الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
في المعتبر في الراوي من الصفات لقبول روايِته
والذي يجبُ أن يَجتمعَ فيه لقَبولِ روايتِه خمسُ خِصَالٍ:
البلوغُ: لأنَّ الصبيَّ لا يتحرَّجُ عن الكذبِ إذا كانَ الوعيدُ على ارتكا بِه.
والعقلُ، والإسلامُ، والعدالةُ، والنزاهةُ من الكذب الذي لا يوجبُ الفسقَ، وهو الذي لا يتكرر لكنه يندر (1).
والعقلُ: لأنّه الذي يوجبُ تحصيل مَا نحكيه ونُجَرِّبه.
والاسلام: ليحرصَ على حفظِ الكتابة، ولا يتجوَّزُ. بما ينقص حكماً، ولا يزيده بالكذب حكماً، لا نلزمه ذلك.
والنزاهةُ: فإنَّه يخاف المعرَّة، والخروج عن قانونِها.
والعدالةُ: وهي طريقةٌ يقوى معها الظنُّ بصدقِه، ولا تحصلُ الثقةُ مع عدمِها، لأنّ الفاسقَ قد ارتكب محظوراً بدينه فعلاً، فلا (2 مانع عن 2)
__________
(1) اقتصر المؤلف هنا على هذه الصفات، وزاد غيره:
أن يكون الراوي ضابطاً لما ينقله، وأن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعته، نبه على هذه الصفات القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 948 - 949، وانظر "المستصفى" 1/ 156، و"فواتح الروت" 2/ 138، و"شرح تنقيح الفصول" 358، و"أصول السرخسي" 1/ 345.
(2 - 2) غير واضحةٍ في الأصل.

(5/5)


ارتكابه (1) الكذبَ قولاً.

فصل
في كلام أحمد في ذلك
قال أحمد فِى روايةِ أحمدَ بنِ الحسين: لا يكتبُ الحديث عمن يسكر.
وقال في روايةِ ابن القاسم وسندي (2)، عن الرجلِ يُعرفُ بالكذبِ في الشيءِ يحدِّثُ به القومَ وليسَ يُعرفُ منه الكذبُ في الرواية: كيف يُؤمَنُ هذا على الروايةِ أن يكذبَ فيها إذا عُرف منه الكذبُ في شيء؟!
وقال فى روايةِ أبي الصقر (3) في الصَّلاةِ خلف آكل الربا: إِنْ [كان] أكثرُ طعامِه الربا لم يُصلَّ خلفَه، فاعتبرَ الكثرة في ذلك.
وقال: لو لم نَقبل إلا ممَّن يمحِّض الطاعاتِ لم يُقبَل أحد؛ لأن أحداً لا يمحِّضُ الطاعاتِ حتى لا تشوبَها معصيةٌ، يدلُّ عليه قولُه تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وأرادَ بالغيِّ وضعَ الشيءِ في غيرِ موضعِه، وقال في حقِّ داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحدٌ إلاَّ عصى، أو همَّ. ممعصيةٍ،
__________
(1) في الماصل: "لارتكابه".
(2) هو: أبو بكر الخواتيمي البغدادي، من أصحاب أحمد الذين نقلوا عنه مسائل مفيدة. انظر: "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى الفراء 1/ 170.
(3) هو: يحيى بن يزداد، من أصحاب الإمام أحمد، نقل عنه مسائل في الحجر، والمساقاة، والمزارعة، واللقطة. انظر: "طبفات الحنابلة" 1/ 409.

(5/6)


إلَّا يحيى بن زكريا" (1).
قلتُ: وهذا ليسَ بجيِّدٍ من القولِ؛ لأنَّ السَّلامةَ من المعاصي لا بدَّ منها لقبولِ القولِ والثقةِ إلا الرَّاوي، ولسنا نعتبرُ السَّلامةَ من أن تكونَ وقعت رأساً، بل نعتبرُ أن لا يكونَ مُصرّاً، وأن يكونَ تائباً متنصِّلاً لنَثِقَ إلى خبرِه، ونعوذُ بالله أن يقالَ: لا يخلو عبدٌ من عبادِ الله عن الإصرارِ حتى الأنبياء عليهم السَّلام، لكن لا يخلو أحدٌ من وقوع عصيان، لكن يجبُّه ويزيلُه الاستغفارُ، كما كان في حقِّ الأنبياء.
وقوله: لو رددنا كلَّ مَنْ لم يمحِّضِ الطَّاعةَ لم نقبل أحداً، فَكلامٌ غيرُ صحيِح، لأنَّنا لو (2) قبلنا مِن كلِّ مَن مزجَ الطَّاعةَ بالعصيةِ لما رددنا فأسقاً، ولَمَا رددنا إلاَّ الكفارَ؛ لأنَه كما لا يخلو مسلمٌ من معصيةٍ، لا يخلو مسلمٌ من طاعةٍ، وقد أجمعنا على وجوبِ ردِّ قولِ الفاسقِ الذي حصلَ فسقه. بمعصيةٍ واحدةٍ، وهي الكبيرةُ، وتركِ طاعةٍ واحدة، وهي الفريضةُ.
عُلِمَ أنَّه لا بدَّ من اعتبارِ العدالةِ، إمَّا الحاصلةُ في الابتداءِ، أو الحاصلةُ بالتلافي للمعاصي بالتوبةِ في ثاني الحال.
فأمَّا مَنْ ثبت كذبُه، فإنَّه يُرَدُّ خبرُه وإنْ لم يتكرَّر ذلك منه، هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ في رواية علي بن سعيد (3) في الرجلِ يكذبُ كذبةً واحدةً، لا
__________
(1) أحرجه أحمد (2294)، وابن أبي شيبة 11/ 562، والحاكم 2/ 591، وأبو يعلى (2544) من حديث ابن عباس.
(2) في الأصل: ولو.
(3) علي بن سعيد بن حرير النَّسوي، أبو الحسن، روى عن الإمام أحمد جزأبن =

(5/7)


يكونُ في موضع العدالةِ؟: الكذبُ شديدٌ (1).
وقيلَ لأبي عبدِ الله في الرجل: متى يُترَكُ حديثُه؟، قال: إذا كانَ الغالبُ عليه الخطأَ. قيل له: الكذبُ من قليلٍ أو كثير؛ قال: نعم.
قلت: وهذا إنَّما خُصَّ الكذبُ به لأنّه من طريق الروايةِ والإخبار عصيان في نفس الخبر، فلا يؤمنُ معه الخبرُ، وللكذب (2) في حقِّ مَنْ رتبتُهُ رتبةُ المخبرِ من تأثيرٍ ما ليس لغيره، ولهذا ما بعث نبيًّا كَذَبَ، وبعث أنبياءَ عَصَوا، ولهذا ذهبَ أبو حنيفة إلى ردِّ شهادةِ القاذفِ المحدودِ في القذفِ، وإنْ تاب، لماّ ثبتَ كذبُه، وحكمَ بجميع ما تُعتَبرُ العدالةُ فيه إلاّ الشهادةَ لمَّا كان طريقُا القولَ، وقَبِلَ شهادةَ كلِّ تائبٍ من ذنبٍ، وإنْ كبُرَ، إلاّ القذفَ لما فيه من تحقّقِ الكذبِ.
وقد اعتبرَ في روايةٍ أخرى لردِّ خبرِه كثرةَ الكذبِ دونَ الكذب القليلِ، فقال في رواية أحمد بن أبي عَبْدة (3) في الرجل يكذب، فقال: إِنْ
__________
= مسائل. "طبقات الحنابلة" 1/ 224.
(1) في "الطبقات" 1/ 224: سمعت أحمد وسُئِلَ عن الرجل يعرف بكذبة واحدة، هل يكون في موضع العدالة؟ قال: لا، الكذب أشد من ذلك. فقيل له: فإذا تاب عنه بعد ذلك، وطال عليه الأمر؟ قال: إن كان قد تاب وظهرت منه التوبة وعُرفَ منه الرجوع، الكذب شديد.
(2) في الأصل: "والكذب".
(3) في الأصل: "عبيدة" وهو: أبو جعفر الهمداني من أصحاب أحمد الذين أخذوا عنه. قال فيه الامام أحمد: ما عبر هذا الجسر أنصح لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحمد بن أبي =

(5/8)


كثُرَكذبُه لم يُصلَّ خلفَه.
فظاهرُ هذا أنَّه لا يخرج من العدالةِ بالكذبةِ الواحدةِ، ولكنَّه قالَ ذلك في الصَّلاة خَلْفَهُ، فلا ينبغي اُن يشملَ الخبرَ لما بيَّنا أنَّه قول، والكذبُ يرجِعُ إلى القول.
فإن قيل: فإبراهيم عليه السَّلامُ كذبَ ثلاثَ كذباتٍ على ما صحَّت
به الرواية عنه (1): قوله: "هذه أختي" وهي زوجته، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89]، وما فعل الصَّنم شيئاً، ولا كان سقيماً، قيل: ذلك من المعاريض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في المعاريضِ لَمَنْدُوحةً عن الكذبِ" (2)، ووجهُ ذلك أنَّ قوله: "إنِّي سقيم"، من قولِكم وكفرِكم، "هذه أختي"؛ في الإسلام، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] فعلَّق الفعلَ ولم يَحتِمْه.
هذا المذكورُ في تفاسير المحقِّقين الذين اجتهدوا في تبرئةِ الأنبياءِ بجهدهم.
__________
= عبدة، يعني بذلك جسر النهروان. انظر: "طبقات الحنابلة" 1/ 84.
(1) أخرجه أحمد (9241)، والبخاري (3357) (3358)، ومسلم (2371)، وابن حبان (5737)، والبيهقي 7/ 366، من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لم يكذب إبراهيم قط إلأَ ثلات ... " الحديث.
(2) تقدم تخريجه 1/ 130.

