الواضح في أصول الفقه فصل
(1 في أن العبادة 1) نسخُ بعضِها لا يكونُ نسخاً للباقي.
وبه قال الكرخيُّ، والبصريُّ، وأصحابُ الشافعيِّ، وعنْ بعضِهم:
أنَّهُ نسخٌ للباقي (3).
وقالَ بعضُ المتكلمين (4): (1 إن كان 1) ذلكَ نسخَ شرط (5)
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) انظر "العدة" 3/ 835، و"المسودة" (230)، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 568، و"نهاية السول" 2/ 193، و"شرح تنقيح الفصول"
(321).
(3) انظر "المحصول" 3/ 557، "الإحكام" للآمدي 3/ 178،
و"المسودة" (213).
(4) ولعله يشير بهذا لمذهب القاضي عبد الجبار. انظر "المعتمد"
1/ 447، و"الإحكام" للآمدي 3/ 178.
(5) في الأصل: "بشرط".
(4/320)
ينفصلُ عن الجملة، لم يكن ذلك نسخاً، وإنْ
كانَ (1 نسخَ بعضِ الجملةِ 1)؛ متصلاً كالقبلةِ، والركوعِ،
والسجود في الصلاة، كانَ (1 نسخاً للعبادةِ 1).
والدلالة في هذهِ نحو الدلالةِ في الزيادةِ، وأن (1 .... 1)
المزيد عليه على ما (1 ........ 1) ثم نسخ أحدهما، لم يكن
نسخاً للثاني (1 ...... 1) بعض واجباتِ الشريعةِ، وقد صارَ
كلٌّ واجباً بعد أن كان بعضه.
وأيضاً: لو كانَ التنقيصُ نسخاً لما بقي بعد التنقيصِ، لكانَ
المخصوصُ بعضهُ موجباً تخصيصَ ما بقيَ، فلمَّا كانَ الباقي على
عمومِهِ فيما بقيَ متناولاً له، كذلكَ في بابِ النسخِ، ولا
فرقَ بينهما.
شبهة تضاهي شُبَهَهُم في الزيادةِ: وهي (2) أنَّ النقصانَ
غَيَّرَالفريضةَ، فجعلَ ما كان بعْضاً (1 كلاًّ، فصار ما 1) لا
يُجْزِىءُ، ولا يُبرِىءُ الذمةَ، يُجزِىءُ ويُبرِىءُ، وهذا
حقيقةُ (1 النسخِ.
والجواب 1) عليه: نحوُ ما قدَّمنا، وأنَّ الباقي ما تَغَيَّر
عمَّا كانَ عليهِ.
على أنَّهُ (1 يبطُلُ بنقصانِ1) عبادة مِنْ عباداتٍ، وبنَسْخِ
شَرط منفصلٍ عَن العبادةِ، على قولِ من سَلَّمَه (1).
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) ليست في الأصل.
(4/321)
فصلٌ
يجوزُ النسخُ بأفعالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذاً
من قولِ أحمدَ بتخصيصِ العموماتِ بفعلهِ - صلى الله عليه وسلم
-.
وقال (1 أبو الحسن التميمي 1): لا يجوزُ ذلكَ، وبناهُ على أنَّ
أفعالَهُ لا تدلُّ على الوجوب (1 وعندي: لا يجوزُ ذلك 1) من
غيرِ بناءٍ، لأنَّ أفعالَهُ وإنْ دَلَّتْ على الوجوبِ، فإنها
تَدلُّ في الظاهر، والقولُ صريح، والفعلُ دليل وليسَ بصريح
(2)، (1 والشيءُ إنما يُنسَخُ 1) بما هُوَ مثلُه، أو ما هو
أعلى منه، فأمَّا [أن] ينسخَ بما دونَه، فلا، (1 والله أعلم 1)
(3).
__________
(1 - 1 طمس في الأصل، وانظر "المسودة" 228 - 229.
(2) في الأصل: "تصرح".
(3) ورد هنا في الأصل ما نصه: اخر المجلد، والحمد لله وحده،
يتلوه في الذي يليه: فصول الأخبار وما فيها من الخلاف، وصلى
الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم.
(4/322)
فصول
الأخبار وما فيها من الخلاف
فصل
الخبر صيغة، ولا نقول: للخبر صيغة؛ على ما قدمت في الأمر (1)،
وأنَّ من قالَ: الكلامُ في النفس، حَسُنَ منه أن يقولَ: للخبر
صيغة تعبِّر عنه، فأمَّا من قال: الكلامُ هو الصيغ، قال:
الأمرُ صيغةَ مخصوصة، والخبرُ صيغةٌ مخصوصةٌ، وهو على ما قدمنا
في الحدودِ والعقود في أول الكتاب.
