الواضح في أصول الفقه فصل
يقبل خبرُ الواحدِ، وإن انفرد الواحد بروايته (1).
وقال أبو علي الجبائي: لا يقبل حتى ينضمَّ إليه آخرُ،
فَيرْوِيَه اثنان عن اثنينِ إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -.
وقال بعض المتكلمين: لا يُقبَلُ حتى يَرْوِيَه أربعةٌ (2).
__________
(1) انظر "التمهيد" 3/ 75، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 133.
(2) ذكر ذلك الشيرازي في "التبصرة" (312)، ولم ينسبه إلى أحد،=
(4/386)
فصل
في أدلتنا على ذلك
فمنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فيعطي
أنه إذا جاءنا عدلٌ، لا يجبُ علينا أن نتثبتَ، بل نعملُ بقوله،
ونحكمُ بخبرِه.
ومنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعثُ بعاملٍ
واحد، وحاكمٍ واحدٍ إلى البلدِ، وذلك يعطي وجوبَ العملِ عنه
بخبرهِ - صلى الله عليه وسلم - فيما بَعَثَه به، فبعثَ علياً
إلى اليمن، وعَتَّابَ بن أَسِيدٍ إلى مكة، ومصعبَ بن عُمَيرٍ
إلى المدينة.
ومنها: أنَّ الصحابةَ رجعت في التقاءِ الختانين إلى خبرِ عائشة
رضي الله عنها وحدَها، ورجعَ كلُّ خليفةٍ في قَضيَّتِه إلى
خبرِ واحد، وقد سبقَ ذلك في الفصلِ الذي قبل هذا.
ومنها: أنَّه إخبارٌ عن حكمٍ شرعي، فلم يُعتَبرْ فيه العددُ،
كالفتوى (1).
ومنها: أئَّه لما لم نَعتبِرْ فيه صفةَ الشخصِ -أعني:
الحُرِّيّهَ، والدُّكُوريّهَ-، فأَوْلى أن لا نعتبرَ انضمامَ
شخصٍ إلى شخص، لأنَّ الصفةَ في الشخصِ أيسرُ من اعتبارِ مثلِه
إليه، ونصرفُ مَّنَ هذه الطريقةِ طريقةً أخرى، فنقول: العددُ
معنى لا يعتبرُ في الفتوى، فلا
__________
= واكتفى بالقول: وقال بعض الناس: لا يقبل أقل من أربعة.
(1) في الأصل: "كالقرى".
(4/387)
يشترطُ في الخبر، كالذكوريةِ، والحريةِ.
ومنها: أنَّ اعتبارَ اثنين عن اثنين إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - قد لا يَتَّفِقُ، فيفضي اعتبارُ ذلك إلى تعطيلِ كثيرٍ
من السنن.
فصل
في شبههم
فمنها: أنَّ أبا بكر الصديقَ رضي الله عنه لم يعمل بخبرِ
المغيرةِ في ميراث الجدة، حتى روى ذلك معه محمدُ بن مَسْلمَةَ،
وعمر رضي الله عنه لم يعمل بخبر أبي موسى في الاستئذانِ، حتى
شهدَ معه أبو سعيدٍ الخُدْريُّ، واستندَ فعلُهما إلى ما
فَعَلَه النبيِ - صلى الله عليه وسلم - في توقفِه عن خبرِ ذي
اليدين في الصلاة، وطلبَ مع خبرِه خبَرَ غيره، فأشارَ إلى أبي
بكر وعمر، فلما صَدَّقاه، بنى على قولهم، وتَمَّمَ، وسجدَ
السهو.
فيقال: قد سبقَ الجوابُ عن ذلك في الفصلِ الذي قبله.
ومنها: أن قالوا: ما اعتبرَ فيه العدالةُ، اعتبرَ فيه العددُ،
كالشهادةِ.
فيقال: هذا باطلٌ بالفتوى؛ تعتبرُ فيها العدالةُ، ولا يعتبر
فيها العدد.
على أن الشهاداتِ أُكُّدَت على الأخبار، بدليل أنه اعتبرَ فيها
الذكوريةُ والحريةُ عندك، واخْتَلفَتْ (1) باختلافِ الحقوقِ،
فلم يقبل في القصاصِ والحدودِ إلا الذكوريةُ المحضة، واعتبر في
الأموالِ
__________
(1) في الأصل: "واختلف".
(4/388)
النساءُ مع الرجال، واعتبر في حدِّ الزنى
من بين سائرِ الحدودِ أربعةٌ من الشهودِ، والأخبارُ لم تختلف،
بل قُبِلَ في الكلِّ منها ما اعتبر به، وقُبِلَ فيها العنعنةُ
(1)، ومِن وراءِ حجابٍ.
فصل
خبرُ الواحدِ فيما تَعُمُّ به البلوى مقبولٌ (2)
وذلك مثل خبر أبي هريرة في غسلِ اليدين عند القيامِ من نومِ
الليل (3)، وخبره في رفع اليدين في الركوع (4)، وما شاكل ذلك،
وبه
__________
(1) وهي قول الراوي في إسناده: عن فلان عن فلان، دون التصريح
بقوله: حدثنا. "الموقظة": 44.
(2) انظر "العدة" 3/ 78، و"التمهيد" 3/ 16/، و"المسودة" (239).
(3) تقدم تخريجه 2/ 37.
(4) يشير بذلك إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر يفتتح
الصلاة، وحين يركع.
أخرجه أحمد (6163)، وابن ماجه (860)، والبخاري في "رفع اليدين"
(57)، وأبو داود (738)، والدارقطني في "السنن" 1/ 265 - 296،
وابن خزيمة (694).
ورفعُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يديه عند الركوع رواه
غير واحد من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن
عمر، ووائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك رضي الله
عنه.
انظر تفصيل ذلك في "جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء
رفع اليدين" لبديع الدين السندي
وعلى ذلك فإن رفعَ اليدين في الركوع لم ينفرد به أبو هريرة من
الصحابة.
(4/389)
قال أصحاب الشافعي (1).
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبلُ في ذلك خبر الواحد (2).
فصلٌ
في دلائلنا
فمنها: عموم قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وهذا غايةٌ في
الإنذارِ فيما تعمُّ البلوى به وما تخصُّ.
ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]،
فخصَّ التثبتَ والتبينَ بالفاسقِ، فدلَّ على أنَّ العدل لا
يُتَثَبَّتُ من خبرِه، ولا يعتبرُ فيه ذلك، وهذا الدليلُ على
أصلِنا، وهو دليلُ الخطاب، وهو يَعُمُّ كُلَّ حكمٍ نَقَلَه
العدلُ.
ومنها: إجماعُ الصحابةِ على العملِ بخبرِ الواحد فيما تعمِ
البلوى به، فمن ذلك: ما روي عن ابن عمر: كنا نُخابِرُ أربعين
عاماً لا نرى به بأساً، حتى أتانا رافعُ بن خَدِيجٍ، فأخبرنا
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فانتهينا
(3).
ولما اختلفوا في الإكسالِ والإنزال، فقالَ زيدٌ وجماعةٌ من
__________
(1) ذكره الغزالي في "المستصفى" 1/ 171، والشيرازي في
"التبصرة"
(314)، والآمدي في "الإحكام" 2/ 160.
(2) ذكره السرخسي في "أصوله" 1/ 368، وأمير بادشاه في "تيسير
التحرير" 3/ 112.
(3) تقدم تخريجه 3/ 220.
(4/390)
الأنصار: لا غسلَ على مَنْ لم يُنزِلْ، بل
الماءُ من الماءِ، وقالَ غيرهم: إذا التقى الخِتانانِ، وجبَ
الغسل، فأرسلَ الجماعة إلى عائشة رضي الله عنها، فسألوها،
فقالت: إذا التقى الخِتانان، وجب الغسلُ، أنزلَ أو لم يُنزِلْ،
فعلتهُ أنا ورسول الله، فاغتسلنا (1)، فصاروا إلى قولها
وخبرها، وتَوَعَّدَ عمر زيد بن ثابت على الفتوى بغير ذلك،
وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوفرون، فلا أحدَ
أسقطَ العملَ بخبرها.
ولما جاءت الجدة إلى أبي بكر، فقال لها: لا أجدُ في كتاب الله
لك شيئاً، فقال المغيرة: إن النبي أطعمها السدسَ، وتابعه محمد
ابن مَسْلمةَ، فعملَ به أبو بكر، وصار إجماعاً (2).
ومنها من طريقِ النظر: أنَّا رأينا أنَّ العملَ بالقياس في
الأحكامِ التي تعمُّ بها البلوى جائزٌ، والقياسُ فرع لخبر
الوَاحد، والخبرُ أصلٌ، فإذا جازَ إثباتُ هذه الأحكامِ بما
تَفرَّعَ عن خبرِ الواحد، فأولى أن يثبتَ به، وهو الأصلُ.
ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ ثَبَتَ وجوبُ العملِ به بدليلٍ مقطوع
عليه، فهو كآي القرآن، فإذا ثبت ما تعمُّ به البلوى بالآي،
كذلكَ أخبارُ الآحاد، إذ كانَ طريقهُما جميعاً قطعياً.
فصلٌ
في شبههم
قالوا: ما تَعُمُّ بلوى الأُمَّةِ به يَكثُرُ سؤالُهم عنه،
وأذا كثرَ السؤالُ
__________
(1) تقدم تخريجه ص (131).
(2) تقدم تخريجه 2/ 117.
(4/391)
عنه، كثرَ جوابُ النبي - صلى الله عليه
وسلم - وإذا كثرَ جوابُه عنه، كثرَ نقلُ الناقلين لجوابه عنه
صلى الله عليه وسلم، هذا دَأْبُ الناس وعاداتُهم، فإذا نقلَ
ذلك الواحدُ والاثنان، قويت التهمةُ لهم، ولم يجز التعويلُ على
خبرِهم، وبهذه الطريقةِ رددنا روايةَ الرَّافَضَةِ خبرَ (1)
النصَ على عليٍّ رضي الله عنه يوم غَدِيرِ خُمٍّ، وقلنا: لو
كانَ هذا صحيحاً، لنقلَه الخاص والعامُّ، واستفاضَ بينَ أصحاب
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَمَّا روى ذلك آحادٌ من
شيعتِه، عُلِمَ أنه مُفتعَلٌ مُخَتلَقٌ.
وكذلكَ لم نقبل روايةَ الآحادِ عن فتنةٍ جرت بالجامعِ يومَ
الجمعةِ أو العيدِ، ولا سُقوطِ الخطيبِ عن منبرهِ لحادثٍ حدثَ
به، كلُّ ذلكَ لِمَا اطَّرَدَتْ به العادةُ من كونِ النقلِ
بحسب المنقولِ في الظهور، وهذا يرجع إلى سرٍّ في الطباعِ،
ودفينٍ في أَصل الخلقِ والأوضاعِ؛ وهو أنَّ الدواعيَ متوفرةٌ
على حُبِّ البلاغ لما حدثَ، والإخبارِ بما تَجدَّدَ، وقلَّ ما
يتمكنُ أحدٌ من كتم شيءٍ سمعَه، وطَيِّ أمرٍ علمه، حتى كأنه
يلقي عن نفسِه ثقلاً، ويسقط عبئاً، بل عساه يتزيد في الحديثِ،
ويصلُ به ما ليس منه، لإيثاره الحديث، حتى قال الشاعر:
ولقد سئمت مآربي ... فكأنَّ أكثرها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وإذا ثبتَ هذا، لم يجز أن نسمع أخبار الآحاد فيما بنيَ على
الشياعِ، والتكرارِ، والانتشارِ بين المخبرين، مع اتفاقِ الكل
في توفير الدواعي، ومحبة البلاع، لا سيما في النقلِ عن صاحبِ
الشرعِ، وفيه الثواب والأجر في الآخرة، وكثيرُ الفخرِ في
الدنيا.
__________
(1) في الأصل: "حين".
(4/392)
فيقال: إنَّ النقلَ لأخبارِ الدياناتِ كانت
الصحابة تختلف فيه مذاهبُهم، فمنهم من كانَ يتورعُ عن النقلِ
طلباً لحفظِ الصيغةِ، ولا يرى الروايةَ بالمعنى، وبعضهم من كان
لا يتشاغلُ بذلك رأساً، فيُقصَدُ ويُطلَبُ منه الحديثُ، فلا
يُحدِّثُ، ولذلك لما حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في
الجمِّ الغفيرِ، والعددِ الكثيرِ، فكانت مناسكُ الحج مشهورةً
بين الجميعِ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا عني" (1)،
وما نقلَ المناسكَ عنه إلا آحادٌ.
وفارقَ الخبرَ بالنصِّ على الإمامِ، فإنَّ ذلكَ أمرٌ واجبٌ على
كل أحدٍ عِلْمُه، والقطعُ به، والأحكام لا يجبُ العلمُ بها
والقطع، وإنما طريقها غلبةُ الظن، ولذلكَ تثبتُ بالقياس،
وإلحاقِ النَّظيرِ بالنظيرِ (2)، والأخذِ بالشَّبَهِ، فيجوزُ
أن ينفردَ البعضُ بعلمِه، ويكون فرضُ الباقين الاجتهادَ.
