الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
وإذا سمع من الراوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، فقال: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، أو على العكسِ، فإنَّه يجوزُ، نصَّ عليه أحمد، رواه عنه عمرُ المَغَازلي؛ إذ الاسمانِ لمسمًّى واحدٍ، والمفهومُ من الاسمينِ المسمَّى المشارُ إليه - صلى الله عليه وسلم -، والنبوةُ وإنْ كانت دونَ الرِّسالةِ، فإنَّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليسَ كلُّ نبي رسولاً، لكن في حقِّ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - الاسمان حقيقةٌ فيه، فهو نبيٌّ وهو رسولٌ، والله تعالى قد دعاه بالاسمين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].

فصلٌ
إذا وَجَدَ سماعَه في كتابٍ، ولم يذكر أنَّه سمعَه، جازَ روايته، أشارَ إليه
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 972 - 974، و "المسوَّدة" 279.

(5/45)


أحمدُ (1). وبه قالَ الشافعي وأبو يوسفَ ومحمّد (2).
وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ أن يرويَه إذا لم يذكر سماعَه (3).
لنا: أنَّ مبنى الأخبارِ على حُسن الطنِّ والمسامحةِ وتركِ الاستقصاءِ، والعمل فيها على الظاهرِ من الحالِ، بدليلِ أنه لا يشترطُ فيها العدالةُ الباطنةُ، وتقبلُ من العبيد والنِّساءِ وبالعنعنةِ (4)، والظاهرُ هاهنا من الخطِّ الصِّحَّةُ وصِدقُ الكاتب، ولهذا بَنَتِ الصَّحابةُ على الكتبِ المعزيَّةِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقةً بالخط.

فصلٌ
في شبهةِ المخالف
منها: أنَّ الواجدَ لخطِّه بالشَّهادةِ لا يجوزُ أن يشهدَ به، كذلكَ الخبرُ ولا فرقَ.
ومنها: أنَّ الأخبارَ لا يُؤمَنُ عليها الكذبُ، والخطّ يجوزُ أن يكونَ كاتبُه كاذباً، وأن يشبهَ خطّ غيرِه خطَّه، فلا يجوزُ أن يثقَ إلى ذلك.
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 974، و"المسودة" 280، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 528.
(2) انظر "التبصرة" 344، و"أصول السرخسي" 1/ 358، و"فواتح الرحموت" 2/ 165، و"تيسير التحرير" 3/ 96.
(3) وهو قول للشافعية أيضاً نصره الشيرازي في "اللمع" ص 45، حيث قال: وهو الصحيح لأنه لا يأمن أن يكون قد زُوِّرَ خطُّه، فلا يجوز الرواية بالشك. على أنَّ الشيرازي ذهب في "التبصرة" ص 344 إلى جواز الرواية لا وجده في كتاب حتى لو نسيه.
(4) في االأصل: "العنعنة".

(5/46)


فصلٌ
في الأجوبةِ
فأمَّا الشَّهادةُ، فقد روي عنه جوازُ الشَّهادةِ بخطِّه، إذا لم يخرج عن يدِه، والصَّحيحُ: [عَدَم] (1) التسليم، فلأنَّ أمرَها مبنيٌّ على التأكيدِ والتغليظِ من الوجوه التي ذكرناها، وأمَّا الخطّ فإنَّه ظاهر، وليسَ يعتبرُ ما وراءَ الظاهرِ، ولا ما زادَ عليه، ويجوزُ أن يشبهَ الخطُّ الخطَّ، [و] يجوزُ أن يشبهَ الصوتُ الصوتَ، وقد أجمعنا على جوازِ روايةِ الأعمى عن البصير. بمعرفتِه الصوتَ، وإنِ اشتبهت الأصواتُ، وقد نصَّ أحمدُ على جوازِ روايةِ الضَّرير.

فصلٌ
في الحديث إذا قرئَ على المحدِّثِ وهو يسمعُ من قراءةِ غيرِه، أو قرأه هو والشيخ يسمعُ منه، فإنَّه لا يجوزُ أن يقول: سمعتُ الشَّيخَ يقول، ولا: أَمْلَى عليَّ الشيخُ، بل إنْ قرأه الشَّيخُ أو رواه له، جاز أن يقول: سمعتُ منه، وحدَّثني.
فأمَّا إن قال: حدَّثني، وكان الحديث قد قرئَ على الشَّيخ، أو قال: أخبرني، ففيه روايتان (2):
إحداهما: يجوزُ، قال: وقد سئلَ عن ذلكَ فقال: أخبرنا وحدثنا، عندنا واحدٌ.
__________
(1) زيادة لا بدَّ منها، فالمشهور عن الإمام أحمد في مسألة الشهادة بالخط أنه لا يجوز. انظر "العدة" 3/ 976.
(2) انظر "العدة" 3/ 977.

