الواضح في أصول الفقه فصلٌ
خبرُ التواترِ لا يُولِّدُ العلمَ، ولا خبرُ الواحدِ يولِّدُ
الظنَّ (3).
هذا هو المذهبُ في كلِّ شيءٍ كانَ عقيبَ شيءٍ؛ على سبيل
الندور، أو على وجهِ الاستمرارِ، فلا نظر، ولا خبر، ولا غير
ذلك، وهذا أصلٌ مستقصى في أصولِ الدياناتِ، خلافاً (4) لأهلِ
الطبعِ والمعتزلةِ.
والعلومُ الواقعةُ عقيبَ النظرِ، والاستدلالِ، وسماعِ الأخبارِ
من المخبرين، بفعلِ الله تعالى، ذلك عندها (5)؛ بمثابة إجرائِه
العادةَ بإزهاقِ النفوسِ عقيبَ إيقاعِ الجراحاتِ المُوْحيةِ،
وخلقِ الولدِ عقيبَ
__________
(1) في الأصل ة "المخبرين".
(2) في الأصل: "معروفون".
(3) انظر "العدة" 3/ 850، و"المسودة" (235)، و"شرح الكوكب
المنير" 2/ 328.
(4) في الأصل: "خلاف".
(5) في الأصل "عندنا".
(4/340)
الجماعِ، والعافيةِ عقيبَ تناولِ الدواءِ،
خلافاً لبعضِ المتكلمين في قولهم: إنَّ الخبرَ يُوَلِّدُ
العلمَ.
فصلٌ
في أدلتنا على إبطال مذهبهم في ذلك
فمنها: لتقرير إبطالِ أصل القولِ به؛ ليعمَّ هذه المسألة
وغيرَها: أن نقولَ: لا يخلو أنْ يكونَ المتولدُ غيرَ منسوبٍ
إلى فاعلٍ، بل منسوبٌ إلى ما يتولدُ عنه من الفعلِ الذي سبقَه،
كالاعتمادِ في السهم والحجر، ولا يجوزُ ذلكَ؛ لأنَّه لو كانَ
لنا حادثٌ لا عن فاعلٍ، لاستغنت كلُّ الحوادث، وجازَ وجودها من
غير فاعل ومحدث، وأمَّا أن تكون من فعل الفاعل الذي صدر عنه
الاعتمادُ في السهمِ والحجرِ، فكانَ يجبُ أن يدخلَ تحت قدرتهِ
إيقافُه عن مرورِه في المسافةِ، وقطعِ تلك الأبعاد، فلمَّا لم
يقدر على إيقافِه، دلَّ على أنَّه خارجٌ عن مقدورِه، فلا وجه
لنسبته إليه، وأَمَّا أن يكون ماراً بنفسه لا لمعنى، فكانَ
يجبُ أن يوجدَ خروجُه ابتداءً من غيرِ معنى، وذلك القولُ
بحادثٍ من غيرِ محدِثٍ، وأَمَّا أن يكونَ واجب المرور، فكانَ
يجبُ أن لا يقفَ عند غايةٍ ما لم يمنعه مانعٌ كهبوطِ الحجرِ
نحو المركزِ، مهما وجد أبعاداً خاليةً استدام الهبوط، فإذا
بطلت هذه الأقسامُ، لم يبقَ إلا أنه بفعلِ الله سبحانه.
فإن قيل: يجوزُ أن يكونَ صدْرُه عن معنى، وتَجدُّدُ ما يَتجددُ
من ذهابهِ في الجهةِ لا لمعنى، كما أنَّ الصوتَ يحدثُ بصَكَّةِ
الجسم وفعلِ فاعلِ الصَّكَّةِ، وفناء الصوت لا بمعنى ولا معنى.
قيل: ذلكَ واجبٌ، ولهذا لا يصحُّ إبقاؤُه ولا إدامتُه، ومرورُ
(4/341)
الحجرِ والسهمِ ليسَ بواجبٍ، ولذلكَ يجوزُ
في المقدورِ إيقافُه، ولا يستحيلُ، بخلافِ فناءِ الصوتِ.
