الواضح في أصول الفقه

فصل
في الدلالةِ على فسادِ مقالتهم
بأنَّ (2) إحالةَ ذلكَ؛ لِمَا ركزَ الله سبحانه في طباعِ الآدميين؛ من توفيرِ الدواعي على نقلِ ما علموا، وكشفِ ما انفردوا بإدراكه، إلى من لم يدركه، ومَن لَحَظَ الطباعَ أولاً من نفسه، ثمَّ مِن غيرِه، عَلِمَ أن الكتمَ ثقيلٌ على النفوسِ، صعبٌ على الطباعِ؛ حتى كأنَ قائلاً يقول من داخل: أَشِعْ (3)، واكشف، وأعلن ما رأيت وسمعت (4)، قال الله تعالى: {قيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ} [يس: 26]، وهي الغاية في النعيم، التفت إلى ورائه، فقال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]، حبّاً لإشاعةِ ما وصلَ إليه؛ إما لمفاخرةٍ، أو ترغيب غيرِه في سلوكِ ما سلكه من الصبرِ على البلاء في إيمانه، أو لأيِّ علةٍ كانت، حتى قال العقلاء: أَثقل على القلبِ من السرِّ، حتى على نفوسهم لا يكتمون، وقولهم: وسرُّ الثلاثة غيرُ الخفي، وما اجتمع قوم على شيء ألذَّ من الحديث، حتى قالَ قائلُهم:
ولقد سئمتُ مآربي ... فكأنَّ أكثرَها خبيثُ
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
__________
(1) خبر موضعوع، لا يصح عن النبي فى. انظر "الأسرار المردوعة" (443)، و"اللالىء المصنوعة في الأحاديث الموضعوعة" 1/ 359.
(2) في الأصل: "بان".
(3) في الأصل: "امسع".
(4) طمس في الأصل.

(4/348)


واجتماعُ العرب على السَّمَرِ، وقالوا: لم يبقَ من لذاتِ الدنيا أطيبَ من المحادثةِ والمسامرةِ على التلاع الخُضرِ في الليالي القُمْرِ.
وإذا كانت الطباعُ على هذا، بَعُدَ اجتماعُ القليل من العددِ على الكتم، واستحالَ اتفاق العددِ الكثيرِ على ذلك، وصاروا في الاستحالةِ كاتفاقِهم على الكذبِ، وهذا التقريرُ في الأخبارِ في الجملةِ التي لا يتعلقُ عليها الأغراض، فأمَّا ما يُحتاجُ إلى نقلِه، وفي نقلِه صلاحٌ، والدواعي إليه داعيةٌ، فاتفاقهم على كتمِه اتفاقٌ على قبيحٍ، ويستحي أنْ يجتمعَ العددُ الكثيرُ والجمُّ الغفيرُ على القبيحِ، مثلُ دخولِ عطشان أو جائعٍ إلى جامعِ المنصور، يطلبُ شربةً من ماء أو رغيفاً، فتَتَّفِقُ جماعةُ المزدحمين فيه على منعِهما من مطلوبِهما مع وجودِ ذلك، والقدرةِ عليه، أو على الإخبار بحادثٍ حدثَ بالخطيبِ على المنبرِ، ولم يكن حدثَ ذلك، أو إخبارهم بفتنةٍ وقعت، ولم يكُ ذلك على ما قالوا، بل تتفقُ تلكَ الجماعةُ على اختلاق الكذب، أو يقع ذلك -أعني: الحادثة بالخطيب، أو الفتنة- وتكتمها تلَك الجماعة، فلا ينفصل أحد من الجامعِ، فيتحدث بها، إنَّ استحالةَ الأمرين جميعاً على حدٍّ سواء، كذلك ها هنا.
والأصلُ في إحالةِ ذلك: أنَّ الطباعِ في الوضع مختلفةٌ، والدواعي متفاوتة جداً، كتفاوتِ الأمزجة في الميلِ إلَى الطعومِ المختلفه، فلا يجوزُ أن يتفقَ ذلكَ الجمعُ على محبةِ الحموضةِ، ولا محبةِ الحلاوةِ، كذلك لا يتفقونَ على محبةِ كتمِ الحادثِ، ولا اختلاقِ ما لم يحدث.
وأيضاً: لو جازَ اتفاقُ الصحابةِ على كتم نصِّ الخلافةِ على عليٍّ، لما أَمنَّا أن يكونوا كتموا في حكمِ الله سبحانه، فلا تبقى لنا ثقةٌ

(4/349)