والصيغةُ بمجردها خبرٌ من غير قرينةٍ ولا دلالةٍ، وهي قولُ
القائلِ: قامَ زيدٌ، وانطلقَ عمرٌ و، ويقومُ خالد، إلى أمثالِ
ذلك.
وقالت المعتزلةُ: لا صيغة له، وإنَّما يدلُّ اللفظُ عليه
بقرينةٍ أو دلالةٍ.
وقالت الأشاعرة: الخبرُ نوع من، الكلامِ، قائم في النفس،
ويعبَّر
__________
(1) هذا ما اختاره المصنف مخالفاً فيه القاضي أبا يعلى، إذ
قال: للخبر صيغة. "العدة" 3/ 840.
ورجح ابن تيمية في "المسودة" (232) ما قاله القاضي، وأن الأجود
أن يقال: للخبر صيغة، لا الخبرُ صيغة، ووجه ذلك: أن الأمرَ
والخبرَ والعموم هو اللفظ والمعنى جميعاً، وليس هو اللفظ فقط،
فتقديره: لهذا الخبرِ مُركَّبٌ يدلُ بنفسه على الخبرِ، بخلاف
ما إذا قيل: الأمرُ هو الصيغة فقط، فإنَّ الدليلَ يبقى هو
المدلول عليه
(4/323)
عنه بعبارةٍ، هي هذه الصيغةُ، كما قالوا في
الأمرِ والنهي.
فصل
في دلائِلنا فيها
فمنها: أنَّ أهلَ اللغةِ، وأربابَ اللسانِ، قَسَّمُوا الكلامَ
أقساماً، فقالوا: إنَّه أمرٌ ونهي، وخبرٌ واستخبارٌ، ونداءٌ
وتمنٍّ، فالخبر من ذلك: قامَ زيد، وانطلقَ عمرو، وقالوا: إنَّه
ما حسُنَ أن يكون جوابه في اللغة. صدَقْتَ، أو كَذَبْتَ.
ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ مع كونِهم أهلَ هذه الصناعة، وحاجتُهم
إلى التخاطب بالأخبارِ الحاجةَ الماسَّةَ، وبهم إلى ذلك
الضرورة الماسَّة، لا يجوز أن نَظُنَّ بهم أنّهم لم يضعوا
للخبرِ صيغةً، لا سيّما وقد سمعناهم يقولون (1): زيدٌ في
الدارِ، خبراً، وهل زيدٌ دي الدار؟ سؤالاً واستخباراً، ويا
زيدُ، نداءً، ولعلَّ زيداً (2 في الدار، ترجياً، وليت زيداً
قائمٌ تمنياً 2) وقم يا زيدُ، أمراً، ولا تدخل، ولا تقعد (2)،
نهياً، فلا حاجةَ بنا مع سماعِ هذه الأوضاع منهم إلى الدلالة
ومَن يخالفُ في هذا، يجري مجرى المعاند لوضعهم، فلا بُدَّ أن
نُشبعَ الكلام.
وكتاب الله سبحانه مملوءٌ بالأَخبار عما كان، وعمَّا يكونُ،
مثلُ
__________
(1) في الأصل: "يقول".
(2) طمس في الأصل
(4/324)
قولِه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، وخبر الماضي: {إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم: 47]، والصيغ
بالأخبار أكثرُ من أن تحصى في كتابِ الله سبحانه، وتَخاطُبِ
العربِ بها.
فصلٌ
في شُبَهِهِم
قالوا: هذه الصيغةُ قد تردُ، والمرادُ بها الأمرُ، كقوله:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] و
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، {وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وكم أُمٍّ لا ترضع،
ومطلقةٍ لا تتربصُ، وزمانٍ يكونُ في الحرمِ مخوفاً غير آمن،
وخبرُ الله تعالى لا يكون (1) بخلاف مُخبَرِه، فإذا وردت هذه
الصيغة مطلقةً، غيرَ مقيدةٍ بقرينةٍ، ولا دلالةٍ تدلُّ على
صرفِها إلى الخبرِ، وجب التوقفُ فيها، وكان أكثرُ ما تعطينا
الصلاحيةَ للخبرِ، فأمّا الوضع والاقتضاءُ، فلا، وصارت كسائرِ
الألفاظِ المشتركةِ، كقُرْء، وشفق، وجونٍ، ولونٍ.