وفارقَ نقلَ الحادثةِ بالجامعِ والخطيبِ، لأنَّ ذلك تحثُّ على
نَقْلِه دواعي (3) الطباع، وذلك مما يعم الناس، وبذلك (4)
يشهدُ خلقُ رواةِ الحديث، وفيها الآحاد والأفراد، وخلقُ أرباب
الشعوذةِ وغرائبِ الأعمال والأسمار يملأُ الرِّحابَ والعِراصَ،
وكذلكَ خلقُ القُصَّاصِ، فهذا أمر معلوم بالغرائز
والجِبِلاَّتِ.
ومنها: أنَّ قبول خبرِ الواحدِ في مثلِ هذا الحكمِ يفضي إلى
التوقفِ في أحكام الكتاب، لجوازِ أن تكون نُسِخَت، ولم ينقل
نسخها.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في الأصل: "النظر بالنظر".
(3) في الأصل: "ودواعي".
(4) في الأصل: "ولذلك".
(4/393)
فيقال: إنَّ إثباتَ الأحكام تقْصرُ عن
النسخ؛ لأنَّ النسخَ رفع لحكم قد ثبتَ واستقر (1)، فلا يرفع
بأخبار الآحاد، ولهذا ثبتَ الحكمُ المبتدأُ بالقياسِ، ولم
يُرفَعْ حكمٌ ثبتَ واستقر، ولم يُنسَخْ، بالقياس.
ومنها: أنْ قالوا: إن القران لَمَّاَ كان مما تَعُمُّ [به]
البلوى، لم يثبت بخبر الواحد، كذلك هذه الأحكام التي تعم بها
البلوى.
فيقال: القرآن لا يثبت إلا بطريقٍ قطعي، لأنَّ إثباتَ القرآنِ
طريقُه العلمُ لا الظن، وهذه الأحكامُ وإن عَمَّتْ (2) بها
البلوى إلا أنَّ طريقَها الظنُّ، ولهذا تثبتُ بالقياس الذي هو
فرعٌ لخبرِ الواحدِ، ولهذا ردَّت الصحابةُ قراءةَ ابن مسعود،
ولم تردَّ في الأحكامِ التي تعمُّ بها البلوى خبرَه، ولا خبرَ
من هو دونه، وهذا إنَّما نسلمه في الآيةِ والاثنتين، فأمَّا
السورةُ، فنقبلُ فيها خبر الواحد، لأنها مما لا يمكن
اختلاقُها، فكالنَ نفسُ إعجازِها دلالةً على كونِها من كتابِ
الله سبحانه.
فصل
يقبل خبر الواحد إثبات الحدود (3)، وبه قال أصحاب الشافعي.
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
__________
(1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "عم".
(3) ذكره القاضي في "العدة" 3/ 886، والكلوذاني في "التمهيد"
3/ 91، والطوفي في "شرح مختصر الروضة" 2/ 236.
(4/394)
فحكى أبو سفيان، عن أبي يوسف: أنه يقبل،
وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وحكي عن الكرخي: أنَّه لا يثبت به حدّ، ولا ما يَسقُطُ
بالشبهةِ (1).
فصل
في دلائلنا
فمنها: أنَّه حكم يستوفى بغلبة الظن، ولا يعتبر في إثباتِه
القطعُ، فثبت بخبرِ الواحد؛ كالأحكامِ الشرعيةِ كلِّها،
والدلالةُ على ثبوتِ استيفائه بالظن: قبول قول الشاهدين.
يُوضِّحُ هذه الطريقةَ: أنَّ بابَ الشهادةِ آكدُ من باب
الأخبارِ، فإنَّ أخبارَ الدياناتِ يقبلُ فيها قولُ العبدِ
والمرأةِ، والعنعَنةُ، ولا يقبلُ ذلك في بابِ الشهادةِ، ثم
إنَّ هذا الحدَّ مستوفى بالشهادة، مع كونها آحاداً، وكونها
موجبة للظن دون القطع، فأَوْلى أن يجب بخبر الواحد، مع توسع
طريقه، وسهولة بابه.
ولأنَّ طريقَ خبرِ الواحدِ مقطوعٌ به، لأنَّ طريقَه الإجماعُ
والقرآنُ، كما أن طريق الشهادةِ كذلك، فإذا ثبتَ استيفاءُ الحد
بالشهادةِ، ثبتَ
__________
(1) قرر ذلك السرخسي في "الأصول"، فقال: وأما ما يندرىء
بالشبهات، فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في "الأمالي": أن خبر
الواحد فيه حجة، وهو اختيار الجصاص رحمه الله، وكان الكرخي
رحمه الله يقول: خبر الواحد فيه لا يكون حجة. انظر "أصول
السرخسي" 1/ 333 - 334، وارجع أيضاً إلى "تيسير التحرير" 3/
88، و"فواتح الرحموت" 2/ 136.
(4/395)
وجوبُه بخبر الواحد.
فصل
في شبه المخالف
قالوا: الحدودُ موضوعةٌ في الأصلِ على أنَّ الشبهةَ تُسقِطُ
الحدودَ، وتمنع إثباتها، وخبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ، وما
ليس بعلمٍ، فهو شبهةٌ؛ لأنَّه يتردد بينَ الصحة والبطلان.
فيقال: ليس كل ما لم يوجب العلمَ يكونُ شبهةً، بل يوجب الظن،
والظنُّ يترجح [فيه] أحدُ المُجوَّزَيْنِ، وإنَّما الشبهة ما
اشتبه الأمرُ فيه من غير ترجيحٍ إلى الإثباتِ، والدليلُ على
ذلكَ: إثباتُه بشهادةِ (1) الشاهدين، وهي غيرُ موجبةٍ للعلم،
وإنما أوجبت الظن، فكذلكَ خبرُ الواحدِ، ولا فرقَ بينهما.
فصل
خبر الواحد مقدمٌ على القياس (2)
ومعنى هذا: أنه يعمل به، وإن خالف القياس (3).
__________
(1) في الأصل: "شهادة".
(2) انظر "العدة" 3/ 888، و"التمهيد" 3/ 94، و"المسودة" (239)،
و"شرح مختصر الروضة" 2/ 237.
(3) أي: أنه يعمل بخبر الواحد إذا تعارض مع القياس كفاحاً،
وكانت المصادمة من كل وجه، كأن يكون أحدهما مثبتاً لما نفاه
الآخر، أما إذا كان =
(4/396)
وبهذا قال أصحاب الشافعي (1).
وقال أصحاب مالك: يقدم القياس عليه (2).
وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا كان مخالفاً لقياس الأصول، لم يقبل
(3).
__________
= التعارض من وجه دون وجه، كأن يكون خبر الواحد عاماً والقياسُ
خاصَّاً، فإنَّ القياسَ مقدَّم على خبرِ الواحد، وفق ما تقدم
بيانه في تخصيصِ العام بالقياس.
(1) انظر "التبصرة" (316)، و"الإحكام" 2/ 169.
(2) ذكره القرافي في "تنقيح الفصول" (387).
(3) ليس هذا على إطلاقه عند الحنفية، فهم يفرقون بين خبر
الواحد الذي يرويه العدل الضابط المعروفُ بالفقه والرأي
والاجتهاد، وبين الخبر الذي يرويه المعروف بالعدالةِ وحسنِ
الضبط والحفظ، ولكنه قليل الفقه، فإن كان الخبرُ من النوع
الأول؛ كان يكون الراوي أحدَ الخلفاء الراشدين، أو العبادلة،
أو زيد ابن ثابت، أو معاذ بن جبل، وغيرهم من المشهورين بالفقه
من الصحابة رضي الله عنهم، فإن خبرهم حجة، ويبتنى عليه وجوبُ
العملِ، سواء أكان الخبر موافقاً للقياس، أم مخالفاً، فإن كان
موافقاً للقياس، تأيد به، وإن كان مخالفاً للقياس، يترك
القياس، ويعمل بالخبر.
وإن كان الخبر من النوع الثاني، فما وافق القياس من رواية
الثقة غير الفقيه، فهو معمول به، وما خالف القياس؛ فإن تلقته
الأمة بالقبول، فهو معمول به، وإلا فالقياسُ الصحيح شرعاً مقدم
على روايته.
انظر ذلك في "الفصول في الأصول" للجصاص 3/ 127 - 142، و"أصول
السرخسي" 1/ 338 - 341.
(4/397)
فصل
في أدلتنا من جهة السنن
ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعث به
إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتابِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ "
قال: بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهدُ
رأيي، ولا آلو، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم
-:"الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول
الله" (1)، فَرتَّبَ العملَ بالقياس على السُّنَةِ، فدل على
تقديمِها على القياسِ، والسنةُ تعمُ الآحادَ وَالتواترَ.
ورويَ أنَّ عمر بن الخطاب ترك القياس في الجنين؛ لحديثِ حَمَلِ
ابن مالك بن النابغة، وقال: لولا هذا لقضينا بغيره (2).
ورويَ أنه كان تقْسِمُ ديةَ الأصابعِ على قدرِ منافعها (3)، (4
وترَكَ ذلك لخبرِ الواحد الذي رُوِيَ له 4) عن النبيِّ - صلى
الله عليه وسلم -:"في كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشرٌ من الإبلِ"
(5)، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 5.
(2) تقدم تخريجه 2/ 351.
(3) ومن ذلك: ما روي عنه رضي الله عنه: أنه قضى في الإبهام
والتي تليها نصف الكف، وفي الوسطى بعشر فرائض، والتي تليها
بتسع فرائض، وفي الخنصر بست فرائض. أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 194،
وعبد الرزاق (17698)، والبيهقي 8/ 93.
(4 - 4) غير واضح في الأصل.
(5) قصة رجوع عمر بن الخطاب عن قضائه: أخرجها عبد الرزاق في =
(4/398)
وأيضاً من جهةِ المعنى والاستنباطِ: أنَّ
القياسَ يدلُ على قصدِ صاحبِ الشرعِ من طريقِ الظن، والخبرُ
يدلُّ على قصدِه من طريقِ الصريح، فكان الرجوعُ إلى الصريح
أولى؛ يوضِّحُ هذا: أنَّه حثَّ على تبليغِ الأحكامِ مع علمِه
بأنَّ الآراءَ كثيرةٌ، وأتى بالتحكماتِ الخارجةِ عن الرأي، ولم
يأتِ بقولٍ مخالفٍ لقولٍ سبقَ له (1)، إلا أن يكون ناسخاً
ورافعاً.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ في الخبر يقل خطرُه؛ لأنَّه لا يحتاج
إلا إلى الاجتهادِ في عدالةِ الراوي فقط، وفي القياسِ يحتاجُ
إلى الاجتهادِ في
__________
= "مصنفه" (17698)، والبيهقي في "سننه الكبرى" 8/ 93 عن سعيد
بن المسيب، قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأصابع؛ في الإبهام
بثلاثة عشر، وفي التي تليها باثني عشر، وفي الوسطى بعشرة، وفي
التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وُجِدَ كتابٌ عند آل
عمرو بن حزم، يذكرون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛
وفيما هنالك من الأصابع عشر عشر. قال سعيد: فصارت الأصابع إلى
عشر عشر.
وأما خبر التسوية بين الأصابع في الدية، فثابت من حديث ابن
عباس: أخرجه أحمد (2621) و (2624) و (3150) و (3220)، والبخاري
(6895)، وأبو داود (4558) و (4559) و (4560) و (4561)، وابن
ماجه (2652)، والترمذي (1391) و (1392)، والنسائي 8/ 56 و 56 -
57 و 57.
ومن حديث أبي موسى الأشعري أيضاً: أخرجه أحمد 4/ 397 و 403 و
413 و 498، وأبو داود (4556) و (4557)، وابن ماجه (2654)،
والنسائي 8/ 56.
ومن حديث عبد الله بن عمرو أيضاً: أخرجه أحمد (6681) و (6772)
و (7013)، وأبو داود (4562) و (4563)، و (4564)، وابن ماجه
(2653)، والنسائي 8/ 57.
(1) في الأصل: "به".
(4/399)
عِلَّةِ الأصلِ، ثمَّ في إلحاقِ الفرع به،
ومن الناس من يمنعُ إلحاقَ الفرع بالأصلِ إلا بدليلٍ آخر، فكان
المصيرُ إلى مَا قلَّ فيه الخطرُ، وقلَّ الاجتهادُ فيه
والنظرُ، أَوْلى، لأنَّه أسلم من الغرر.
ومنها: أنه لو سُمعَ القياسُ والنصُّ المخالفُ (1) له من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، لقدِّمَ النَصُّ فيما تناولَه
على القياس، فلأنْ يُقدَّمَ على قياس لم يُسمع من رسولِ الله -
صلى الله عليه وسلم - أَوْلى.
ومنها: أنَّ حكمَ الحاكمِ يُنقضُ إذا خالفَ النصَ، ولا ينقض
إذا خالف القياسَ، وهذا دليل على أَنّه أقوى، فلا يجوزُ أن
نتركَ الأقوى للأضعفِ.
ومنها: أنَّ الخبرَ قد ينتهي إلى العلمِ إذا كثرَ راوتُه،
والقياسُ لا ينتهي إلى العلمِ، ولا يتجاوزُ الظنَّ، وإن كثرت
من الأصولِ شواهدُه، وهذا أيضاً يدلُّ على قوةِ الخبرِ، وضعفِ
القياس.