بنقلِهم لشيءٍ من الأحكام، وهذا يسُدُّ علينا بابَ الثقةِ لما رووا من الأخبارِ المتضمنةِ الأحكام، وفي هذه المقالةِ أكثرُ الفسادِ.
فإن قيل: أليسَ قد اتفقت الصحابةُ على تركِ نقلِ شرائعِ الأنبياءِ، وإن كانَ الكذبُ غيرَ جائزٍ على جميعِهم، فبانَ بهذا فرق ما بينَ الكتم والكذبِ.
قيل: هذا عينُ الكذب، وإلا فمن الذي نقل إلينا سِيرَ الأنبياءِ إلا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما سمعوه منه؟! فأمَّا نقلُهم عن غيره، فإنهم لم يثقوا إلى يهودٍ ونصارى، وقد علموا منهم الكذبَ والتبديلَ والتغييرَ لكتبِ الله القديمةِ، ومَنْ أسلمَ منهم، فقد نقلوا عنه ما أخبرَ به، وهل كتبُ السيرِ المدوَّنةِ عندنا إلا من نقلِهم؟ [و] لأنَّه لا داعي يدعوهم إلى ذلك، إذ لا غرضَ لهم في نقلِ مِلَّةٍ يبنون الأحكام عليها، إلا إذا ثبتَ ذلك بقول نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -.

فصل
في شُبَهِهم
فمنها: أن قالوا: إنَّ كلامَ المسيح في المهدِ كانَ من أعجبِ حادثٍ حدثَ في الأرضِ، ثم إنَّ النصاَرى أكثرُ أُمَّةٍ على وجهِ الأرضِ، حتى إنَّ الإسلامَ مع اتساعِه وانتشاره لا يساوي رقعتهم، ومع ذلك لم ينقلوا ذلك الحادث، ونقلوا إحياءه الميت الذي أحياه، وإبراء الأكمهِ والأبرصِ، فبانَ أنَّه ليسَ النقلُ أمرأً يُنفَكُّ عنه، بل تارةً يُكتَم، وتارةً يُنقَل، وتارةً يُهمَل فلا يُنقَلُ، وتارةً يُعنَى به، فيُنقَل.

(4/350)


فيقال: إنَّ العلةَ في ذلك ظاهرةٌ، وهو أنَّ كلامَه في المهدِ كان وهو غير مُتَبعٍ، ولا ظهرَ أمرُه برسالةٍ، فما عُنِيَ بذلك أحدٌ، وإحياءُ الميتِ، وإبراء الأكمهِ والأبرصِ، كان وقتَ الإرسالِ، والاستدلالِ به، وتطلع النَاس إلى ذلك تطلعَ المتأملين، وأبداً ينقلُ الناسُ ما ظهرَ واشتهرَ، ومَا اشتدت الدواعي إلى نقله، والخلافةُ كالنبوة، فلو كانَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - نصٌّ يوم غدير خُم (1)، مع توفيرِ دواعي الناس، لا
__________
(1) خُم: واد بين مكة والمدينة عند الجحفة، به غدير، عنده خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من
عاداه".
وهو. حديث صحيح، أخرجه من حديث زيد بن أرقم: أحمد 1/ 118 و 4/ 370 و 372 و 389 و 5/ 370، والترمذي (3713)، وصححه ابن حبان (2205)، والحاكم 3/ 109، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
ومن حديث البراء بن عازب: أخرجه أحمد 4/ 281، وابن ماجه (116).
وأخرجه من حديث سعد: أحمد 1/ 182، وابن ماجه (121)، وابن أبي عاصم (1376).
وفي الباب: عن علي، وأبي أيوب الأنصاري، وابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين.
وليس في هذا الحديث نص على خلافة علي رضي الله عنه، وكلُّ ما فيه الترغيب في موالاة علي ونصرته، وهذا لا يقتضي وجوب تنصيبه خليفة على المسلمين بعد رسول الله.
وإذا احتجت الرافضة بهذا الحديث، فلأهل السنة أن يحتجوا بأحاديث أخرى ترشد بمجموعها إلى أحقية أبي بكر وعمررضي الله عنهما من بعده بهذا الموقع، ومن ذلك: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر" وقد تقدم تخريجه.
ومنها: عن عائشة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ادعي لي عبد الرحمن بن أبي
بكر، لأكتبَ لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه" ثم قال: "معاذ الله أن يختلف =

(4/351)


