الواضح في أصول الفقه فصلٌ
فإنْ قالَ المحدِّثُ: أخبرنا، فهل يجوزُ للمحدِّث عنه أن يقول:
حدَّثنا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لأنَّه حكى عنه خلافَ لفظِه الذي سمعَه منه.
قال أحمد: إذا قال الشَّيخُ: حدَّثنا، فقل: حدثنا، وإذا قال:
أخبرنا، فلا تقل: حدَّثنا.
__________
(1) فِى الأصل: "فهو" وكلمة "هو" هي الخبر لأن.
(2) انظر "العدة" 3/ 977.
(5/50)
كما لو قال: ضربني وشتمني، أو سلم علي، أو
ما شاكله من الأفعالِ والأقوالِ لا يكونُ صادقاً في ذلك إلا أن
يكونَ الفعلُ والقولُ صدر عن المضاف إليه ذلك.
والثانية: يجوزُ، لأنه قال في رواية عبد الله بن أحمد
الكِسَائي: حدَّتنا وأخبرنا واحدٌ، وهي اختيارُ أبي بكر
الخلاَّل.
فصل
فإنْ قال: أجزتُ لك هذا الحديث، أو ما صحَّ عندك من حديثي،
جازَ أن يقول: أجازَ لي فلانٌ، وحدَّثني وأخبرني فلان إجازةً،
ولا يقولُ: حدَّثني وأخبرني مطلقاً؛ لأنَّه لم يخبره، ولم
يحدِّثْه، وإنَّما أجازَ له إجازةً.
فصلٌ
وإذا ناولَه كتاباً فيه حديث هو سماعُه، فقال له: قد أجزتُ لك
أن ترويَ عني ما فيه من الحديثِ، جاز له أن يقولَ: ناولَني
فلانٌ، أو يقول: أخبرني فلانٌ مناولةً، وكذلكَ إذا كتبَ إليه
بحديثٍ، جازَ أن يقول: كاتبني فلانٌ، أو أخبرني فلانٌ مكاتبةً.
وقد نصَّ أحمدُ على هذا، فقال في رواية المرُّوذي: إذا
أعطيتُكَ كتابي، وقلتُ لك: اروِه عني، وهو من حديثي، فلا تبالِ
سمعتَه أو لم تسمعه (1).
وقال أبو بكر الخلال: أخبرني أبو المثنى العنبري، أنَّ أبا
داود خبَّرهم،
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 982.
(5/51)
أنَّ أبا عبدِ الله قال: لم أسمع من أبي
تَوْبةَ (1) شيئاً، كَتَبَ إليَّ بأحاديث.
قال أبو بكر الخلال: وكان محمّدُ بنُ عوفٍ الحمصي (2) يحدِّثنا
كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسندِ خاصة، فيقول: أخبرني
أبو ثَوْرٍ (3) في كتابِه إليَّ.
وقال عبدُ الله: رأيت عبدَ الرحمن المتطبب (4) جاءَ إلى أبي
فقال: يا أبا عبدِ اللهِ: أجِز لي هذين الكتابين، قال: ضعهما،
فأخذَهما أبي، فعارضَ بهما حرفاً حرفاً، فلما جاءَ دفعهما
إليه، وقال: قد أجزتُ لكَ هذه.
__________
(1) في الأصل: أبي ثور، والتصحيح من "سؤالات أبي داود
السجستاني للإمام أحمدا" عند الترة رقم (329).
وأبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي الطرسوسى، روى عن ابن
المبارك، وابن عيينة، وروى عنه: أبو داود، والدارمي، وغيرهم.
انظر "تهذيب الكمال" 9/ 104، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 653.
وانظر "العدة" 3/ 982.
(2) هو: أبو جعفر محمد بن عوف بن سنان الطائي الحمصى، من أصحاب
الإمام أحمد، معروف بالتقدم في العلما والمعرفة على أصحابه،
روى عن الامام أحمد وغيره. أثنى عليه أبو بكر الخلال، وروى عنه
مسائل مفيدة. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 310، و"سير أعلام
النبلاء"12/ 613.
