الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
يجب العملُ بخبرِ الواحدِ الذي يَجُوزُ قبولُ خبرِه شرعاً وعقلاً.
نصَّ عليه صاحبُنا (2)، وبهذا قالَ جمهورُ الفقهاءِ والأصوليين.
وذهب قومٌ من أصحاب الشافعي: إلى أنه يجوز من جهة الشرع خاصة (3).
__________
(1) في الأصل: "لأجلنا".
(2) انظر هذه النصوص الواردة عن الإمام أحمد، والتي تفيد وجوب العمل بخبرِ الواحد في "العدة" 3/ 859، وارجع في هذه المسألة إلى "التمهيد" 3/ 35، و "المسودة" (238).
(3) لم يذهب أيٌّ من أصحاب الشافعي إلى أن العمل بخبر الواحد جائزٌ شرعاً -وفق ما توهم ظاهر العبارة-، بل الجميع متفق على وجوبه شرعاً، وإنما الخلاف في وجوبه عقلاً، فجمهور الشافعية على أن العمل بخبر الواحد واجب شرعاً، جائز عقلاً.
وذهب القفال، وابن سريج: إلى أنه واجب شرعاً وعقلاً.
انظر "التبصرة" (303)، و"الإحكام" 2/ 75، و"المستصفى" 1/ 148.

(4/366)


وذهب بعضهم: إلى وجوب العمل به، كقولنا، عقلاً وشرعاً، على ما قدمنا.
وذهب (1) القاساني (2): إلى أنَّه لا يجوزُ العمل به من طريق الشرع، ووافقه (3) على المنع من العمل به ابن داود، إلا أنه قال: وقد كان يجوز وجوب العمل به عقلاً، لولا منع الشرع (4).
وذهب الجبائي: إلى أنه لا يقبَلُ في الشرعيات أَقلُّ من اثنين.

فصلٌ
في جمع أدلتنا
فمنها: قولهُ تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]، فوجهُ الدلالةِ من الآيةِ: أنَّه
__________
(1) في الأصل: "وقال".
(2) هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، أخذ عن داود الظاهري، وخالفه في مسائل.
وقاسان: بلدة على ثلاثين فرسخاً من أصبهان، وأهلها روافض مجاورون لقم.
انظر "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" للحافظ 3/ 1147.
(3) في الأصل: "ووافقهم".
(4) وهذا قول خاصّ بابن داود، ولا يعبر عن موقف الظاهرية من خبر الواحد، يؤكد ذلك: ما نقله ابن حزم في "الإحكام" 1/ 108 عن داود الظاهري؛ من وجوب العمل بخبر الواحد، بل كونه مفيداً للعلم أيضاً، ونصر هذا، ودافع عنه، وأنكر على المخالف.

(4/367)


أوجبَ أن يتخلف عن النفورِ إلى الجهادِ قومٌ، كما أوجبَ أنْ ينفرَ إلى الجهادِ قومٌ، وعلّل في ذلك: أن تكونَ الطائفةُ المتخلفةُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، تحفظُ ما يقولُ، وتعي ما يردُ به الوحيُ من الناسخِ، وما يشرعُ، وتُنذِرُ به من تخلفَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشغله بالجهادِ، وغيبتِه عنه، ولو لم يجب على الغائبِ التعويلُ على بلاغ الحاضرِ، لما كان للأمرِ بالإنذارِ معنى، فدلَّ على وجوبِ الأخذِ بقولهم، وإن كانوا طائفةً يسيرةً، لا يبلغونَ إلى حدِّ التواترِ.

فصلٌ
في الأسئلة على هذه الآية
قالوا: وجوب الإنذارِ لا يدلُّ على وجوبِ العملِ بقول المنذرِ، بدليل الشاهدِ الواحدِ، والشاهدين اللذين ظاهرُهما العدالةُ، لكن الحاكمُ لا يعلمُ عدالةَ باطنِهما، فإنَّ الله تعالى أَوْجبَ بلاغَها، ونهى عن كَتْمِها، فقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ومع ذلك لا يلزمُ العملُ بقولِ الواحد، ولا يقولِ من ظاهرهُ العدالةُ فيما يعتبرُ فيه البحثُ.

فصلٌ
إذا كان غرضُ الإبلاع العملَ والإنذارَ، فلا يجوزُ أن يَعْرى إيجابُ السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غرضه، ولهذا لو صرح، فقال: {ولِيُنْذِرُوا قومَهم} [التوبة: 122]، فلم (1) يَعملِ القومُ بإنذارِهم، لما حسنَ هذا، وكان كلاماً خارجاً عن الفائدةِ والإحكامِ.
__________
(1) في الأصل: "فلا".