(5/9)


وأيضاً ممَّا يد على تخصيصِ الكذبِ بإيجاب الردّ من غيرِ اعتبارِ تكرارٍ، ما روى إبراهيمُ الحَرْبى في كتاب "النهي عن الكذب" بإسناده عن موسى الجندي قال: ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شهادة رجلٍ في كذبة كذبها (1).
وبإسنادهِ عن يحيى بن سالم قال: اطَّلعَ رسولُ اللهِ من وافدِ قومٍ على كذبةٍ كذبها، فقأن له: "لولا سخاءٌ فيك وَمِقَكَ الله عليه -يعني أحبَّك؛ من المِقَةِ -لشرَّدتُك من وافدِ قوم" (2). يعني: لنفيتك لكذبتك.
ومصداقُ هذا الخبر قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "تجاوزوا عن ذَنْب السَّخي، فإنَّ الله يأخذُ بيدِه كلَّما عثر" (3).
__________
(1) أورده المتفى الهندي "في كنز العمال" (14543) عن معاوية بن حيدة، و (17783) عن ابن عباس، ونسبه لأبى سعيد النقاش في كتاب "القضاء".
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7703) من حديث عباد الحنظلي، قال الطبراني؛ لا يروى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، تفرد به زيد بن الحباب.
وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 129 وقال: رواه الطبر اني في الأوسط، وكأنَّ الصحابي سقط، فإن الأصل سقيم، وفيه جماعة لم أعرفهم.
(3) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" (1221)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 59، والخطيب في "تاريخ بغداد" 14/ 98، من حديث ابن مسعود.
وأورده الهيثمي في "المجمع" 6/ 282 وقال: وفيه بشر بن عبيد الله الدارسي، وهو ضعيف.
وأخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (282) من حديث ابن عباس.

(5/10)


ونُقِلَ عن أحمدَ فيمن تابَ عن الكذبِ: أنَّه لا يقبلُ حديثُه، فنقل أبو عبد الرحمن عبيدُ الله بنُ أحمدَ الحلبي (1) قال: سألتُ أحمدَ بن حنبل عن مُحدِّثٍ كذبَ في حديثٍ واحدٍ، ثمَّ تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله، ولا يُكتبُ عنه حديثٌ أبداً.
وقال قاضي القضاة أبو عبد الله الدامَغَاني (2) رضي الله عنه: يُقبلُ حديْثُه المردودُ وغيرُه إذا تابَ، بخلاف الشَّهادة إذا رُدَّت ثم تاب، لا تُقبلُ المردودة خاصة، قال: والفرق بينهما أنَّ الشهادة المردودةَ ردُّها حكمٌ من الحاكمِ، فلا تقبلُ بعدَ ردِّها، لأنَّ فيهِ نقضاً للحكمِ بالتوبة، وهي ظاهرٌ، فلا يجوزُ نقضُ الحكمِ بظاهرٍ متردِّد، وردُّ الخبرِ ليسَ لمجكمٍ.
وقالَ أبو بكر الشَّامي قاضي القضاة رضي الله عنه: لا نقبلُ خبرَه المردودَ بعد التَوبةِ، ونقبلُ غيرَه من رواياتِه اعتباراً بالشَّهادة.
وقد اعتلَّ شيخُنا (3) رضي الله عنه لردِّ شهادته بعدَ التوبة: أنَّ مَنْ أقدمَ على الكذبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زنديقٌ، فَنُخَرِّجُ ردَّ توبتهِ على ردِّنا. لتوبةِ الزنديق.
__________
(1) في الأصل: "عبد الله بن أحمد"، وهو: من كبار أصحاب الإمام أحمد، سمع منه مسائل مفيدة، قال أبو بكر الخلال: رجلٌ جليا جداً، كبير القدر. انظر: "طبقات الحنابلة" 1/ 197.
(2) هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن حسين بن عبد الوهاب الدامغاني، الحنفي تقدمت ترجمته 3/ 255.
(3) هو: القاضي أبو يعلى الفراء. انظر "العدة" 3/ 929.

(5/11)


وفارَقَ الشَّهادةَ؛ لأنَّه قد يرغبُ في الكذبِ فيها لأجلِ رشوةٍ، أو تقرُّبٍ إلى أبناءِ الدنيا لغرضٍ خصَّه. وهذا عندي فرقٌ بعيدُ؛ لأنَّ الرغبةَ في التقرُّبِ إلى أبناء الدنيا بأخبارِ الإرجاءِ أو تخويفهم لغرضٍ يخصُّه من أخبارِ الوعيدِ، لا يدلُّ على الكفرِ؛ لكن غايته الفسقُ.
ومن كلامِ أحمدَ رضي الله عنه ما رواه أبو إسحاق في بعضِ تعاليقِه عن أبي بكر النَّقاشِ (1)، عن محمدِ بن سعيدٍ (2)، عن محمّدِ بن سهلِ بن عَسْكَر (3)،سمعتُ "أحمدَ بن حنبل يقول: إذا سمعتَ أصحابَ الحديث
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد، الموصلي ثم البغدادي.
كان مفسراً، عالماً بالقراءات، له كتب عديدة منها: "الاشارة في غريب القرآن"، و"دلائل النبوة"، وله كتاب في التفسير نحو من أربعين مجلداً، كان واسع الرحلة، قديم اللقاء، غير أنَّ في رواياته مناكير، توفِى سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة.
انظر: "تاريخ بغداد" 201/ 2 - 205، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 573.
(2) هو: أبو بكر محمد بن سعيد الحربي الزاهد، يعرف بابن الضرير.
كان ثقة، وروى عنه ابن رزقويه، توفي سنة (351) هـ.
انظر: "المنتظم" 7/ 15.
(3) هو أبو بكر محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة البخاري، حدَث عن عبد الرزاق وغيره. وروى عنه: إبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، والبغوي.
كان ثقة. توفي سنة (251) هـ.
انظر "طبقات الحنابلة" ا/ 298، و"تهذيب الكمال " 25/ 325 - 327. وقد وهم ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 15، فترجمه في وفيات (351).

(5/12)


يقولون: هذا حديثُ غريبٌ أو فائدة، فاعلم أنَّه خطأٌ، وإذا سمعتَهم يقولون: هذا حديثٌ لا شيءَ، فاعلم أنّه صحيحٌ؛ لأنَّهم لا يستغربونَ إلاَّ الحديثَ الشَّاذَّ الذي ليسَ. بمشهورٍ، ولا رواه أئمةُ أصحابِ الحديث (1).
وقولهم: "هذا الحديثُ لا شيءَ". بمعنى: ما أفادت روايتُه لاشتهارِه وتكرُّرِ روايته، وما هذا سبيلُه، ينتفي عنه السَّهوُ والغلطُ.

فصلٌ
ولا يُقبَلُ الجرح إلاَّ مفسَّراً، فعلى هذا إذا قال أصحابُ الحديث: "فلانٌ ضعيف"، و"فلانٌ ليس بشيء"، [فليس هذا ممَّا يوجبُ جرحَه، وردَّ خبرِه] (2).
هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ في رواية المَرُّوذِي، وقد قيلَ له: إنَّ يحيى بنَ معين سُئِلَ عن الصَّائمِ يحتَجِمُ؟ قال: لا شيءَعليه، ليس يثبت فيها خبرٌ.
فقال أبو عبدِ الله: هذا كلام مجازفة، فلم يقبل مجرَّدَ الجرح من يحيى.
ونقلَ مُهنَّا: قلتُ لأحمدَ: حديث خديجةَ: كان أبوها يرغب أن يزوِّجَه (3)، فقالَ أحمدُ: الحديثُ معروفٌ، رويتُه عن غير واحدٍ. قلت: إنَّ
__________
(1) أورده القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 930، والخطيب في " الكفاية " 225، ولم يتبين لي معنى قوله "فائدة"، غير أنَّ في سند هذا الأثر أبا بكر النقاش، وهو متهم، وفي رواياته مناكير. انظر "سير أعلام النبلاء" 15/ 573.
(2) ما بين معقوفين ساقط من الأصل، انظر "العدة" 3/ 931.
(3) أي: يرغب عن أن يزوِّجه، وحديث زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخديجة أخرجه=

(5/13)


النَّاسَ ينكرون هذا. فقال: ليس هو منكر.
وروى المَرُّوذِيُّ عنه ما يدلُّ على أنَّه يُقبَلُ، فقال: قرئَ على أبي عبدِ الله حديثُ عائشةَ: كانت تلبّي: لبيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك (1)، فقال أبو عبد الله: كان فيه "والملك لا شريك لك"، فتركتُه، لأنَّ الناسَ خالفوه. وقوله: فتركتُه، معناه: تركتُ روايتَه لأجلِ تركِ النَّاسِ له، وإنْ لم تظهرِ العِلَّة التي لأجلها تركَ النَاسُ روايتَه.
وجهُ الرِّوايةِ الأولى: أَنَّ الناسَ اختلفوا فيما يحصلُ به الفِسْقُ، فلا بدَّ من كشفِ سببهِ لينظرَ هل هو فسقٌ أم لا، ولهذا لو شهدَ رجلان بأنَّ هذا الماءَ نجسٌ، لم نحكم بنجاسته، لجوازِ أن يكونَ نجساً عند المُخبِرَين الشَّاهدَين، وليسَ بنجسٍ عندنا، وذلك لأنَّ الفقهاءَ يختلفون في سببِ نجاسةِ الماءِ، فبعضُهم يحكم بنجاسة الماء القليل وإن لم يتغيَّر، وبعضهم لا يحكم بنجاسته، وبعضهم بنجاسةِ سؤر السَّبُع والحمار، وبعضُهم لا يرى نجاسته، وبعضُهم يرى أنَّ بولَ ما يؤكل لحمُه طاهرٌ، وبعضُهم يراه نجساً، فلمَّا كانوا يختلفون في ذلكَ لم نقبل قَولَهم: "نجس" ما لم يثبتوا وجهَ نجاستِه وسببَها.
__________
= أحمد (2849)، والطبراني (12838)، والبيهقي فِى "الدلائل" 2/ 73، من حديث ابن عباس.
(1) أخرجه أحمد 6/ 32 و 100، والبخاري (1550)، والطيالسي (1513).

