيلٌ:
فإنْ كانَ يتضمَّن أحكاماً يتعلَّقُ بعضها ببعضٍ، لم يجزْ أَنْ يفصلَ ويقطعَ البعضَ عن البعضِ ويرويَه، مثل قولِهِ: "نهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعامِ" (1)، ويقطعُة عنْ تمامِهِ وغايتهِ وهو قولُه: "حتى يَحُوزَهُ التّجارُ إلى رِحالِهم"، فيتغيَّرُ الحكمُ بروايةِ بعضِهِ.
وأمَّا ما يكون فيهِ حُكمانِ لا تعلُّقَ لأحدهما بالآخرِ، مثلُ قولِهِ: "لا جلبَ ولا جنبَ" (2)، فيروي ذلكَ في السِّياقِ ويحذفُ قولَهُ: "ولا شغارَ" فجائزٌ، وكذلكَ: "جَرحُ العَجماءِ جُبَارٌ، والرجلُ جُبَارٌ" (3) ولا يروي "وفي الرِّكازِ الخُمس"؛ لأَنَّ كلَّ حكمٍ مِنْ هذهِ مستقلّ بنفسِهِ، فيصيرُ كُلُّ حكمٍ. بمثابةِ الخبرِ القائِمِ بنفسِهِ معَ خبرٍ آخر، لا يلزمُهُ أنْ يروي الخبرينِ، كذلكَ الحُكْمان (4) في الخبرِ الواحدِ.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 150.
(2) تقدم تخريجه 1/ 51.
(3) تقدم تخريجه 3/ 413.
(4) في الأصل: "الحكمين".

(5/74)


وقد سئِلَ صاحبُنا أحمدُ- رضي الله عنه- عَنِ الرَّجلِ يحتاجُ إلى الكلمةِ منَ الخبرِ فقالَ: أرجو أنْ لا يكونَ عليهِ شيءٌ إذا اقتصرَ لطولِ الخبرِ. وقدْ ذكرَ أصحابُه عنه أنَّهُ كانَ يُخرِّجُ منَ الأحاديثِ بقَدْرِ حاجتِهِ ويتركُ الباقي (1).
وذكرَ الأثرمُ فِى كتابِ "العللِ": أَنَّ أبا عبدِ اللهِ ذُكِّرَ بحديثِ طَلْقِ بنِ علي في المسكرِ الذي ذكرَ فيه: "ولا يشربه رجلٌ ابتغاءَ [لَذَّة] سكرٍ" (2) فقالَ: ربَّما تركْتُ هذهِ الكلمةَ، وهي "ابتغاءَ لذةِ سكرٍ"، مخافةَ أن يتأوَّلوها على غيرِ تأويلِها.
وقالَ أَحمدُ: لا نَرى بأساً باختصار الأحاديثِ.
فوجهُ المنع من روايةِ البعضِ فيما يتعلقُ بعضُه ببعضٍ، أَنَّ فيه تغييراً لحُكمٍ حتى إنْ كانَ شرطاً، أو غايةً، أو استثناءً، بقطْعِهِ عنْ شرطِهِ وغايتهِ، بطلَ المقصودُ بِهِ، حتى إِذا رَوى: "نهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ بيع الثمرِ" (3) وتَرَكَ "حتى يُزْهِيَ"، و"نهى عن بيع الطعام" وترك "حتى يَحُوزَهُ التُّجارُ إلى رِحالِهم"، غَيَّرَ حكمَ اللهِ في بيع الثمارِ، وبيع الطَّعامِ، وحكمُه سبحانَه
__________
(1) انظر "العدهَ" 3/ 1015 - 1016.
(2) أخرجه أحمد في "الأشربة" (32) وابن أبي شيبة 8/ 102، والطبرانى في "الكبير" (8259)، قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 70: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات.
(3) أخر جه أحمد 3/ 221، 250، وأبو داود (3371)، والتر مذي (1228)، وابن ماجه (2217) وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 340، من حديث أنس.

(5/75)


النهيُ عن بيعِهما قبلَ الغايتينِ المذكورتينِ فيهما.
ووجهُ جواز روايةِ البعضِ، إذا كانَ بعضُ الحديثِ حكماً مستقلاً: أنها روايةُ حكمٍ مستقلِّ بنفسِهِ، فلا تقفُ روايتُه على ضَمِّ روايةِ حكمٍ آخرَ إليه، كما لو كانَ الحكمانِ في خبرينِ.
ووجهُ استحبابِ روايةِ الحديث كلِّهِ أَنَّ النيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "نَضَّرَ الله امرأً سَمِعَ مَقالَتِي فَوَعَاها، فأَدَّاها كما سَمِعَها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أَفقَهُ منه" (1).