(4/368)


وأمَّا الشاهدُ الواحدُ، فيجبُ عليه الإبلاع، لأنَّه يمكنُ بناءُ اليمينِ عليه فيما يقبلُ الشاهدَ واليمينَ، وإتمامُ العددِ مكانِ النصِّ عدى عدد مخصوصٍ، وها هنا لم نَعتبِرْ عدداً، فننتظرَه، ولا توقفَ الإنذارُ عليه، فيُعلَّقَ وجوبُ العملِ به، لأنَّ الأصلَ ما ذكرنا، وأنَّ كلَّ من وجبَ عليه الإعلامُ لشخصٍ (1)، وجبَ على الشخص الذي أُعلِمَ العملُ بقوله، كالأذان لما وجبَ، وجبَ إجابته بالعملِ به صلاةً، وإفطاراً في المغربِ، أو إمساكاً في الفجر، وكذلك الفتوى، وكذلكَ تبليغُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته؛ حيث قيل له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، فإنه حيثُ وجبَ عليه ذلك، وجبَ على المُبلَّغينَ من الأُمَّةِ العملُ به.
فإن قيل: الحذرُ لا يعطي العملَ بخبرهم إلا على وجهٍ؛ وهو أنْ ينظرَ في التبليغِ والإنذارِ، ويعمل بما يقتضيه الدليلُ، فأمَّا أن يوجبَ قبولَ خبرِه، فلا.
قيل: الحذرُ المُعَلَّقُ على إنذارِهم، يقتضي أنَّه حذَّرَ من مخالفةِ إنذارهم، وتركِ العملِ به، فأمَّا أن ينضمَّ إلى إنذارهم دليل، فلا وجه له، ولا يعطي ظاهرُ الآيةِ ذلك، ومن لم يعمل بخبرِ المنذِر فما (2) حَذِرَ، فالآية تقتضي الحذرَ بمجردِ الإنذارِ، ولو كان ذلك واقفاً على دليلٍ، لم يكن عملاً بالإنذار، بل كانَ العمل بذلك الدليل.
فإن قيل: لا حجةَ في الآيةِ؛ لأنَّ الطائفةَ قد تقعُ على ما يحصلُ به العددُ الذي يحصلُ بخبرِهم العلم: الأربعةُ، والاثنا عشر،
__________
(1) في الأصل: "بشخص".
(2) في الأصل: "فيما".

(4/369)


والسبعون (1) والثلاثُ مئةٍ وبضع، وإذا لم يتخصص بعددٍ، لم يكن في الآيةِ حجةٌ.
قيل: قد تقعُ الطائفةُ على أقل قليل، وهو الواحدُ، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال محمد بن كعب في قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 66]: كان رجلاً واحداً (2)، وقيل في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2]، قيل: أقلها واحدٌ.
على أنَّنا أجمعنا على أن سماع العلمِ فرضٌ على الكفاية، وأنه لو تخلفَ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من يسمع منه، ولو واحداً (3)، سقطَ عن كافَّةِ أصحابِه رضوان الله عليهم، ومَن سَقَطَ بحضورِه الفرضُ عن الكل، هو الذي وجب الحذرُ بإنذارِه.
فإن قيل: إنَّما المرادُ بالإنذارِ الفتيا من العلماءِ، وذلك يجب قبوله على العوام، فنحن قائلون بما جاءت فيه، ويشهد لذلك: ما في نطق الآية من قولِه: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا} [التوبة: 122] , ولم يقل: لينقلوا، أو: ليسمعوا، فيخب (4 فالمقصود: علمُ 4) أحكام الشريعة.
قيل: كل مسموع من (4 النبي - صلى الله عليه وسلم - 4) يسمى فقهاً، لا سيما في حق الصحابة مع فقههم لكلامه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلم من
__________
(1) في الأصل: "والسبعين".
(2) انظر "تفسير الطبري" 14/ 336 تحقيق أحمد شاكر.
(3) في الأصل: "واحد".
(4 - 4) طمس في الأصل.

(4/370)


كل خل عدولُه" (1) فكانت الأخبارُ علماً، وقال: "رحم الله -وروي: نَضَّرَ الله- امرأً سمعَ مقالتي، فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه" (2) فكان قوله المحمول فقهاً، ولأنَّ في الفتيا من الحجةِ مثل (3 ما في قول واحدٍ 3)، يقول قولاً غير معصوم من الخطأ، كما أن القائل غير معصوم من السهوِ والغلطِ أو الكذب، فإذا (3 أخطأ أحدهما في 3) التحذير، كان الآخر مثله، (3 وحكَمه حكمه، كما في 3) قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وتقييده يمنعُ أن يكونَ العدلُ (3 مراداً، فيبطل 3) تقييد القرآن بالفسق، ويخرج عن الفائدة إذ لم نخص التَّبيُّن بالفاسق، ويكون العدل عندها كالفاسق في إيجاب التَّبيُّن. وهذه الآية ينبني الاستدلال بها على دليلِ الخطاب في نقلِ المستفيض الذي لا يعتريه شك، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُنفِذُ آحاداً من أصحابه في النواحي والبلاد حاملين الكتب رسلاً، مثل كتابه إلى قيصر: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآيات, وأمَّر أبا بكر الصديق أميراً على الحاج، وعمرَ ساعياً على الصدقة، وعلياً قاضياً على اليمن، وعَتَّابَ بنَ أَسيدٍ، ومعاذ بن جبل، وكَلَّفَ كلَّ أهلِ ناحيةٍ طاعةَ من أَنفْذَ به إليهم، والعملَ بما بعثهم به، وندبهم له، وطاعتَهم في ذلك، وهم آحاد.
فإن قيل: يجوزُ أن يكونَ بعَثَهم إلى قومٍ في أحكامٍ علموها قبل بَعْثِه هؤلاء الآحادَ؛ بالتواترِ السابقِ لبَعْثِهم، كما أنهم علموا وجوبَ
__________
(1) رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (14) و (52) و (55) و (56)، وذكره التبريزي في "مشكاة المصابيح" (248).
(2) تقدم تخريجه 1/ 7.
(3 - 3) طمس في الأصل.