(5/14)


كذلكَ أسبابُ الجرح تختلف، فبعضُ الناسِ يرى اللّعبَ بالشِّطْرَنْجِ جرحاً، وبعضُهم لا يراه جرحاً، وكذلك التعيير وشربُ النَّبيذ، وكذلكَ السكر الذي يخلط به كلامه، كلُّ هذه مختلف في كونها جرحاً، فقومٌ لا يرونه جرحاً، وبعضُهم يراه جرحاً.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا يُقبل قولُ المزَكي: إنَّه عدلٌ رِضًى؛ لأنَّ النَّاس أيضاً يختلفون في أسباب العدالة، وبعضُهم يرى أنَّ قانونَ المروءَةِ ليس من شرطِ العدالة، وبعضُهم يراه شرطاً في العدالةِ، وكذلك بعضُهم يرى أنَّ التوبةَ من القذفِ تعيده عدلاً، وتصحُّ شهادتُه على الإطلاق، وبعضُهم لا يرى قبولَ شهادتِه أبداً، كما قال الله تعالى (1). وبعضُ النَّاسِ يشترطُ التوبةَ من جميع الذنوبِ، ومُضيَّ الحولِ على صلاح العملِ، وبعضُهم لا يشترط ذلك، ثمَّ لا يوجبُ ذلك كشفَ سبب العدالةِ، كذلكَ الجرحُ المطلق.
قيل: العدالةُ هي الأصلُ، فهي كالطَّهارةِ في الماء، فإنَّه لمَّا كان أصل الماء على الطَّهارةِ لم نحتج إلى بيانِ سببٍ، كذلكَ العدالةُ هي الأصلُ، ولأَنَّ العدالةَ لو اعتبرنا ذِكْرَ شروطها لَمَا أَمكنَ التَّعديلُ والتزكيةُ؛ لأنَّ العدالةَ لا تكمل إلاَّ بأفعالٍ وبتروكٍ جامعةٍ لكلِّ فرضٍ وتَرْكِ كل محظورٍ، ومَنِ الذي يحيط علماً بذلَك؟ والتركُ نفيٌ، والشهادةُ بالنفي لا تصحُّ، وليس كذلكَ الفسقُ والجرحُ؛ فإنَّه تكفي فيه الفعلةُ الواحدةُ والمخزيةُ النَّادرة، وذلك ممّا يمكنُ الإحاطةُ به فلا يتعذرُ ذِكرُه وكشفُه.
__________
(1) فى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].

(5/15)


فصلٌ
ويقبلُ في الجرح قولُ الواحد ولا يعتبر العدد.
هذا قياسُ قولِه في التعديل: إنه يقبلُ فيه قولُ الواحدِ.
قال أبو زُرْعَة: سمعت أحمدَ بنَ حنبل يقول: مالكُ بنُ أنس إذا روى عن رجلٍ لا يُعرَفُ فهو حُجَّةٌ.
وقال إسماعيلُ بن سعيد الشَّالنجي (1): قلت لأحمد: تعديلُ الرجلِ الواحدِ إذا كان مشهوراً بالصَّلاح؟ [قال] (2): يُقبَل، وظاهرُ هذا أنَّ تعديلَ الواحدِ مقبولٌ.
وقال أحمدُ أيضاً في رواية الأثرم: إذا روى الحديثَ عبدُ الرحمن بن مهدي عن رجل فهو حُجَّة.
وروى مُهنّا عن أحمد ما يدلُّ على أنَّ روايةَ العدلِ عن غيرِه لا تكونُ تعديلاً لمن روى عنه. قال: وسألت أحمد عن رباح بن عبيد الله بن عاصم (3) بن عمر بن الخطاب، فقال: مدنيٌّ روى عنه عبدُ الرزاق. قلت:
__________
(1) هو أبو إسحاق، ذكره أبو بكر الخلال فقال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أنَّ أحداً من أصحاب أبي عبد الله روى عنه أحسن مما روى هذا، ولا أشبع، ولا أكثر مسائل منه. وكان عالماً بالرأي كبير القدر عندهم، معروفاً. "طبقات الحنابلة" 1/ 104.
(2) ليست في الأصل، انظر "العدة" 3/ 935.
(3) هكذا في الأصل -نقلاً عن العدة- وهو رباح بن عبيد الله بن عمر العمري انظر "الجرح والتعديل" 3/ 490، "المجروحين" لابن حبان 1/ 299، "الكامل" لابن عدي 3/ 172.

(5/16)


كيف هو؟ قال: ضعيف.
وظاهرُ هذا أنَّه لم يجعل روايةَ العدل تعديلاً. وهو قولُ أصحاب
الشافعي (1).

فصلٌ
والدلالةُ على أنَّ تعديلَ الواحد مقبول: أنَّ أصلَ الحديث وروايتَه ليس من شرطها العددُ، فلم يكن من شرطِ التعديلِ والجرح العددُ، لأنَّ ذلكَ وصفٌ، فإذا لم يُعتَبر العددُ في الأصل، ففي (2) الوصفِ التابع -وهي الجرحُ والتعديلُ- أَوْلى أنْ لا يعتبر.
والدلالةُ على أنَّ روايةَ الواحدِ عن العدلِ تعديل: أنَّ العارفَ بالحديث لا يرويه إلا عمَّنْ يثق بدينه وأمانته، ولو روى عن غيرِ موثوقٍ به كان جنايةً في الشرع، وإدخالاً لما ليسَ منه لمجردِ قولِ [مَن] لا يَيقُ به، وقد أُخِذَ على العلماءِ أنْ لا يقولوا على الله ما لا يعلمون.
ووجهُ مَنْ ذهبَ إلى أنه لا يكونُ تعديلاً: أنَّه لا يمنعُ من الرِّوايةِ عمَّن لا تعلمُ عدالتُه حملاً على ظاهر الإسلام والسَّلامة، ومَنْ حملَ الأمرَ على
__________
(1) هو قول أكثر الشافعية، وذهب بعضهم كالجويني، والغزالي، والآمدي إلى أنه إذا كانت عادة الراوي أن لا يروي إلا عن ثقة فتكون روايته عن ذلك الشخص تعديلاً له، وإن لم يعرف ذلك من عادته فليس بتعديل. انظر "البرهان" 1/ 623، و"المستصفى" 1/ 163، و"الإلحكام" 2/ 126، و"التبصرة" 339.
(2) في الأصل: "وفي".

(5/17)


ظاهرِه، لم يقل: إنَّه فعل زيادة على الجائز، وإنه بلغَ الأقصى وهو الاحتياط.

فصلٌ
وإذا روى عمَّن لا تعرفُ عدالتُه ولا فسقُه بل عُرِفَ مجرَّدُ إسلامِه، فظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يروى إلا عمَّنْ تُعْرَفُ ثقته بثناءِ أهلِ بلدِه عليه، ولا يقنَعُ. ممجرَّدِ إسلامِه في الرواية عنه.
قالَ في روايةِ الفضل بن زياد، وقد سأله عن ابن (1) حميد: يروي عن مشايخَ لا يعرفهم، وأهلُ البلدِ يُثنون عليهم، فقال: إذا أثنيَ عليهم قُبِلَ ذلك منهم، هم أعرفُ.
فقد اعتَبرَ في قَبولِ رواييهم ثناءَ أهلِ البلد عليهم.
وحكيَ عن أبي حنيفةَ أنه يقبلُ ذلك ممَّن ثبت إسلامُه فقط، ما لم يُعرَفْ فِسقه (2).

فصلٌ
في الدِّلالةِ على ما حكيناه عن صاحبنا: أنَّ هذا مجهول العدالةِ فلا تحصلُ الثِّقةُ به، كالفاسقِ المعلوم فِسقه؛ يوضِّحُ هذا: أنَّ الفسقَ إِنما منعَ قبولَ الرِّوايةِ، لأنه متهم، ومَنْ لم تُعلَمْ عدالتُه متَّهمٌ، والإسلامُ لمجرَّدِه لا
__________
(1) كذا في الأصل، وجاء في "العدة" 3/ 936: "أبى حميد".
(2) "الإحكام" للآمدي 2/ 78، "شرح اللمع" 2/ 368.

(5/18)


يكفي، بدليلِ الفاسق: إسلامُه حاصلٌ، وروايتُه لا تقبل.
ومنها: أنَّه خبرٌ تتعلَّقُ عليه أحكامٌ وحقوقٌ، فاعتبرَ فيه العدالةُ، أو نقول: فلم يقبل من غيرِ معلومٍ عدالتُه، كالشَّهادةِ.

فصلٌ
في شبهة المخالف
فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا شهد عنده الأعرابيُّ برؤيةِ الهلالِ قال: "أتشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله" فلما ثبت عنده إسلامُه بكلمةِ التوحيد أمرَ بالنداءِ بالصوم (1)؛ ولم يقرِّر ما وراءَ إسلامِه، والشهادةُ برؤيةِ الهلالِ خبرٌ حيث يتعلق عليه حكمٌ من أحكامِ الدين، فهو أشبهُ بأخبارِ الديانات.
ومنها: أنّه عَلِمَ إسلامه، ولم يعلم منه ما يوجبُ فسقاً، فكانَ على أصلِ العدالةِ، كالذي عرفت عدالتُه، ولأنَّها عدالةٌ فلا تعتبرُ في أخبار الدياناتِ، كالعدالةِ الباطنةِ.