سيما أهل البيت وشيعتهم، لما صَحَّ كتمُ ذلكَ من أعدائهِ، فكيف من أوليائه؟ وأبداً كل أمرٍ ظهرَ، وتوفرَ فيه الغرضُ، لم يصحَّ كتمهُ، وتوفرَ نقلُه، وبمثل هذا تأكدت حجةُ أبي حنيفة رحمة الله عليه في أنَّ ما تَعُمُّ البلوى به، لا يقبَلُ فيه الواحدُ (1).
فإن قيل: فما أنكرتم أنَّه إنما صحَّ الكتمُ لأمرين مختلفين؛ أمَّا أولياءُ أهلِ البيتِ، فإنَّهم كتموا ذلكَ تَقِيّهً، وأمّاَ الأعداءُ، فكتموا ذلك معاندةً وتعصباً، فاتفقوا في الكتمِ، واختلفوا في علةِ الكتم، وإذا صحَ في حقِّ جماعةٍ طيُّ الحادثِ بمثل هذا التعليلِ، صحَّ في كلِّ جماعةٍ.
قيل: ما عنيتم القولَ فيه باطلٌ، فلا تَختِلونا لِنَجوزَ عليه، فإنه أبعدُ في الإحالة، فإنَّ هؤلاء القومَ ممَّن وصفهم الله بكل فضيلة ومكرمةٍ ومدحةٍ، وأنهم أشداءُ على الكفارِ، رحماءُ بينهم (2)، وأَنَّهم خير
__________
= المؤمنون في أبي بكر"، أخرجه مسلم (2387)، وأحمد 6/ 47 و 106 و 144، والبغوي (1411)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 6/ 343.
وعند البخاري (5666) و (7217) بلفظ: "هممتُ -أو: أردتُ- أن أرسلَ إلى أبي بكر وابنه، فأعهد؛ أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنُّون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون -أو: يدفع الله، ويأبى المؤمنون-".
وبناءً على هذه الأحاديث وغيرها من النصوص الأخرى، ذهب الحسن البصري، وجماعة من أهل الحديث: إلى أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالنصر والأخبار، وذهبت جماعة من أهل الحديث، والمعتزلة، والأشعرية: إلى أنها ثبتت بالاختيار.
انظر "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 698
(1) سيأتي هذا المبحث في الفصول القادمة، وبيان موقف الأصوليين من خبرِ الواحد إذا كان ممَّا تعمُ به البلوى انظر الصفحة 389.
(2) يريد بذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى =

(4/352)


أُمةٍ (1)، وأَنّهم رُكَّع سُجَّد، يبتغون فضلَ الله [و] رضوانه، وأَنهّم يأمرونَ بالمعروفِ، وينهونَ عن المنكرِ، والقرآنُ مقطوع به، فكيف نَتْرُكُ شهادةَ المعصومِ لهم بالعدالةِ، ونَرجعُ إلى أفكِ المُسمَّيْنَ بالشيعة، وأَن القوم كتموا نصَّ رسول الله على ابنِ عم رسوله، مع أن الله جعلَ المودة لهم مُكافأةَ الرسالةِ، وأَجْرَ الرسول (2) - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز اجتماعهم على ذلك، عدمنا الثقة بالجميع فيما نقلوه، ولم نأمن أن يكونَ هناك فرض زائد كتموه، وقد كان يومَ السقيفة (3) نوعُ مقاولة من الأنصارِ والمهاجرين، فتَعلَّقَ هؤلاء بأنَّهم أهلُ الدارِ والإيواءِ والنصرةِ، وتَعلَّقَ هؤلاء بأنهم أهلُ الهجرة، وتعلقَ هؤلاءِ بأن أبا بكرٍ قَدَّمَه في الصلاةِ، والصلاةُ عمادُ الدين، وتعقَ المهاجرونَ بتقديمِ ذكرِهم في القرآنِ، وبوصيةِ رسولِ الله لهم بالأنصار، فكل ذكرَ حجته، فلم يَنْتصِرْ ناصر، ولا عثرَ عاثرٌ بنصِّ رسولِ الله يومِ غدير خُمٍّ، فيُقِيمَ الحجةَ، فإن جاءت الغلبةُ بالعنادِ والكثرةِ، كان ذلكَ من أكبرِ الطعنِ على المتغلبِ، فظهرَ عنادُه، وبانَ ظلمُه، فهذا طعن يعمُّ الكل على قولِ المخالفِ، فالصحابةُ (4) بكتمهم وعنادِهم، والقرابةُ بإهمالِهم تقريرَ (5) الحجة، وبيانَ ظلمهم، وأَنَّ
__________
= الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
(1) يشير إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
(2) وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
(3) انظر ما وقع في سقيفة بني ساعدة في "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 306 وما بعدها.
(4) في الأصل: "والصحابة".
(5) في الأصل: "تقرر".

(4/353)


رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مدحَهم المدحَ المُفرِطَ، حتى جعلهم كالنجوم (1)، وما
أبعدَ هذا عن العقولِ السليمةِ، والمذاهبِ المنصفة.
ومنها: أن قالوا: قد تمَّ في نقلِ الأمورِ الظاهرةِ؛ كالإهلالِ بالحج، مع اشتهارِه، فهذا روى أنَّه أهلَّ بالقرانِ بينَ الحجِّ والعمرة، وهذا روى أنَّه أهلَّ بالإفرادِ، وهذا روى أنَّه جمعَ بين الجلدِ والرجمِ في حقِّ الثَّيِّبِ، ورويَ أنّه لم يجلد مع الرجمِ، واختلفوا في ألفاظِ الأذانِ بينَ تشفيعٍ وترجيعٍ، وبينَ عدمِ الترجيعِ، وتشفيع الإقامةِ، بل الإيتار لها، وبقي تشفيع الأذان، وهو أمرٌ ظاهر يفعل خمس دفعات في كل يومٍ، فبطلَ إحالتكم للإجماعِ على الكتمِ، وإيجابُكم (2) للنقل.
فيقال: إنَّ ذلكَ يمكنُ الجمعُ بين الرواياتِ فيه؛ بأن يكون لَمَّا عَلَّمَ المناسكَ، عَلَّمَ كلاًّ منهم ما أرادَ الإهلالَ به، والأذانُ اختلف؛ لأنَّ أذانَ بلال يخالفُ أذان أبي محذورة (3)، فما نقلَ إلا ما سمعَ منهم، وكانَ أبو محذورةَ نقلَ ذلكَ عن رسولِ الله، حيث كَرَّرَ عليه لفظ الشهادتينِ ليحببهما (4) إليه، ويمرنه عليهما، والجلدُ والرجمُ ماجتمع فيه إلا إثباتٌ ونفي، والنفيُ ملغى، والإثباتُ
__________
(1) وذلك بقوله: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"، تقدم تخريجه 1/ 280.
(2) في الأصل: "اجابكم".
(3) هو أبو مَحْذورةَ الجُمَحِيُّ المكيُّ الصحابي المؤذن، اسمه: أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان بن معير، وقيل: عمير بن لوذان، توفي بمكة سنة (59) هـ.
انظر "الإصابة" 7/ 365.
(4) في الأصل: "ليحببها".

(4/354)


مُعوَّل (1) عليه، ويشهد له ما فعلَه علي رضي الله عنه؛ حيث جلدَ شُراحةَ يومَ الخميسِ، ورجمَها يوم الجمعة، وقال: جلدتُها بكتابِ الله، ورجمتها بسنة رسول الله (2).

فصل
ليسَ في التواترِ عدد محصورٌ، بل المعتبرُ العددُ الكثيرُ الذي لا يجوز اتفاق مثلهم على إتيان الكذب، ولا المواطأة عليه، أو [أن يكونوا]، أهل زهادةٍ وتدينٍ وورعٍ على ما قال أصحابنا (3)؛ فإنَّهم اعتبروا الكثرة، أو الصلاحَ والورعَ، ولم يحصروا ذلك بعددٍ.
وقال الجبائي: يعتبر عدد يزيدُ على شهودِ الزنى.
وقال بعضهم: اثنا عشر، بعدد النُّقباءِ.
وقال بعض الأصوليين: يعتبر أن يكون العددُ سبعين، بعدد المختارين من قوم موسى.
وقال بعضهم: ثلاث مئة ونيف، بعدد أهل بدر (4).
__________
(1) في الأصل: "معمول".
(2) تقدم تخريجه 2/ 160.
(3) انظر "العدة" 3/ 855، و،"التمهيد" 3/ 31، و"المسودة" (235)، و"شرع مختصر الروضة" 2/ 87.
(4) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 39، و"التبصرة" (295).

(4/355)


فصل
في أدلتنا
فمنها: أنَّ التواترَ: ما وقعَ العلمُ الضروريُّ بخبره، وهذا لا يختصُ بعدد مخصوص، إذ ليسَ من قالَ: بأنَّه يحصلُ بأربعةٍ، بأَوْلى من قولِ من قال: يحصلُ باثني عشر، ولا مَنْ قال: باثني عشر، بأَوْلى ممن قال: بسبعين، وعلى هذا، وإنَّما يحصلُ ذلكَ بما يحيلُ العقلُ عليه الكذبَ والتواطؤَ، وذلكَ لا يكونُ إلا في العددِ الكثير والجمِّ الغفير، فأمَّا في عددٍ محصورٍ، فليسَ لأحدِهما على الآخر ميزةٌ إلا بغلبةِ الظن، فأمّا أن ينتهيَ إلى العلمِ، فلا.
ومنها: أنه لو كانَ الاعتبارُ بعددٍ مخصوصٍ، لوجبَ اعتبارُ صفاتٍ محْصوصةٍ، كالإسلام، والعدالةِ، على ما أجمعنا عليه في الشهادةِ، فلما لم نعتبر لذلك أوصافاً مخصوصةً، لم نعتبر له أعداداً مخصوصة، وهذا صحيح؛ لأنَّ العددَ إنما يرادُ لتناصرِ الأقوالِ التي يبعدُ معها الكذبُ، ويقربُ من غلبةِ الظن لصدقِ الخبر، وكما أنَّ ذلكَ يقوى بتزايدِ العددِ، فكذلك (1) يقوى بحصولِ الصفاتِ التي يبعدُ معها الكذبُ، وتُقرِّبُ إلى الصدق.
ومنها: أنَّه ليسَ عددٌ من الأعدادِ التي اعتبر بها، إلا وما زادَ عليه يقوي ما في النفس؛ فالأربعةُ فصاعداً بالإضافةِ إلى الاثني (2) عشر، والاثنا عشر بالإضافةِ إلى السبعين، [والسبعون] بالإضافة إلى الثلاثِ
__________
(1) في الأصل: "وكذلك".
(2) في الأصل: "الاثنا".