(4/371)


العملِ بخبر الواحد قبل بَعْثِه الرسلَ على قولكم.
قيل: لو كانَ نُقِلَ إليهم نقلاً متواتراً، لكان قد نُقِلَ إلينا، وعرفناه، كما علمنا جميعَ ما حصلَ به نقلُ التواتر.
وأمَّا وجوبُ العمل بخبرِ الواحد، فإنَّهم كانوا علموه بما شاعَ من بعثهِ الرُّسلَ إلى كلِّ جهةٍ.
فإن قيل: فقد كانَ يبعثُ بآحادِ الرسلِ يدعو إلى الإيمانِ، وإن لم يكن ذلك معلوماً من جهةِ الرُسلِ، فكذلكَ بعثَ برسلِه بالأحكامِ، وإن لم يكن ذلك معلوماً من جهةِ الرُّسلِ.
قيل: الإيمانُ معلومٌ عقلاً، ولكن وجوبُه الذي بَعَثَ به رسلَه لأجلِه، لم يُعلَمْ إلا من جهةِ رسلِه، وعند المخالفِ يُعلَمُ ذلكَ بالعقلِ، ولكن بَعَثَ من يُنبِّهُهُم على إعمالِ الفكرِ والنظرِ في الدليل.
ومنها: إجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم على عملِهم بخبرِ الواحد، ومن ذلك: عملُ أبي بكر الصديق بخبر المغيرةِ ومحمد بن مَسْلَمةَ في ميراثِ الجدة، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدسَ، فجعلَ لها السدس (1).
__________
(1) ورد ذلك من حديث قَبِيصةَ بن ذُؤَيبٍ، قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها، قال: فقال: ما لَكِ في كتابِ الله شي، ءٌ وما لَكِ في سَنَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ بلا، فارجعي حتى أسال الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدسَ. فقال أبو بكر رضي الله عنه: هل معك غيرك؛ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فانفذه لها أبو بكر.
أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 513، وأبو داود (2894)، والترمذي (2101)، وابن ماجه (2724)، وابن حبان (1224)، وصححه، والحاكم =

(4/372)


ومن ذلك: عملُ عمرَ رضي الله عنه بخبرِ عبد الرحمن بن عوف في أخذِ الجزية من المجوس، وقوله: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتاب" (1).
وعملَ بخبرِ حَمَلِ بن مالك في الجنين، وقال: لولا هذا لقضيتُ بغيرِه (2). ورويَ أنَّه قال: كِدْنا أن نقضيَ فيه برأينا (3).
__________
= 4/ 338، ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" 3/ 82: وإسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قَبِيصةَ لا يصح له سماعٌ من الصدِّيقِ، ولا يمكن شهوده القصة.
(1) هذا اللفظ أخرجه مالك 1/ 278، وقال ابن حجر: هذا حديث غريب، وسنده منقطع أو معضل. "موافقة الخبر" 2/ 179.
قلت: وورد في الصحيح عملُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. من غير قوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
أخرجه البخاري (3156)، وأبو داود (3043)، والترمذي (1587).
(2) في الأصل: "بغير".
(3) أخرجه أبو داود (4572) من طريق ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع طاووساً، عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل عن قضية النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمِسْطَحٍ، فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغُزَةٍ، وأن تقتل. وإسناده صحيح.
وأخرجه أيضاً (4573) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، قال: قام عمر رضي الله عنه على المنبر، فذكر معناه. ولم يذكر: "وأن تقتل"، بل زاد: "بغُرَّةٍ: عبدٍ، أو أَمَيةٍ"، قال: فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا، لقضينا بغير هذا. وهذا منقطع، طاووس لم يسمع من عمر.

(4/373)