فصلٌ
في الأجوبةِ عمَّا ذكروه
أمَّا الخبرُ، فلا حجَّةَ فيه، فإنَّه حكايةُ فعلٍ وقضية في عين فتقف لمجردِ
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 68، وأبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي 4/ 131 - 132، وأبن ماجه (1652)، من حديث ابن عباس.

(5/19)


الاحتمالِ، ووجهُ احتمالِها: أنَّ (1) الظاهر أنه أسلمَ حينَ سأله، إذ لو كان ممَّن بايعه على الإسلام لعرفه، لكن يكون عرض عليه الإسلامَ فأسلمَ، والإسلامُ يجبُّ ما قبلَه، فتلك عدالةٌ متجردةٌ، ولم يتجدد منه ما يزيلها ولا ينسخها (2)، ويحتملُ أن يكونَ سبقه غيرُه ممَّن لم يُعلم حالُه، فقويَ الظنُّ بالعددِ.
وأمّا الإسلام وتعلّقُهم به فلا يكفي؛ بدليلِ الفاسقِ، فإنَّه مسلمٌ ولا يقبلُ خبرُه لأجلِ التهمةِ، ومَنْ لا تعرفُ عدالتُه فالتهمةُ في حقِّه حاصلةٌ، وأما العدالةُ الباطنةُ، فإنَّها تقفُ على بحثٍ واختبارٍ، ومُجالسةِ الحكامِ، وذلكَ لو شُرِطَ لقَبُول الأخبارِ لوقفت الرواياتُ، ولهذا اعتبرنا للشهادةِ بالعقوباتِ والحدودِ، العدالةَ الباطنةَ في الشُّهودِ، ولم نعتبرها في الأخبارِ المرويةِ في الحدود.

فصلٌ
هل يجوز الأخذُ بالحديث الضعيف؟
قد أطلقَ أحمدُ القولَ بالأخذِ به، فقال مهنَّا: قال أحمدُ: الناسُ كلُّهم أَكْفَاءُ إلا الحائكَ والحجامَ والكسَّاح (3). [فقيل له] (4): تأخذُ بحديث:
__________
(1) في الأصل: "أنه".
(2) في الأصل: "يشعثها".
(3) كسح، كمَنَعَ: كنس. "القاموس": (كسح).
(4) ما بين معقوفين ليس في الأصل. انظر "العدة" 3/ 938.

(5/20)


"كلُّ النَّاسِ أَكْفَاء إلاَّ حائكاً أو حجَّاماً" (1) وأنتَ ضعَّفتَهُ؟ فقال: إنَّما ضعَّفْتُ إسنادَه، ولكنَّ العملَ عليه.
وكذلك قال في رواية ابن مشَيْش (2)، وقد سأله عمَّن تحلُّ له الصَّدقةُ: إلى أيِّ شيءٍ تذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث حكم بن جبير (3). فقلتُ له: وحكيمُ بن جبير ثبتٌ عندكَ في الحديث؟ فقال: ليس هو ثَبتاً عندي في الحديث.
وكذلك قال مهنَّا: سألت أحمدَ عن حديث مَعمَر عن الزُّهْري عن سالم عن ابن عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ غيلان أسلم، وعنده عشر نسوة (4)؟ قال: ليسَ بصحيح، والعملُ عليه، كان عبدُ الرزاق يقولُ: عن معمر عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) في الأصل: "حائك أو حجَّام". والحديث أخرجه البيهقي 8/ 134 - 135، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1017) (1018) (1019)، من حديث ابن عمر، وقال أبن الجوزي: وهذا الحديث لا يصحُّ. وذكره ابن حجر في "التلخيص الحبير" 3/ 164.
(2) هو محمد بن موسى بن مشيش البغدادي، روى عن الإمام أحمد، وكان جاراً له، وكان يقدمه ويعرف حقه. "طبقات الحنابلة" 1/ 323.
(3) أخرج أحمد (3675)، وأبو داود (1626)، والترمذي (651)، والنسائي 5/ 97، وأبن ماجه (1840) من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشاً، أو كدوشاً، في وجهه" قالوا: يا رسول الله، وما غِناه؟ قال: "خمسون درهماً، أو حسابها من الذهب".
(4) فقال له رسول - صلى الله عليه وسلم -: "اختَر منهنَّ أربعاً". أخرجه أحمد (4609)، وابن أبي شيبة 4/ 317، والدارقطني 3/ 269، وابن حبان (4157)، والحاكم 2/ 193.

(5/21)


ومعنى قولِ أحمدَ: ضعيفٌ، على طريقةِ أصحابِ الحديث، وقولُه: والعملُ عليه. كلامُ فقيهٍ يُعَوِّلُ على ما يقوله الفقهاءُ من إلغاءِ التضعيفِ من المحدّثين؛ لأنَّهم يُضعِّفونَ. مما لا يوجبُ ضعفاً عند الفقهاءِ؛ كالإرسالِ والتدليسِ والتفرّدِ بالروايةِ، وهذا موجودٌ في كتبهم، يقولون: وهذا الحديث تفرَّدَ به فلانٌ وحده.
وقال أحمد في روايةِ إسحاق بن إبراهيمَ: قد يحتاجُ الرجل يحدِّثُ عن الضعَفاء مثل عمرو بن مرزوق (1)، وعمرو بن حَكَّام (2)، ومحمد بن معاوية (3)، وعلي بن الجَعْد (4)، وإسحاق بن أبي إسرائيل (5)، ولا يعجبني أن
__________
(1) هو: الباهلي، روى عن: عكرمة بن عمار، وعنه: البخاري مقروناً بآخر، وأبو داود، وغيرهم. توفي سنة (223) 0 انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 286، و"الضعفاء الكبير" للعقيلي 3/ 292.
(2) هو: أبو عثمان الأزدي، روى عن شعبة، ضعفه ابن المديني، وغيره. انظر "الضعفاء الكبير" للعقيلي 3/ 266، و"المغني في الضعفاء" 2/ 63.
(3) لعله محمد بن معاوية بن أعين النيسابوري، فقد سئل عنه الامام أحمد فقال: نعم الرجل يحيى بن معين، يريد بذلك التنويه به، لأنَّ يحيى بن معين كان نافراً منه.
انظر "الضعفاء" للعقيلي 4/ 144، و"تهذيب الكمال " 26/ 481، و"تاريخ بغداد" 3/ 370، و"بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم" ص 386 لابن عبد الهادى.
(4) هو: علي بن الجعد الجوهري، روى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين وعيرهم.
وسبب تضعيفه له أنه بلغه أنه كان يقع في بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 116، و"الضعفاء" للعقيلي 3/ 224.
(5) هو أبو يعقوب إسحاق بن أبي اسرائيل المروزي، كان من أقران الشافعي، روى عن: حماد بن زيد، وكثير بن عبد الله، وروى عنه: أبو داود، والبغوي، اتهم أنه كان يقف في القرآن، ولا يقول: غير مخلوق، مات سنة (246 هـ). انظر "ميزان الاعتدال" 1/ 182، و"تهذيب التهذيب" 1/ 115.

(5/22)


يُحدَّثَ عن بعضهم.
وقال أحمد في ابن لهيعة (1): ما كان حديثه بذاك، وما كنت أكتب حديثَه إلاَّ للاعتبارِ والاستدلال، أنا قد كنتُ أكتب حديث الرَّجل كأنِّي أستدلُّ به مع غيره يشدُّه، لا أنّه حجَّةٌ إذا انفرد.
وقال: كنت لا أكتبُ حديث جابرٍ الجعفيِّ (2)، ثم كتبته أعتبرُ به.
فقال له مُهنَّا: لِمَ تكتبُ حديثَ ابنِ أبي مريم وهو ضعيف؛ قال: أعتبر به (3).
__________
(1) في الأصل: "ابن أبي لهيعة" وانظر "العدة" 3/ 942. وهو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة، الحضرمي، خلط بعد احتراق كتبه، فمن روى عنه قبل اختلاطه قُبِلَ حديثه مثل: ابن المبارك، وعبد الله بن وهب، وابن يزيد المقرئ، وابن سلمة القعنبي. توفي سنة (174 هـ). انظر "الميزان" 2/ 475، و"الضعفاء" للعقيلى 2/ 293.
(2) هو: جابر بن يزيد الجعفي الشيعي، تركه النسائى وغيره، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه.
انظر "الميزان" 1/ 379، و"الضعفاء الصغير" للبخاري ص 29، و"المغني فِى الضعفاء" 1/ 193.
(3) في الأصل: "أعرفه".

(5/23)


فقد بيَّن وَجهَ قَصْده [بأَخذِه] عن الضُّعَفاء للاعتبارِ والشَّدِّ به.