(3) هو الامام الحافظ الحُجَّة المجتهد مفتي العراق، إبراهيم
بن خالد الكلبي البغدادي. ولد في حدود سنة سبع ومئة، وتوفي سنة
أربعين ومئتين. انظر "سير أعلام النبلاء" 12/ 72.
(4) هو: أبو الفضل البغدادي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، من
أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه مسائل مفيدة.
انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 208.
(5/52)
وبهذا قال أصحاب الشَّافعي (1).
وقال أبو حنيفةَ وأبو يوسف، فيما حكاه أبو سفيان عنهما: لا
تجوزُ الروايةُ بالإجازة ولا بالمناولةِ ولا بالمكاتبةِ، سواء
قال: حدَّثني به إجازةً أو مكاتبةً أو مناولَةً، أو لم يقل ذلك
(2).
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنَّه قال (3): إنْ قال
الراوي لرجلٍ: قد أجزتُ لك أَنْ ترويَ عني جميع ما في هذا
الكتاب فاروِه عني، فإنْ كانا قد علما ما فيه، جازَ له أن
يرويَه فيقول: حدَّثني فلانٌ، وأخبرني فلانٌ، كما أنَّ رجلاً
لو كتب صكًّا، والشُّهودُ يرونه ثم قال لهم: اشهدوا عليَّ
بجميع ما في هذا الصَّكِّ، جازَ لهم إقامةُ الشَّهادةِ عليه.
بما في ذلك الكتاب، وأمَّا إذا لم يسمع الراوي ولا السَّامع.
بما فيه، قال: فإنَّ الذي يجب على مذهبنا أنَّه (4) لا يجوز أن
يقول: أخبرني فلانٌ، كما قالوا في الصَّكِّ إذا أشهدَهُم، وهم
لا يعلمون ما فيه، لم يصح الإشهادُ، فكذلك في الأخبارِ، فيصيرُ
كأنَّه قال: ما يصحُّ عندَكَ مِنْ صَكٍّ فيهِ إقراري، فاشهدْ
عليَّ فيه وبه.
__________
(1) انظر "المستصفى" 1/ 165، و"الإحكام" للآمدي 2/ 142.
(2) بل الصحيح في مذهب أبي حنيفة أنه إن علم المجيز ما في
الكتاب جازت الإجازة والرواية. بمقتضاها، وإن لم يعلم ما في
الكتاب لم تجز الإجازة، لأن في هذا صيانة الكتاب والسنة. انظر
"فواتح الرحموت" 2/ 165، و"تيسير التحرير" 3/ 43.
أما منع الرواية بالإجازة فقد ورد عن أبى طاهر الدباس من
الحنفية، وروي عنه أنه قال: مَنْ قال لغيره: أجزت لك أن تروي
عني، فكأنه قال: أجزت لك أن تكذب علىَّ.
(3) 1 نظر "الفصول" 3/ 192، و"العدة" 3/ 984.
(4) في الأصل: "فإنَّه".
(5/53)
قال: فإن عَلِمَ المكتوبُ إليه أَنَّ هذا
كتابُ فلانٍ إليه، جازَ له أَنْ يقولَ: أخبرني فلانٌ، يعني
الكاتبَ، ولا يقول: حدَّثني.
فصلٌ
في حجنا على جواز الرّواية بالإجازة والمناولةِ والمكاتبه على
الوجهِ الذي ذكرناه (1)
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْفذَ. ممكاتَباتِهِ
على أيدي أصحابِه إلى أمراءِ الأطرافِ، وملوكِ العربِ،
والحُبشانِ، والرومِ، والفرسِ على ما نطقَتْ به السِّيرُ
والتواريخُ. فكان قولُهم عنه - صلى الله عليه وسلم -: هذا
كتابُهُ، روايةً عنه وإخباراً. بما تَضَمَّنه مِنَ الدِّعايةِ
من أحكامِ الإسلامِ.
ومنها أَنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه لم يسمعْ منه ما فيهِ من
لفظِهِ ولا قرأَهُ على مَنْ أجازَهُ له، ولا مَنْ ناولَهُ،
وذلك لا يمنعُ من قولِهِ: حدَّثني وأخبرني، كما لو كان
السَّامع هو القارئ للحديث، ثم يجوزُ له أن يقولَ: أخبرنى
وحدثني، بقراءتِهِ هو على الشيخ، كذلك هاهنا.