وعمل بحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها (1).
ومن ذلك: عملُ عليٍّ وعثمانَ بخبر فُرَيعةَ بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها (2).
__________
(1) روى سعيد بن المسيب، قال: كان عمر بن الخطاب يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أُوَرِّثَ امرأةَ أَشْيمَ الضِّبابِيِّ من دية زوجها. فرجع عمر.
أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (2110)، وابن ماجه (2642)، والطبراني في "الكبير" 8/ 360. ورجاله ثقات، إلا أن في سماع سعيدٍ من عمرَ خلافاً، وله شاهد يتقوى به من حديث المغيرة بن شعبة عند الدارقطني 4/ 76.
(2) نص الحديث: أن الفريعةَ بنت مالك بن سنان جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجعَ إلى أهلها في بني خُدْرةَ، فإن زوجها خرج في طلب أعبدٍ له أَبَقُوا، حتى إذا كان بطرف القَدُومِ لحقهم، فقتلوه، فَسَأَلتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ترجعَ إلى أهلها، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" قالت: فخرجتُ حتى إذا كنت في الحجرة أو المسجد، دعاني، أو أَمَرَ بي فدُعِيتُ له، فقال: "كيف قلتِ؟ " فَرَدَدْتُ عليه القصة التي ذكرتُ من شأن زوجي، قالت: فقال: "امكثي في بيتك حتى يَبلغَ الكتابُ أجَلَه" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان، أرسلَ إلي، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه، وقضى به.
أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، وابن ماجه (2031)، والنسائي 6/ 199، وصححه ابن حبان (1332)، والحاكم 2/ 208، ووافقه الذهبي. مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.

(4/374)


ومن ذلك: عملُ ابنِ عمرَ بحديثِ رافعِ بن خَدِيجٍ في الانتهاءِ عن المخابرةِ (1).
ومن ذلك: عملُ ابن عباس بخبرِ أبي سعيد الخُدْريِّ في الرِّبا في النَّقْدِ، بعد أن كان لا يحكمُ بالرِّبا إِلا في النَّسِيئَةِ (2).
ومن ذلك: عملُ زيد بن ثابت بخبر امرأةٍ من الأنصار: أن الحائض تَنْفِرُ بلا وداعٍ (3).
ومن ذلك؛ ما رويَ عن أنس بن مالك: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب شراباً من فَضِيخٍ، إذ أتانا آت، فقال: إنَّ الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنسِ إلى هذه الجرارِ، فاكسرها، قال: فقمت إلى مِهْراسٍ لنا، فضرَبْتُها (4) بأَسْفلِهَ حتى
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 220.
(2) خبر أبي سعيد الخدري تقدم تخريجه، ورجوع ابن عباس عن قوله: لا ربا إلا بالنسيئة. أخرجه البيهقي 5/ 281 - 282.
(3) قول زيد: بلزوم الحائض طواف الوداع، وإن طافت الإفاضة: أخرجه البخاري (1758) و (1759): أن أهلَ المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفرُ، قالوا: نأخذ بقولك، وندع قول زيد! قال: إذا قدمتم المدينة، فسلوا. فقدموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أثمَ سُلَيْمٍ، فذكرت حديث صفية: "أحابستنا هي".
ورجوع زيد عن قوله هذا: أخرجه مسلم (1328) (381) من حديث طاووس، قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال زيدُ بن ثابت: تفتي أن تَصْدُرَ الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؛ فقال له ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت.
(4) في الأصل: "فضربها".

(4/375)


تكسَّرَتْ (1).
ومن ذلك: ما ظهر واشتهر من عمل أهل قباء في التحول من القبلة بخبر الواحد، فالتفتوا بخبره إلى الكعبة (2).
ومن ذلك: ما روي عن ابن عباس، أنه بلغه عن رجل، أنه قال: إنَّ موسى صاحب الخَضِرِ ليس بموسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذبَ عدوُّ الله، أخبرني أبيُّ بن كعب، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكرَ موسى والخَضِرَ بشيءٍ يدلُّ على أنَّ موسى بني إسرائيل صاحب الخَضِرِ (3)،، فعمل بخبر أبى إلى حدٍّ كَذَّبَ الرجلَ، وسمَّاه عدوَّ الله، تعويلاً على خبر الواحد.
وعملوا كلهم بخبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن الأئمة من قريش (4)، وبحديث عائشة في التقاءِ الخِتانَيْنِ، ووجوبِ الغسل من
__________
(1) أخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 183 و 189 - 190، والبخاري (5583) و (5622)، ومسلم (1980) (5) و (6)، والنسائي 8/ 287، وابن حبان (5352)، والبيهقي 8/ 295، والفضيخ: أن يفضخ البسر، ويصب عليه الماء، ويتركه حتى يغلي، أما المهراس: فهو حجرٌ منقور.
(2) تقدم تخريجه 2/ 441.
(3) ورد ذلك من حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكاليَّ يزعم أن موسى عليه السلام صاحب بني إسرائيل، ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام، فقال: كذب عدو الله .... الحديث.
أخرجه البخاري (3401)، ومسلم (2380)، وابن حبان (6220)، وقوله: كذب عدو الله، هو على وجه الإغلاط، مبالغة في إنكار قوله؛ لمخالفته قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(4) قال الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" 1/ 480: ليس هذا =

(4/376)


غير إِنزالٍ (1).