فصلٌ
في بيانِ الكبائرِ التي تمنع روايةَ الحديث، وتوجب الفسقَ (1)
روى أبو بكرٍ في كتابه بإسنادِه عن عبيدِ بن عُمَير (2) عن أبيه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائرُ تسعٌ: الإشراكُ بالله، وقتلُ النَّفسِ المؤمنةِ، وقذفُ المحصنةِ، والزِّنى، والفرارُ من الزَّحفِ، والسِّحرُ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وعقوقُ الوالدين المسلمين، والإلحادُ بالبيت الحرام" (3).
وروى أبو سلمة (4) بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: قال رسول الله
__________
(1) انظر هذا الفصل في "العدة" 3/ 944.
(2) في الأصل: "عمر". وهو: عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّث عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب، وعلي، وطائفة، وحدث عنه: ابنه عبد الله، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار، وغيرهم.
كان من ثقات التابعين توفي سنة (68 هـ) وقيل غير ذلك. انظر "طبقات ابن سعد" 5/ 463، و"أسد الغابة" 3/ 353، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 47، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 156.
(3) أخر جه أبو داود (2875)، والنسائى 7/ 89، والطبر اني في "الكبير" 17/ 101، والحاكم في "المستدرك" 1/ 59، والبيهقي 10/ 186.
(4) في الأصل: "سلم". وهو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: اسماعيل، أحد الأعلام بالمدينة، ولد سنة بضع وعشرين، حدث عن: أبيه، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وغيرهم.
وحدَّث عنه: ابنه عمر، والشعبي، ويحيى بن أبي كثير. توفي سنة (94 هـ). انظر=

(5/24)


- صلى الله عليه وسلم -:"الكبائر سبع" (1) وذكر أكلَ الرِّبا مع ما تقدَّم ذكرُه، من الشِّرك، وقتلِ النَّفس، وقذفِ المحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد هجرةٍ.
ورأيت عن علي رضي الله عنه أنَّها عشرةٌ قسَّمها على الأعضاء، فقال: في اللِّسان: الشِّركُ وقذفُ المحصنات، وفي اليدين: السَّرقةُ والقتلُ، وفي البطن: شربُ الخمر، وأكلُ الرِّبا، وأكل مالِ اليتيم، وفي الفَرْج: الزِّنى واللِّواط، وفي القدم: الفرارُ من الزحف إذا التقى الصَّفان (2).
وقد روي في حديث آخر: عقوقُ الوالدين وشهادة الزور، وقد ورد في بعض الأخبارِ: وقولُ الزور، فتدخل فيه الشَّهادةُ وغيرُها، ودخل في القتلِ وَأْدُ البناتِ.
وما رويَ من نهيه - صلى الله عليه وسلم - وأخذه على مَنْ أخذَ عليه الإسلامَ: "وأن لا تقتلَ ولدكَ خشيةَ أن يأكلَ معك" (3).
وإذا كان تاركاً لهذه الكبائرِ فإنَّ الصَّغائرَ مكفَّرةٌ. بمصائبِ الدنيا أو
__________
= "طبقات ابن سعد" 5/ 155، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 79، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 287.
(1) في الأصل: "تسع". والحديث أخرجه البزار (كشف الاستار) (109)، قال الهيثمى في "المجمع" 1/ 103: وفيه عمرو بن أبي سلمة، ضعفه شعبة وغيره، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره.
(2) أورد نحوه المتقي الهندي في "الكنز": (4326)، ونسبه لابن أبي حاتم في التفسير.
(3) أخر جه أحمد (3612)، والبخارىِ (4477)، ومسلم (141) (86)، وابن حبان (4415)، من حديث عبد الله بن مسعود.

(5/25)


بالفرائض، بدليل الكتاب والسُّنة.
أمَّا الكتابُ فقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] نزلت في الرَّجلِ الذي سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن استمتاعِه من المرأةِ الأجنبية بكلِّ ما يستمتعُ به الرَّجُلُ من زوجتِه إلاً الجماعَ، فأنزلَ الله هذه الآيةَ (1)
وقيل في التفسير: إنَّ الصلوات الخمسَ يكفِّرنَ ما بينها. فهذا حكمُ تمحيصها وتكفيرها بالطَّاعات.
وأما تكفيرُها بالآلامِ والمكارهِ فلِمَا رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "حُمَّى يومٍ كفارةُ سنة" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من مصيبة تصيب العبدَ إلاَّ كفَّرت عنه خطيئة، حتى الشَّوكةُ يُشاكُها حتى النَّكبةُ" (3)، وقد قال الله سبحانَه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30] وقال النبىّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انقطعَ شِسْعُ نعل أحدِكم
__________
(1) أخرجه مسلم (2763)، وأبو داود (4468)، والتر مذي (3112)، وابن حبان (1728) (1730)، والبيهقي 8/ 241، من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) أخرجه تمام الرازي في "فوائده" (1315) من حديث أبي هريرة. وهو موضوع مسلسل بالكذابين. وروي نحوه عن ابن مسعود مرفوعاً عند القضاعي في "مسند الشهاب" (62). وإسناده ضعيف جداً.
(3) أخرجه أحمد 6/ 88، والبخاري (5640)، ومسلم (2572) (48) (49)، والترمذي (965)، وابن حبان (2925) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5/26)


فليسترجعْ، فإنَّها مصيبةٌ" (1).
قال أحمدُ: ولا يُرَدُّ خبرُ أبي بَكْرة ولا من جُلِدَ معه (2)، لأنَّ م جاؤوا مجيءَ الشَّهادةِ، ولم يأتوأ بصريح القذفِ، ويسوغ فيه ألاجتهادُ ولا تردُّ الشَّهادةُ. مما يسوغُ فيه الاجتهاد.
وهذا من كلامه يدلُّ على أنَّ اللعبَ بالشِّطرنج وشربَ النبيذ [ليس جرحاً] (3) في حقِّ المجتهدين، ومَنْ قلَّد مجتهداً في ذلك، ولمَّا نصَّ على أنَّه لا تردّ الشَّهادةُ في ذلك، كان تنبيهاً على أنَّه لا يردّ الخبرُ؛ لأنَّ الخبر دونَ الشَّهادةِ، ولأنَّ نقصانَ العددِ معني في غيره، وليس. بمعني من جهتِه.

فصلٌ
في أهل البدعِ ومَنْ يُرَدُّ حديثُه منهم
قال أحمدُ في روايةِ الأَثرم، وقد ذُكِرَ له أنَّ فلاناً أمر بالكِتابِ عن
__________
(1) أخرجه البزار (3120) من حديث أبى هريرة مرفوعاً، قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 331: روأه البزار، وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف.
وأخرجه البزار أيضاً (3121) من حديث شداد بن أوس، ثم قال: وحديث شداد لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً حدث به عن خالد إلا خارجة، وليس هو بالحافظ، وإسماعيل بن أبي الحارث ثقة مأمون. قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 331: رواه البزار بعد حديث أبي هريرة وفي حديت شداد خارجة بن مصعب وهو متروك.
(2) أَخرج قصتهم عبد الرزاق (13564) (13565) (13566)، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 152 - 153، و"معرفة السنن" 14/ 264، وانظر "الاستذكار" 22/ 39، و"فتح الباري" 5/ 256.
(3) انظر ص 14 من هذا الجزء.

(5/27)


سعدٍ العَوفِى (1)، فاستعظمَ ذلك، وقال: ذاكَ جهميٌّ، امتُحنَ فأجاب قبل أنْ يكونَ ترهيبٌ.
وقال في رواية أبي داود: احتَمِلُوا من المرجئةِ، ثم يُكتَب عن القدري إذا لم يكن داعيةً.
وقال المرُّوذي: كان أبو عبد الله يحدِّث عن المرجئ إذا لم يكن داعيةً، ويكتبُ عن القدري إذا لم يكن داعيةً.

فصلٌ
ويعتبر أن يكونَ ضابطاً (2)؛ لأنَّ أحمدَ قالَ في روايةِ المرُّوذي: لا ينبغي للرجلِ إذا لم يعرفِ الحديثَ أن يحدِّث به، ثمَّ قال: صارَ الحديثُ يحدِّثُه مَنْ لا يعرفه.
وقال فيما دون البالغ؛ لأنّه لا رغبةَ له في الصِّدقِ، ولا مخافةَ عليه في الكذبِ، فحالُه دون حالةِ الفاسق؛ لأنَّ الفاسقَ قد يرجو ثواباً ويخاف عقاباً، ولأنّنا إذا لم نقبلْ إقرارَه على نفسه، فَلأن لا نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَولى.
وأمَّا روايتُه بعد بلوغِه جائزٌ؛ لأنَّ السَّلفَ عملوا بخبرِ ابن عباس،
__________
(1) هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، قال فيه الامام أحمد: لم يكن ممَّن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذلك. كما قال: جهمي.
انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 126، و"لسان اليزان" 3/ 18.
(2) عاد الصنف هنا لسرد الصفات المعتبرة في الراوي لقبول روايته.

(5/28)


وابنِ الزبير، والنعمانِ بن بشير، ومَن شَاكلهم من أحداث الصَّحابة، ولأنه لما جازَ تحمُّلُه للشَّهادةِ قبل بلوغِه مع كونِ الشَّهادةِ أضيقَ حكماً وآكدَ شروطاً، فأولى أن يتحملَ الخبرَ ويؤديه بعد بلوغه.
قال أحمدُ في روايةِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، والمروذي، وحنبل: يصحُّ سماعُ الصَّغيرِ إذا عقَلَ وضبط.
وروى البخاريُّ في "صحيحه" عن الزهري، عن محمود بن الربيع:
عَقَلْتُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -مَّجةٌ مجَّها في فيَّ وأنا ابنُ خمسِ سنين (1). وهذا يدلُّ على [أنَّ] ابنَ حمس يعقلُ ويضبطُ، فصحَّ سماعُه.
فإن قيل: فهلاّ صحِّحتْ روايتُه مع تكاملِ الأمر بينَ عقلِه لما سمع، وضبطِه لما عقَل؟
قيل: الشرعُ قصَرَه في شأنِ النطقِ، ولم يجعل له نطقاً في إقرارٍ ولا شهادةٍ، ولا طلاقِ ولا عتاقٍ في مثل (2) هذا السِّن، لأنَّه قد يُعتبرُ للأداءِ ما لا يعتبرُ للتحمُّلِ؛ بدليلِ الشهادةِ يتحملها مَنْ لا يُقبلُ أداؤُه.

فصلٌ
فأمَّا الذكوريةُ فلا تعتبرُ في روايةِ الحديثِ؛ لأنَّ النِّساءَ روين عن
__________
(1) أخرجه البخاري (77)، ومسلم (265) (33)، وابن حبان (4543)، والبغوي (112).
(2) في الأصل: "قبل".