وأمَّا المكاتَبَةُ، فالكتابة حروف يُفهمُ منها مرادُهُ، فهي
كاللفظ المسموع.
ومنها: أَنَّ مبنى الأمرِ في الحديثِ على حسنِ الطنِّ،
والظاهرُ من المكاتبةِ أنها روايةٌ؛ ولهذا كانَ رسولُ الله -
صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالبلاغ فكان يُكاتِبُ، فلو لم
يعلمْ أنَّ الكتابةَ بلاغٌ يخرجُ به مِنْ عُهْدةِ الأمرِ،
لَمَا أقامَها
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 984.
(5/54)
مقامَ القولِ، فكذلك تبليغُ العلمِ عنه -
صلى الله عليه وسلم - وبلاغُ العلماءِ عنه كبلاغِهِ عن اللهِ،
والظَّاهرُ صحَّةُ المكاتبةِ وصدقُها.
فصلٌ
في شُبَهِ المخاِلفِ (1)
فمنها: أنه لم يوجَد مِنَ المحدِّث فعلُ الحديث، ولا ما يجري
مجرى فعلِهِ، فلم يجزْ أن يقولَ: أخبرني، ولا حدَّثني، ومتى
قال ذلك كان كَذِباً.
ومنها: أن مثلَ هذا لا تحصلُ به الشَّهادةُ على الشهادةِ بأن
يناولَهُ كتاباً مسطوراً، اُو يكتبَ إليه، فيقولَ: اشهدْ على
شهادتى في هذا، أو في كذا، مكاتبةً إليه، لا قولاً له، كذلك
الخبرُ.
فصل
في الأجوبة
فأمَّا الأوَّلُ فليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ قولَهُ: ارْوِهِ عني، أو
أجزتُ لك، أو مكاتبتُهُ بالحديثِ، كلّها أفعالٌ حقيقةً، فلم
يبقَ إلأ أنَّ المعدومَ من ذلك صريحُ قولهِ: حدَّثني فلان،
وهذا لا يمنعُ جوازَ الروايةِ، كما إذا كان القارئُ للحديثِ
على الشَّيخ هو السَّامعَ له، فإنه هو الفاعلُ دولتَ الشَّيخ
المسموع عنه، لِمَ يصحُّ أَنْ يقولَ: أخبرني وحدَّثني؟ كلُّ
ذلك استناداً (2) إلى إقرارِه به، وإذنِهِ لَهُ، كذلك هاهنا
ولا فرق.
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 985.
(2) في الأصل: "إسناداً".
(5/55)
وأمَّا تعلُّقُهم بالشَّهادة على الشهادة:
فإنَّ (1) مبنى ذلك على التغليظِ والتأكيدِ والاحتياطِ، بدليلِ
اعتبارِ العددِ والعدالةِ الباطنةِ في الحدود بلا خلافٍ، وفيما
سواها على مذهبِ جماعةٍ من الفقهاءِ، والمنع من العنعنةِ، ومن
وراءِ حجابٍ، ومن المرأة على الانفرادِ في المالِ، والنساء
وإنْ كثُرنَ مع الرجالِ في العقوباتِ.
وأما أمرُ الأخبارِ فسهلٌ يُقبلُ مِنَ النساءِ والعبيدِ، ومَنْ
ظاهِرُهُ العدالةُ حتى في العقوباتِ والحدودِ.
فصلٌ (2).
فيمن قال: حدَّثني وأخبرني فلانٌ عن فلانٍ، يحمل على أنه
سمعَهُ منه مِنْ غيرِ واسطةٍ ويكون خبراً متصلاً.
وقد قالَ أحمدُ في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواهُ
الأعمشُ (3) عن إبراهيمَ عن علقمةَ عن عبدِ اللهِ عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -، فهو ثابتٌ، وما رواه الزُّهريّ عن سالم
عن أبيهِ، وداودُ عن الشَّعيِّ عن علقمةَعن (4) عبد اللهِ عن
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثابتٌ، وبهذا قال أصحابُ
الشَّافعي.