ومنها: ما خصَّ المسألة: أنَّ العلمَ لو كانَ متولداً عن
الخبرِ، لم يخلُ أن يكونَ تَولَّدَ عن خبر المخبر الأخير، أو
عن خبر الجميع؛ فإن قالوا: بخبرِ الآخِرِ وعنه، فهو واحدٌ، فإن
(1) كان ابتداءً لم يولد ولم يتولد وإن كان أخيراً، لأنه واحد
أولاً كان أو أخيراً، وإن [كان] العلم تَولَّدَ عن المخبرين
كُلِّهم الدين يعتبرون لحصول التواتر، لم يصحَّ هذا على أصلهم؛
لأن (2) المسببَ الواحدَ لا يقعُ بسببينِ؛ فضلاً عن أسباب
كثيرةٍ، والمقدورَ الواحدَ لا يقعُ عن قادرينِ اثنينِ؛ فضلاً
عن قادرينَ كثيرين (3)، وهذا أصلٌ لهم معلومٌ.
وإذا بطَلَ تولُّده عن خبرِ الواحدِ؛ لأنَّه بإجماعٍ لا يوجبُ
العلمَ، وبطلَ بخبرِ الجماعةِ؛ لإبطالهم الفعلَ عن قادرين،
والمُسبَّبَ عن سببينِ، لم يبق إلا أن يكون حدث بنفسِه، ولا
أحدَ يقولُ ذلك، أو حدث بفعلِ الله سبحانه، وهو قولُنا.
ومنها: أنَّه قد استقرَّ عند القائلين بالتولُدِ: أنّ ما لا
جملةَ له لا يصحُ أنْ يولدَ إلا في محلِّه، وليسَ للخبرِ جهةٌ
تماس محلَّ العلم، ولا ما هو مماسّ له، وإنَّما الاعتمادُ
والحركاتُ لما كان لها جهاتٌ ولدت في غير محلِّها، ولا تولدُ
فى غير محلها دون مماسَّةِ فاعلها لمحل مسِّها، أو لما هو
مماسٌّ له.
__________
(1) في الأصل: "وان".
(2) في الأصل: "لا".
(3) في الأصل: "كثيرة".
(4/342)
فإن قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين:
أحدهما: أنَّ الكلام في الجملةِ يولدُ إذا كان خطاباً لمخاطب،
ما يولد له السحر من الإرعاب الموجب للوجل، والتهجين الموجب
للخجل، فيولد للرجل (1) صفرة؛ لفورانِ الحرارةِ عند الخوفِ،
ويورثُ حمرة اللونِ عند الخجلِ [والغضب]؛ لانتشارِ الحرارة،
وثوران الدم لمقاواةِ المهاجم، ومدافعتِه عن النفس، فهذانِ
أثرانِ ولدهما القولُ.
فيقال: هذه غفلةٌ منكم في إلزامنا جزئيات التولد، مع إنكارنا
أصلَ القولِ بالتولدِ.
قالوا: فمن وجه آخر: وهو أنْ يكونَ المولِّدُ للعلمِ في قلبِ
المخبَرِ، النظرَ في صحةِ الخبرِ المتواتر، وذلكَ ناشىءٌ من
المحل، أعني: النظرَ، ومولدٌ في المحل، وهو العلم.
قيل: هذا باطلٌ لما قدمنا، وأَنَّ العلمَ الواقعَ بهذه
الأخبارِ ليسَ يقعُ عن نظير، وأَنه لو وقع عن نظرٍ قليلٍ أو
كثير، لوجب وجوده في الحس؛ لَأن قليله وكثيره كقليلِ اللذة
والألمِ وكثيرهما، وهذا ممَّا لا نجده في الحس، فبطل ما ادعوه.
فإن قيل: [لو كانَ] العلمُ بخبرِ الأخبارِ مبتدأً من الله
تعالى، لكانَ يَصحُّ أن يوقعه من غيرِ سماعِ خبرٍ أصلاً
ورأساً.
قيل: يجوزُ ذلكَ في المقدورِ، إلا أنَّه لم تجرِ به عادة.
ويقالُ أيضاً: ولو كانَ العلمُ بما أدركته الحواسُّ مبتدأ من
فعلهِ،
__________
(1) في الأصل: "الرجل".
(4/343)
وكذلك العلمُ بأنَّ الاثنين أكثرُ من
الواحدِ، وأنَّ الضدينِ لا يجتمعانِ في المحل، لصحَّ منه تعالى
أنْ لا يفعلَ العلمَ في العاقلِ بما أدركه، وبكلِّ ما يعلمُ
ببديهةِ العقلِ، فإن مروا على ذلك، مررنا لهم على ما ألزموا،
وإن أَبَوْهُ، نقضوا قولهم، وأبطلوا إلزامَهم.