(5/29)


رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعَ أصحابُه (1) حديثَهنَّ، وبنوا عليه الأحكامَ، وذلك أشهرُ من أن يحتاجَ إلى ذِكْرهِ، من ذلك: رواياتُ أزواجِه رضي الله عنهنَّ، أفعالَه وأقوالَه التي بُنيت عليها الأحكامُ، ولأنّهنَّ دخلنَ في الشَّهادةِ وهي أضيقُ مسلكاً، وأكثرُ شروطاً وآكدُ، فكان ذلك منبِّهاً على جواز دخولهِنَّ في الأخفِّ والأوسع، ووجهُ ضيقِ الشَّهادةِ اعتبارُ العددِ والعدالةِ الباطنةِ في بابِ العقوباتِ إجماعاً ظاهراً، وعدمُ اعتبارِها في روايةِ أحاديثِ الحدودِ، والعقوباتِ، وعدمُ سماع الشَّهادةِ بالعنعنة، ومن وراءِ حجاب، ومن طريقِ الإجازةِ والإرسالِ، وذلك كلُّه غيرُ معتبرٍ في الأخبارِ.

فصل
وقال أحمدُ: لا بأسَ بروايةِ الضَّريرِ إذا كان يحفظ، وكذلك قال في الأمِّي، إذا كان يحفظ (2)، وذلكَ لأنَّه لا عملَ للبصر والخطِّ في الحفظِ والأداءِ، فإذا كان سليمَ الآلةِ التي يحصلُ بها الأداءُ، فلا عبرةَ. بما سواها.

فصل
وقال أحمدُ: لا يروى عن أهلِ الرَأي.
وقوله: لا يروى عنهم، في عدة روايات، لا يجوزُ لعاقلٍ أن يحملَه على أصحابِ أبي حنيفةَ لمعانٍ، منها:
__________
(1) في الأصل: "أصحاب رسوله".
(2) انظر "العدة" 3/ 952.

(5/30)


أنَّ غايةَ ما اعتَلَّ في تركِ الروايةِ عن بعضِ مشايخهم، أنَّه رأى سراويلَه على شراكِ نعلِه، لأجلِ الحديثِ فيما نزلَ من الإزارِ على العَقبِ (1) فعَلَّلَ بذلك، ولم يذكر الرأي، وكيف يذكرُ تركَ الرِّوايةِ لأجلِ الرأي الذي هو القياسُ، وهو ممَّن عمل بالرأي، يَذُمُّ ما ذهب إليه؟! وقد قاسَ، وعمل بالقياس، وردَّ على داود، ويذم أهلَ الظَّاهر، حتى قال في داود ما قال، وقاسَ هو وعملَ بالقياس (2).
وكيف يذم الأرئيتية لأجلِ القياس؟ وأول من قال: "أرأيت" النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ فقضيتيه" (3)، "أرأيتَ لو تمضمضت" (4)، يقول ذلك لمَنْ سألتْ عن الحجِّ عن أبيها، ولِمَن سألَ عن قُبلةِ الصَّائم.
وإنَّما يحملُ كلامُه في نفي الرِّوايةِ وفي الذمِّ، على أهلِ الأهواءِ الذين ردُّوا السُّننَ بالآراءِ، فأمَّا ما خلا ذلك فلا يُظنّ به مع دخولهِ في القياس، وعملِه به، وبناءِ مذهبِه عليه في مسائلَ عدَّة ليس له فيها آية، ولا خبرٌ، ولا قولُ صحابيٍّ.
__________
(1) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففي النار"، أخرجه أحمد (9319)، والبخاري (5787)، والنسائي 8/ 207، والبيهقي 2/ 244، من حديث أبي هريرة.
(2) انظر "أصول مذهب الإمام أحمد" الصفحة (616) وما بعدها.
(3) تقدم تخريجه 2/ 54.
(4) تقدم تخريجه 2/ 54.

(5/31)


فصلٌ
وقال: لا أروي ولا يُروى عمَّن أجاب في المحنة (1). وهذا محمولٌ على مَنْ أجاب تقرُّباً إلى السُّلطانِ لا بإكراهٍ له على الإجابة، بدليل أنَّه لا خلافَ أنَّ الإكراهَ يزيلُ حكمَ ما أُكرِهَ عليه الإنسانُ من الأقوالِ في بابِ المآثم، ولا أشدَّ من كلمةِ الكفرِ، وليسَ الكلامُ في القرآنِ بخلْقٍ أو نفى خَلْق، أو توقّفٍ بأكثرَ من تصريح بكلمةِ الكفرِ، فهذا الذي ينبغى أن يقالَ ليوافقَ أصلَ السُّنة، وأصولَ الرَّجل في نفسِه، وما يليقُ بالعلمٍ، أو يحملُ على النزاهةِ والورع، خوفاً أن يكونوا استجابوا محاباةً، أو تقرباً لشكٍّ وقعَ له فيهم.

فصلٌ
قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كانَ الرجلُ في الجندِ لم أكتب عنه (2). وهذا من كلامِه الذي يجبُ صرفُه عن ظاهرِه، وإنما أرادَ أنَّه جنديٌّ الغالبُ من حالِه لبسُ المحظورِ وكلامه المكروه، وامتداد يدِه إلى الظلمِ والاستطالةِ، فأمّا نفسن التجنّدِ فليسَ. بمحظورٍ، بل التجنّدُ دخولٌ في عَسْكَر الإسلامِ ومعاضدة الإمام.

فصلٌ
ومنع من سماعِ الحديثِ عمَّن يُعاملُ ويبيع بالعِينَةِ، وهذا محمولٌ على النَّسيئة التي هي رباً، وكل بيع مراباةٍ (3).
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 953.
(2) انظر "العدة" 3/ 952.
(3) انظر "العدة" 3/ 953 وانظر تفصيل مسألة بيع العينة في "المغى" 6/ 262 ..

(5/32)


فصلٌ
وقال: لا نكتبُ عمَّن يأخذُ الدراهمَ على الحديثِ، ولا كرامةَ (1).
وهذا محمولٌ على أخذِ الأجرةِ، مع كونِ الروايةِ فرضاً على الكفاية، فأمَّا السَّعي وأن يَصمُدَ للإتعاب لسماعِ يَقطَعُه عن شغله، فهو كنسخ الحديثِ والمقابلةِ له.

فصلٌ
وأمّا التدليسُ، فإنه يُكره، لكن لا يَمنَعُ قَبولَ الرِّوايةِ وسماعَ الحديث؛ لأنَّه ليس بكذبٍ، لكنَّه من المعاريضِ المغنيةِ عن الكذبِ، والموهمةِ ما ليس هناك، مثل: أنه لم يعاصر الزُّهريَّ، ولكنَّه روى عمَّن لقِيَه، فيقول قولاً يوهِمُ أنَّه لقِيَ الزُّهريِّ محتملاً.
ومثل قولِه: حدَّثنا فلانٌ وراءَ النَّهر، ويشيرُ به إلى نهر عيسى ويوهم به جَيحان.
وقد صرَّحَ أحمدُ بكراهةِ التدليسِ، وقال: التدليسُ عيب. وإنَّما كان كذلكَ لما فيه من الإيهامِ والبَخْس. بما ليسَ هو ثابتاً (2) في حقّه.
وقد نصَّ على أنَّه لا يمنعُ، فقيل له: شعبةُ يقول: التدليسُ كذبٌ،
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 954، و"الكفاية" 241.
(2) في الأصل: "ثابت".

(5/33)


فقال: لا ليسَ بكذبٍ، قد دلسَ قومٌ ونحن نروي عنهم (1).
وذهبَ قومٌ من أصحابِ الحديثِ إلى أنَّه لا يقبلُ خبرُ المدلِّس (2).
وجهُ قبولِ خبرِه: أنَّه يحصل (3) بإيهامٍ ليس فيه أكثرُ من استعارةِ اسمٍ مكانَ اسمٍ أَنَفَةً من النُّزولِ وإيثاراً للعُلوِّ، وهو صادقٌ في الباطنِ وما هو إلأ. بمثابةِ مَنْ قيل له: أحججتَ؟ فقال: لا مرةً ولا مرتين، يوهمُ أنه حجَّ أكثرَ، وهو يقصدُ نفيَ الجميع باطناً.

فصلٌ
إذا روى خبراً إنسان ثم نسي روايته للذي رواه عنه، فجحدَه النًاسي وأنكرَه، لم يوجب ذلك ردَّ الحديثِ في إحدى الروايتين عن أحمدَ رضي الله عنه (4)، حتى إنَّ الراوي الناسي إذا كان يثقُ إلى عدالةِ الرَّاوي عنه حَسُنَ أن يقول: حدَّثني فلانٌ عني بكذا وكذا. وبها قالَ أصحابُ الشَّافعي.
وفيه روايةٌ أخرى بردِّ الخبرِ ولا يجوزُ العمل به، نصَّ عليها في إنكار الزُّهري روايتَه حديث عائشةَ في الوليِّ (5).
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 957.
(2) انظر "علوم الحديث" لابن الصلاح76.
(3) في الأصل: "يحمل".
(4) انظر "العدة" 3/ 959، و"المسودة" 278.
(5) أخرجه أحمد 6/ 66 و 260، وأبو داود (2083) (2084)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879) (1880) ولفظه: "أيما امرأةٍ لم يُنكحها الولي فنكاحها =

(5/34)


فالأوَّلة أصحُّ؛ لأنَّ اكثرَ كلامِ أحمدَ يتضمن تصحيحها، فقال: كان سفيانُ يحدِّث ناسياً، ويقول: ليس من حديثي ولا أعرفه، قد يحدِّثُ الرجلُ ثم ينسى (1).