ومِنَ الناسِ مَنْ قالَ: حديثُ العنعنةِ غيرُ صحيح.
__________
(1) والأصل: "إن".
(2) انظر "العدة" 3/ 986.
(3) في الأصل: "عن الأعمش".
(4) في الأصل: "وعبد الله"
(5/56)
لنا: أَنَّ قولَهُ: عن فلانٍ، الظاهرُ
أَنَّه عنه، وأنَّهُ هو الراوي، وقولَهُ: عن فلانٍ، الظاهرُ
أنَّهُ سمعهُ منه، وأن كلَّ واحدٍ سمعهُ ممَّن عزاهُ إليه،
والأصلُ عدمُ الواسطةِ ما لم يذكرْ واسطةً.
قالوا: قولُ عبدِ الرزاق: عن مَعْمَرٍ، يحتمل أَنْ يكونَ عن
معمر وبينه وبينه رجالٌ، مثلُ قولِ القائل: حدَّثني فلانٌ عن
النبيِّ، وإنَّما هو بإسنادِ واحدٍ عن واحدٍ إلى النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم -، وقوله: هذا يرويه أحمدُ عن الحسنِ، وإن كان
بينه وبين الحسن رجالٌ.
قيل: الظاهرُ عدمُ الواسطةِ، إلاَ أَنَّه إذا (1) عُلِمَ أنَّه
لم يُدْرِكْ مَنْ عزاهُ إليه، فتلك قرينةٌ صَرَفَتِ اللَّفظَ
عن ظاهرهِ.
فصلٌ
إذا رَوى صحابيّ عن صحابيِّ خبراً عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لزمَهُ العملُ به، ولا يلزمهُ سؤالُ النبيِّ عمَّا رواه
عنه، وإنْ قدر على لقائِهِ وسؤاله، وحُكِيَ عن بعضِ الأصوليين
أنَّه متى قَدَرَ على سؤالِهِ لزمَهُ سؤالُهُ.
فصل
في دلائلنا
فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يبعثُ
العمَّالَ والسُّعاةَ والقضاةَ والمعلمين
__________
(1) في الأصل: "وإذا".
(5/57)
للأحكامِ إلى البلادِ والأطرافِ، ليرجعَ
الناسُ إلى قولِهم، ويحكموا (1) بحَسبِ أخبارهِم، ويقتصروا (2)
على ذلك منهم، ولم يجبْ على أحدٍ منهم أن يسألَ النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - إذا وفدَ إليه وقَدِمَ عليه، وقد أشار الله
سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فلولا أنَّ تبليغَ
الإنذارِ بأخبارِ هؤلاء الآحادِ لازمٌ، والبناءَ عليها
للأحكامِ واجبٌ، لَمَا كان لنَدْبِهم إلى ذلك معنىً.
ومنها: أنَّه لو كان سؤالُهُ واجباً بعد الإخبارِ عنه، لكان
على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المشافهةُ بذلك، ولم
يُجْزِه الاخبارُ [و] البلاغُ بواسطة، فلمَّا لم يجبْ على
النبيِّ ذلك، لم يجبْ على السَّامع للخبرِ الاستقصاءُ إلى
سؤالِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد صرَّحَ بذلكَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ حيثُ قالَ: "ليبلغ
الشَّاهدُ الغائبَ" (3) وهذا تصريحٌ بالإبلاغ، وجَعْلِه طريقاً
للخطابِ والإيجابِ.
فصلٌ
في شبهةِ المخاِلفِ
بأنَّ لهم طريقاً إلى معرفة الحكم بالقطع واليقينِ، وصارَ.
بمثابةِ مَنْ قَدَرَ
__________
(1) في الأصل: "ويحكمون".
(2) في الأصل: "ويقتصرون".
(3) أخرجه البخاري (1739) (1741) من حديث ابن عباس، ومسلم
(1679) من حديث أبى بكرة.
(5/58)
على النصِّ فعدلَ إلى الاجتهادِ، وقول
الصَّحابي كالاجتهادِ؛ لأنَّه مظنونٌ لا مقطوعٌ.