فصلٌ
في تراجيع الألفاظِ إذا تقابَلَتْ، ولم يمكنِ الجمعُ، وَجَبَ ترجيحُ ما يظهرُ فيهِ التأكيدُ، إمَّا في الإسنادِ أوِ المتن (2).
فأمّا ترجيحُ إلإِسنادِ، فمن عشرةِ أوجهٍ وفي الحادي عشر روايتان، وأمّاَ ترجيح المتن، فالوجه جوازه من وجوه يأتي ذكرُها في فصل يجيء بعدَ هذا الفصلِ إنْ شاء الله.
فأمَّا أوَّلُ وجوهِ الترجيح في الإسنادِ: فكثرةُ العددِ، نَصَّ عليهِ أحمدُ، فقالَ في فسخ الحجِّ إلى العمرةِ أوذُكِرَ له، حديثُ بلالِ بنِ الحارثِ: "لنا خاصةً" (3): إلا أَنَّ أحدَ عشرَ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يروونَ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 7.
(2) انظر "العدة" 3/ 1019 وما بعدها.
(3) أخرجه أبو داود (1808)، والنسائى 5/ 180، وابن ماجه (2984) من =

(5/76)


[الفَسْخَ] (1)، أينَ يقعُ بلالُ بنُ الحارثِ منهم؟
وبِهِ قالَ أصحابُ الشافعيِّ.
واختلفَ أصحابُ أبي حنيفةَ (2)، فذهبَ الجُرْجانيُّ، وأبو سفيانَ السَّرخسيُّ إلى أنهُ يُرجَّحُ بكثرةِ الروأةِ، وحكى أبو سفيانَ عن الكَرْخيِّ أَنَّه لا يرجح بذلكَ.

فصلٌ
فى جمع أدلَّتنا
فمنها: ما رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لمَّا قالَ لهُ ذو اليدينِ: أَقصرَتِ الصلاةُ أمْ نَسِيتَ (3)؟ لم يرجعْ إلى قولِهِ حتَّى أخْبَرَهُ بذلكَ أبو بكرٍ وعمرُ، ولمَّا روى المغيرةُ لأبي بكرٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطعمَ الجدَّةَ السًّدسَ (4)، طلبَ الزِّيادةَ، فشهدَ بذلكَ محمدُ بنُ مَسلَمةَ فقَضَى به، وهذا يدلُّ على أنَّ
__________
= حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يارسول الله، فَسْخُ الحجِّ لنا خاصةً أو لمن بعدنا؟
قال: "بل لكم خاصة". وإسناده ضعيف.
(1) انظر "العدة" 3/ 1020، و"نيل الأوطار" 4/ 347، و"زاد المعاد" 2/ 178 - 179.
(2) انظر "الفصول" 3/ 162، و"أصول السرخسى" 2/ 224، و"كشف الأسرار" 3/ 102.
(3) تقدم تخريجه 2/ 550.
(4) تقدم تخريجه 2/ 117.

(5/77)


الخبرَ يقوى إسنادُهُ بزيادةِ العددِ ويرجَّحُ بذلكَ.
ومنها: أَنَّ الجماعةَ أضبط وآكدُ حفظاً، فإنَّ الواحدَ لو نَسيَ ذكَّره الآخرُ، والظَّاهرُ أَنَّ ثقةَ النَّفْسِ إلى قولٍ تَضافَرَ على نقلِهِ جماعةٌ، أَوْفى من ثقتِها إلى الواحدِ المجوَّزِ عليه الخطأُ والنِّسيانُ، وقد أشارَ سبحانَهُ إلى ذلك بقوله: {فرجلٌ وامرأتانِ} إلى قولِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فكانَ خبرُ الجماعةِ آكدَ لكونِهِ أقربَ إلى الحفظِ والضَّبطِ، وأبعدَ منَ الغلطِ والسَّهوِ.
ومنها: أنَّ للأعلمِ الأتقنِ زيادةً، فالجماعةُ أحقُّ؛ لأنَّ لهم عدةَ أراءٍ وعقولٍ تضبطُ وتحفظُ.
ومنها: أنَّ الله سبحانَه جعلَ الحدَّ الواجبَ بالزِّنى مِنْ أَكبرِ الحدودِ وآكدها، وجعلَ الشَّهادةَ عليه أكثرَ عدداً من كلِّ شهادةٍ، فدلَّ على أَنَّ كثرةَ العددِ تقوِّي في النًفسِ صحَّةَ الأخبارِ، وتؤكِّد الثِّقةَ بها.
ومنها: أَنَّ كثرةَ وجوِه الشَّبَهِ تؤكِّدُ القياسَ، كذلكَ الأخبارُ إذا كثرت رواتُها غلبَ على الظنِّ [صِحَّتُها].

فصل
في شُبُهات المخالفِ
فمنها: أَنَّ خبرَ الواحدِ وخَبر آحادٍ عندَهُ سواءٌ في موجَبِهما، وهو الظَّنُّ، وإذا كانَ الحاصلُ بهما واحداً، وهو الظنُّ، فلا وجهَ لترجيح أحدِ المتساويينِ على الآخرِ.