فصل
في شبهاتهم
فمنها: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ يدخلُ عليه الفسادُ،
والمنعُ من العملٍ به؛ من وجوه أربعة: أحدها: أن يكون فيِ
خبرِه كاذباَّ، وأن يكون فاسقاً، لا كاذباً، وأن يكونَ خطأً،
أو يكون في اعتقاده كافراً، وغايةُ ما يدخلُ على القائسِ: أن
يكونَ في اجتهادهِ مخطئاً، وما قلَّت وجوهُ الفساد فيه، وكثرت
وجوهُ الإصابةِ، وحصولِ السلامةِ، كان هو المرجحَ على ما كثرت
وجوهُ الخطأ والفساد فيه وعليه.
__________
(1) في الأصل: "للتخالف".
(4/400)
فيقال: جميعُ ما ذكرتَ يَتسلَّطُ على
القياس المستنبط؛ لأنَّ الخبرَ أصلُ القياس، وإذا كانَ أصلُه
تتسلطُ عليه هذه الوجوهُ من الفساد، ويزيدُ عليهَ الخطأُ في
الاجتهاد، لم يبق للقياس ميزة على الخبر؛ إذ كان فرعاً له.
ولأنَّ الترجيحَ إنَّما يحصلُ بوجوهِ الإثباتِ؛ ككثرةِ الأشباه
بالأصول على ما هو أقلُّ شبهاً بها، وكذلك الخبرُ بكثرةِ
الرواةِ على ما قل رواتُه، ولا يُرَجَّحُ خبرُ المغفلِ على
خبرِ الفاسقِ، ولا ما وُجدَ فيه سببٌ من أسباب الفساد على ما
وجدَ فيه سببانِ من أسباب الفسَاد.
ولأنه كان يجبُ [أن يكونَ] خبرُ الواحدِ أَوْلى من القياس،
لاجتماعِ أربعةِ الأَوْجهِ (1) من الفساد، والخامسِ؛ وهو الخطأ
المُتطرِّقُ على الاجتهاد.
ومنها: أن قالوا: إن الخبرَ طريقُه اللفظُ المتطرق عليه
المجازُ والإجمالُ والاحتمالُ، ولا يتطرقُ على المعنى المستنبط
شيءٌ من ذلك.
فيقال: هذا موجودٌ في آي الكتابِ، والسُّنَةِ المتواترة، ولا
يوجبُ ذلك تقديمَ القياسِ عليهما.
ولأنَّ الخبرَ يستندُ إلى قولِ المعصومِ، والاجتهادَ يستندُ
إلى رأي غير المعصوم، ولأنَّه يستندُ إلى الخبر وهذه حالُه،
فإِن ضَعُفَ الخبرُ لِمَا ذكرتَ من تَطرُّقِ هذه الوجوه، كانَ
المستندُ إليه -وهو القياسُ- أضعفَ.
__________
(1) في الأصل: "الأربعة أوجه".
(4/401)
ومنها: أن قالوا: إنَّ الإجماعَ قد يقع على
موجبِ القياس، وخبرُ الواحد لا يتأتى أن يجمعوا على موجبه، بل
يخرج ذَلك إلى المتواتر، ولا يخرجُ الإجماعُ على موجبِ القياسِ
عن كونه قياساً.
فيقال: إنَّ الإجماعَ إنَّما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه
القياسُ، كما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه خبرُ الواحدِ،
وأمَّا الإجماعُ على القياس، فلا يحصلُ، فإن حصَلَ، كان قياسَ
الإجماعِ، كما يصير الخبرُ المجمعُ عليه أنَّه مرويّ عن النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فيصيرُ قياساً معصوماً، وهذا خبرَ
تواترٍ قطعاً.
ومنها: أنَّ القياسَ يحصلُ من جهةِ رأيه واجتهاده، والإنسانُ
لا يُكذِّبُ نفسَه، والخبرَ من جهة غيرِه، ولا ثقةَ إلى قولِ
الغيرِ توازي ثقتَه بنفسِه، ونفسُه بمثابةِ ما سمعه من النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - مَعَ ما يسمعُه عنه غيرُه.
فيقال: باطلٌ بخبرِ التواترِ المخالفِ للرأي، وقياسِ الأصول.
ولأنَّه وإن كان بفعلِه واجتهادِه، إلا أن طريقَه غامضٌ، فقد
يصدرُ عن رأيهِ ما يخالفُ الأولَ، فيبطلُ الأولُ، ولا يعملُ في
حادثةٍ أخرى، والروايةُ تقضي للمُتأخِّرِ على المتقدِّمِ.
فصل
وأمَّا ما يختصُّ أصحابَ أبي حنيفةَ، فيقال لهم: ما الذي
تريدونَ بمخالفة الأصول؟
فإن قالوا: معنى الأصولِ، فهو كقولِ أصحاب مالك، وقد بيّنا
(4/402)
فسادَه.
وأيضأ: فإنَّهم ناقضوا في هذا، فإنَّهم لا يزالون يتركونَ
القياسَ بخبرِ الواحدِ، ويسمونَه موضع الاستحسان، فمن ذلك:
قولُهم: من أكلَ ناسياً، بطلَ صومُه، إلا أنا تركناه لخبر أبي
هريرة (1). وقالوا: القياسُ أنَّه لا يجوزُ التوضؤ بنبيذِ
التمر، ولكن تركناه لخبرِ عبد الله ابن مسعود (2)، وأمثالُ ذلك
على أصلهم كثيرٌ.
وإن أرادوا بالأصول (3): الكتابَ والسنةَ والإجماعَ، فكذلكَ
نقول، إلا أنَّهم يقولون ذلك في مواضع لا كتابَ فيها ولا
سُنَّةَ ولا إجماعَ، وهي (4) في خبرِ المُصرَّاةِ والتفليسِ
والقرعةِ، فلا وجهَ لما قالوه.
وأيضاً: فإن خبرَ الواحدَ أصلٌ بنفسِه، وأصلٌ لغيره -وهي
المعاني المستنبطة-، فلو جازَ أن يتركَ لأجلِ الأصلِ، لجازَ أن
تتركَ الأصولُ له.
فصل
خبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ؛ لا الضروريَّ، ولا المكتسبَ،
على الصحيح من الروايتين عن صاحبنا (5).
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 114.
(2) تقدم تخريجه 2/ 144.
(3) في الأصل: "بالقول".
(4) في الأصل: "هو".
(5) نص على ذلك القاضي في "العدة" 3/ 898، وابن تيمية في
"المسودة" (240).
(4/403)
وعنه: ما ظاهره حصولُ العلم بخبرِ الثقةِ
(1)، وتأوَّله شيخنا الإمام ابن الفراء رضي الله عنه (2).
وعنه: التوقفُ في الفرقِ بين العلمِ والعمل، فقال: -وقد حُكِيَ
له عمن يقول: العملُ به واجب، ولا يوجب العلم-: لا أدري ما
هذا؟
وقال بعضُ أهل الظاهر: يوجب العلم.
وقال بعضُ أصحاب الحديث: فيها ما يوجب العلم كحديثٍ يرويه
مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وما أشْبَهه.
وقال النظام (3): خبرُ الواحد إذا قارنته أمارة يوجبُ العلمَ،
وقيل
__________
(1) ومن ذلك: ما نقله أبو بكر المروزي، قال: قلت لأبي عبد
الله: هاهنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً،
فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟
أي: أنَّه سوَّى بين العلمِ والعملِ، وجعلهما من لوازم خبرِ
الواحد.
ومنها: ما قاله -في رواية حنبل- في أحاديث الرؤية: نؤمنُ بها،
ونعلم أنَّها حق. فقطع بإفادتها العلم، لا العملَ فقط.
انظر "العدة" 3/ 898 - 900.
(2) تأوَّل القاضي كلامَ الإمام أحمدَ: على أن مقصوده بالعلم:
العلم الاستدلالي، لا العلم الضروري، كأَن تتلقى الأمة الخبر
بالقبول، فيدل على أنه حق؛ لأن الأُمَّة لا تجتمع على الخطأ،
وبيَّن القاضي أبو يعلى أن الاستدلالَ يفيدُ العلم من عدة
وجوه، وكلامُ الإمامِ أحمد محمولٌ على أحدِ هذه الوجوه. انظر
"العدة" 3/ 900.
(3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّار بن هانىء، المعروف
بالنظام، شيخ المعتزلة، له آراء شاذة، وأقوال باطلة في مسألة
القدرة، اتهم بأنه على =
(4/404)
عنه: إنَّه يوجبُ العلمَ الضروري عند
مقارنةِ الأمارةِ له (1).
فصل
في جمعِ أدلتنا
فمنها: أنَّ الاعتقاداتِ بحسب أدلتِها، والتأثيراتِ في النفوسِ
والقلوبِ بحسب المُؤثِّرِ، ولا نجدُ في خبرِ الواحدِ، وإن بلغَ
الغايةَ، إلا ترجيحَ (2) صدقِه على كذبه، مع تجويزِ الكذب
عليه، ولا يتأثر في النفس من تغليب أحدِ المجوَّزين إلا
الظنُّ، فأمَّا القطعُ والعلمُ، فلا وجهَ، لأنَّ ذَلكَ لا
يحصلُ في النفسِ؛ إلا أن ينتفيَ التجويزُ للكذب عن المخبر
الواحد.
ومنها: أن لو كان خبره يوجبُ العلم، لما روعِيَ (3) فيه
الصفاتُ؛ من الإسلام، والعدالة، كما قلنا في أخبار التواتر؛
لَمَّا أَوْجَبَتِ العلمَ، لم تُعتبَرْ صفات المخبرين؛ سوى
العقلِ.
ومنها: أنَّه لو وجبَ العلمُ، لَمَا قَبِلَ الزيادةَ والترجيحَ
في نفسِ المُخبَرِ، فلما كان خبرُ الواحد يُؤثَر في النفس
معنى، وكلما انضمَّ خبرٌ آخرُ إليه، وزادَ عددُ المخبرين،
قَوِيَ الأثرُ في النفسِ، عُلِمَ أنَّ
__________
= دين البراهمة المنكرين للنبوة، توفي سنة بضع وعشرين ومئتين.
انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 6/ 97 - 98، و"الملل والنحل" 1/
53 و 59، و"الوافي بالوفيات" 6/ 14 - 19، و"الفرق بين الفرق"
(113) و (136).
(1) نقله عنه أبو الحسين البصري في "المعتمد" 2/ 566.
(2) في الأصل: "بترجيح".
(3) في الأصل: "روي".
(4/405)
الأولَ ظنٌّ، إذ لا تقبلُ القطعُ زيادةً،
بدليل العلم الحادث عن المخبرين الذين لا يجوزُ عليهم التواطؤ
أو الكذب، لَما بلغ طبقةَ العلمِ، لم تقبلِ التزايدَ، وكذلك
العلم الثابت بأدلةِ العقولِ لا يحتملُ الزيادة.
ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ لو أوجبَ العلمَ، لَمَا كان مما
يَختَلُّ بخبرِ آخر بضدِّ ما أخبرَ به المخبر الأول، أو
بخلافه، فلمَّا وجدنا أنَّ الواحدَ الثقةَ إذا أخبرَ بالخبرِ،
فروى لنا ثقة آخرُ بخلافِ ما رواه الأَوَّلُ، زالَ ما كُنا
نجدُه في نفوسِنا من خبرِ الأَوَّلِ، عُلِمَ أنَّ الأولَ لم
يكن علماً.
ومنها: أنَّه لو كانَ خبرُه يوجبُ العلمَ، لأوجبَ التَّبرُؤَ
بينَ العلماءِ، والتفسيقَ للمخالفِ والتضليلَ، كأخبارِ
التواترِ وأَدِلَّةِ العقول؛ لَمَّا أوجبتِ العلومَ، لا جَرَمَ
أوجبت التبرؤَ مِمَّن خالفَ فيما أوجبه، وتضليلَه.
ومنها: أنَّه لو كانَ خبر الواحدِ يوجبُ العلمَ، لكانَ
المُخبِرُ بالنبوة يكفي خبرُه بمجردِه في تصديقه، ولا يحتاجُ
إلى الإعجازِ، وإقامةِ الدلالةِ على صدقِه، فلمَّا لم يُصدقْ
بمجرد خبره، عُلِمَ أنه لا يُوجِبُ العلمَ إلا ما قام على
صِدْقِه من المُعجِزِ.
وكذلك الشهادةُ عند الحاكم، لو أوجبَت العلمَ، لما افتقرت إلى
العدالة والتزكية.
ومنها: أنَّه لو أوجبَ العلمَ، لكانَ يعارضُ خبرَ التواتر، كما
يتعارض الخبران؛ إذا كان كلُّ واحدٍ منهما خبرَ واحد، فلمَّا
لم يُؤثَرْ خبرُ الواحد مع خبر التواتر، بل ألغيناه، وأسقطناه،
عُلِمَ بطلانُ
(4/406)
دعوى المخالف في كونه موجباً للعلم.
ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ يصحُّ التشكيكُ فيه بخبرٍ آخرَ؛
بخلاف ما أخبرَ به، أو برجوعه عمَّا رواه، ولو كانَ موجباً
للعلمِ، لما وقعَ الشكُّ بمثله، ولما كان الشكُّ واقعاً في
خبرِ الأول بخبرِ الثاني، وفي خبر الثاني بخبر الأول، علم
أنَّه كان ظنّاً، فلمَّا قابله ما يوجبُ ظناً، تَجدَّدَ الشكُّ
عند تقابلِ خبريهما.