فالجوابُ؛ أنهُ ليس يمتنعُ مثلُ هذا، كما يُبنَى على حكمِ
أقوالِ رسلِهِ وقضاتِهِ في الآفاقِ.
وبالعدلِ عن مقتضى أدلَّةِ العقولِ على براءةِ الذِّمم، وخلوِّ
السَّاحات من الغراماتِ والكُلَفِ والمشاقِّ وغيرِ ذلك من
التَخَسُّرِ في المالِ وإتعابِ الأبدانِ؛ بأخبارِ الآحادِ،
فقضينا بها مع كونها موجبَةً للظُّنون، فأزلنا القطعَ بالظنِّ،
فهذا في حكمِ الأصولِ.
وأمَّا الفروع: فإنَّ مَنْ وَجَدَ إناءً مِنَ الماءِ على شاطئِ
دجلةَ أو فراتٍ يَتوضَّأُ منهُ مع كونِ طهارتِه مظنونةً،
وتجويزِ نجاستِهِ حاصلاً (1)؛ لأنَّه ماءٌ قليلٌ معرَّضٌ
للنَّجاسةِ، وأما الفراتُ فمقطوع (2) بطهارتهِ، ولا يلزمُ
العدولُ عن ماءِ الإناءِ إلى ماءِ دجلةَ والفراتِ.
فصلٌ
فيمن يقعُ عليه اسمُ الصَّحابيّ
ظاهرُ كلامِ أحمدَ: أَنَّ الصَّحابيَّ يُطلقُ على مَنْ رَأَى
النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يختصَّ به اختصاصَ
المصحوبِ ولا رَوَى عنه الحديث "لأنَّه قال في روايةِ
__________
(1) في الأصل: "حاصل".
(2) في الأصل: "مقطوع".
(5/59)
عبدوسِ بنِ مالك العطارِ: "أفضلُ النَّاسِ
القرنُ الدين بُعِثْتُ فيهم" (1)، كلُّ مَن صحبَهُ سنةً أو
شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآهُ فهو مِنْ أصحابهِ، له مِنَ
الصُّحبةِ على قدرِ ما صحبَهُ. فقد أطلقَ اسمَ الصحبةِ على مَن
رآه وإِن لم يختصَّ بِهِ.
وحَكَى أبو سفيان عن بعضِ مشايخِه (2): أنَّ الصَّحابيَ إنَّما
يُطلَق على مَنْ رَأى النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصَّ به
اختصاصَ الصَّاحبِ بالمصحوبِ، سواء روى عنه الحديثَ أو لم
يَرْوِهِ، أخَذَ عنه العلمَ أو لم يأخذْ. فاعتَبَرَ تطاولَ
الصُّحبةِ في العادةِ.
وحكى أبو سفيان عن عمرو بن بَحْر (3) أنَّ هذا الاسمَ إنما
يُسمَّى به مَنْ طالتْ صحبتُه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
واختلاطُه به وأخذَ عنه العلمَ، فهذا القائلُ اعتبرَ طولَ
الصحبةِ مع نقلِ العلمِ.
وحكى الإسفرايينيّ: أنَّ الصحبةَ في العرفِ عبارةٌ عمَّنْ صحبَ
غيرَهُ، فطالت صحبتُهُ له ومجالستُهُ معه.
__________
(1) تقدم تخريجه 4/ 433.
(2) في الأصل: "مشايخهم"، انظر "العدة" 3/ 988 وأبو سفيان، هو
محمد بن أحمد السرخسي الحنفي، تقدما ترجمته 3/ 361.
(3) في الأصل: "عمرو بن يحيى"، والمثبت من "العدة" 3/ 988، و
"المسوَّدة" 292، وزاد في "المسوَّدة" كنيته وهى: أبو عثمان،
فتعين بهذا أنه المعروف بالجاحظ، والله تعالى أعلم.
(5/60)
فصلٌ
في دلائلنا
فمنها: أنَّ الصُّحبةَ اسمٌ مشتقٌّ من قولِ القائلِ: صَحِبَهُ،
يَصْحَبُهُ، صُحْبَةً، وذلك يعمُّ القليلَ والكثيرَ، والناقلَ
للعلم وغيرَ النَّاقلِ.