فيقالُ: هذه الدعوى معكوسةٌ، بل الصيغة موضوعةٌ؛ بدليلِ ما
ذكرنا، وتصرفُ بدلالةٍ وقرينةٍ إلى الأمر، فتكونُ لامُ الأمرِ
محذوفةً، وتقديرُه: لِتُرضِعْنَ، ولِتَتربَّصنَ، ومن دخلَه،
فأمِّنوه، فالوضعُ الأصل، والصرفُ لها من الخبرِ إلى الأمرِ
بدلالةٍ وقريية، ويوضَحُ
__________
(1) كتب في الأصل فوقها: "يقع"
(4/325)
ذلك: أنَّ المبادرةَ بهذهِ الصيغةِ لا يفهم
منها إلا الخبرُ، ولا يعقلُ الأمرُ إلا بدلالةٍ، ووجهُ
القرينةِ في الصيغةِ: أنَّها للمستقبلِ، وكونُها من الأعلى،
فأمَّا إذا وردت من (1) مساوٍ أو دونٍ، لم يعقل منها إلا
الخبرُ، فاعتبارُ القرينةِ لكونها أمراً، وعدمُ اعتبارِ
القرينةِ في كونها خبراً، دلالةٌ على أنَّ وَضْعَها خبرٌ، لا
أمرٌ.
فصلٌ
يقع العلم بأخبارِ التواتر مع اختلاف الناس في العدد المعتبر،
وبه قالت الكافَّةُ.
وحُكِيَ عن السُّمَنِيّهِ (2)، وقيل: البَراهِمَة (3) أيضأ:
أنه (4 لا يقعُ 4) العلمُ بالأخبار، بل بالمشاهدات والحواسِّ
خاصَّةً.
(4 فيقالُ: إننا 4) نجد نفوسَنا ساكنةً، وقلوبَنا عالمةً بما
نسمعُ من
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) في الأصل: "السمنينة"، والسمنية: فرقة ضالّة، من
معتقداتها: القول بتناسخ الأرواح، وإنكار البعث بعد الموت،
وتزعم: أنه لا معلوم إلا ما أُدرك بالحواس الخمس.
انظر "الفرق بين الفرق" (270 - 271).
(3) البراهمة: فرقة تنتسب إلى رجل يقال له: براهم، تنفي
النبوات، وتنكر وجود الرسالات، تفرقوا أصنافاً، فمنهم أصحاب
البددة، ومنهم أصحاب الفكرة، ومنهم أصحاب التناسخ.
انظر "الملل والنحل" 2/ 250 - 252.
(4 - 4) طمس في الأصل
(4/326)
الأخبارِ عن البلاد النائيةِ، والقرونِ
الخاليةِ، والأممِ السالفةِ، كسكونها إلى العلمِ بما تدركُه
بالحواسِّ من المحسوساتِ، ومن أنكرَ ذلك، سلكنا معه ما سلكناه
مع أصحاب سوفسطا (1)؛ حيث أنكروا حقائق الأشياء، ودركَ
الحواسِّ، وليسَ يسلكُ مع أولئك طريقُ المناظرة، لكن يسلكُ
معهم مسلك العلاجِ والمداواةِ، وإنَّما تنقطعُ المناظرةُ معهم؛
لأنَّ غايةَ أدواتِ النظرِ: القولُ المفضي إلى جعلِ الغائبِ
كالشاهدِ، وحملِ المعلومِ على المحسوس، وسياقةِ الأمرِ إلى أن
تحصلَ الثقةُ بالإثباتِ أو النفي بدلالةِ العقلِ؛ بطريقِ
النظرِ والتأملِ والاستدلالِ، فإذا كانوا للطرقِ منكرين،
تعذَّرَ الوصولُ إلى الغايةِ المطلوبةِ، فليس إلا إخراجهم إلى
الإثباتِ لما أنكروه، من تسليطِ المؤلمات عليهم، فإذا أذعنوا
بدركِ الآلامِ، افتضحوا في جحدهم، وبان إهمالُهم وتجنِّيهم؛ إذ
لو كانَ المحسوسُ باطلاً، والحسُّ منعدماً، لماظهرَ منهم ما
يظهرُ منّا، فإذا فعلَ بمحضرٍ منهم ما يُضحكُ فضحكوا (2)
بتحركِ عضلِهم، وما يُحزنُ، فبكوا، وما يُطربُ، فتحركوا، وما
يغضبُ من القولِ، فغضبوا، وما يُدهشُ مِن الأخبارِ، فدهشوا،
وما يسرُّ مِن الإحسانِ، فاستبشروا، كذبَتْ أقوالَهم بالجَحْدِ
أحوالُهم؛ بقَبُولِ (3) كلِّ مُدرَكٍ محسوسٍ، وظهورِ الحال
التي تقتضيه.
