الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
قالَ أصحابُنا: فإنْ قالَ مَنْ عاصرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: أنا صحابىّ، قُبِلَ منه، كما لو قالَ غيرُهُ: هذا صحابيٌّ؛ لأنَّ قولَه الظاهرُ صدقُه فيه، فهو كقول غيرِهِ فيه.
فإنْ قيلَ: قولُ الغير لا يُتهمُ فيه، وقولُهُ لنفسِهِ إثباتُ رتبةٍ، فهو متهمٌ فيها، كما نقولُ في الشَّهادةِ: يشهدُ لغيرِهِ، ولا يشهدُ لنفسِهِ، ولا لمن يجري مَجْرى نفسِه، كولَدِهِ.
قيلَ: باطلٌ، [وهو] كخبرٍ يتضمَّنُ نفعاً لراويهِ، فإنه يقبلُ ولا يردُّ، كما لو تَضمَّنَ إيجابَ حقٍّ عليه.

فصلٌ
إِذا قالَ الصَّحابيُّ أوِ التابعيُّ: كانوا يفعلونَ كذا، حُمِلَ على الجماعةِ

(5/64)


دونَ واحدٍ منهم، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ، وذلك مثلُ قول عائشةَ: كانوا لا يقطعودنَ فِى الشَّيءِ التَّافهِ (1)، وقولِ إبراهيمَ النَّخَعيًّ: كانوا يحذفون التكبير حَذفاً، فيكونُ هذا حكايةً عن جماعتِهم، لا سيَّما وظاهرُ الأمرِ فيه: أنهم أخرجوه مخرجَ الحُجَّةِ والإسنادِ إلى قولِهم، والحجةُ إنَّما تكونُ راجعةً إلى ما أجمعوا عليه دونَ ما قاله الواحدُ منهم؛ ولأَنَّ في إسقاطِ الباقينَ إهمالاً لهم، وليس في الصَّحابةِ مَنْ يُهمَلُ أمرُه إلى حدٍّ لا يُذكرُ، ويُذكَرُ غيرُه.

فصلٌ
في شبهةِ بعض مَنْ خالف في ذلك
قالَ: لو كانَ هذا عبارةً عن جماعتِهم لما سَاغَ الاجتهادُ في ذلكَ، ولمَّا سَوَّغْتُم الاجتهادَ، دلَّ على أنَّ القولَ عادَ إلى بعضِهم.
والجوابُ: إنما سوَّغْنا الاجتهادَ، لأنَّ الطريقَ ظنيٌّ وليسَ بقاطعِ، فهو كخبرِ الواحدِ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - لا يوجبُ قطعاً لأجلِ الطرَّيقِ، لا لأنَّ قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسُوغ في خلافِهِ الاجتهادُ.

فصلٌ
إذا قالَ الصَّحابيُّ: قالَ رسولُ اللهِ كذا وكذا، حُكِمَ بأَنه سَمعَ ذلكَ
__________
(1) أخرجه ابن أبي شبية في "مصنفه " 9/ 476 - 477. وانظر "نصب الراية" 3/ 360.

(5/65)


من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويصيرُ كقولِهِ: سمعتُ ذلكَ من رسولِ اللهِ، أو كقولِهِ: حدَّثني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وحكيَ عن أبي بكرٍ بن الطيبِ الأشعريِّ: أَنَّه لا يحكم بأنه سمع ذلكَ منه، بل يجوزُ أنْ يكونَ بينهما واسطةٌ (1).

فصلٌ
في الدلالةِ على ما ذهبْنا إليه
إنَّ الظاهرَ من قولِهِ: قالَ، أنَّه سمعهُ منه ومن قولِهِ، كقولِهِ: قامَ رسولُ الله، ودخلَ رسولُ اللهِ، وتزوَّجُ رسولُ اللهِ، وباعَ رسولُ اللهِ، فإنَّهُ يكونُ الظَّاهرُ أَنهُ رأى ذلكَ منهُ، كذلكَ قولُهُ: قالَ، الظاهرُ أَنَّهُ سمع ذلكَ منه.

فصلٌ
في شبههم
قالوا: قد يَقْطعُ القَوْلَ لِثِقَتِهِ إلى الواسطةِ فيما بينَه وبينَ رسولِ اللهِ، إمَّا لكثرةِ عددٍ، أو لعدالةِ الراوي وورعِهِ، ولهذا قلتم في المرسل: إذا قالَ الرَّاوي: قالَ رسولُ اللهِ (2).
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 999.
(2) يعني أن صورة الخبر المرسل أن يقول من لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله.
انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 123.

(5/66)


والجوابُ: أَنه (1) بتركِ الواسطةِ يُوهمُ بل يعطي أَنَّه سمعهُ، فلا يجوزُ أن يظنَّ بالراوي أَنْ يأتيَ بلفظٍ يوهمُ، ويتركَ اللًفظَ الذي يزيلُ الوهمَ.