ومنها: ما تعلق به بعضُ أصحابِنا، وجماعة من الفقهاء، وغيرُه
أصلحُ منه وأنفعُ، لكنني أذكرُهُ لئلاَّ يُعوَّل عليه، قالوا:
إذا كانَ كلُّ واحد من المخبرين لا يُوَلِّدُ خبرُه علماً،
والآخِرُ على الوَحْدة لا يولدُ خبرُه علماً، عُلِمَ أنَّ
العلمَ حادثٌ بفعلِ الله سبحانه.
ولهم أن يقولوا: إنَّ كلَّ وصفٍ من أوصافِ الدلالةِ القياسيةِ
لا ينتجُ ويؤثر حكمَ القياس في الأصلِ ولا في الفرع،
وبمجموعِها (1) أَثَّرَتْ، وكذلكَ آحادُ الشهودِ في البيِّناتِ
لا يقال: إنَّ الأخيرَ لم يوجب الظنَّ وحده، ولا كل واحد
أوجبه، فثبت أنَّه إنما حدث ظنُّ الحاكمِ، لا صادراً عن الخبر
الأخير، لكن لبناء قول الآخِرِ على الأول، كما انبنى تأثيرُ
الوصفِ الأخير على تأثيراتِ الأُوَل من الأوصافِ، وكذلك
قُفْزَانُ الحنطة في الغرق الحادث في السفينة عند حصول القَفيز
الأخيرِ فيها، وكذلك السكرُ من الأقداحِ عند حصول القدح
الأخير، وكذلك العصيُّ المتكررةُ ضرباً لمن يموت بمثلِ تلك
الضربات، تساعدت الآلام بعضها ببعض، وانبنى الألمُ الحادثُ
بالضربةِ الأخيرة على آلامِ الضربات المتقدِّمةِ، فلا وجهَ
لقطعِ الخبرِ الأخير عمَا تقدَّمه، وهذا في جميعِ المحسوساتِ
والمعلوماتِ والمؤَثِّراتِ للأححَام، حتى إنَّ التغيرَ الحادثَ
في الماءِ من نبذة بعد نبذةٍ من زعفران، والقطرةَ من الماءِ
على الحجر، إذا دامت، أثَّرت،
__________
(1) في الأصل: "ومجموعها".
(4/344)
ودَوَّمَت في الحجر، لا بالأخيرةِ على
الانفرادِ، ولا بالأولى، لكن بتتالي ذلك، ودوامِه وبناءٍ بعضه
على بعضه، والمللَ الحادثَ من الكلمةِ بعد الكلمةِ،
والسَّأَمَ، إنما يحدث باتصالِ الكلامِ والمخالطةِ، يقالُ:
أكثرَ كلامَه، فسئمناه، وأطالَ القعودَ عندنا، فمللناه، وعلى
هذا.
فصل
في جمع شُبَهِهِم
فمنها: أنْ قالوا: لو كانَ العلمُ واقعاً بفعلِ الله سبحانَه
على مقتضى العادةِ، لكانَ تارةً يحصل بإخبارِ جماعةٍ بمثلهم
يحصل التواتر، وتارةً يخبرُ مثلُ ذلكَ العدد بالخبرِ، فلا
يحصلُ العلم، كما أنَّ حصولَ الولدِ عند اجتماعِ الزوجينِ،
لمَّا كان بفعل الله سبحانه على اطِّرادِ العادةِ، كان تارةً
يحصلُ، وتارةً يعزبُ.
فيقال: إنَّ كونَ العلمِ واقعاً لا محالة، ليسَ مما يدلُّ على
أنَّه متولدٌ، بل فعل الله تعالى قد يقعُ على وجهٍ لا يقعُ على
غير ذلك الوجهِ لا محالة، ولأنَّ الله سبحانه قد أجرى العادةَ
بأن يحصلَ العلمُ الضروريُّ عندَ هذا الخبرِ المخصوصِ، فدعوى
التولُدِ لا وجهَ لها (1)، وإنَّما يصح هذا، إن لو استمرَّ
أنَّ كلَّ شيءٍ حدثَ عقيبَ شيءٍ لا محالة، كان متولداَ بسببه،
وليس الأمرُ عندنا كذلك، بل كل حادثٍ فالله يحدثه، حتى إنَّ
المعلولَ يكونُ عند العلةِ وعقيبَها، وليست هي الموجبةَ،
عقليةً كانت، أو شرعيةً، فالتحرك كانَ عند الحركةِ، لا أنَّ
__________
(1) في اللأصل: "له".
(4/345)
الحركةَ أوجبَتْه، ولا أحدثته، وعلى هذا.