فصلٌ
والدلالةُ على قَبولِه، والعملِ به: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نسيَ فسلَّمَ من ركعتين، فقامَ إليه ذو اليَدين، فقال له: أقصرتِ الصَّلاةُ أم نَسِيتَ؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن". تم سَألَ أبا بكرٍ وعمرَ فصدَّقا ذا اليدين، فقامَ يقضي ما أخبراه بأنّه نسيَه (2)، وهذا عملٌ بقولِ غيرِه فيما نسيَه، وجَحْده للنُّقصانِ، كجحد الزهريِّ للخبرِ.
وأنَّ ربيعةَ بنَ أبي عبد الرحمن روى عن سهيلِ بنِ أبي صالحِ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ: أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشَّاهد (3). ثمَّ نسيَه سهيل،
__________
= باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها. بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وانظر "العدة" 3/ 960.
(1) والإنكار الذي وقع الخلاف في اعتباره هو الإنكار الذي يكون منشؤه نسيان المروي عنه وتوقفه، أما إذا كان الإنكار مصحوباً بالتكذيب من المروي عنه للراوي، ومن الأصل للفرع، ففي هذه الحالة يرد الخبر بالاتفاف، لأنَّ كلاً منهما مكذب للآخر.
انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 151 - 152.
(2) تقدم تخريجه 2/ 550.
(3) أخرجه بهذا الإسناد الشافعي في "المسند" 2/ 179 (632)، والترمذي (1343)، وأبو داود (3610)، وابن ماجه (2368)، والدارقطني 4/ 213، والبيهقي 10/ 168 - 169.

(5/35)


فكانَ يقولُ: حدَّثني ربيعة عنِّي أنِّي حدثته عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ويرويه هكذا، فلا ينكرُ أحدٌ من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدلَّ على جوازِه.
فإن قيل: هذا يحتمل ألا نخالفكم فيه، وهو أن يكونَ لمَّا نسيَ فأخبرَهُ وذكره فذكَرَ، فكانَ راوياً بنفسِهِ.
قيل: لو كانَ كذلك لانطوى ذِكْرُ ربيعةَ، وكان يرويه رواية نفسِه، ألا ترى أنَّه لو رَوى حديثاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم نسيه فذكَّره آخر قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وما سَمِعَهُ منه، لم يقلْ: حدَّثني فلانٌ عن النبيِّ، بل كان يروي عن النبيِّ بحكم ذكرِه لقوله - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أنَّ الراوي عنه [عَدْلُ] يُحَقِّقُ (1) مأنعه منه، وهَبْ أنَّ نسيانَه كموته، فإنَّ موتَ حِفظِه وذهابَه كفَقدِه، فيعوَّلُ على عدالةِ الراوي وإسنادِه إليه، ولا علينا كان ذاكراً أو ناسياً، ولهذا لو جُنَّ لم يؤثِّر، والجنونُ إعدامٌ لقوَّةِ الحفظ، والنِّسيانُ كذلك.

فصلٌ
في شبهاتِ الروايةِ الأخرى والموافقِ لها
فمنها: أنَّ عمارَ بنَ ياسر لمَّا روى لعمرَ بنِ الخطاب رضيِ الله عنهما فقال: "أمَا تذكرُ يا أميرَ المؤمنين لمَّا كنا في الإبلِ، فأجنبتُ،
__________
(1) في الأصل: "بحق".

(5/36)


فتمعَّكْتُ في الترابِ، ثم سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما يكفيكَ أن تضرب بِيَديك" (1) فلم يقبلْ عمرُ من عمار ما رواه له، مع كونِه عدْلاً ثقةً عندَه.
ومنها: أنَّ إنكارَ مَنْ أُسندَ إليه، يمنعُ من قبول قوله، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والحاكمِ إذا ادَّعى رجل أنَّه حكمَ له، فقال: لا أذكرُ ذلك، فأقامَ عندَه شاهدين بأنَّه حَكَمَ له. بما ادَّعاه، فإنه لا يُقبَلُ، كذلك هاهنا.
وشاهدِ الأصلِ مع شاهدِ الفرع (2).

فصل
في أجوبتنا عما ذكروه أوّلاً
أمَّا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقد قال لذي اليدين: "كل ذلك لم يكن في الصلاة"، فلم يزد، وسألَ أبا بكر وعمرَ وبنى فعله على قولهما.
أمَّا الشَّهادةُ، فإنَّها أضيقُ طريقاً، وأكثرُ شروطاً، بدليلِ أنَّه لا يُقبلُ فيها الواحدُ، ولا يُقنعُ فيها بالعدالةِ الظَّاهرةِ، ولا يُقبلُ في العقوباتِ بشهادة النِّساءِ، ولا مَنْ ظاهره العدالة، وتقبل الأخبار الواردة، بالحدود والقَوَدِ من النساء، ولا تقبلُ فيها العنعنةُ، ولا من وراءِ حجاب.
وأمّا الحاكمُ فلا نُسَلِّمُ، بل إذا شَهِدَ شاهدان بحكمِه، لزمه الرجوعُ
__________
(1) أخرجه البخاري (347)، ومسلم (112)، والتر مذي (144)، والنسائي 1/ 139، وابن ماجه (569).
(2) انظر "العدة" 3/ 962.

(5/37)


إلى قولِهم، ومذهبُنا يوجب عليه الرجوعَ إلى حفظه (1) مِن تحتِ ختمه فِى قِمَطرْه (2)، فقولُ الشاهدَين أَوْلى.
وأمّا حديث عمّار، فإنَّه يجوز أن يكونَ ذلك مذهباً لعمرَ بنِ الخطاب، ولنا في قولِ الصَّحابيِّ هل هو حجةٌ؟ روايتان، أصحُّهما: أنَّه ليس بحجَّةٍ، لأَنه مجتهدٌ وليس. معصومٍ، ولا ممنوع من خلافِه، فهو كسائرِ المجتهدين.

فصلٌ
المستحبّ رواية الحديث بألفاظِه (3)، لأنّه إذا نقِلَ بألفاظِه، أُمِنَ فيه التغييرُ والتبديل، وسوء التأويلِ، فهذا هو الأَوْلى.
وإنْ نقلَه بالمعنى مَنْ يعرفُ العنى، وحَفِظَه من الشبهةِ، ومن التغييرِ المخلِّ بالمعنى، جازَ، وهذا إنّما يصحُّ ممَّن كانَ عارفاً بالمعاني، نصَّ عليه في روايةِ جماعةٍ من أصحابهِ، فقال: تجوز الروايةُ على المعنى، وما زال الحفَّاظُ يحدثون بالمعنى.
وحكي عن ابنِ سيرين وجماعةٍ من السَّلف: أنه يجب نقلُ اللفظِ على صورتهِ. وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي (4)، ولأصحاب الشَّافعيِّ
__________
(1) ليس المراد ما حفظه في ذاكرته، بل ما احتفظ به في سجلاته.
(2) القِمَطرْ: ما يصانُ فيه الكتب. "القاموس": (قمطر).
(3) انظر "العدة" 3/ 968، و"المسودة" 281، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 244، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 531.
(4) تحقيق مذهب أبي بكر الرازي المشهور بالجصَّاص: أن الأحوط أداء اللفظ وسياقه على وجهه دون الاقتصار على المعنى، سواء كان اللفظ ممَّا يحتمل التأويل أو لا يحتمله. ويستثنى من ذلك ما إذا كان الراوي من أمثال الحسن البصري والشعبي في =

(5/38)


وجهان كالمذهبين (1).

فصلٌ
في ذكر أدلَّتنا
فمنها: ما رواهُ شيخُنا عن أبي محمدٍ الخلال (2) - ولي منه إجازةٌ - عن ابن مسعودٍ، سأل رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، تُحدِّثنا [حديثاً] لا نقدر أن نسوقَه كما نسمعه، فقال: "إذا أصاب أحدُكم المعنى فليحدِّث" (3).
ومنها ما روي عن مكحول (4)، قال: دخلنا على واثلةَ بنِ الأسقع،
__________
= إتقانهما للعبارات والألفاظ التي تأتي على وفق لفظ الحديث الأصلي، وتؤدي ذات معناه من غير أن تفضل عليه. بمعان جديدة، ولا تقصر دون أداء معناه المقصود.
انظر "الفصول" للجصاص 3/ 211.
(1) والراجح عند الشافعية جواز رواية الحديث بالمعنى إذا كان عالماً. بمعنى الحديث. انظر "الرسالة" 370، و"التبصرة" 346، و"المستصفى" 1/ 168.
(2) هو: الحسن بن محمد بن الحسن بن علي البغدادي. ثقة، كان ذا علم ومعرفة في الحديث، خرَّج المسند على "الصحيحين" سمع من القطيعي، والدارقطني وغيره. حدث عنه الخطيب البغدادي، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وغيرهم، مات سنة (439) هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" 7/ 425، و"تذكرة الحفاظ" 3/ 1109 - 1111، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 593.
(3) أخرجه الخطيب في "الكفاية" 302.
(4) هو: أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم الدمشقي، عالم أهل الشام وفقيهها. =

(5/39)


فقلنا: حدِّثنا حديثاً ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير، فَغَضِبَ. وقال: لا بأسَ إذا قَدَّمت وأخْرتُ إذا أصبتُ المعنى (1).
ومنها: أنَّ المقصودَ من الألفاظِ المعاني، فإذا أتى بالمعنى، وجبَ أن تجوزَ، كما نقولُ في ألفاظِ الشَّاهدِ إذا تضمنت معاني ما شَهِدَ به.
ومنها: أنَّ الحاجةَ إلى أحكامِ الشَّرع داعية، ولا طريقَ لنا بَعدَ القرآنِ إلى معرفتِها إلا السُّنَّةُ، والحوادثُ جمةٌ، فلو رَدَدْنا على الرُّواةِ بالمعاني، وأوقفنا القَبولَ والعملَ على نفسِ الصِّيغ، دونَ الرِّوايةِ بالمعنى، لوقَفَتِ الأحكامُ في أكثر الحوادثِ.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ في معاني ألفاظِه لاستخراج الأحكامِ سائغ جائز، بل واجبٌ لازمٌ، فتجزئُ المعانى من ألفاظِه للروايةِ التي بنينا عليها الأحكامَ كذلك.
ومنها: أنَّا رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في القصةِ والحادثةِ قولاً، ثمَّ يقولُه مرةً أخرى بغير ذلك اللّفظِ، لكن يتطابقُ المعنى، مثل قوله: "أليسَ في الشَّث
__________
= روى عن؛ واثلة بن الأسقع، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. روى عنه: الزهري، وربيعة الرأي، وابن عجلان، وطائفة. توفي سنة اثنتا عشرة ومئة. انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 453، و"وفيات الأعيان" 5/ 280، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 155.
(1) أخرجه الترمذي في "العلل" 1/ 145بشرح ابن رجب، وهو في المستدرك 3/ 569، و"الكفاية" 204.