تقول: الرجلُ صاحبنا في السَّفينةِ وصاحبي في السَّفرِ، فهو
كقولك: مكلِّمي، ومحادثي، وزائري، وصاحَبَني، وصَاحَبَ فلانًا
ساعةً ويوماً، ولو اقتضَتِ الإطالة لما صحَّ قولُه: صاحَبْتُهُ
ساعةً.
ولو حلفَ: لا صَحِبتُكَ، ولا صَحِبْتَني لا سفري، حَنَثَ
بأيسرِ متابعةٍ يتبعُهُ فيها.
ومنها؛ أنَّ أخص الصُّحبةِ في حقِّ الأنبياءِ عليهم السَّلام
هي المتابعةُ لهم، والتصديقُ لِماَ جاؤُوا به، وقد وُجِدَ ذلك
ممَّن آمنَ برسولِ اللهِ ورآهُ، فلا ينبغي أن يُسلبَ اسمَ
الصُّحبةِ مع هذه الحالِ.
ومنها: أنَّ الصُّحبةَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -
مختلفةٌ؛ لأنَّ أحوالَه كانت مختلفةً، فتارةً يكون متشاغلاً
بالجهادِ، وتارةً يكون مذكِّراً (1) بآلاء اللهِ ونعمِهِ،
وتارةً ببيانِ الأحكامِ الشَّرعيةِ والآدابِ الحكميّةِ، وتارةً
يكَون متشاغلاً بشأنِ نفسِه كخروجه إلى الغائط، وإذا قَصَرْنا
صحبتَهُ على مَنْ جالسَهُ حالَ إيرادِ العلمِ حَرَمْنا مَنْ
حملَ له إداوةً إلى الغائطِ، أو ناولَهُ أحجارَ
__________
(1) في الأصل: "مذاكراً".
(5/61)
الاستجمارِ، أو خرجَ معه للجهادِ، ولا وجهَ
لحرمان مَنْ صَحِبَهُ في أحدِ هذه الأمورِ اسمَ الصُّحبةِ، كما
لا وجهَ لحرمانه اسمَ المعاصرةِ والخدمةِ والاجتماع به
والرؤية، فلا يسلب اسمَ الصُّحبةِ لِسَلْبِ نوع منها.
والزوجةُ تسمَّى صاحبةً، وهي صحبةٌ في الاستمتاع والسَّكنِ،
يقال في الله سبحانه: لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. يعني: لم يتخذ
زوجةً.
ومنها: أنَّ القومَ كانوا يختلفونَ في الرِّوايةِ عنْهُ،
فبعضُهم لا يروي الروايةَ والحديثَ، وبعضُهم يروي، حتى إنَّ
السَّائبَ بنَ يزيدَ قالَ: صحبت سعدَ بنَ أبي وقاصٍ زماناً،
فما سمعتُ منه حديثاً إلا أَني سمعتُه ذاتَ يومٍ يقولُ: قالَ
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُفرَّقْ بينَ مجتمِع،
ولا يُجمعْ بينَ متفرِّقٍ، والخليطانِ: ما اجتمعا في الحوضِ
والفحلِ والراعى (1) " (2)، وقد كانَ سعدٌ من سادات الأصحابِ،
فما سلبَهُ أحدٌ اسمَ الصُّحبةِ.
والذي يوضِّحُ هذا أنه لو أطلق مطلق صحبة رسولِ اللهِ، لحَسُنَ
أن يُقالَ له: فبماذا صَحِبتَه في الجهادِ، أوِ السَّفرِ، أو
في أخذِ العلمِ عنه؟ فلو لم تكنِ الصُّحبةُ اسماً شاملاً
للمقارنةِ في أحد هذه المعانى، لما حسُنَ السُّؤالُ، بل كانَ
يختصُّ بالمعنى.
فصلٌ
يجْمع شبههم
فمنها: أَنَّ الصَّاحبَ لا يقعُ في عُرفِ القومِ وعادتِهم إلا
على الملازمِ
__________
(1) في الأصل: "الرعي". انظر "العدة" 3/ 989.