فإن قيل: فأصلكم يمنعُ هذا، لأنكم عللتم كونَ القديم عالماً
بالعلمِ، وكونه قادراً بالقدرة، وعلى هذا، ومعلومٌ أنَّ كونَه
عالمآ واجبٌ له، فعلَّلتم الواجبَ، فكيف أَخْلَيْتُم العلة من
تأثير المعلول، ثم تستدلون بعد قولِكم هذا على أنَّ كونَ
العالمِ عالماً معلولُ العلمِ (1)، وكونَ القادرِ قادراً
معلولُ القدرةِ؟! ومثلُ هذا ما فعلتموه في سدِّ باب الاستدلالِ
على كونِ الصنعةِ مفتقرةً إلى صانعٍ، فإنَكم مع قولكم: لَا
خالقَ، ولا فاعلَ في الشاهدِ، لم يبقَ لكم دليلٌ من الشاهدِ
على الغائبِ، وإذا بطلَ هذا من أصلِكم، لم يبقَ إلا أنَكم
مضطرون إلى أنَّ كل كائنٍ يكونُ عقيبَ كونِ كائنٍ لا محالة،
فعنه صدرَ، وهو مُوجبُه ومُسبِّبُه، وقد رأينا أنَّ العلمَ
حصلَ عقيبَ خبرِ هؤلاءِ المخبرين المخَصوصين لا محالة، حتى
إنّه لا يجوزُ أن يحصلَ عقيبَ خبرِ جماعةٍ، ولا يحصلُ عقيبَ
خبرِ جماعةٍ مثلها، فثبتَ ما قلناه.
قيل: أغنانا عن القولِ بالعلةِ والتولُدِ، ما ثبتَ من وجودِ
صانع يكفي وجودُه لإحداثِ كلِّ حادثٍ، وكما أنَّه أجرى العادة
في إدراك المحسوساتِ بنوع اتصالٍ وانطباعٍ، أو اتصالٍ شاعَ
بالمحسوس ضرورة، ولا يجو أن يختلفَ وجودُه، أجرىِّ العادةَ
بأنَّ العددَ الكثيَرَ المخبرين عن دركِ حواسِّهم لا يتطرقُ
عليهم كذبٌ، فحصلَ العلمُ عقيبَ خبرِهم، كما حصلَ لنا العلمُ
بدركِ حواسِّنا، وأغنانا (2) عن القولِ بالتولد.
وأمَّا دعواكم علينا أنَّه يَسُدُّ علينا بابَ إثباتِ الصانعِ،
فليسَ كذاك،
__________
(1) في الأصل: "العلة".
(2) غير واضحة في الأصل.
(4/346)
لأَننا لا بدَّ لنا من إضافةِ الحوادثِ إلى
محدِثٍ؛ لينقطعَ التسلسلُ، وإلا فمتى قلنا: إنَّ كل حادثٍ يقفُ
وجودُه على حادثٍ قبلَه، لم (1) نَنْتَهِ إلى غاية، ومتى وقفَ
وجودُ الحادثِ على تَقدُّمِ حوادثَ قبلَه لا غايةَ لها، لم
يوجد.
على أنَّه يلزمُكم، وينقلبُ عليكم ما ذكرتموه؛ من حيثُ إنكم مع
قولِكم بالتولُّدِ، لا بدَّ للمتولدِ عنه من مؤثّرٍ لذلك
المتولدِ عنه، [و] من مؤثرٍ ينبني عليه التولدُ، فلمَّا لم يكن
هذا القولُ منكم سداً لبابِ إثبات الصانع، كذلك لا يكون
اشتراطُنا (2) للفاعل الواحدِ سادّاً لبابِ إثباتِ الصانعِ،
لأنَّا جمعنا مستند الحوادثِ إلى غايةٍ، هي الفاعل الأول جلَّت
عظمتُه.
فصلٌ
لا يجوزُ على الجماعِة الذينَ يحصلُ بهم التواترُ التواطؤُ على
كتمِ ما يحتاجُ إلى نقلِه ومعرفتِه (3).
وبه قال العلماءُ، خلافاً للرافِضةِ: يجوزُ ذلكَ لغرض يتفقونَ
عليه، كما اتفقت الصحابةُ على كتمِ النَّص على عليٍّ رضي الله
عنه بالإمامةِ، على ما زعموا، وقولِ النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "هذا أخي، ووصيي،
__________
(1) في الأصل: "ثم".
(2) في الأصل: "اشراطنا".
(3) انظر "العدة" 3/ 852، و"المسودة" (235)، و"شرح مختصر
الروضة" 2/ 94، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 338.
(4/347)
والخليفةُ من بعدي" (1). |