ومنها: أنَّه لو كان موجباً للعلم، لوجبَ إذا قابله خبرُ تواتر
أن يتعارضا، فلما قُدِّمَ خبر التواتر، عُلِمَ أنَّه غيرُ
موجبٍ لما يوجبُه الخبر الموجب للعلم.
ومنها: أنَّ التأثير في قلب السامع مبنيّ على أمورٍ تحصل في
قلبِ المخبر، وهي صفات مخصوصة، فإذا كان المخبر معصوماً من
الكذب، أثّرَ في قلبِ السامعِ نفي تجويزِ الكذبِ، فصار بخبره
قاطعاً، فأمَّا الواحدُ المُجوَّزُ عليه السهوُ والغلطُ
والتحيلُ والكذبُ، فلا وجهَ لحصولِ علمِ السامعِ بصدقِه فيما
أخبر به، وأكثرُ ما يتحصَّلُ ترجيحُ صدقِه لنوع ترجح في
صفاتِه، من كونه عدلاً، مأمونَ القولِ (1) والفعل.
ومنها أن يقال: إن تأثيرَ العلمِ في القلبِ إنما يَقَعُ (2)
بطريقٍ يصلحُ، كما أنَّ الظنَ لا يحصل إلا بطريقه، والشكَّ
بطريقه، فإن الأصلَ الجهل، فإذا لاحَ للقلبِ أمرانِ متكافئان
في الإثباتِ والنفي، أَوْرَثا شَكّاً وتَردُّداً متكافئاً،
وإذا تَرجَّحَ أحدُهما بما يترجحُ به
__________
(1) في الأصل: "للقول".
(2) في الأصل: "يقطع".
(4/407)
أحدهُما، أوجبَ في النفس أمراً يقال له:
الظنُّ، وهو ترجيحٌ في النفسِ لأحدِ المُجوَّزينِ، وإذا كانَ
الدليلُ غيرَ متردِّدٍ، ولا محتملٍ في نفسِه، أوجب في النفس
دركاً ووجداناً للشيءِ على ما هو به من غيرِ تَردُّدٍ،
فسُمِّيَ عِلماً.
جئنا إلى الواحدِ إذا أخبر، وهو كما يجوزُ عليه الصدقُ يجوزُ
عليه الكذبُ؛ بأن لا يترجحَ أحدُ الأمرين بعدالةٍ، فيورثُ
خبرُه شكاً، فإذا ترجح بنوع تماثُلٍ (1)، عرف به في القول
والفعل، ترجحَ صدقُه في نفوسِنا، فأمَّا القطعُ، فقد بقيَ له
رتبةٌ، وهي العصمةُ، فإذا عَجَّلْناها بالعدالة، ظلمنا؛ لإعطاء
الدلالةِ أكثرَ ممَّا تستحقه، وكما لا يجوز أن تُحَطَّ رتبةُ
العصمةِ إلى إيجاب الظنِّ في خبرِ المعصومِ، لا يجوزُ أن
تُعْلَى رتبةُ العدالةِ، فتوجب خبرِ العدلِ صِفَةَ المعصومِ؛
لإيجابِ العلمِ بخبرهِ.
فصل
يجمع أسئلة المخالفين على أدلتنا المذكورة
[منها]: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ إذا تأيدَ بالعدالةِ فيه،
تأَثرَ (2) في أنفسِنا العلمُ بخبرِه، وذلت يحصلُ بأحدِ
طريقين:
إما هجومٌ على النفس من غيرِ استدلالٍ، بل ثقةٌ تحصلُ في
النفس.
__________
(1) في الأصل: "بما شك".
(2) في الأصل: "تأثير".
(4/408)
أو باستدلال على ذلك؛ بما جمعَ من الصفاتِ
المبعدةِ عنه الكذبَ، فلا يبقى إلاَّ تصديقُه فيما أخبر به،
فيحدثُ في النفسِ علمٌ بما أخبرنا به، فما حصلَ التأثيرُ في
النفسِ إلا بحسب المُؤثرِ.
وأمَّا قولكم: إنَّه يعرضُ الشك بعدُ بخبرِه فيما أخبرنا به،
فذلكَ لا يمنعُ حصولَ العلم، فإن العلمَ الاستدلاليَّ تتطرَّقُ
عليه الشُّبَهُ، ولا تخرجه عن كونه علماً، وترجيحُ خبرِ
التواترِ عليه أيضاً، لا يخرجُه عن كونه علماً استدلالياً، فإن
رتبة العلمِ الاستدلالي دون الضروري، وخبرُ التواترِ يوجبُ
علماً ضرورياً، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الخبرِ القطعي العيانِ،
والعلمِ الصادر (1) عن النظرِ والاستدلالِ بالإضافة إلى العلم
الضروري الحاصل ببدائِه العقولِ، والكلُّ علمٌ، وكما يترجحُ
الخبرُ بكثرةِ الرواة على الخبر الذي يرويه الثقاتُ لكن دونَ
عدد المخبرين في الخبر الآخرِ؛ فإنَهما جميعاً يوجبان الظنَّ،
ولا يدلُّ تقديمُ الأكثرِ رواة على الأقل على أنَّ (2) الأقلَّ
رواةَ لا يوجبُ الظنَّ، بل استويا في الظن، وقدِّمَ الأرجحُ،
كذلك ترجيحُ المتواتر على خبرِ الواحدِ، لا يمنعُ تساويهما في
العلم.
فصل
في أجوبتنا عن أسئلتهم
أمَّا دعواهم أنَّ العدالة في المُخبِرِ توجبُ هجومَ العلم
للقلبِ، والثقةَ للنفس، فغيرُ صحيح، لأن العدالةَ ليست بأكثرَ
من تَعمُّلٍ لطريقةٍ الطبعُ غالبٌ لها، وعادةُ النَاسِ التجملُ
بإظهارِ المحاسن،
__________
(1) في الأصل: "الصادق".
(2) في الأصل: "لأن".
(4/409)
وسَترِ القبائح، ولهذا تكشفُ الخبرةُ
والعبرةُ من الناس، ما لا تكشفُه المعرفةُ بالظَاهرِ، وإلى هذا
أشارَ -صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اخْبُرْ، تَقْلِه" (1)،
وقوله: "لو تكاشفتم، ما تدافنتم" (2)، وقوله سبحانه: {لَا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
[المائدة: 101]، وقول النبي للأنصار، إذا رجعوا من السرايا:
"لا تدخلوا على بيوتكم إلى أن تصبحوا (3) " (4)، أو كما قال،
وتحت ستر التَّجمُّلِ الدواهي، ولولا سترُ الله الشاملُ،
__________
(1) أي: اختبر الشخص، تبغضه، لما يظهر لك من بواطن أسراره.
رواه الطبراني في "الكبير"، وفي "مسند الشاميين" (1493)، وأبو
يعلى، ومن طريقه ابن عدي، وعنه ابن الجوزي في "العلل
المتناهية"، ورواه أبو الشيخ في "الأمثال" (117)، والقضاعي في
"مسند الشهاب" (636)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 145، من حديث
أبي الدرداء مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال السخاوي في "المقاصد" (38): وكلها -أي طرق الحديث عن أبي
الدرداء- ضعيفة، فابن مريم، وبقية ضعيفان.
(2) لم أقف على هذا الحديث، ولم أجده فيما بين أيدينا من مصادر
حديثية، فالله أعلم.
(3) في الأصل: "تصبحون".
(4) ورد هذا المعنى من عدة أحاديث، منها: حديث طويل لجابر،
وفيه: قفلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة ... فلما
ذهبنا لندخل، قال: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلأ- أي: عشاء-؛ لكي
تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة"، وفي رواية: "إذا قدم أحدكم
ليلاً، فلا يأتينَ أهله طروقاً" أي: ليلاً، أخرجه البخاري
(5079)، و (5244)، ومسلم (715) (181) و (182)، وأبو داود
(2776)، و (2778).
وورد من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - نزل العقيق، فنهى عن طروق النساء الليلة التي يأتي
فيها، فعصاه فتيان، فكلاهما رأى ما يكره.
أخرجه أحمد (5814)، والبزار (1485).
وفي الباب عن ابن عباس.
(4/410)
لما حسنت ثقةٌ بأحدٍ، وقد قال عمر رضي الله
عنه: الثِّقة بكلِّ أحدٍ عجزٌ، وكلامُ الناس في ذلك أكثر من أن
يُسطَّرَ، فغايةُ (1) ما يقعُ في النَّفس مع حُسنِ الظاهر،
ويمِرُّ في القلب من خبرِ المخبرِ العدلِ: حسنُ الظنِّ به،
وأنه صادق، فأمَّا القطعُ والعلم، فلا وجه له، لا سيما مع قولِ
النبي - صلى الله عليه وسلم -:"سيكثر الكذب عليَّ" (2)، وقوله:
"نضَّر الله امرأً سمعَ مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها،
فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقهُ منه" (3)، وهذا يعطي
التَّجوُّزَ في تغييرِ المعنى، مع تجويزِ التزيد في اللفظ.
وأمَّا إلزامكم العلمَ الاستدلالي، وأنَّه قد يعترضه الشَّكُّ
والشبهةُ، ولم يخرج [عن] أن يكون علماً، فلا نُسَلِّمُ أن ما
صَدَقَتْ مقدماتُه، وصَحَّتْ نتائجه من أدلة العقول، ولم
يَمِلْ صاحبه إلى ضربٍ من التقليدِ، ولا أخل (4) بشروطِ (5)
النظر، بل صدق نفسه الاجتهاد بطرقِه، فإنَّه يهجمُ به ذلك على
إصابة الحق المطلوبِ لا محالة، وإنَّما يؤتى الإنسان فيه من
قِبَلِ نفسِه، ويُدْهى من إهمالِ بعضِ شروطِه، فأمَّا الخبرُ،
فإنه إذا خَبرَ عدالةَ الراوي، وجاءَ مثلُه في العدالةِ بخبرٍ
ينافي ذلك الخبرَ، فإنَّه لا يترجحُ أحدُهما على الآخرِ،
فيورثُ ذلكَ شكاً، مع تمام شروطِ الدليلِ، فلو كان الدليلُ
يورث
__________
(1) في الأصل: "بغاية".
(2) لم يرد الحديث بهذا اللفظ، قال البيروتي في "أسنى المطالب"
(120): لم يعلم أنه حديث. وذكره الصنعاني في "الموضوعات" (24)،
على أنه يغني عنه ما تقدم تخريجه من قوله: "ويفشو الكذب"،
وسيأتي ص (433).
(3) تقدم تخريجه 1/ 7.
(4) في الأصل: "أهل".
(5) في الأصل: "شروط".
(4/411)
علماً، لأمكنَ تحصيلُه به لا محالةَ؛
كدليلِ العقل.
وأمّا قولُك: إنَّ إسقاطَ أحدِهما بالآخرِ، لا يمنعُ تساويهما
في العلمِ، فغيرُ (1) صحيح؛ لأنّ العلمَ حقيقةً لا يقبلُ
التزايدَ، ولا الترجيحَ، وإنما غايةُ اختلافِ العلمِ أن يكونَ
أحدُهما أسرعَ حصولاً، وهو الحاصلُ ببدائه العقولِ من غيرِ
احتياجٍ إلى وسائل ومقدِّماتٍ، كالعلمِ باستحالةِ مستحيلاتٍ،
وإيجاب واجبات بأول نظر، مثل استحالةِ كونِ الجسمِ الواحدِ في
مكانين في حالةٍ، واجتماع الضدين في حال واحدٍ، وإِيقاع في
الماضي، وإلى أمثالِ ذلك، والعَلمُ الآخرُ أَبْطأَ حصولاً،
كالعلمِ بتساوي الخطوطِ الخارجةِ من مركزِ (2) الدائرةِ على
استقامةٍ إلى محيطِ الدائرةِ، وكون المساوي للمساوي مساوياً،
وإلى أمثالِ ذلك من الجمل الحِسابيَّةِ، والأشكال الهندسية،
الخارجة من العلم إلى الحسِّ.
وأمَّا ترجيحُ أحد الخبرين بكثرةِ الرواةِ، فلأنَّ الظنَّ
تقبلهُ الغلبةُ، فيقالُ: ظنّ، وغلبةُ ظنٍّ، فأمَّا العلمُ، فهو
الغايةُ التي لا تقبلُ الزيادةَ.
فصل
يجمع شبهاتهم
فمنها: قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ}
__________
(1) في الأصل: "غير".
(2) في الأصل: "كبر".
(4/412)
[الإسراء: 36]، فنهانا عن اتباعِ غيرِ
العلمِ، وقد أجمعنا على جوازِ اتباع خبر الواحدِ في أحكام
الشرعِ، ومحالٌ أن نُجمعَ على ما نكون في اتباعه مخالفين للنص
في اتباعِ ما ليس لنا به علم، فلم يبقَ إلا [أَنَّ] الإجماعَ
بالعملِ بخبرِ الواحدِ، دلالةٌ على أنَّه موجبٌ للعلم.
وذمَّ سبحانَه على اتباع الظن، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، {وَمَا يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، فذمَّ أربابَ الظنونِ في
الأحكام والأعمالِ الشرعية، فدل على أنَّ أخبارَ الآحادِ توجبُ
علوماً لا ظنونا، لأنَّ من المحالِ أن يذمَّ على اتباع شيءٍ،
[ولا] يذمَّ على اتباعِه، لم يبقَ إلا أنَّه أمرَ باتباع
أخبارِ الآحادِ؛ لكونها موجبةً للعلم، وذمَّ على اتباع الظنِّ،
ولم يَحكم بكونها موجبةً للظن.