(2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" 4/ 106 والدارقطني 2/ 104.
(5/62)
المكاثرِ، فصاحب المتاع هو المالكُ،
وأصحابُ القريةِ مُلازموها، [و] أصحابُ الكهفِ والرَّقيم
[ملازموه]، وأصحابُ الجنَّةِ ملازموها ومالكوها، وأصحابُ
الرَّسِّ الملازمونَ لَهُ، ويقالُ: أصحابُ أبي حنيفةَ وأصحابُ
الشَّافعيِّ لِمَنْ نَقَلَ عنهما العلمَ وعُرِفَ بِهِما (1)،
فأمَّا جيرانُه، ومَنْ صلَّى خلْفَهُ، أو عامَلَهُ، فلا (2)
يُسمَّى صاحباً له على الإطلاقِ، وإنَّما يكونُ على التقييدِ،
يقالُ: صَاحَبَهُ في السَّفرِ، وفي السَّفينةِ. ولهذا لا يقال:
أصحابُ الحديثِ، إلاَّ لأهلِهِ، والمكاثرينَ لدراسَتِهِ
وقراءَتِهِ، والآخذينَ لهُ عنْ أهلِهِ، والنَّاقلينَ لَهُ إلى
سامعِيْهِ. فصيغةُ الصُّحبةِ موضوعةٌ لهذا دونَ ما سواهُ، فلا
ينبغي أَنْ يقع اسمُ صحبةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
إلاَّ على الحقيقةِ العهودةِ المستعملةِ بينَ النَّاسِ، وعلى
ما يعهدُهُ أهلُ اللغةِ.
قالوا: والذي يوضِّحُ هذا أَنَّهُ يحسُنُ النفيُ لاسمِ
الصُّحبةِ عمَّنْ لم يلازمْهُ، فنقولُ: فلانٌ لم يصحبِ النبي -
صلى الله عليه وسلم -، لكنْ وفَدَ عليه، لكنْ جاءه في رسالةٍ،
لكن سايره في الغَزاةِ الفلانيةِ. ويقولُ القائلُ: لم أصحبْ
أبا حنيفةَ، لكنْ رأيتُهُ وكنتُ ممَّنْ صلَّى خلْفَهُ،
وعاملتُهُ لكنْ ما صحبْتُه. فعُلمَ أَنَّ الصَّاحاب لا يقعُ
إلاَّ على اللازمِ أو النَّاقلِ العلمَ عنْهُ.
والجوابُ: أَنَّ الوفودَ التي كانتْ تَرِدُ عليه من المسلمينَ
كانَ يُطلَقُ عليهم اسمُ الصُّحبةِ، ولو كانوا كفَّاراً لم
يقعْ عليهم الاسمُ، لأنهم غيرُ
__________
(1) في الأصل: "وعرفا به".
(2) في الأصل: "لا".
(5/63)
تابعينَ لَهُ، ولا مصدِّقينَ بهِ، وأمَّا غيرُهُ مِنَ العلماءِ
فإنَّ مَنْ صحبَهُ في طريقٍ أوِ استفتاه في مسألةٍ لا يُسمَّى
صاحباً على الإطلاقِ؛ لأنَّ العُرفَ ألأ يقعَ الاسمُ إلا بنوع
دلالةٍ.
ولسْنَا نمنعُ أَنَّ للصحبةِ غايةً تنتهي إليها من القربِ
والملازمةِ، لكنَّ طلبَ الأقصى لوقوع الاسمِ لا معنى لَهُ، كما
لا يُطلَبُ في الاسمِ رفيقٌ.
على أَنَّ ما ذكرتُموهُ حجةٌ عليكم؛ لأَنَّ مَنْ رأى أبا
حنيفةَ واتبَعَ مذهبَهُ صاحبٌ لَهُ، وإنْ [لم] يكنْ فقيهاً
مبرّزاً، وكذلك أكبرُ رتبةِ الصحبةِ اتِّباعُ النبيِّ - صلى
الله عليه وسلم - في مِلَّتِهِ، وبما دعا إليه، وطَلَبُ
الأَقصى لا وجهَ لَهُ. |