(4/356)


مئةٍ ونيف، يَقْوي بالأكثر ما حصلَ في النفس بخبر العدد الأقل، وما قَبِلَ التزايدَ، فهو الظنُّ، إذ ليس وراءَ اَلقطع، ولا سيما العلمِ الضروريِّ، غايةٌ.

فصلٌ
في شبههم
قالوا: إنَّ الله سبحانه اختارَ عددَ شهودِ الزنى أربعةَّ، واختارَ من النقباء اثني (1) عشر، واختارَ موسى لسماعِ كلامِ الله [سبعين من قومِه] ليُخْبِروا بسماعِ الكلام من لم يسمع، وهذا كلُّه يدلُ على حصولِ العلم به.
فيقال لكل من تَعلَّقَ بعددٍ من الأعدادِ: إِنَّ اعتبار غيرِه -إمّا فوقَه، أو دونه- يُخرِجُ ما يَعقُبُه (2) عن أن يكون علماً ضرورياً؛ لأنَّ الضروريَّ لا يقبلُ التزايدَ.
ولأنه لا دليل معكم على أَن العدد اعتبرَ لتحصيلِ العلمِ، ولا للتمبيز بين العلم وعدمه، بل تَعبَّدَ وتَحَكَّمَ بالعددِ، والأصلُ المعتبرُ فيه غلبةُ الظنِّ، لا العلمِ.
ولأنَ الله سبحانه لم يعتبر العدد إلا تحكماً، إذ ليسَ أحدُ العددين بأولى من الآخرِ في تحصيلِ العلم.
ولأنَّه اعتبرَ مع العددِ العدالةَ، ولو كان يحصلُ بقولهم العلمُ، ما اعتُبِرَتِ الصفاتُ، كالعددِ الذي لا يجوز عليهم التواطؤُ على الكذبِ،
__________
(1) في الأصل: "اثنا".
(2) في الأصل: "تتعقبه".

(4/357)


لَمَّا (1) أوجبَ العلم، لم يُعتَبر مع العددِ صفةٌ.
ولأنه يَدْخُلُ برجوعهم الشَّكُّ، وتزولُ غلبة الظن، وما ثبتَ من العلم الضروري لا يتطرقُ عليه الشك والشبهةُ، وهنا لو رجعَ واحد من العدد، لأورثَ شبهة، ولو قابلهم عددٌ مثلهم مخبرون بضِدِّ ما أخبروا به، لوقفَ الدَّسْتُ (2)، والعلوم الضرورية لا يتطرق الشَك على طرقها المحسوساتِ، وما ثبتَ بأوائلِ العقول في ذلك الخبر الذي أخبروا به، والشهادة التي شهدوا بها، ولم يجب استيفاء العقوبة.

فصلٌ
ولا يعتبر إسلام المخبرين في أخبار التواتر، بناءً على ما قررنا؛ من أن الإحالة للتواطؤ، إنما هي إحالةُ اتفاقِ العددِ الكثيرِ على إتيانِ الكذب، خلافاً لبعض أصحاب الشافعي: يعتبر إسلام المخبرين إن طالَ الزمانُ؛ بحيث يمضي ما حصل التواطؤُ في مثلِه، والمراسلة من بعضهم إلى بعضٍ، وإن لم يَطُلْ ذلك، صحَّ مع كفرهم، ولم يُعتَبْر إسلامُهم (3).
__________
(1) في الأصل: "لم".
(2) الدست: فارسي، ويجيء في العربية لمعانٍ، هي: لباس، ووسادة، وحيلة، ودست الشطرنج، وهو المقصود هنا، إذ يقال للمغلوب: تمَّ عليه الدس، وللرابح: ثم له الدست، وإذا توقف اللعب وامتع: وقف الدست.
"قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل": 26 - 27.
(3) والراجح عند جمهورهم: عدم اعتبار الإسلام لقبول الخبر المتواتر، ويقع العلم بتواتر الكفار.
وعندهم قول ثالث: أنه لا يقع العلم بتواتر الكفار، من غير تفصيل.
انظر "المستصفى" 1/ 140، و"التبصرة" (297)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 43.

(4/358)


فصلٌ
في حجتنا
وهي أنَّ إحالةَ اجتماعِ الكفارِ على إتيانِ الكذبِ، مع كثرةِ الأعدادِ، واختلافِ الأمزجةِ والطباعِ، فصارَ كإحالةِ اجتماعِهم على حبِّ الحموضةِ أو الحلاوةِ في ساعةٍ واحدةٍ، أو يومٍ واحد، وهذا أمرٌ لا، يختلف باختلاف الأديانِ، كما لا يختلفُ باختلافِ السنِّ بعدَ التساوي في البلوغِ، والعقلِ الذي يصحُّ معه توخي الصدقِ.
وأيضاً: فإنَّ العددَ المعتبرَ، لو جازَ أن يَقبلَ اعتبارَ زيادةِ صفةِ نفي الإسلامِ أو العدالةِ، لجازَ أن يَقبلَ الزيادةَ في العددِ؛ بحيث يقوى بزيادة (1) مئةٍ أخرى (2).