ومنها: ما يخصُّ أصحابَ الحديثِ: أن قالوا: إنَّ عليّا كرَّم
الله وجهه قال: ما حدثني أحدىٌ إلا استحلفتُه، إلا أبا بكر
الصديق، وصدقَ أبو بكر (1). فقطع بصدقه، وهو واحدٌ.
قالوا: ولأنَّ هذه الأحاديثَ، مع تلقي أصحابِ الحديثِ لها
بالقبولِ، مع انتقادِهم الرجالَ، وتَحرُّجِهم في صفاتِ
الرواةِ، والجرحِ لمن وجدوا فيه مطعناً، وكثرةِ الرواةِ، ولا
يجوزُ أن تكونَ كذباً، فوجبَ كوتُها (2) حقاً تُوجِبُ علماً،
لا ظناً.
ومنها: أنَّه لو كانَ خبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ، لم يوجب،
وإن كَثُرَ العددُ إلى حَيِّزِ التواترِ؛ لأنَّه يجوزُ على
الثاني ما يجوزُ على
__________
(1) تقدم تخريجه ص (378).
(2) فى الأصل: "كونه".
(4/413)
الأَوَّلِ، وفي جميعِ العدد كذلك، ألا ترى
أنَّ الفساقَ والصبيانَ لَمَّا لم يحصل العلمُ بالواحدِ
[منهم]، لم يحصل بالكثرةِ منهم، ألاترى أنَّه لو لم يكن خبرُ
الواحدِ موجباً للعلمِ، لمَّا أباح قتلَ النفس بإقرارِ الواحد
على نفسه، وشهادة اثنين عليه بالقتل، وبأخبارِ الآَحادِ إيجابَ
(1) الحدود، فلما قُبلَ الآحادُ في الأقارير والدماءِ
والفروجِ، عُلمَ أنَّها موجبةٌ للعلم، حيث قضت على أدلَّةِ
العقولِ الموجبةِ لبراءةِ الذِّمم.
ومنها: ما تعلَّقَ به النظَّامُ: في أنَّ خبرَه مع الأمارةِ
يوجب العلمَ، ولا يوجبُه بمُجرَّدِه، فقال: إنَّ الإنسانَ إذا
أخبرَ عن نفسِه؛ بأنَّه قتلَ من يكافئه ظلماً عمداً محضاً
بآلةٍ يقتلُ مثلها غالباً، كان خبرُه مع هذه الأمارةِ
المعلومةِ موجباً للعلمِ، والأمارةُ: أنَّ كل حيٍّ يحبُّ
الحياةَ، ويكرهُ القتلَ، بل الموتَ في الجملةِ، فإذا قال:
قتلتُ، كان آكدَ من قولِه على غيره: قتلَ فلانٌ فلاناً؛ لأنَّ
محبةَ النفس، وحبَّ الحياةِ، وكراهةَ الآلامِ، تمنع أن يكونَ
قولُه على نفسه كذَباً، فأوجب ذلك العلمَ بصدقِهِ فيما أخبرَ
به عن نفسِه.
قال: ولأنَّ الأمارةَ باللَّوْثِ (2) تُؤثِّرُ في النفس أثراً
بحِدَتِها (3)، فإذا انضمَّ إليها الخبرُ، لم يبقَ في النفسِ
شك فيمَا دلَّت عليه الأمارة،
__________
(1) في الأصل: "بإيجاب".
(2) اللَّوْث: هو الحكمُ بالقرينة التي توجب غلبةَ الظن،
الكافية لتوجيه تهمة إلى شخص ما؛ بأنه قاتل، كأن يكون بين
المدعى عليه والقتيلِ عداوةٌ سابقة، أو أن تتفرق جماعة عن
قتيل.
انظر أحكام اللوث وموجباته في "المغني" 10/ 3 - 7، و"المبدع"
9/ 133، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" 4/ 241.
(3) في الأصل: "يحدثها".
(4/414)
بيانُه: أنا إذا رأينا مقتولاً في سِكَّةٍ
من السكك، ورأينا رجلاً بيده سكينٌ عليها أثرُ الدم، والرجلُ
هاربٌ من السِّكة، فإنَّ ذلكَ يؤثِّر عندنا، وفي نفوسِنا أَنَّ
العاديَ الهاربَ على ذلكَ الوجهِ هو القاتلُ لهذا، ثمَّ إذا
انبنى عليه قولٌ، صارَ القولُ مع ذلك اللَّوْثِ مُحقِّقاً في
نفوسنا أنَّه القاتل، حتى إن الشريعة [جعلت] للأولياء أن
يقسِمُوا على القتلِ، وأنَّ هذا قاتلُهُ، وأنهم لا يعلمون له
قاتلاً غيره (1)، وقومٌ جعلوا عداوةَ من ظهرت عداوتُه له
كالأثر عند من رأى اللَّوثَ أثراً، وقد أشار الله تعالى إلى
ذلكَ؛ حيث قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26]؛ لأَنه أمار على أنَّه كان مقبلاً على
المراودةِ، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] ولأنَّا لا نشكُّ في خبرِ من أخبرنا
بموتِ رجلٍ قد كُنَّا عَرَفْنا مرضَه، وقد خرجَ أهلُه مخرقي
الثياب، وقد جيءَ بجنازةٍ وُضِعَت على بابهِ، بعد أن سمعنا
الصراخَ من دارِه، لا سيَّما إذا كانَ المخبر أباه، أو ابنَه،
ومَن لا يُتَّهَمُ بالإرجاف عليه بالموتِ، حتى إنَّا لا نجدُ
في أنفسِنا تردُّداً بعد هذا، وإذا كانَ كذلك، عُلِمَ بأنَّ
الخبرَ على هذه الصفةِ يوجبُ العلمَ، ومن جحدَ ذلك، كابرَ أو
سفسط.
وكذلكَ إذا كانَ في جوارِ الإنسان امرأةٌ حامل، فسمعَ الطلقَ
من وراءِ جدارهِ، وضَجَّةَ النساءِ حولَ تلك الحامل، ثمَّ سمعَ
صراخَ الطفل واستهلالَه، وخرجَ نسوةٌ يقُلْنَ: ولدت فلانة
ابناً، أو أخبرت القابلةُ
__________
(1) وهو المعروفُ بالقسامةِ، وصورتُها: أن يحلفَ أولياء القتيل
خمسين يميناً؛ أنَّ قتيلهم ماتَ من ضربِ المتهم المدعى عليه،
وقد ثبتت مشروعيتها فى السنة. انظر البخاري (6818)، ومسلم
(1669)، وأبا داود (4520)، والترمذي (1422)، والنسائي 8/ 12.
(4/415)
بذلك، فإنَّنا لا نجدُ في نفوسِنا شكاً ولا
ارتياباً بصحةِ الخبرِ، وصدقِ المخبرِ بذلك، ومن جحدَ ذلكَ،
خرجَ من حَيِّزِ المناظرةِ إلى المكابرة.
فصلٌ
في الأجوبة عن شبههم
أما التعلقُ بالآياتِ، والمنعِ من قفوه ما ليسَ له به علمٌ،
وذمِّ من اتبعَ الظنَّ، فالجوابُ عنه: أنه أرادَ: فيما طريقُه
العلمُ، كالاعتقاداتِ الأصوليةِ، وما يتعلَّقُ بالله سبحانه،
وما يجبُ له، وينفَى عنه، صرفاً للآية عن ظاهرها -وهو العمومُ-
إلى ما يعتبرُ فيه العلمُ، بدلائلنا التي ذكرناها.
على أنَّ من دلَّ على إيجابِ قبولِ خبر الواحدِ، وإن أوجبَ
ظنّاً، فقد قفا ماله به علمٌ، ونحنُ نقطعُ ونعلمُ بوجوبِ قبولِ
خبرِ الواحدِ، والعملِ به، فهو وإن أوجبَ ظناً، إلا أنَّ
إيجابَ العملِ به أُوجبَ قطعاً.
والدليلُ على صحةِ تأويلنا، وتخصيصِ الآيةِ على ما ذكرنا: هو
إجماعُنا على اقتفاءِ خبرِ المفتي بما صدرَ عن اجتهادِه، وعملُ
الحكامِ بالبيناتِ عمل بما لا يقطعونَ به، لكن لما استندت
البَيِّنةُ إلى دليلٍ قاطع، عملنا بها، وهو قوله سبحانه:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:
282]، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]،
كذلك هاهنا، قال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}
[التوبة: 122].
(4/416)
وأمَّا ذمُّه العاملينَ بالظنونِ، فإنَّه
عادَ إلى مَن عَوَّلوا على الظنون فيما طريقُه العلومُ
والقطعُ، وهو إثباتُ الأصولِ، والآيةُ تشهدُ بذلك، لأنها وردت
في معتقداتِ القومِ، من دون أعمالِهم.
وأمَّا قولُ علي رضي الله عنه في استحلافِه مع الخبر، وتصديق
أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فذاك من (1) الأحكامِ الفروعية،
وليسَ يعتبرُ فيها القطعُ، بل الظنّ، وجعلَ رتبة أبي بكر مع
خبره موازية لحلفِ غيرِه مع خبرِه، فأغناه ذلك عن تقويةِ ما في
نفسِه بحلفِه، وقويَ مجردُ قولِه عنده وعندنا؛ لأن الغالبَ
صدقُه على الظن، فحسنَ أن يقالَ: إنَه مصدَّق في خبره، وليس كل
مصدَّقٍ في خبرِه مقطوعاً على صدقِه.
وأمَّا مبالغة أصحابِ الحديثِ، فلا تعطي القطعَ بأخبارِ من
روَوا عنه، وتحرزوا في الروايةِ عنه، بدليلِ أنَّا نرجِّحُ
بكثرةِ الرواةِ، وروايةُ صاحبِ القصةِ كحَمَل بن مالك في قصةِ
الجنين، رجحناه على روايةِ غيره؛ لأنَّ القصةَ كانت متعلقة به،
ونُرجِّحُ في أسرارِ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وأحوالِه [غير] البَيِّنةِ حديثَ عائشةَ وأمثالِها من أَزواجه،
على روايةِ أنسٍ وابن عمرَ وابنِ عباس.
على أَنَّ رواياتهم نقطعُ بأن فيها صدقاً (2)، ولا نعلمُ
عينَهُ، ولا يجوزُ أن يكونَ كل ما رووه وأخبروا (3) فيه كذباً،
وقطعنا على أنَّ في أخبارِهم صدقاً لا يعطي العلمَ بأعيانِ
الأخبارِ، هذا كما نقطعُ في بابِ الفتوى من جهة المفتين
المجتهدينَ المختلفينَ في الأحكامِ، أنَّ
__________
(1) في الأصل:"بان".
(2) في الأصل: "صدق".
(3) فى الأصل:" وتحبروا".
(4/417)
الحقَّ والقطعَ في أحدِ أقوالهم، وأنَّ
الحقَّ لا يخرجُ عن مقالاتِهم، لكن لا يعلمُ ذلك عيناً،
واجتهادُهم في الرأي كاجتهادِ أصحابِ الحديثِ في الروايةِ، ولا
نقطعُ على صحةِ مقالةِ واحد من المفتين، لأجلِ قطعِنا على أنَّ
الحقَّ لا يخرجُ عن رأيهم، كذلكَ لا نقطعُ على خبرِ واحدٍ من
الرواةِ بعينه، لأجلِ قطعِنا على أنَّ الحقَّ والصدق لا يخرجُ
عن روايتهم.
وأمَّا قولُهم: إنَّه لو لم يوجب العلمَ، لما أوجبَ إذا كثر
الرواةُ، وانتهوا إلى حدِّ التواترِ، فغلطٌ، لأنَّ إعطاءَ
آحادِ الجُملَةِ ما (1) يجبُ للجملَةِ، يردُّه الحسُ والعقلُ،
فإنَّ للتعاضدِ والتناصرِ ما ليس للانفرادِ في بابِ
المحسوساتِ، [و] اعتمادُ الجماعةِ يعطي ما لا يعطيه آحادُهم
دفعاً ورفعاً للأشياءِ الثقيلة، وتأثيراتُ الأقوالِ المتناصرةِ
في النفسِ معلومة، بحيث لا نجدُ قبل تناصِرها في نفوسِنا ما
نجدُه بعد تناصِرها وتعاضدِها، بل يجد الإنسانُ في نفسه من
التأثير باستثباتِ الخبرِ من الواحدِ، ما لا يجدُ من قولِه
مرَّةً من غيرِ استثباتٍ، ولذلكَ يَفْزَعُ العقلاءُ إلى قولِهم
لمن أخبرهم بدخولِ الأميرِ البلدَ، وبقدوم القافلةِ على طريق
الاستثبات: حقاً تقول؛ فإذا قال: نعم، وجدوا في نفوسهم ما لم
يجدوه قبل استثباته، فكيفَ بأقوالٍ بعدَ أقوالٍ، وأخبارٍ بعد
أخبارٍ؟! وما زالَ العقلاءُ يطلبون تناصرَ الأدلة؛ ليرتقوا بها
إلى القطعِ، فإذا انتهوا إلى القطعِ، سكنوا، وحصلت الثقةُ منهم
المغنيةُ عن الاستزادةِ، مثل قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 259]، {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي} [البقرة: 260]، {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل
عمران: 41].