فصل
في الأسئلةِ على قضايا الصحابة بخبرِ الواحدِ
فمنهاْ قولهمْ هذه أخبارُ آحاد، فكيف يُحتَجُّ بأخبار الاَحاد، والخلافُ في أخبار الآحاد؟!
فيقال: هي تواتر من طريقِ المعنى، وليس إذا كانت آحادُ الجملةِ آحاداً، والجملة تواتراً، تعطى الجملةُ أحكامَ الآحادِ، كشجاعةِ عليٍّ، وسخاءِ حاتمٍ، وفصاحةِ قُسٍّ، وفهاهةِ باقِلٍ، هذه أمورٌ تواترت، وإن كانت آحادُها آحاداً في النقلِ.
وعلى أنَّه يبعدُ أن تكون هذه الأخبار مع كثرتِها خطأً أو كذباً (2).
__________
=اللفظ موجوداً في كتب الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه، وإنما في الصحيحين وغيرهما في قصة السقيفة: قولُ أبي بكر: إن العربَ لا تَعْرِفُ هذا الأمرَ إلا لهذا الحي من قريش.
وقد ذكره البخاري من قول أبي بكر (6830)، أما مسلم فقد ذكره مختصراً، وليس فيه محل الشاهد.
وحديث: "الأئمة من قريش" صحيح بمعناه، إذ أخرج البخاري (7140)، ومسلم (1820) من حديث ابن عمر: "لا يزال هذا الأمرُ في قريش ما بقيَ في الناسِ اثنان".
وأخرج البخاري (7139) من حديث معاوية: "لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كَبَّه الله على وجهِه، ما أَقامُوا الدِّينَ".
(1) تقدم تخريجه ص (131).
(2) في الأصل: "كذب".

(4/377)


ومنها: أن قالوا: تلكَ آحاد استندت إلى دلالةٍ قطعيةٍ، وهي إجماعُ الصحابةِ، فإنَّهم لم ينكروا خبراً منها، فصار إمساكهم عن النكير إجماعاً على قبولها، وهذه الأخبار لا حجةَ معها.
فيقال: لو كانَ عندهم من ذلك ما عند الراوي، لما أشكلت عليهم الأحكامُ التي تضمنتها الأخبارُ، فلما كانوا قبل الروايةِ واقفين في الأحكامِ، عُلِمَ أنَّهم لم يعلموا ذلك، ولا علموا (1) إلا بها.
ومنها: أن قالوا: إن تعلقتم بقبولِ من قبلها، قابلناكم بردِّ من رَدَّها، وليس أحدُهما بأَوْلى من الآخرِ، وبطل دعوى الإجماع منكم، والدلالةُ على ما ادعينا من الردِّ المرويِّ عنهم لأخبارِ الآحَادِ: ما رويَ أنَّ أبا بكرٍ لم يقبل خبرَ المغيرةِ في ميراث الجدةِ حتى انضمَّ إليه خبرُ محمد بن مسلمة.
وعمر رَدَّ حديثَ أبي موسى في الاستئذانِ، وهو أنَّ أبا موسى استأذن على عمرَ ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرفَ، فبعثَ إليه عمرُ: لِمَ انصرفتَ؛ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا استأذنَ أحدُكم على صاحبهِ ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف" فقال: من يشهدُ لك؟
فمضى أبو موسى إلى الأنصارِ، فقالوا: نبعثُ معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري. فلم يقبل قولَه حتى روى معه أبو سعيد الخدري (2).
__________
(1) في الأصل: "عملوا".
(2) أخرجه مالك 2/ 963 - 964، والبخاري (2062) و (6245) و (7353)، ومسلم (2153)، وأبو داود (5180) و (5181) و (5182)، والتر مذي (2690).

(4/378)


وعليُّ بن أبي طالب رَدَّ حديث ابن سنان في المفوِّضةِ (1)، وكان لا يقبلُ خبرَ الواحدِ حتى يستحلفه إلا أبا بكر؛ فإنَّه كانَ يقبلُ خبرَه بغيرِ يمين (2).
فيقال: قبولُهم -على ما بيناه- دليلٌ على وجوبِ العملِ بها،
__________
(1) في الأصل: "الموصوفة"، وحديث معقل بن سنان تقدم تخريجه 3/ 109 في قصة بَرْوَعَ بنت واشِقٍ؛ حيث مات زوجها، ولم يسمِّ لها صداقاً، فروى معقل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لبَرْوعَ بمهر مثلها، وعليها العدة.
وفي "مصنف عبد الرزاق" (10894 هـ): أن علياً كان يجعل لها الميراث، وعليها العدة، ولا يجعل لها صداقاً، وأخبر بقول معقل، فقال: لا تصدق الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي "سنن سعيد بن منصور" (927) من طريق هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي -وهو ضعيف جداً-، عن مزيدة بن جابر -وليس بشيء-، أن علياً رضي الله عنه، قال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله عز وجل.
وانظر تعليق ابن التركماني على هذا الأثر في "الجوهر النقي" 7/ 247.
(2) ورد ما يشير إلى ذلك في قول علي رضي الله عنه: إني كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه، استحلفته، فإذا حلف لي، صدقته، قال: وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له" ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...} [آل عمران: 135].
أخرجه أبو داود (1521)، والترمذي (406) و (3009)، وابن ماجه (1395)، وصححه ابن حبان (245)، والطيالسي (1) و (2).