فصلٌ
في شبههم
الكفرُ عرضةُ الكذبِ، والتحريفِ في القول، والإسلام مناطُ الصدقِ، والتحقيقِ في القولِ، ولهذه العلة اختص المسلمونَ بالقطعِ بإجماعهم، كذلكَ وجبَ أن يختص العلمُ القطعي بتواترِ أخبارِهم،
__________
(1) في الأصل: "زياد".
(2) ورد بعدها في الأصل: "لحسنه، وتجنب الكذب لقبحه"، ولم يتبين لنا وجه ارتباط هذه الجملة بالكلام السابق، وقد فصل الناسخ بينهما، فلعل في الأصل الذي نقل عنه الناسخ سقطاً.

(4/359)


والآحادُ عرضةُ تجويزِ الكذبِ.
فيقال: إنَّما تقوى بالصفةِ الآحادُ؛ ليغلبَ على الظنِّ صدقُ المخبرين، فأمَّا عددُ التواترِ؛ فإنَّ الإحالةَ للتواطؤ كافية عن اعتبارِ الصفاتِ الزائدةِ على المعتبرِ من العقلِ، وسلامةِ الحواسِّ التي يحال بالإدراك عليها، وقد وطن لمثل هذا جماعة من الفقهاء المالكيةِ والحنابلةِ في شهادة الصبيان في الجراح، فلم يعتبروا البلوغ، إذا جاؤوا مجتمعين قبلَ أن يمضيَ زمان يتهمون فيه بالتعليم لهم أو التواطؤ، فللاجتماع، وعدم تجويزِ التواطؤ، عمل وتأثير يغني عن اعتبارِ صفاتِ المخبرين؛ لبُعْدِ التُّهْمةِ في ذلك.
على أنَّا نجدُ من نفوسِنا العلم بإخبار العددِ الكثيرِ وإن كانوا كفاراً؛ بحيث لا يورثُنا كفرُهم شكاً في خبرِهم، مع توفيرِ عددِهم، واستحالةِ تواطئهم على الكذب.
وأما الإجماع، فإنما صار حجة معصومةً بالشرع، والشرعُ خصَّ ذلكَ بقوم مخصوصين بالإسلام، والاجتهادِ، والعدالةِ، مع البلوغ والعقل، وليس كذلك الأخبارُ، فإنها توجب العلمَ من طريقِ العادةِ، وما طريقهُ العادةُ، لا يختلفُ فيه المسلمونَ والكفارُ.
ومنها: أن قالوا: لو كانَ العلمُ يقع بتواترهم، لوجب أن يقعَ العلمُ بكلِ ما يخبرون به، ومعلوم أنَّه لا عددَ أكثرُ من عددِ النصارى من بين سائرِ الملل، وقد أخبروا بقتلِ المسيح وصلبهِ عليه السلام، ومع ذلك لم يثبت العلمُ بخبرِهم، وما ذلك إلَا لعدمِ إسلامهم.
فيقال: إنما لم يقع هناك العلمُ؛ لأنَّ شرائط التواتر فيه غيرُ متكاملة، وهو استواءُ طرفي العددِ ووسطِه، [و] الذي نقلته النصارى

(4/360)


الآن مع كثرتِهم، يَستنِدُ إلى نقلِ آحاد يسيرةٍ لا يقعُ العلمُ بخبرٍ هم، وكلامُنا في عددٍ كثيرٍ لا يتواطؤ أمثالُهم على كذب، يخبرون عن دركِ إحساسِهم، ولا يزالُ ينقلُه أمثالُهم إلى أن يصلَ إلينا على ذلك الوجهِ، لا يختلُّ الطرفان، ولا الوسطُ.
ومنها: أنَّ الإسلام والعدالة صفتان تحصلُ بهما الثقةُ إلى الخبرِ، فكانَ مشروطاً في المُخْبِرِ كصحَّةِ (1) العقلِ والحاسَّةِ.
فيقال: المخبرُ إنما يرقى عن إدراكه لما يخبرُ به؛ إما من طريق نفس إدراكه، وهم الأعداد الأُوَل المذكورون، أو عن غيرهم، وهم الطبقةُ الثانية، بإدراكِ ما سمعوه منهم، فإذا لم تكن حاسةٌ، انعدمَ الطريقُ، فصارَ خبره عن غيرِ حاسَّةٍ، ولا عقلٍ، يعني كالمخبرِ عن ميتٍ، أو جمادٍ، بأنه قال كذا، أو فعل كذا.
فأمَّا الكافرُ، فله دركٌ وحاسَّةٌ وعقل، فإذا كثُرَ العددُ المفرط الذي لا يحصرُه بلدٌ ولا عددٌ، استحالَ حبُّ جماعتِهم للكذبِ، سواء كانوا معتقدين لدينٍ، أو لم يكونوا معتقدين، فإنَّ (2) الأمزجةَ والطباعَ لا تتفقُ على الكذبِ، مع التديُّنِ، وعدمِه.