(5/40)


والقَرَظِ ما يطهِّره" (1)، "يطهِّر الدِّباغُ الجلدَ كما يطهِّر الخلّ الخمر" (2)، "دباغُ الأديم ذكاتُه" (3) الكلّ. بمعنى واحد، والألفاظُ مختلفةٌ، "ادرؤوا الحدودَ بالشبهاتِ" (4)، "مَنْ أتى من هذه القاذوراتِ شيئاً، فليستتر بسترِ الله" (5) "تجاوزوا عن ذنب السخيِّ، فإنَّ الله يأخذُ بيدِه كلما عثر" (6)، "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" (7)، "إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلعَ إلى أهلِ
__________
(1) أخرج أبو داود (4126)، والنسائي 7/ 174، والطحاوي 1/ 471، والدارقطني 1/ 45، وابن حبان (1291)، والبيهقى 1/ 19 من حديث العالية بنت سبيع، بلفظ: "يطهرها الماء والقرظ". وليس لفظ: الشَّث من الحديث نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 1/ 48.
والشث: نبت طيب الريح يدبغ به. "القاموس": (شث).
(2) أخرجه الطبر اني في الكبير 123/ (847)، والدارقطني 4/ 66، والبيهفي 6/ 37 - 38، من حديث أم سلمة.
(3) أخرجه أحمد 6/ 154، والنسائي 7/ 174، والطحاوي 1/ 470، وابن حبان (1290) من حديث عائشة.
(4) ليس هذا مرفوعاً، وهو موقوف عن ابن مسعود وغيره، انظر "نصب الراية" 3/ 333، و "التلخيص الحبير" 4/ 56.
(5) أخرجه مالك 2/ 825، من حديث زيد بن أسلم مرسلاً. انظر "التمهيد" 5/ 321.
وأخرجه الحاكم 4/ 383 من حديث عبد الله بن عمر.
(6) تقدم تخريجه ص (10).
(7) أخرجه أحمد 6/ 181، وأبو داود (4375)، وابن حبان (94)، والبيهقى 8/ 334، من حديث عائشة.

(5/41)


بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (1)، وإذا جاز له هو أن يغيِّرَ اللًفظَ مع حفظِ المعنى، كان لنا نحنُ ذلك تعويلاً على المعنى.
ومنها: أنَّ أحاديث الناسِ بعضِهم عن بعض تجوزُ بالمعاني، ولا تشترط الصيغة التي (2) سمعها، ولا يعدُّ كاذباً ولا متجوِّزاً، كذلكَ أحاديثهم عن الني - صلى الله عليه وسلم -.

فصلٌ
في شبههم
فمنها: ما روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "نضَّر الله امرأً" أو قال: "رحم الله امرأً، سمعَ مقالتي فوعاها وأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه" (3).
ومنها: أنَّه قولٌ تثبتُ به أحكامُ الشَّرع، فلا يجوزُ تغييرُه كالكتابِ والأذانِ والشَّهادةِ.

فصلٌ
في الأجوبةِ عنها
أمَّا الحديثُ، فهو حجةٌ لنا من وجهٍ، ونقولُ به من حيثُ يحتجُّون به،
__________
(1) أخرجه البخاري (3007) (3983) (4274) ومسلم (2494) وأبو داود (2650) (2651)، والترمذي (3305) من حديث علي.
(2) في الأصل: "إلى".
(3) تقدم تخريجه 1/ 7.

(5/42)


أمَّا حجَّتُنا منه، فإنَّه عوَّلَ على المعنى في أوَّلِه وآخرِه حيث ذكرَ الفقهَ، ولم يتعرَّض للحفظِ، وإِنما نحن مجوِّزون لنقلِه بالمعنى في حقِّ مَنْ يفقه المعنى.
وإذا كان فقهُ الحديث هو المقصودَ، لم يبق فيه إلا الاحتياط للفظِ خوفاً على المعنى، وذلكَ يقتضي الأَوْلَى والاستحباب، ونحن قائلودن به.
ولأنَّ في تعليلِ الخبرِ ما يدلُّ على أنَّ المعنى أَوْلَى، وهو أنَّه إذا كان الحديثُ مشكلَ الظاهر فأزال إشكاله بروايته بالمعنى، أغنى السَّامعَ عن تفسيرِه، وعن سؤال وإيضاحِ للمعنى، فإنَّ الصَّحابة قد تخطئ في ذلك حتى يُشبَّه على أحدهم خيطا الفجر بخيطي الحبل، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لعريضُ الوِسادِ (1) (2 ......... 2) لا الكف عنه فقطع للسان غير معناه، مثل: أن يسمعَ من النبيِّ- صلى الله عليه وسلم -: "صاحبُ الحقِّ له اليدُ واللسانِ" (3)، وهذا يوهمُ: له اليدُ ضرباً ونَتْراً وجذباً، واللِّسانُ شتماً وسبًّا، فجاءَ الراوي وقال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"صاحبُ الحقِّ له المطالبةُ بلسانهِ، واليدُ بملازمتِه وإمساكهِ" ففصح بالمعنى، كان هذا أحسنَ في إزالةِ الإشكالِ.
__________
(1) تقدم تخريجه 4/ 62.
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن يشهد لمعناه حديث أبى هريرة أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له، قال: فهم به أصحابه فقال:" دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً".
أخرجه البخاري (2306) (2390) (2401) والترمذي (1317) وابن ماجه (2423) والبيهقي 5/ 351، والبغوي (2137).

(5/43)


وأمّا قياسُهم على القرآن فغيرُ صحيحٍ، لأنَّ ذلكَ لفظُه ونطقُه إعجازٌ، فتغييره (1) لا يجوز، ولو لم تكَن آيه محكمةً، حتى [لو] كانت قصصاً، أو وعيداً للأمم السَّالفةِ أو مثلاً على أنه هو الحجة، لأنه لا يسقطُ الحكمُ الذي [ذَكَر] معناه الناقلُ بالمعنى، مثل قوله: إذا نوديَ للصَّلاة فامضوا ودعوا التبايعَ، ويقول: أنا سمعتُ ذلك، فإنَّه لا يكونُ قرآناً، ويكون الحكمُ ثابتاً، كما غيَّر ابنُ مسعود التلاوةَ بالتفسير، ولم يسقط حكمُ الغيَّرِ، وإنما سقطَ النطقُ عن كونهِ قرآناً.
على أنَّ القرآن لو قَدَّمَ فيه المؤخر، لم نُجِزْه، فتلا بدل {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43]: اركعي واسجدي، لم يجز، ولو قال في روايةِ الحديث: "لا جنَبَ ولا جلبَ" أو قال: "لا جلَب ولا جنبَ" (2) كان سواءً، وكذلك إذا روى: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بالغَسْلِ للدمِ والحتِّ والقرصِ (3)، أو قدَّمَ ما أخَّر، جاز.
وأمّا الأذانُ والشَّهادةُ، فذلكَ تَعَبُّدٌ لا يحصلُ إلا بالصيغة التي تعبَّدَنا الشَّرعُ بها، كهيئاتِ التعبداتِ، وإذا غيَر لم نفهمِ الدُّعاء إلى الصَّلاةِ به، ولم نعلم أنَّه صادفْنا فيه الأصلحَ، وليسَ القصدُ به العملَ فنعملَ به، إنَّما القصدُ التعبدُ بالصيغةِ، والعملُ به الاستجابةُ والقصد إلى مواضع
__________
(1) في الأصل: "فتغيره ".
(2) تقدم سؤيجه 1/ 51.
(3) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم -لأسماء: "حُتِّيهِ ثم اقرصيه" تقدم تخريجه 1/ 38.

(5/44)


العبادات (1)، وذلكَ لازمّ بقولِ القائل: الصلاة جامعةٌ، لكنَّه لا يكون أذاناً، فإن كانَ [القصدُ] الإعلامَ، فإنَّه يحصلُ، وإِنْ [كان القَصدُ] التَّعبُّدَ، فإِنه لا يحصل.
فأمَّا في مسألتِنا، فإدنَّ القصدَ العلمُ. بمرادِ الشَّرع، وذلكَ يحصل بفهمِ المعنى بأيِّ صيغةٍ كانت، حتى بالخطِّ والمناولةِ تحصلُ الرِّوايةُ، وبكتابٍ يُسَطرَّ إلى أهلِ القريةِ والمحلّةِ من قِبَلِ المؤذن لا يحصلُ ثواب الأذانِ عند مَنْ يجعلُه سنَّةً، ولا فرضُه عندَ مَنْ يقولُ بأنَّه فرضٌ.