__________
(1) في الأصل: "بما".
(4/418)
ولأنَّ العددَ الكثيرَ يبعدُ عنهم التواطؤ
على الكذبِ، وإذا صارَ عددَ التواترِ، استحالَ؛ كاستحالةِ
اجتماعِ أهلِ بغدادَ على حب الحامضِ في حالةٍ واحدةٍ.
ولأنَّه ما زالَ يَتجدَّدُ بقولِ الجماعةِ ما لا يوجدُ بقولِ
الواحدِ؛ بدليلِ قولِ الشاهدِ الواحدِ، والمرأةِ الواحدةِ مِع
الرجلِ الواحد، وقد عَلَّلَ البارىء بقوله: {أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:
282]، وهذا يعطي أنَّ الوَحْدةَ يقوى فيها تجويزُ الكذب،
والكثرةَ يبعدُ معها الكذبُ، وكذلكَ يبعدُ السَّهْوُ والغلطُ
عن الكثرَةِ؛ لتعاضدِهم على المذاكرةِ بالأمرِ المخبَرِ به،
فإن نسيَ أحدُهم، ذكره الباقون، وإن نسيَ جماعة منهم، ذكرهم
الواحدُ، ولذلكَ صار الإجماعُ قطعياً، وإن كانَ الواحدُ من
المجتهدين مُجوَّزاً عليه الخطأ، فيتجدد للإجماعِ أمرٌ لم يكن
لآحادِ المجتهدين، وهو القطعُ بصحةِ ما أَفْتَوا به في
الحادثة.
وأمَّا قولهم: لو لم يوجب العلمَ، لما أباح قتلَ النفس بإقرارِ
الواحدِ، وشهادة الاثنين، فدعوى لا برهانَ عليها؛ إذ قد أباَح
القتل باجتهادِ الواحدِ والاثنينِ، إذا لم يكن لنا سواهما من
أهل الاجتهاد، نعم، وأباحَ القتلَ مع وجودِ الخلاف، ولم يجعل
أحد من الفقهاء اجتماعَهم على إيجابِ القتل أو إباحتهِ شرطاً،
بل أجمعوا على أنَّ القتلَ في مسائلِ الاجتهادِ المختلف فيها
جائز (1)، فهذا يقتلُ بالقتلِ بالمُثقَّلِ مع خلافِ غيرِه له،
وهذا يقتلُ المسلمَ بالكافرِ مع خلافِ
__________
(1) في الأصل: "جائزاً".
(4/419)
غيرِه له، وهذا يقتلُ الأبَ بابنه ذبحاً مع
خلافِ غيرِه له، فلم يوقفوا القتلَ على القطعِ.
وأما ما تعلَّقَ به النظَّام، بخبرِ الواحدِ مع الأمارةِ، فلا
نُسلِّمُ أنه يقعُ بها العلمُ، بل هذه عينُ الدعوى، وشرحُ
المذهب.
وكيف يُعتقَدُ ذلكَ، ونحنُ نعلمُ أنَّ مثلَ تلكَ الأمارةِ تقعُ
تزويراً؟ وكم فعلَ النَّاسُ مثلَ ذلك، لأغراضٍ بلغوها، مثل
وضعِ الدمِ على قميصِ يوسفَ، ووَضْعِ يوسفَ بضاعتهم في
رحالِهم، ووضعِه الصُّواع في رحلِ أخيه، وكانوا أحبارَ العالم،
وأولادَ الأنبياء، فكيف بأهلِ عصرِنا على ما نعرفه منهم؟ وكم
من لَوْثٍ كانَ موضوعاً على غيرِ الجاني، وكم من غشيةٍ حسبَها
أهلُ المريضِ موتاً، وكانت إغماءً وضعفاً، قال الله سبحانه في
حق سليمان: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] {قِيلَ
لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ
لُجَّةً} [النمل: 44]، وإذا كان حكمُ الأَماراتِ على هذا
الوضعِ، فلا ثقةَ إلى أمارةٍ على حدتها، ولا خبرٍ واحدٍ على
حدتِه، فإذا اجتمعا، فلا قطعَ، بل غايةُ ما يوجبُ ذلك تَرجُّحَ
أحدِ المُجوَّزين، وهو الذي نشيرُ إليه من الظنِّ، وكم رأينا
مَن فعلَ ذلك وسمعنا، لدفعِ ضررٍ، أو اختلاف يقعِ، وكم استعارَ
النساءُ أولاداً، وأظهروا الطلقَ، وانتفاخَ البطنِ، ثمَّ بان
أنَّ الولدَ كان مُزوَّراً، فمتى سلمَ لكَ حصولُ العلم، مع
اتجاه هذه الأفعالِ، وسلوكِ هذه المسالك؟! وإنّي لأَسْتكثِرُ
الظنَّ فيه، فضلاً عن العلمِ؛ لما نعرفُه من أَدْغالِ الناسِ.
(4/420)
مسألة
المراسيل حجةٌ، ويجب العمل بها (1)
وصورةُ الإرسال: أن يقولَ مَنْ لم يَلْقَ رسولَ الله - صلى
الله عليه وسلم -: قال رسول الله، مثل أن يرويَ التابعيُّ عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك إذا قال: أخبرني الثقةُ، أو أخبرني رجلٌ عدل، عن فلان،
في إحدى الروايتين عن أحمد، نَصَّ عليه.
وقال: ربما كان المنقطعُ أَقْوى.
وقال: مرسلاتُ سعيد بن المسيب أصحُّ المرسلاتِ، وليس في
المرسلاتِ أضعفُ من الحسنِ، وعطاء بن أبي رباح (2)، ومرسلات
إبراهيم (3) لا بأس بها.
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 907، و"المسودة" (250)، و"التمهيد" 3/
131، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 228.
(2) هو أبو محمد عطاءُ بن أبي رباح القرشي بالولاء، نشأ بمكة،
وانتهت إليه فتوى أهلها، كان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث،
حدثَ عن: عائشة وأُمِّ سلمة، وأمِّ هانيء، وابن عباس، وغيرهم
من الصحابة رضوان الله عليهم، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات
مجاهد احب إلينا من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كل
ضرب.
انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 7، و"تهذيب التهذيب" 7/ 179، و"طبقات
ابن سعد" 5/ 467.
(3) هو أبو عمران إبراهيمُ بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي
اليماني ثُمَّ الكوفي، كانَ من التابعين، وأدرك أمَّ المؤمنين
عائشة وهو صبيٌّ، ولم يثبت له =
(4/421)
وبهذا المذهب قال الكرخي من أصحابِ أبي
حنيفة (1)، ومالك (2)، والمعتزلة (3).
وفيه روايةٌ أخرى: ليس بحجةٍ إلا مراسيلَ الصحابةِ (4)، وبها
قال الشافعي (5).
__________
= منها سماع، وروايتُه عنها، وعن غيرها من الصحابة، غيرُ متصلة
عند أهلِ الصنعة، كان بصيراً بعلم ابن مسعود، واسع الرواية،
فقيه النفس، كبير الشأن، مات بالكوفة سنة (96 هـ). انظر ترجمته
في "طبقات ابن سعد" 6/ 270، و"تهذيب التهذيب" 1/ 177، و"سير
أعلام النبلاء" 4/ 52.
(1) عبارةُ الكرخيِّ لم تفرِّق بين المراسيل، فأطلق القولَ
بقبول الخبر المرسَلِ بقطع النظر عن الراوي، صحابياً كان، أو
تابعياً، أو غيرَ تابعي، وهو ما أشارَ إليه الجصاص بقوله: ولم
أرَ أبا الحسن يفرِّق بين المراسيلِ من سائر أهلِ الأعصار
"الفصول" 3/ 146.
غير أنَّ الصحيحَ والمقبول عند الحنفية: أن مرسَلَ من كان من
القرونِ الثلاثةِ حجةٌ، ما لم تعرف منه الرواية مطلقاً عمَن
ليسَ بعدل ثقة، ومرسَلُ من كان بعدهم، لا يكون حجةً إلا ممَّن
اشتهر بأنه لا يروي إلا عمَّن هو عدل ثقة، لأنَّ النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - شهِدَ للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية، فكانت
عدالتهم ثابتةً بتلك الشهادةِ، ما لم يتبين خلاف ذلك.
انظر "الفصول " 3/ 145 - 157، و"أصول السرخسي" 1/ 363، و"فواتح
الرحموت" 2/ 174، و"تيسير التحرير" 3/ 12.
(2) انظر "تنقيح الفصول" (379).
(3) انظر "المعتمد" 2/ 143.
(4) أي: رواية أخرى عن الإمام أحمد، والروايةُ المقبولهُ
والمعتمدة هي الرواية الأولى، والمتضمنة قبولَ الخبرِ المرسلِ،
حتى لو كانَ المرسِل غيرَ صحابي.
(5) الصحيحُ في مذهبِ الشافعي: أنَّ الراوي المُرسِلَ إن كان
من كبارِ =
(4/422)
فصلٌ
في الأدلة على جواز الاحتجاجِ به
فمنها: أنَّ التابعينَ رحمة الله عليهم، كان من عادتهم إرسالُ
الأخبارِ، من ذلك: ما رويَ عن الأعمش (1)، أنَّه قال: قلتُ
لإبراهيمَ: إذا حدَّثْتَني، فأَسنِدْ، فقال: إذا قلتُ لك:
حدثني فلانٌ عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلتُ لك: قال
(2) عبد الله، فقد حدثني جماعةٌ عنه، ورويَ ذلك: عن الحسنِ،
وسعيد بن المسيب، والشَّعبي (3).
__________
= التابعين، ولم يرسِل إلا عن عذر، فأسنده غيرُه أو أرسلَه،
وشيوخُهما مختلفون، أو عضدَ الخبرَ المرسلَ عملُ صحابي، أو
عملُ أهلِ العصرِ، قُبِلَ المرسل، وإلا فلا.
انظر "الرسالة" (461)، و"التبصرة" (325 - 326).
(1) هو أبو محمد سليمانُ بن مهران الأسدي، الكاهلي بالولاء،
المعروفُ بالأعمش، من مشاهيرِ العلماء، روى عن: أنسِ بن مالك،
وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وغيرهم من كبار التابعين،
وعنه روى: ابن إسحاق، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم من
العلماء، وأقوال العلماء في الثناء عليه كثيرة وعديدة.
انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 342، و"تاريخ بغداد" 9/ 3، و"وفيات
الأعيان" 2/ 400 - 402، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 226 - 239.
(2) في الأصل: "حدثني " والتصحيح من "العدة" 3/ 910.
(3) هو عامِرُ بن شَراحِيلَ بن عبد بن ذي كِبار، أبو عمرو
الشَّعبي، سمع من عِدَّةٍ من كبراءِ الصحابة، وحَدَّثَ عن: سعد
بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وابنِ عمر،
وغيرِهم من الصحابة رضوان الله =
(4/423)
وإذا كان هذا معروفاً من عادتهم، فلو كانَ
عندهم أنَّها غيرُ مقبولةٍ، كانوا قد ضَيَّعُوا سُننَ رَسولِ
الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعلِ، وذلك لا يجوزُ، فلا
يظنُ بهم اعتمادٌ، مع شهادةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لهم بالخير والعدالة.
ومنها: أنَّ إرسال الراوي مثبتٌ لعدالةِ من رَوَى عنه، من
وجهين: أحدهما: أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ فاسقاً، ويكتمَ اسمَه،
ويُدرِجَه إدراجاً، فيكون غِشَّاً لمن يُحدِّثُه بذلكَ الحديث
عن رسولِ الله.
والثاني: أنَّه إذا روى عن غيرِ ثقةٍ، كانَ قد قطعَ على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ طريقِ القطعِ، فلم يبقَ إلا
أنّه تعديل لمن روى عنه، وإذا كان تعديلاً له، وجبَ قبولُ
خبرِه، وقد جعلَ أحمدُ روايةَ العدلِ عن غيرِه تعديلاً، فقال
في كتاب "العلل" للأثرم: إذا روى عبد الرحمن (1)
__________
= عليهم، وعنه روى: حمَّاد، ومكحول الشامي، وعطاءُ بن السائب،
وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وغيرهم، كان من أعلام عصره، حتى
قال: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاَ يحدَث بحديث إلا أنا أعلم به
منه، فلقد نسيتُ من العلم ما لو حفظه رجل، لكان به عالماً.
ثوفي سنة (104) هـ، وقد بلغ ثنتين وثمانين سنه.
انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 246، و"وفيات الأعيان" 3/ 12، و"سير
أعلام النبلاء" 4/ 295، و"تهذيب التهذيب" 5/ 65.
(1) يريدُ الإمامَ الناقدَ عبد الرحمن بن مهدي بن حسَّان
البصري اللؤلؤي، سمعَ من: حمادِ بن سلمة، والسفيانين، ومالك،
وحدَّث عنه: ابن المبارك، وأحمدُ، وإسحاق، وأقوالُ العلماءِ في
الثناءِ عليه، وبيان فضله ومقامه، وعلو رتبته في العلم، عديدة
وكثيرة، قال فيه ابن المديني: كان أعلم الناس، وقال محمد
المقدَّمي: ما رأيت أحداً أتقنَ لما سمع، ولما لم يسمع، من =
(4/424)
عن رجلٍ، فروايتُه حجة. وقال أيضاً في
رواية أبي زرعةَ الدمشقي (1): مالكُ بن أنسٍ إذا روى عن رجلٍ
لا يعرفُ، فهو حجةٌ (2).