(4/379)


وردُّهم لا يدلُّ على عدم العملِ بها (1)، بل يجوزُ أن يكونَ لشبهةٍ تعرضُ في خبرِ الواحد، أَو معنىً وعِلَّةٍ ظهرت، فأوجبت الردَّ لذلك الخبرِ، ألا ترى أنَّ خبرَ التواترِ قد أجمعنا على العملِ به، وإن كنا نردُّ التواترَ لِعلَّةٍ؛ مثلِ تواترِ خبرِ النصارى أنَّ المسيحَ صُلِبَ.
والذي يوضِّحُ أنَّ الردَّ إنما حصلَ لعِلَّةٍ: هو قولُ عمرَ في خبرِ الاستئذانِ لأبي موسى: فقلتُ ذلكَ لكي لا تجترىءَ على رسول الله.
وقالَ علي في حديثِ ابن سنان (2): أعرابيٌّ بوَّال على قدميه. أي: لا يعرف الأحكام.
وأيضاً من طريق الاستدلالِ بالاستنباط: أنَّ العقل يوجبُ الاحتياطَ من المضار، وخبرُ الواحدِ العدلِ الثقةِ الذي لم يُجرَّب (3) عليه الكذبُ، يترجحُ صدقُه على كذبه، وإن كان الكذبُ جائزاً عليه، وإذا تَرجحَ صدقُه فيما يخبرُ به عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، غلَبَ على الظنِّ اقتحامُ الإثمِ وحصولُ الضررِ بمخالفتِه، وهذا أمر يقتضيه العقلُ، وقد عضدَ ذلكَ ما اتفق العقلاءُ عليه من المتدينين وغيرِهم، أنَّ الرجوعَ إلى قولِ الواحدِ في التَّحَرُّزِ من المَضارِّ من عزائمِ العقلاءِ ومقتضى رأيهم، كإخبار الثقةِ بسَبُعٍ في طريقٍ يريدُ سلوكَه، أو الإخبارِ عن رياحٍ مهلكةٍ في بحرٍ يريدُ ركوبَه، كلُّ ذلكَ يوجبُ العقلُ التحرزَ منه عملاً بخبرِ الواحدِ.
ومن ذلك: أنَّه إخبار عن حكمٍ شرعي، فجازَ قبولُ خبرِ الواحدِ فيه؛ كالاستفتاءِ في الحوادثِ لآحاد المجتهدين.
__________
(1) في الأصل: "به".
(2) في الأصل: "أبي يسار".
(3) في الأصل: "بحرف"

(4/380)


وأيضاً: لو لم يجب العملُ بخبرِ الواحدِ، لوجبَ أن يكونَ ما بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عصرِه يختصُّ بمن سمع من لفظِه ونطقِه، ولا يلزمُ غيرَه اعتقادُه والعملُ به، لأنَّه لا يتحققُ نقلُ جميع ما بَيَّنَه وبَلَّغَه عن الله نقلاً متواتراً، وهذا يقطعُ عنا أكثرَ الشريعةِ، ومعظمَ أحكامِها، وهذا من أكبرِ المفاسدِ.
فإن قيل: هذا يوجبُ قبولَ خبرِ الفاسِق؛ لئلا يفضيَ إلى فواتِ العملِ بأحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلكَ خبر الكافرِ، لئلا يفضيَ إلى انقطاعِ ذلكَ عنَّا برد خبرِه إلى المفاسدِ العظيمةِ، فلما لم يجز قبولُ خبرِ الكافرِ والفاسقِ لحرصِنا على العملِ بأحكامِ الشريعةِ التي سُمعت من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طلباً لشرطِ العملِ، وهو حصولُ الثقةِ والعلمِ، فكذلكَ لا يلزمُ العملُ بخبرِ الواحدِ؛ لعدمِ العلمِ بخبرهِ، وتجويز الكذبِ عليه.
قيل: الفاسقُ يغلبُ على الظن كذبُه، لأنَّ تُهْمتَه ظاهرةٌ في ارتكاب محظور دِينِه، ومن ارتكبَ محظورَ دينِه فعلاً وقولاً، لم يُوثَقْ منه إلى خبر، لأنَّه قولٌ من جملةِ أقوالِه، فلا يتخلص لنا صدقه من كذبهِ، وليس من حيثُ رددنا قولَ المتهمِ نردُّ قولَ المغلبِ صدقُه، الموثوقِ إلى قوله؛ لسلامةِ أفعاله، ولذلكَ قبلنا قولَ المفتي والشاهدين مع كوننا لا نعلمُ إصابةَ المفتي، ولا صدقَ الشاهدين، لكنَّنا ظننا الصدقَ والإصابةَ، ولم يوجب ذلك علينا قبولَ قولِ المفتي والشاهدِ، إذا كانا فاسقين.