(5/78)


والدليلُ على ذلكَ من أصولِ الشَّريعةِ الشَّهادةُ بالأحكامِ، فالحقوقُ والأفعالُ التي تترتبُ عليها الغراماتُ والعقوباتُ، فإنَّه لو أقامَ أحدُ المتداعيين شاهدَيْنِ، وأقامَ الآخرُ. بما يدَّعيهِ أربعةً لم يرجح، والعِلًةُ في ذلكَ ما ذكرَ من تساوِيْهما في الموجَبِ، وهو غلبةُ الظنِّ، كذلكَ هاهنا ولا فرقَ، إذ كلُّ واحدٍ منهما خبرٌ يَنْبَني عليهِ حكمٌ شرعيٌّ.
ومنها: أَنًا أجمعْنا على أَنَّ الحادثةَ إذا اختلفَ في حكمِها أهل الاجتهادِ، فأَفتى قومٌ بإباحةٍ، وقومٌ بحظرٍ أو إيجابٍ وإسقاطٍ، فكانَ عددُ المُفتِينَ بأحدِ الحكمينِ أكثرَ عدداً، لم يترجَّح الحكمُ بالعددِ، كذلكَ في بابِ الأخبارِ ولا فرقَ.

فصلٌ
في أجوبتنا عن شُبَههم
فأَمَّا الأوَّلُ، وأنَّها تَساوَتْ في الظَّنِّ فلَعَمْري، لكنَّ غلبةَ الظنِّ بقول الأكثرينَ وروايتهم آكدُ في النَّفسِ، وأوقَرُ في القلبِ؛ ولهذا تُحدِثُ الكثرةُ ما لا يكون معَ القِلة، وهو أنَّها تنتهي إلى العلمِ القَطْعيِّ إذا صدرتْ في خبرِ التواترِ، وتمتازُ علَى ما يحصلُ بالآحادِ، وكذلكَ الواحدُ معَ الجماعةِ يستويانِ في رتبةِ الظنِّ في الأصلِ، لكنَّ الكثرةَ تُحدِث في النَّفسِ ما لا يجدُهُ الإنسانُ في خبرِ الواحدِ، ولهذا أثرت شهادةُ الأربع ما لم تؤثرْ شهادةُ الاثنينِ، فهذا يرجِّحُ القياسَ على القياسِ بكثرةِ الأشباهِ، وأَلْحَقَ الشيء بنظيرِه إذْ أشبَهه منْ وجهٍ، فإنْ ألحقهُ قائسٌ آخرُ بأصلٍ آخرَ مِنْ وجوهٍ كثيرةٍ وأشباهٍ عدةٍ، ترجَّحَ بها على القياسِ الذي أشبهَ الأصلَ الآخرَ من وجهٍ واحدٍ.

(5/79)


وإنَّما لم تترجَّحِ الشَّهادةُ بكثرةِ العددِ، فقدْ كملَ فيما كثرةُ العددِ بقبولِ الأربع في حدِّ الزِّنى ورد ما دونهم، وما ذلكَ إلا إعطاءٌ للعددِ منزلةً (1) ورتبة لم يعطَها ما دونَه، على أَنَّ الشَّهادةَ تخالفُ الأخبارَ، ولهذا لا يُقدَّمُ فيها الأعلمُ، ولا الملابسُ للقصَّةِ، ولا الأقربُ إلى المشهود بِهِ من الحالِ. والخبر يُقدَّم [فيه] رواية الأعلمِ والأقربِ، كروايةِ عائشةَ في أحوالِ رسولِ اللهِ في بيتِهِ، وروايةِ حَمَلِ بنِ مالكٍ في أمر عمودِ الفُسطاط لما كانَ بالقصةِ خبيراً (2)، وإلى ما شاكلَ ذلكَ من الحفظِ والضَّبطِ والفقهِ، فجازَ أنْ يرجّحَ بالعددِ؛ لأَنه أقربُ إلى الضَّبطِ، وأبعدُ من الغلطِ والسَّهوِ.
وأمَّا إسقاطُ التَّرجّحَ بالعددِ في بابِ الفتيا والاجتهادِ، فإنَّ قَبولَ المقلِّدينَ قولَ المجتهدينَ ليسَ بمعلومٍ، ولا هُوَ إلاّ محضُ التقليدِ، والمخبرُ يُؤَثرُ خبرُه ظناً لمنْ أخبَرَهُ، وكلما كَثُرَ عددُ المخبِرِينَ قَوِيَ الأثرُ في النَّفس، وبعد عن التُّهمةِ والشَّكِّ، وإنَّما يتحدّدُ العلمُ بالعددِ الذينَ يحصلُ بهم التواتُرُ، [و] قَدْ مضى التَّرجيحُ بالعددِ.