فصل
يجوز ورود التعبد بخبر الواحد من طريق العقل (3)، خلافاً لبعض
__________
(1) في الأصل: "صحة".
(2) في الأصل: "وإن".
(3) ذكر ذلك القاضي في "العدة" 3/ 857، والكلوذاني في "التمهيد" =

(4/361)


المتكلمين -وأظنه: الجبائي؛ على ما رأيته في بعض الكتب الكلامية-، قال: لا يجوزُ ذلك عقلاً (1).

فصل
يجمع أدلتنا
فمنها: أنَّ التعبداتِ تتضمنُ ترغيباً في الثواب، وترهيباً من العقاب، وعلى هذا مبنى التكليف، وقد ثبت تجويزُ الرجوعِ في التخويفِ من طريقٍ، والترهيبِ من سفرٍ، إلى خبرِ الواحد المخبر بما يخوفه من سبعٍ، أو قاطعِ طريقٍ، وكذلكَ تجويزُ العملِ بخبرهِ ترغيباً في سفير لنفعٍ آَخْبرَ به؛ من ربحٍ في تجارةٍ، ودركٍ لمطلبٍ، فكذلك خبره عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يعودُ بدفعِ مضرةٍ، أو درك منفعة، ولا
__________
= 3/ 35، والشيرازي فى "التبصرة" (301)، والآمدي في "الإحكام" 2/ 68، والغزالي في "المستصفى" 1/ 141.
(1) الصحيح في مذهب الجبائي: أنه يفصِّل في خبر الواحد، فإن كان ممَّا انفرد به العدل الواحد، لم يقبله، وإن كان المخبر اثنين، أو يزيد، قبل الخبر، ومما يرشد إلى ذلك: ما سيأتي بالفصل القادم؛ من أن الجبائي لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين، ومفهوم ذلك أنه يقبل اثنين، أو يزيد، ولذا كانت عبارة الجويني في تقرير رأي الجبائي: وذهب الجبائي: إلى أن خبرَ الواحد لا يقبل، بل لا بد من العدد، وأقله اثنان. "البرهان" 1/ 607.
فهذا كله يدل على أن الجبائي لا يطلق القول في منع جواز التعبد بخبر الواحد.
على أن ابن السبكي نقل هذا القول عن جمهور الرافضة، ومن تابعهم من أهل الظاهر؛ كالقاساني، وغيره. انظر "الإبهاج" 2/ 300.

(4/362)


عاقلَ ينكر التوقف عن الشروع في السفرِ، لما يخبره الواحدُ عن مضرةٍ تلحقهُ، ولا ينكر الإقدامَ على السفرِ؛ لإخبارِ الواحدِ له بمنفعةٍ يدركها.
فإن قيل: أمَّا الخبرُ من جهةِ الواحد في بيانِ الأمور الدنيوية، لا يُشبهُه الخبرُ بالتعبداتِ، ولهذا لا يقفُ وجوبُ العملِ والتحرز في الأمَورِ على العدلِ، بل الفساق إذا أخبرونا بسبعٍ أو قاطعِ طريقٍ، وجبَ في العرفِ التحرزُ والتوقفُ عن سلوكِ الطريقِ، ولا نبني حكماً شرعياً على خبرِ فاسقٍ.
(1 قيل: لا نُسَلِّمُ، بل الفاسقُ إذا حَذَّرَ من سَبُعٍ، أو قاطعِ طريقٍ، قَدْ نَقصِدُ إليه 1) ...
ومنها: أنَّ الاتفاقَ حاصلٌ بأنَّ الشرعَ لا يأتي إلا بمجوَّزاتِ العقولِ، فأمَّا موانعُها، وما لا تجيزهُ، فلا.
وقد وردَ الشرعُ بالعملِ بقولِ الشاهدِ والشاهدينِ والأربعةِ على حسب الأحكام، والعملِ في الأحكامِ بقولِ المفتي، وإن جازَ عليهم السهو والخطأ، ولم يقبح ذلكَ في العقل، وإن كان قول المفتي يستند إلى استنباطٍ أو دليلٍ، قد يخطىءُ فيه أو يصيبُ، فالرجوعُ إلى قولٍ وخبر يسنده إلى سماعِه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أَوْلى أن يُعملَ به.
__________
(1 - 1) هذا الجواب أثبتناه من هامش الأصل، وإن لم يحل الناسخ إليه بتخريجة كما هو معتاد.