(4/381)


فصل
في شبههم
فمنها: أن قالوا: قولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، وذَمَّ اتباعَ الظن، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، وقال: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، وخبرُ الواحد ليس بموجبٍ للعلم، فقد دخلَ العملُ به تحت النهيِ، ويوجبُ الظنَّ، فقد دخلَ تحت ذَمِّ المتبعين للظنِّ.
فيقال: إنَّ الطريقَ إلى العملِ بخبرِ الواحدِ مَعْلومٌ، فَعَمَلُنا بهِ عملٌ بالعلمِ، وإن كانَ هو في نفسِه مُوجباً للظن، ولأنَّ الآيةَ مشتركةُ الدلالةِ؛ لأنَّه لو كانَ العملُ بخبرِ الواحدِ، عملاً بما لا علمَ له به، (1 ويدخل تحت النهي، كان الأخذ بالشهادة والفتيا داخل تحت النهي؛ لانه خبر واحدٍ 1) ولأنه محمولٌ على الظنِّ الذي لا يستندُ إلى دليلٍ يوجبُ العملَ.
جوابٌ آخر: وهو أنَّ الدليلَ قد دلَّ على أنَّ العملَ بخبرِ الواحدِ خارجٌ مخصوصٌ عن عمومِ الآيةِ، بدليلِ وجوب قبولِ قولِ الشاهدِ والمفتي، وإن كانَ قولُ الشاهدِ مجوّزاً عليه الكَذبُ، وقولُ المفتي مُجوَّزاً عليه الخطأ.
ومنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إلى قولِ الواحدِ، حيث رَد خبرَ ذي اليدينِ؛ حيث قالَ له: أَقَصُرَتِ الصلاةُ، أم نَسِيتَ؟ وعدلَ إلى الاستزادةِ على خبرِه، فسألَ أبا بكر وعمرَ وغيرَهما مِمَّن كان في الصفِّ عن صدقِه، فقال: "أحقٌّ ما يقولُ ذو اليدين؟ " فلما خَبَّراه
__________
(1 - 1) ليست في الأصل، ولا بد منها لاستقامة المعنى.

(4/382)


بذلك، تَمَّمَ وسجدَ سجدتي السهو (1).
فيقال: إنَّه لا حجةَ في الخبرِ؛ لأنَّه قد يكونُ غيرَ واثقٍ بقول ذي اليدين لمعنى يخصُّه، ويجوزُ أن يكونَ قدَّمَ ما كانَ يجدُ في نفسِه من الإتمامِ على خبرِه، وإخبارُ الأنسانِ عن فعلِ نفسِه يحتاجُ إلى زيادةٍ على إخبارِه عن غيره، وعساه ذكرَ بعد ذلكَ عند قول أبي بكر وعمر، لا أنه أوقفَ العملَ على قولِهما، وعساه احتاطَ في ذلك.
على أنَّ قول أبي بكرٍ وعمرَ لا يُخرٍ جُ العملَ عن كونِه عملاً بخبرِ (2) الواحدِ، ولا يخرجُ به خبرهما وخبرُ ذي اليدين عن كونهِ خبرَ واحد، إذ ليسَ ذلك بتواترٍ.
ومنها: أن قالوا: لو وجبَ العملُ بخبرِ الواحدِ من غيرِ دليل، لوجبَ قبول خبرِ من يَدَّعي النبوةَ من غير دليل.
فيقال: نعارضكم بمثلِه، فنقول: لو جازَ رد خبرِ الواحدِ من غيرِ دليل، لجازَ ردُّ قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ دليلٍ، ولأنَّه إذا جازَ أن نقبلَ قول المفتي والشاهدِ من غيرِ حجةٍ، وإن لم نقبل دعوى النبوةِ من غير حجة، جازَ أن نقبلَ خبرَ الواحد، وإن لم نقبل دعوى النبوةِ من غير حجةٍ.
وعلى أنَّ خبرَ الواحدِ لا يقبلُ إلا بدليلٍ، وهو ما دلَّلنا به على العملِ به من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وفارقَ دعوى النبوة؛ فإن هناك لم تعلم نبوته إلا من جهةٍ، وهو ما يوجب القطعَ والعلمَ، ولم يقم دليل على صحته، فلم تثبت، وهاهنا الشرعُ قد ثبتَ قبلَه، وعلم
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 550.
(2) في الأصل: "عن خبر".

(4/383)


من جهتِه قبولُه، فوجبَ المصيرُ إليه.
ومنها: قولهم: لو جازَ قبولُ خبرِ الواحد في فروعِ الدينِ، لجاز قبولُه في أصولِ الدين؛ كالنبواتِ، وإثباتِ الصفاتِ.
فيقال: إنَّ أصولَ الدين لها أدلة قطعية تغني عن قبولِ الأدلةِ الظنيّهِ، ولذلكَ لا يجوزُ التقليدُ فيها بالرجوع إلى قولِ المفتي، وصار الأصل لسائرِ العقلاءِ كالقِبلةِ لمن شاهدها، وهذه الفروعُ كالقبلةِ (1) لمن غاب عنها، يرجعُ إلى الاستدلالِ إن كانَ من أهلِ العلم بدلائلها، أو إلى تقليدِ الرجالِ العارفين بها.
ومنها: أن قالوا: الأصلُ براءةُ الذِّمَمِ من الحقوقِ، والعباداتِ، وتحمُّلِ المشاقِّ، وذلكَ ثابتٌ بدليلِ العقلِ القطعي، فلا يجوزُ إزالةُ اليقينِ والقطعِ بخبرِ الواحد المتردد بينَ الصدق والكذب، فيكونُ ذلك إزالةَ اليقينِ بالشك.
فيقال له: ما أزلنا اليقينَ إلا بيقينٍ (2) مثلِه، وهو دليلُ العملِ بخبرِ الواحد؛ لأنَّه الإجماعُ وأدلةُ العقلِ التي ذكرناها، وإن كانَ ما يتضمنه غيرَ مُتيقَّنٍ، ولأنَّ هذا باطل بالشهادةِ والفتيا؛ فإنهما ظنٌّ، ومع ذلكَ شغلت بهما الذِّمَمُ، وأُرِيقَت (3) بهما الدماءُ، ولأنَّ خبرَ الواحدِ ليس بشك، لأن الشك ما ترددَ بينَ أمرينِ: الصدقِ والكذبِ سواءً، وليسَ كذلكَ خبرُ العدلِ، فإنَّه يترجَّحُ إلى الصدقِ، كما يترجحُ قولُ الشاهدِ والمفتي.
__________
(1) في الأصل: "القبلة".
(2) في الأصل: "يقين".
(3) في الأصل: "وأريق".