وقد تحيَّل الفقهاء بمثل (4) ذلك في باب مَن جُنيَ عليه بلطمةٍ
أو ضربةٍ، فادَّعى أنَّه ذهبَ بصرُه أو سمعُه أو عقلُه، بأن
أظهرَ العمى
__________
(1) يعني: السوفسطائية، انظر ما تقدم في 1/ 202.
(2) في الأصلَ: "لضحكوا".
(3) في الأصل: "بقول".
(4) في الأصل: "لمثل".
(4/327)
والطرشَ والخبلَ، فاغتفلوه بالكلامِ
المضحكِ والمحزنِ والمغضِبِ، فإذا ظهرَ منه ما يَظهرُ من
السامعِ، واغتفلوا المدعي للعمى بما يفزعُ، أو يُعجبُ من
الصُّوَرِ، وتغييرِ الأشكالِ، والإيماءِ إليه بما يوجب البعدَ
أو العَدْوَ بالتخويفِ، فإن ظهرَ منه ما يدلُّ على الرؤيةِ،
حكموا بكذبهِ فيما ادعاه من فقدِ الحاسَّةِ، وكذلكِ في بابِ
العقلِ يمتحنُ بالعقلياتِ، فيغتفلُ (1) بذكر الأخبار التي لا
يقبلها العقلُ، والخيالاتِ التي يأباها، فإن أنكرَ، عُلِمَ
كذبُه، فكذلك في مسألتنا مَن سُلِّطَ عليه الأخبارُ من طريقِ
التواطؤ على ذلك؛ بأنَّ السلطان قد يقدمُ ويقتلُه، وأنَّ أباه
غرقَ، أو دارَه احترقت، أو أنَّ بضاعَته تلفت، فإن ظهرَ منه من
الشحوب والتغيّرِ فزعاً أو حزناً، أو أخبر بما يغضبه، فغصْب،
كَذَّبَتْ حَالُه دعواه، وبانَ أنَّه يجدُ الثقة بالأخبارِ
حقيقةً، ويجحدُ ذلكَ مذهباً، وكم بلغ بالناس العنادُ إلى
إفسادِ الاعتقادِ، وتَجَرُّدٍ من الإحساس في حقِّ بعضِ
الأَشخاصِ؛ لعصبيةٍ أو محبةٍ، كما قال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "حبُّك للشيء يعمي ويصم" (2)، فغلبةُ المحبةِ تغشي
البصرَ والبصيرةَ، فكذلكَ الأهواءُ في المذاهب تفسد المداركَ،
فإذا سُلِطَ عليها الامتحانُ، بانَ كذبُ ذلكَ التَّعمُّلِ،
والطبعُ أغلبُ.
وأيضاً: فإنَّا نجدُ نفوسَنا ينشأُ فيها العلمُ أولاً فأولاً
إلى أن تستحكم
__________
(1) في الأصل: "معتفل".
(2) آخرجه أبو داود (5130) من حديث أبي الدرداء، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "حبك الشيء يعمي ويصم"، وسكت أبو
داود عليه.
وإسناد الحدي ضعيف. انظر "الأسرار المرفوعة" (187)، و"المقاصد
الحسنة" (181).
(4/328)
الثقةُ، فإذا أخبرنا المخبر بعد المخبر،
تناشأَ عندنا أمرٌ ينتهي إلى الثقةِ، وسكونِ النفسِ، كما أنَّ
العلومَ الاستدلاليةَ نَنْتَهي إليها؛ بمقدمةٍ بعد مقدمةٍ،
والترقي في النَّظَرِ درجةٍ بعد درجةٍ إلى أن ننتهيَ إلى سكونِ
النفس والثقةِ، كما يحصلُ الحفظُ بتكرارِ المحفوظ على النفس،
ولا يزال يعلقُ بالقلبِ أولاً فأوّلاً (1)، إلى أن يترصعَ (2)
في القلب، ويتشكلَ، فيصيرَ بالتكرارِ بمثابةِ (3 الخَتم، وهو
3) الرَّسم والفص المنقَوش على المطبوع فيه من طين أو شمع،
وبمثابةِ الحلي (4) المصوغِ بتكريرِ الصائغِ عليه إلى أن يتمكن
(3 مِنْ صَقْلِهِ 3). وهذه أمور كلها معلومات لمن أَنصف، وكذلك
حدوثُ السكرِ عندَ تكرُّرِ الشربِ، فمن كابرَ ذلك، خانَ نفسَه،
واتهمها.