ومنها: أنَّ الظاهرَ من المُسنِدِ بحديثه، أنه يقصد أن يخرجَ
من عهدةِ الرواية يذكرِ الرجال، فإذا أرسلَ، وقال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تيقن صحةَ الطريقِ، وسلامتَه
بصدقِ الرواةِ عنده؛ ولهذا قالَ الحسنُ لما أرسلَ، حديثاً،
فسئل عنه، فقال: حدثني به سبعون بدريّاً، فدلَّ على أنَّ
الإرسالَ إن لم يقوَ على الإسناد، فلا ينحطُّ عنه.
ومنها: أنَّه ي يقبَلُ منه الخبر مسنداً، فقُبِلَ مرسلاً،
كالصحابيِّ، وكسعيدِ بن المسيب.
__________
= عبد الرحمن بن مهدي. توفي بالبصرة سنة (198) هـ.
انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 7/ 297، و"شذرات الذهب" 1/
355، و"التاريخ الكبير" 5/ 254، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 192.
(1) هو أبو زُرعة عبد الرحمن بن عمرو بن صفوان النَّصري
الدمشقي، محدِّث الشام في زمانِه، كانَ ثقةً حافظاً، تقدَّم
على أقرانه، وتميز على نظرائه، لمعرفته وعلوِّ سنده، روى عن
خلقٍ كثيير بالشام والعراق والحجاز، منهم: سليمانُ بن حرب،
وأبو بكر الحميدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.
توفي بدمشق سنة (281) هـ.
انظر "الجرح والتعديل" 5/ 267، و"تهذيب التهذيب" 6/ 236 - 237،
و"سير أعلام النبلاء" 13/ 311.
(2) انظر "العدة" 3/ 912.
(4/425)
فصلٌ
في جمع أسئلتهم على أدلتنا
فمنها: أنَّ الحالَ في تركِ إسنادِه متردِّدةٌ محتملة، فيجوزُ
أن يكونَ لنسيانٍ منه عينَ الراوي، فلا يذكرُه لأجلِ النسيانِ،
ويجوزُ أن يكونَ ممن يأنفُ أن يرويَ عنه، ويحتمل أن يقنع بظاهر
عدالتِه عنده، ولا يكون مرضياً، ولو كانَ عدلاً عنده لم يكف،
لأنه (1) يجوزُ أن يكونَ ليس بعدلٍ عند مَنْ يَعْرِفُه، إذا
سمَّاه وذكره.
ومع هذهِ الاحتمالاتِ لا يجوزُ أن يقطَعَ على العدالةِ،
ويُرَجَّحَ جانِبُها، وعدالتُه عندَه لا تكفي في وجوبِ العملِ
بخبرِه حتى يُنظرَ في حالِه.
قالوا: ولأنَّه لو كانَ هذا كافياً في إرسالِ الخبرِ، لكانَ
كافياً في بابِ الشهادةِ على الشهادةِ، ونَقْنعُ بعدالةِ شهودِ
الفرعِ، ونقول: إنه لا يشهدُ العدلُ إلا على العدلِ، ولا
يُسنِدُ شهادته إلا إلى مثله، ولما بطلَ هذا في الشهادة، بطل
في الأخبار.
فصل
في الأجوبةِ عن أسئلتهم
فمنها: أمَّا النسيانُ بعدَ المعرفةِ بعدالةِ الراويِ، فلا
يضرُّ، لأنَّ
__________
(1) في الأصل: "لا".
(4/426)
نسيانَه لا يمنعُ من اجتماعِ صفاتِ
العدالةِ فيه حين روى له الحديث.
على أنَّ جميعَ ما تعلقَ [به] من الاحتمالات باطلٌ برواية
الصحابيِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبقولِ الحاكمِ:
ثبتَ عندي بشهادةِ رجلين ساغَ لي سماعُ قولهما، فإنَّه لا يسأل
عن عينهما مع الاحتمالات التي ذكرتَها، وكذلكَ لا يُشَكُّ أنَّ
الشافعي نصَّ على قبولِ مراسيلِ سعيد، ويبعدُ ما يقولُه
أصحابُه عنه، وأنَّه تتبعها، فوجدَها مسانيدَ؛ لأنَّه لما
وجدها مسانيدَ، كان ينبغي أن يُزِيلَ عنها اسمَ المراسيلِ؛
فإنَّ في ذلك تلبيساً (1).
وأما الشهادةُ على الشهادةِ، فإنَّما لم يكتفَ فيها بالإرسالِ،
فبابُ الشهادةِ على الاحتياطِ، وبابُ الأخبارِ على السهولة؛
لقبولِ العنعنة، والمناولة، والإجازة، وعدمِ العدد، وإفراد
الأنوثة من وراءِ الحجاب، وظاهرِ العدالةِ من غير بحثٍ عن
باطنِ المحدِّث، وسيأتي الجواب عن ذلك في احتجاجهم، إن شاء
الله.
فصل
في شبههم
فمنها: ما احتجَّ به الشافعيُّ رضي الله عنه، وهو أنَّ الخبرَ
كالشهادِة في اعتبارِ العدالةِ في كلِّ واحدٍ منهما، وقد ثبتَ
أنَّ الإرسالَ في الشهادةِ يمنعُ قبولَها وصحتها، فكذلك
الخبرُ.
ومنها: أنَّ من شرطِ صحةِ خبرِ الراوي المعرفةَ بعدالتِه،
والمُرسَلُ
__________
(1) في الأصل: "تلبيس".
(4/427)
لا تعرفُ عدالةُ الراوي له، فوجبَ أن لا
يقبَلَ، لعدمِ الشرط.
ومنها: أن قالوا: الجهالةُ بعينِ الراوي آكد من الجهالةِ
بصفتِهِ؛ لأن من جُهِلَت عينُه، فقد جُهِلَت صفتُهُ، ثم قد ثبت
أنَّه لو كانَ معروفَ العينِ مجهولَ الصفةِ، مثل أن يقول:
أخبرني فلان، ولا أعرف ثقته، فإنه لا يقبَلُ، فجهالةُ الأصلِ
-وهي العينُ-، أَوْلى أن تَمْنَع قبولَه.
ومنها: أن قالوا: الخبرُ خبران: تواتر، وآحاد، ثم لو قال:
أخبرني مَنْ لا أحصيهم عدداَّ، أو قال: أخبرني مَنْ بمثلِه
يثبتُ التواترُ، بكذا، لم يقبَلْ قولُه في التواتر، ولم يثبت
له حكمُ التواتر، كذلك الآحاد، ولا فرق بينهما.
فصل
في أجوبتهم
فأمَّا دليلُ الشافعيِّ واعتبارُه الخبرَ بالشهادة، فغيرُ
صحيح؛ لأنَّهما وإن استويا في اعتبارِ العدالة، إلا أنَّ
للشهادة تأكيداً (1) في بابِ الأحكامِ والشروطِ، ألا ترى
أنَّها لا تقبلُ من وراءِ الحجابِ، ولا من العبيدِ والنساءِ
على الانفرادِ، ولا من شهودِ فرعٍ مع وجودِ شهودِ الأصل،
والخبر يُقبل من وراءِ الحجاب، ومن العبيد والنساء على
الانفراد، ومن راوٍ يروي مع حضور المرويِّ عنه، وإذا تباعدتِ
الشهادةُ عن الأخبارِ هذا البعدَ، وفارقتها هذه المفارقة، فلا
ينكرُ أن
__________
(1) في الأصل: "تأكيد".
(4/428)
يقبلَ الخبرُ مع الإرسال، وإن لم تُقْبلِ
الشهادةُ مع الإرسال.
على أنَّ الشهادةَ إنَّما اعتبرت تسميتهم؛ لأَن الشهادة على
الشهادة يعتبر لها الاستدعاءُ، وهو أن يقولَ شاهدا (1) الأصلِ
لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتنا، فافتقرت إلى تسمية الأصل،
ولأنَّ مِن الفقهاءِ مَنْ يوجبُ عليه الضمانَ، فلا بدَّ من
تسميته، ليُعرفَ، فيُسندَ إليه الضمانُ.
فإن قيل: أَفليسَ (2) قد استويا في اعتبارِ العدالة؟
قيل: فقد بيَّنا أنَّ الرواية من العدلِ تعديلٌ.
وأمَّا قولُهم: إنَّ المعرفة بعدالةِ الراوي شرطٌ، ومع
الإرسالِ لا تعرفُ عدالته، فلا (3) يصحُ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ
العدلَ لا يروي إلا عن عدلٍ، وتكفي العدالةُ في الظاهرِ في
بابِ الأخبارِ، لأنَّ روايةَ العدلِ عن الشخصِ تعديلٌ، وإذا لم
يسمِّه، كان ذلك من أكبرِ الثقةِ به، لأنَّه إذا قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قطع الشهادةَ على النبي -
صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقدمُ العدلُ الثقةُ على هذا
القولِ إلا عن ثقةٍ بعدالةِ الراوي.
فإن قيل: قد تكرَّر منكم هذا التعويلُ (4) على أن الروايةَ عن
الشخص تعديلٌ، وليس كذلك، ولهذا قال ابن سيرين: لا تأخذوا
بمراسيل الحسن، وأبي العالية (5)، فإنهما لا يباليان عمن أخذا
__________
(1) في الأصل: "شاهد".
(2) في الأصل: "فاليس".
(3) في الأصل: "لا".
(4) في الأصل "التعديل".
(5) هو رفيعُ بن مهران، أبو العالية الرياحي البصري، أسلمَ في
خلافةِ أبي=
(4/429)
الحديث.
قيل: هذا قولٌ يعطي البحث، أو الطعن، فأمَّا البحثُ، فلا
يَلْزَمُهما، لأَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قنع في قبولِ
قولِ الأعرابي في رؤيةِ الهلال بمُجرَّدِ الإسلام (1)،
والشهادةُ برؤيةِ الهلالِ بمثابةِ روايةِ الأحاديث، لأنَّ كلَّ
واحد منهما خبرٌ بأمرٍ من أمورِ الديانات، ويلزمُ المُخْبِرَ
والمُخبَرَ، فيشتركان فيه.
وأَمَّا الطعن، فلا يقبل من ابن سيرين في الحسنِ وأبي العالية،
ولا يظن فيه أنّه قصدَ بذلك روايتَهما عن الفُسَّاقِ
والكذابين، إنماقصد أنَّهما لا يفتشان ويبحثان، والبحثُ لا
يلزمُ، ويكفي ظاهرُ العدالةِ، ومذاهبُ أصحابِ الحديثِ في ذلك
مختلفةٌ، فلا ينبني الطعنُ (2) بقولٍ
__________
= بكر الصديق، وسمعَ من: عمرَ، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود،
وغيرِهم من الصحابةِ رضوان الله عليهم أجمعين، تصدر لإفادة
العلم، وبَعُدَ صيته، واشتهر بعلمه بقراءة القرآن. توفي سنة
(93) هـ، وقيل غير ذلك.
انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 112، و"تاريخ البخاري" 3/ 326، و"سير
أعلام النبلاء" 4/ 207، و"تهذيب التهذيب" 3/ 246 - 247.
(1) وردَ ذلك في حديثِ ابن عباس رضي الله عنه، قال: جاءَ إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابيٌّ، فقال: أبصرتُ الهلالَ
الليلة، فقال: "تَشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدُه
ورسولُه " قال: نعم، قال: "قُمْ يا فلان، فأذِّن في النَّاسِ،
فليصوموا غداً".
أخرجه أبو داود (2340)، والنسائي 4/ 132، والترمذي (691)، وابن
خزيمة (1924)، وابن الجارود (380)، والحاكم 1/ 424، وابن حبان
(3446).
(2) في الأصل: "الظن".
(4/430)
مُتردِّدٍ لا يَتَّضحُ (1)، ولا يكشف عما
يوجب الردَّ، بل الطعن المطلق لا نقبلُه، فكيفَ بقولٍ لا يلوح
منه الطعن؟!
وأمَّا قولُهم: جهالةُ عينِه آكدُ من جهالةِ صفتِه، فلا
نُسَلِّمُ أنَّ هاهنا جهالةَ صفةٍ، والإسلامُ كافٍ مع عدمِ
العلمِ بالفسقِ، وهذا موجودٌ فيمن روى عنه المُحدِّثُ العدلُ.
ولأنَّ الحاكمَ إذا قالَ: ثبت عندي بشهادةِ (2) رجلين ساغَ لي
سماعُ شهادتِهما، لم يَحْتَجْ إلى ذكرِ اسمهما، ولا تعريفهما،
والشهادةُ يعتبر فيها ما لا يعتبرُ في الخبر، فالخبرُ أَوْلى.
وأما تعلقُهم: بأنَّه لا يصير الخبرُ بقوله متواتراً، فلا
يلزم؛ لأنَّ التواترَ يُشترطُ فيه استواءُ طرفيه ووسطِه
بالعددِ الذي لا يجوزُ على مثلِهم التواطؤُ والكذب، وقولُ
الواحدِ لا يحصلُ به القطع، فلا يحصلُ به إثباتُ خبير يوجب
القطع، فهو كخبرِ الواحدِ العدلِ عن المعصومين الجاري مجرى
التواتر، وذلك يوجب النظرَ اعتباراً.