(4/363)


فصلٌ
في شبههم
فمنها: أن قالوا: إنَّ التكاليفَ مبنيةٌ على المصالح، ولا يعلمُ المصالحَ إلا الله سبحانه ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان الناقلُ للخبرِ غيرُ العالم بالمصالح واحداً، مع تطرقِ السهوِ عليه في نقلِه وخبرِه، لم تحصل لنا الثقة بحصول الأصلحِ الذي بُنيَ التكليفُ عليه.
فيقال: الأصلُ في التكليفِ مشيئةُ الله سبحانه، ولا يتخصصُّ التكليفُ بمصلحةِ المكلف، هذا أصلٌ قد فرغنا منه في أصول الدياناتِ؛ بما بانَ من كونِ التكليفِ في حقِّ كثيير من المكلفين سبباً للوبال.
على أنَّا إن تكلمنا على الاسترسال في النظرِ، فإنَّ تَحَرِّي ما يوجبُ غلبةَ الظنِّ في حصول الأصلح، هو المُعوَّل (1) عليه، وهو خبرُ الواحدِ العدل الذي رضيَ به الشرع في إشغال الذمم التي أوجبَ خلوَّها دليلُ العقلِ، وإراقةِ الدماءِ، وانتزاع الأموال من أرباب الأيدي، والتصرفات، وإباحةِ الأبضاعِ المغصوبةِ المحرمةِ، كلُّ ذلكَ بشهادةِ الاثنين، وفتوى الواحدِ مع العدالةِ، وإن كان مبنى إيجاب (2) الحقوق، وشغلِ الذمم، وإباحةِ الحيوانِ، على المصالح ونفي المفاسد، وقد وجبَ على الحكامِ العملُ بذلك في الأحكامِ، وكذلك العوامُّ جاز لهم العمل بفتيا الواحدِ في جميعِ هذه الأحكام، وإن جازَ
__________
(1) في الأصل: "المعمول".
(2) في الأصل: "احاب".

(4/364)


أن يكونَ باطنُ الشهادة كذبَ الشاهدِ، وباطنُ الفتيا خطأ المفتي.
جوابٌ آخر: لو كانَ هذا طريقاً في المنعِ [لكان طريقاً في المنع] من العملِ بالاجتهاد؛ لأنَّ أدلة الاجتهادِ ظواهرُ غيرُ قطعيةٍ، كالقياسِ والاستنباطِ والعمومِ، وكما أنَّ خبرَ الواحدِ يجوزُ عليه الكذب، [و] المجتهدُ المستندُ اجتهادُه إلى هذهِ الطرق يجوزُ عليه الخطأ، فإذا لم يكن طريقاً لمنعِ العمل بالاجتهادِ، لا يكونُ طريقاً لمنع العمل بأخبارِ الآحاد.
ومنها: أن قالوا: لو جازَ العملُ بخبرِ الواحدِ، وإن لم يقع به العلمُ، لجازَ العملُ بخبرِ الفاسقِ والصبي؛ إذ ليسَ في خبرِهما إلا عدمُ وقوعِ العلم.
فيقال: لو وردَ الشرعُ بالعملِ بالخبرِ الصادرِ عنهما، لقبلناه، ولهذا لما جَوَّزَ قبولَ خبرِ الصبي في الهدية، والإذن في دخول الدارِ، قبلناه، لكنَّه نهانا عن الرجوعِ إلى قولِهما، وجاءنا بقبولِ قولِ الواحدِ العدلِ، فقبلنا ما جَوَّزَ لنا قبولَه، ورددنا ما منَعنا قبولَه، وهو في بابِ الشهادةِ والفتوى، فلا فتوى لفاسقٍ ولا صبى، ولا شهادةَ، بخلافِ الواحد العدل.
على أنَّ الثقة في العادة لا تحصلُ بخبرِ من عرفناه بارتكابِ الكذبِ في القولِ، والتحري في الفعلِ، وتحصلُ لنا فيمن عرفنا منه التحري في القولِ والعملِ، فهذا معنى يرجعُ إلى ما نجده من نفوسِنا، ولهذا لم نقبل شهادةَ الفاسقِ، وقبلنا شهادةَ العدلِ.
ومنها: أن قالوا: لمَّا لم نقبل خبرَ الواحدِ في الرسالةِ والنبوةِ حتى اعتبرت المعجزةُ، كذلك لا نقبل ما جاءت به النبوةُ من التكاليفِ

(4/365)


التي جاءت النبوة لأجلها (1).
فيقال: إنَّ طريقَ أصلِ إثباتِ النبوةِ على القطعِ، ولا قطعَ في خبرِ الواحدِ من غيرِ برهانٍ وإعجازٍ، فأمَّا أعيانُ التكاليفِ وجزئياتُ الأحكامِ، فإنَّ طريقَها الظنُّ، بدليلِ أنَّه لما ثَبَتتِ النبوةُ قطعاً، جاءت النبوةُ بالتعبد بقبولِ خبرِ الواحدِ في باب الشهاداتِ والفتاوى عن الآحاد، مع كونِ أقوالِهم مبنيةً على الثَقةِ بحسنِ الظنِّ، من غير يقينٍ، ولا قطع.