(5/47)


وقالَ أحمدُ: إذا قال حكايةَ الحال كما جرى فهو أحبُّ إليَّ.
فقد أجازَ قولَه: حدَّثني وأخبرني فيما سمع منه، أو قرأ عليه فأقرَّ به، وجعلَ الأَوْلَى حكايةَ الحال، وبها قالَ أصحاب أبي حنيفة والشَّافعي.
والرواية الثانية: لا يجوز أن يقولَ: أخبرني وحدَّثني إلا ممَّا يسمعه من لفظهِ، ولكن يقولُ: قرأته، أو قرئَ عليها، نصَّ عليها أيضاً، قال: الأعجب إليَّ أن يحكي كما سمع، إن قرئَ عليه أو قرأه قال ذلك، وإنْ قرأه الشيخُ قال: حدثني أو أخبرني (1).

فصلٌ
في أدلةِ مَنْ أجازَ ذلك
إنَّ الحاكمَ إذا قالَ للمدَّعَى عليه: ما تقول فيما ادُّعي عليك؟ فقال: نعم؛ فإنَّه يكونُ إقراراً، وكذلك إذا قرأَ الشاهدُ الكتابَ، وقالَ المشهودُ عليه: نعم؛ جازَ للشَّاهد أن يشهدَ عليه بالإقرارِ بهذا القدر.

فصلٌ
في شبَهِ مَنْ منعَ ذلك
فمنها: أنَّ قولَه: حدَّثني وأخبرني، يقتضي أنْ يكونَ المقروءُ عليه قد
__________
(1) وهو ما أيده الشيرازي في "التبصرة" ص 45، وأبو الحسين البصري "في العتمد" 2/ 644، واختاره الغزالي في "المستصفى" 1/ 165، ونصره الآمدي في "الإحكام" 2/ 142.

(5/48)


فعلَ فعلاً قد استحقَّ به ذلك، وذلك إنَّما هو قولُه، فأمَّا قولُ غيرِه وهو يسمعُ فلا، كما لو قال: ضربني وشتمني، أو سلمَ عليَّ، أو ما شاكلَه من الأفعالِ والأقوالِ لا يكودنُ صادقاً في ذلك، إلاَّ أنْ يكونَ الفعلُ والقولُ صدرَ عن المضافِ إليه ذلك.
ومنها: أنَّ الاستئذانَ من القارئ عليه الحديثَ، بأن يقولَ: أُحدِّث به عنك؟ فيقول: نعم، أو حدِّث عني، لا يكونُ إلاَّ إذناً أو أمراً، وليسَ الإذن والأمرُ حديثاً منه له، فلا يصحُّ قوله: حدَّثني، فهو إنما أمره أو أَذِنَ له، فيكونُ بخلافِ ما سمع، فإنَّه سمع الأمرَ والإذنَ، ولم يسمع منه إخباراً له، ولا حديثاً له.

فصلٌ
في الأجوبةِ عن شبههم
أمَّا الأُولى: فقولُهم: أخبرني وحدَّثني، يقتضي إحداثَ فعلٍ، فقد كان ذلك، لأنَّ قولَه: نعم، وإقرارَه، حديثٌ منه وإخبارٌ منه، لأنه إذا قال له: هو كما قرأتُ؟ فقال: نعم، وكانَ الذي قرأَه عليه إنَّما صيغتُه: حدَّثنا فلانٌ عن فلانٍ، فهو إذنٌ له في الحديثِ عنه.
وأمَّا قولُهم: إنَّ قولَه: اروه عني، أمرٌ، والأمرُ ليسَ بإخبارٍ له، فليسَ (1) لك، لأنَّ قولَه [في] جوابِ قوله: أرويه عنك وهو كما قرأتُ؟: نعم
__________
(1) في الأصل: "ليس".

(5/49)


اروه، أو قولِه: هو كما قرأتُ؟ هو (1) كقوله: حدِّث عني. بما قرأتَه عليَّ، والذي قرأه عليه إنَّما هو الحديث، كما إذا قال الشَّاهد للمشهود عليه: أنت تقرُّ عندي بجميع ما في هذا الكتاب؟ فقال: نعم، صارَ كأنَّه تلا على الشَّاهدِ وحدَّثه، وصرَّح. بما تضمَّنه ذلك الكتاب.

فصلٌ
فإنْ قرئَ على الشَّيخ وهو ساكتٌ، فهل يجوزُ أن يقال: أخبرنا وحدَّثنا؟ قال أصحابُنا: يجوزُ ذلكَ ويكون سكوتُه إذناً ورضاً بالروايةِ عنه؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّه راضٍ ومقرٌّ وآذِنٌ؛ لأنه لو لم يكن سماعَه لما أقرَّهم عليه، ومع هذا التجويز، فإنَّ الأحوطَ أن يقولَ له عَقِيبَ القراءةِ: هو كما قرأتُه أو قرئَ عليك؟ فإذا قال: نعم، فقد زالَ التردُّدُ (2).