فصلٌ
إذا ثبتَ أنَّ المرسلَ حجةٌ، فلا فرق بين مرسل أهل عصرنا ومن
تقدم، وهذا ظاهرُ كلام أحمد (3).
__________
(1) في الأصل: "صح".
(2) في الأصل: "شهادة".
(3) انظر "العدة" 3/ 917، و"المسودة" (251)، و"التمهيد" 3/ 143
- 144.
(4/431)
وحكيَ عن عيسى بن أبان: أنَّه قال: من
أرسلَ من أهلٍ عصرنا حديثاً، فإن كانَ من الأئمةِ الذين حَمَلَ
عنهم أهلُ العلمِ، كان مُرسَلُه مقبولاً، كما نقبل مسنده، ومن
حملَ عنه الناسُ المسندَ دونَ المرسلِ، كان مرسَلُه موقوفاً
(1).
وقال أبو سفيان: مذهبُ أصحابنا أن مراسيلَ الصحابةِ،
والتابعين، وتابعي التابعين، مقبولة (2).
يشير إلى الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم
ثلاثة القرون (3).
وحكيَ عن الكرخي، ووافقه الجرجاني: في قبول مرسلِ أهلِ سائرِ
الأعصار (4).
وذكر الشيخُ الإمام أبو إسحاق رضي الله عنه: أن مراسيلَ غيرِ
الصحابةِ ليست حجة (5).
ودليلُ (6) تقييده بالصحابةِ يدلُ على أن غيرهم لا تقبلُ
مراسيله.
__________
(1) انظر هذا القول لابن أبان في "الفصول" للجصَّاص 3/ 146.
(2) على انَّه يقبل -في الصحيح عند الحنفية- مُرسَلُ من كان
بعد القرون الثلاثة، إذا كان ممن اشتهروا بالرواية عن العدول
الثقات. قرَّرَ ذلك الجصّاص في "الفصول" 3/ 146، والسرخسي في
"أصوله" 1/ 363.
(3) في الأصل: "الثلاثة قرون".
(4) تقدم التعليقُ على قولِ الكرخي في الفصول المتقدمةِ آنفاً.
(5) نصَّ عليه الأمامُ أبو إسحاق الشيرازي في "التبصرة" (326)،
وقد أشرت فيما تقدم إلى تحقيق مذهب الشافعي.
(6) في الأصل: "فدليل".
(4/432)
فصلٌ
في أدلتنا
فمنها: أنَّ الراوي إذا كان ثقة عدلاً، وكان لا يروي بظاهرِ
الحال، فلا يَختلِفُ حالُ عدالتِه، ولا حكمُ إرساله بعصر دونَ
عصر، كما لا تختلفُ المسانيدُ والشهاداتُ بعصر دونَ عصر، ولا
تختلفُ الشهادةُ على الشَّهادةِ (1) باختلافِ أهل الأعصار.
ومنها: أنَّ العدالةَ لم يُجْعَلْ لها مراتبُ في الشرع؛ بحيث
يختلفُ حكمُ الأورعِ والأزهدِ على غيره في اختلافِ الحكمَ،
والدليل عليه: في باب الفتيا، والحكم، والشهادةِ، وروايةِ
المسانيد، وليسَ في الإرسال إلا الثقةُ بعدالةِ المروي عنه
لثقةِ الراوي، فالثقاتُ لا يختلفون باختلافِ الأزمانِ
والأعصارِ، كما لم يختلفوا بالمراتبِ في الزهادةِ والورعِ في
العصرِ الواحد.
فصلٌ
في شبهةِ المخالف
إِنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عدَّلَ القرآن الذي كانَ
فيه، وقرنين بعد عصره، فقال: "خيرُكم القَرْنُ الذي بُعِثْتُ
فيهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَفْشُو
الكذبُ" (2).
__________
(1) في الأصل: "الشهاد".
(2) ورد هذا من حديثِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -, =
(4/433)
ومَنْ قصَرَه على الصحابةِ، قال: إنَّ
أصحاب رسول الله مقطوعٌ بعدالتهم، فإنْ كانَ إطلاقُ الواحدِ
منهم: قالَ رسول الله، بسماعه منه، فبَخٍ بَخْ؛ لأنَّه عدلٌ
مقطوعٌ بعدالتِه، روى عن صاحب الشرع المعصوم في خبره، وإن كان
بينه وبين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صحابيٌّ آخر،
فالصحابةُ كهم مقطوعٌ بعدالتهم، وليسَ كذلك في غيرهم، فإنهم لا
يقطعُ على عدالتهم.
فصلٌ
في الأجوبةِ عمَّا ذكروه
فأمَّا قولُهم: إنَّ القرونَ الثلاثة مشهودٌ لهم بالخيرِ،
والصحابةُ رضوان الله عليهم شُهِدَ بعدالتِهم، فهذا ممَّا
يوجبُ الثقة البالغة، وليس طريقُ الأخبار ممَّا يطلبُ فيه
الأقصى، بل ظاهرُ العدالةِ كافيةٌ في الأخبارِ، بدليلِ
المسندِ؛ فإنَّه لا يحتاجُ إلى أن يُسندَ إلى مقطوعٍ بعدالته،
فالذي ذكرتموه في القرنِ الأوَّل والاَخرين يصلُحُ للترجيح،
فأمَّا التخصيصُ، وسلبُ غيرهم أصلَ الإرسالِ، فلا، ولسنا نمنع
أَن تكونَ مراسيلُ أولئك أَوْلى ومُقدَّمةً على مراسيلِ القرنِ
الرابع، فأمّا أن يمْنعَ تخصيصُ أولئك بالعدالةِ المقطوعةِ مِن
إرسالِ مَنْ دونهم، فلا.
__________
= أنه قال: "خيرُ الناس قَرْني، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم، ثم يفشو الكذبُ حتى يشهدَ الرَجلُ ولا يستشهدُ، ويحلفَ
الرجل ولا يستحلف".
أخرجه الترمذي (2303)، وابن ماجه (2363).
وورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يؤكد هذا الحديث، وهو
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ أمتي قرني، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ قومٌ، تسبقُ شهادةُ
أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادَته".
أخرجه مسلم (2533) (210)، وأحمد 1/ 434.
(4/434)
على أنَّه لم يخلُ عصرٌ من الأعصارِ ممَّن
ليسَ بعدلٍ، لكن حُمِلَ الأمرُ على الظاهرِ، وهاهنا حاصلٌ،
وهذا صحيح، لأنَّ ما ذكرتم لم يوجب تخصيصَ أولئك بالشهادةِ
دونَ من بعدهم، ولا من الشهادةِ على الشهادة، ولا من الروايةِ
على وجهِ الإسنادِ، لا الإرسال.
فصل
في كلام أحمدَ في المراسيل، وترجيحِ بعضِها على بعض (1).
قال في رواية أبي الحارث: مُرسَلاتُ سعيد بن المسيِّب كلُّها
صِحاحٌ، لا نرى أَصَح من مرسلاته، فأمَّا مرسلاتُ الحسنِ
وعطاء، [فليست] بذاك، هي أضعفُ المرسلاتِ، فإنّهما كانا
يأخذانِ من كلٍّ.
وقال في روايةِ الفضل بن زياد: مرسلات عطاء، ففيها (2) شيء،
وأمَّا مرسلاتُ ابن سيرين، فما أحسنَ مخرجه أيضاً، ومرسلاتُ
سعيدِ بن المسيب أصحُّ المرسلات، ومرسلاتُ إبراهيمَ النخعي،
فلا بأس بها، وليس في المرسلاتِ أضعفُ من مرسلاتِ الحسنِ
وعطاءِ ابنِ أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كلٍّ.
وسأله مُهنا عن مرسلات سعيد بن جبير، [فقال]: هي أقرب، وهي
أَحبُّ إِليَّ من مرسلات عطاء.
وسئل عن مرسلات سعيد بن جبير أحبُّ إليك، أو مرسلات
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 920 - 924.
(2) في الأصل: "ففيه".
(4/435)
مجاهد؟ قال: مرسلاتُ سعيد بن جبير أحبُّ
إليَّ.
وسئل مرسلاتُ مجاهدٍ أحبُّ إليك، أو مرسلات عطاء؟ فقال:
مرسلاتُ مجاهدٍ، لأنَّ عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهدٌ لم يروِ
عمَّن هو دونه.
وقال وقد سئل: مرسلاتُ طاووس أحبُّ إليك، أو مرسلاتُ أبي إسحاق
(1)؟ قال: مرسلاتُ طاووس.
وسئل عن مرسلات إسماعيلَ بن أبي خالد (2) أحبُّ إليكَ،
أومرسلاتُ عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيلُ بن أبي خالد لا يبالي
عمَّن حدَّثَ؛ عن أشعث بن سَوَّار (3)، وعن مُجالدٍ،
__________
(1) هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد السبيعي، ولدَ
لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وروى عن جمع من الصحابة، منهم:
معاوية، وعدي ابن حاتم، وابن عباس، وغيرهم، وحدَّث عنه:
الزهري، وقتادة، والأعمش، وآخرون، وهو ثقة حجة بلا نزاع. مات
سنة (107) أو (108) هـ.
انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 313 و315، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 114،
و"ميزان الاعتدال" 3/ 270، و"تهذيب التهذيب" 8/ 63.
(2) هو أبو عبد الله إسماعيل بن أبي خالد البجلي، الأحمسي
بالولاءِ، كان محدّث الكوفة في زمانِه مع الأعمش، حدَث عن: عبد
الله بن أبي أوفى، وأبي جحيفة السُّوائي، وطارق بن شهاب، وعنه
حدَثَ: الحكمُ بن عتيبةَ، ومالك بن مِغْوَل، وشعبةُ، وسفيانُ،
وغيرُهم، يُعد من صغار التابعين الحفاظ، توفي سنة (146) هـ.
انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 240، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 53 - 154،
و"سير أعلام النبلاء" 6/ 176، و"شذرات الذهب" 1/ 216.
(3) هو أشعث بن سَوَّار الكندي الكوفي، التوابيتي، الثقفي
ولاء، حدَثَ عن: الشَّعبي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وعنه
حدَثَ: شعبة، ويزيد=
(4/436)
وعمرُو (1) بن دينار لا يروي إلا عن ثقة،
مرسلاتُ عمرٍ وأحبُّ إليَّ.
وسئلَ: أيُّما أحب إليك إبراهيمُ عن علي، أو مجاهدٌ عن علي؟
قال: إبراهيم عن عليٍّ؛ لأنَّ هذا كانَ مقيماً، وكان مجاهدٌ
إنما تقْدَمُ في الأحيان إلى الكوفة.
وسئل عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليسَ به بأسٌ، أصلحُ من
مرسلاتِ الحسن.
وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؛ قال: لأنَّ الأعمش لا
يبالي عمن حدث.
وسئل عن مرسلاتِ الأعمش، وسليمان التَيْمِي ويحيى بن أبي كثير
(2)، قال: مرسلاتُ يحيى بن أبي كثير أحبُّ إليَّ.
وقال في مرسلات يحيى بن أبي كثير: لا تعجبُني، لأنَّه روى عن
رجال ضعاف.
__________
= ابن هارون، وغيرهم، وهو من الضعفاء الذين روى لهم مسلم
متابعة، ضعَّفه أحمد وابن معين والدارقطني، توفي سنة (136) هـ.
انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 249، و"ميزان الاعتدال" 1/ 263 - 265،
و"المغني في الضعفاء" 1/ 47، و"تهذيب التهذيب" 1/ 352 - 354.
(1) في الأصل: "وعن عمرو".
(2) يحيى بن أبي كثير اليمامي الطائي مولاهم، من صغارِ
التابعين، حافظٌ مشهور، كثير الأرسال والتدليس، روى عن جماعة
من الصحابة، منهم: جابر، وأنس، وأبو أُمامة، وقيل: لم يصح له
سماع من صحابي، توفي سنة (129) وقيل (132) هـ.
انظر "تهذيب التهذيب" 11/ 268، و"تعريف أهل التقديس" (77)،
و"ميزان الاعتدال" 4/ 402، و"الضعفاء الكبير" للعقيلي 4/ 433.
(4/437)
وقال في رواية أبي الحارث: مرسلاتُ ابن
سيرين صحاح، حسنةُ المخرج.
وسأله مهنا عن مرسلاتِ سفيان (1)، قال: كان سفيانُ لا يبالي
عمَّن روى.
وسأله عن مرسلاتِ مالك، قال: هي أحبُّ إليَّ.
__________
(1) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، إمامُ الحفَّاظِ
في زمانِه، ولدَ سنة (97) هـ، روى عن: والدهِ سعيد بن مسروق،
وبهز ابن حكم، وجعفر الصادق، وغيرِهم كثير، وعنه روى خلقٌ
كثير، منهم: الأعمش، وابن جريج، وأبو داودَ الطيالسي، وغيرُهم،
قال فيه شعبةُ، وابن عيينة، ويحيى بن معين: سفيان الثوري أميرُ
المؤمنين في الحديث.
انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 1/ 376 - 374، و"تاريخ بغداد"
9/ 151 - 174، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 229 - 279، و"تهذيب
التهذيب"
(4/438)
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)
تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
الجزء الخامس
مؤسسة الرسالة
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(5/2)
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
5
(5/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت -
لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460 - برقيًا بيوشران
AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 -
319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb
(5/4)
|