(4/384)


على أنَّ الأصلَ لِم يبقَ على القطعِ مع ورودِ خبرِ الواحدِ، وإن كانَ باقياً على ما كان بعدَ ورودِ الخبرِ، لفسَّقْنا المخالفَ أو كَفَّرْناه، كما نُفسِّقُه ونكفِّرُه بالقولِ بإيجابِ حقٍّ لمجرد الشك والحدس.
ومنها: أن قالوا: إيجابُ العملِ بخبرِ الواحدِ يفضي إلى تركِ العملِ بخبرِ الواحدِ، ويفضي إلى التوقفِ عن العملِ بظواهرِ القرآنِ وعموماتِه، لأنَّه ما من عمل يُرْوَى له، فيُعمَلُ به، إلا وهو يجوز أن يكونَ هناك خبرٌ يقضي عليه؛ بأن يكون أَوْلى منه، أو يَتعلَّقُ بظاهر آيةٍ، إلا ويجوزُ أن يكونَ هناك خبرٌ يصرفه عن ذلك الظاهرِ، ولا يتعلقُ بعمومٍ، إلا ويجوزُ أن يكونَ هناك خبرٌ يختص به ذلك العموم، فيقفُ العملُ بالآي والأخبارِ، وذلك باطلٌ، فكل ما يفضي إلى ذلك، يجب أن يكونَ بَاطلاً.
فيقال: إن الحكمَ ببعضِ الأدلةِ، والعملَ به، لا يقفُ على ما عساه يكونُ قاضياً عليه، أو ما هو أَوْلى منه، وإن جَوَّزْنا ظهورَ ذلك؛ بدليلِ أنَّ لنا ناسخاً.، وأدلةً تستنبط، توجبُ تخصيصَ الظواهرِ، ومعلومٌ أنَّ الآيَ والأخبارَ المسموعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ بها مَن كان بعيداً عن المدينةِ، مع تجويزِ النسخِ لذلك المعمولِ به، ولا يمنعُ ذلك وجوبَ العملِ به، وتركَ التوقفِ الذي أشرتَ إليه.
على أنَّه لو كانَ تجويزُ ما هو أَوْلى منه من الأدلةِ يمنعُ العملَ بما يقعُ منها إلى المجتهدِ، لوجب أن لا يجوز للحاكم أن يحكمَ بشهادةٍ، ولا للعامي أن يعمل بفتوى مجتهد؛ لجوازِ أن يكون هناك ما هو أَوْلى منه، أو ما يقضي عليه من بيِّنَةٍ طاعنة في الشاهدِ، أو قاضيةٍ على ما شهدَ به، وكانَ يجبُ أن يكونَ هذا مانعاً من العملِ

(4/385)


بأدلةِ الاجتهادِ المستنبطةِ، لجوازِ أن يكونَ هناك دليلٌ هو أَوْلى منه، فيؤدي ذلك إلى إبطالِه، فلمَّا لم يجز ما قالوه في إبطالِ أدلَّةِ الاجتهادِ، لم يجز أن يكون مبطلاً للأخبارِ.
ومنها: أن قالوا: لما لم يجز للعالِمِ أن يُقَلِّدَ العالِمَ، لم يجب العملُ بخبرِ الواحدِ.
فيقال: إنَّما لم يجز أن يقِّدَ العالِمُ العالِمَ؛ لأنَّه معه مثلُ الآلةِ التي معه، وليسَ كذلكَ الراوي مع المرويِّ له، فإنَّه ليسَ مع المرويِ له مثلُ ما مع الراوي، فلذا وجبَ العملُ بما رواه حتى لا تتعطلَ أحكامُ الشريعة.
ومنها: أن قالوا: طريقُ هذا: السمعُ، وقد طلبنا، فلم نجد.
فيقال: قد أوجدناك بما روينا في ذلك، على أنك قد يجوزُ عليك الفتورُ والتقصيرُ في الطَّلَبِ، ولو صدقتَ الطلبَ، لوَجَدْتَ.