وأيضاً: فإنَّ العددَ الكبيرَ كأهلِ بغداد وسمرقندَ، لا يجوزُ
أن يتفقوا على محبة الكذب، كما لا يجوز أن يتفقوا على الميلِ
إلى الحموضةِ أو الحلاوةِ، لاختلافِ أمزجتهم، كذلك ها هنا لا
يتفقون على محبة الكذب؛ لاختلافِ مروءاتِهم ودياناتِهم، وإذا
استحال ذلك، ثم اتفقوا على نقلِ خبرٍ على وجهٍ واحدٍ، قطعنا
على صدقهم.
فإن قيلَ: فلا نأخذكم إلا من دليلكم، فنقولُ: بهذا استحالَ
العلمُ بخبرِ التواترِ، لأنَّ الجمَّ الغفيرَ والعددَ الكثيرَ
لا يتفقون (5) على أمرٍ واحدٍ؛ لاختلافِ آرائهم وأمزجتهم، وإذا
كان كذلك، كان محالاً
__________
(1) في الأصل: "فأول".
(2) أي: يترسخ ويلزق. "اللسان"، و"القاموس": (رصع).
(3 - 3) طمس في الأصل.
(4) في الأصل: "المحل".
(5) في الأصل: "يتفق".
(4/329)
اتفاقُهم على الصدقِ أيضاً، لأنَّ الطباعَ
لا تتحدُ في فضلٍ ولا نقصٍ مع كثرةِ آرابِها، ألا ترى أنَّه
كما يستحيلُ اتفاقُ أهلِ بغدادَ على محبةِ الكذبِ ومحبةِ
الخلِّ، يستحيلُ اتفاقُهم على محبةِ الصدقِ ومحبةِ العسل،
فالاتفاقُ مستحيلٌ في الخيرِ والشر، بل ربما كانَ الشرُّ
أغلبَ، والخيرُ أندرَ وأقلَّ، فإذا لم يجز اتفاقهم على الشرِّ
مع كثرةِ مُؤْثِريه وأهلِه، فلأَن لا يجتمعوا على الصدقِ،
أَوْلى.
قيل: لسنا نقولُ: إنَّ اتفاقَهم على الصدقِ لأنَّه خير، وعدمَ
اتفاقهم على الكذبِ لأنَّه شرٌّ، لكنْ لأن الصدقَ هو نقل ما
جَرَى، ولا شيءَ أحبُّ إلى نفوس الناس وميلهم؛ من إشاعة الخبر
والحديث بما رأوا وسمعوا، ولهذاَ قيلَ:
وسرُّ الثلاثةِ غير الخفي (1).
وكتمُ السرِّ ثقيلٌ على نفوس النَّاس، فهم مُغْرَمون بنقلِ ما
شاهدوا إطرافاً لمن لم يَسْمَعْ، وإخباَراً لمن لم يُخبَرْ،
فأمَّا الكتمُ فقلَّ من تقْدِرُ عليه، فهم يحبون نقلَ الخبرِ؛
لا من حيث هو صدقٌ، لكن من حيث هو جارٍ ومسموعٌ؛ يحملُ إلى
جانب لم يسمع، وهائل من النظر، وأحسن منه في (2 المُحَسَّنِ
المُجَمَّل 2)، ومع النفس دواعٍ تدعو إلى الإعلام، ومنعة مانع
تمنع من الإسرار والكتم.
__________
(1) عجز بيت من الشعر للصلتان العبدي، وصدره: (وسرُّكَ ما كان
عند امرىءٍ)، وهو مع أبيات أخرى له في "خزانة الأدب" 2/ 182 -
183، و"الحيوان للجاحظ" 3/ 477 - 478، ونسبها الجاحظ للصلتان
السعدي.
(2 - 2) هكذا في الأصل.
(4/330)
فصلٌ
في شُبَهِهِم
فمنها: أن قالوا: كلُّ جملةٍ إنما هي مجموعُ آحادِها، وليسَ
جملةُ العددِ الدين نقلوا الخبرَ المتواترَ إلا مجموعَ آحاد
نقلوا الخبرَ، وقد ثبتَ أن كلَّ واحدٍ من الجماعةِ يجوزُ على
خبرِه الكذبُ، كما يجوزُ عليه الصدقُ، فلا وجهَ لتغيُّرِ
حالِهم باجتماعِهم، لأنَّ جملَتهم ليس بأكثرَ من آحادِهم،
فتجويزُ الكذبِ على الجماعةِ على ما كانَ، إلى أن تقومَ دلالة
تعطينا خروجَ الجملةِ إلى القطع بقولهم وصدقِهم، بعدما كانَ
خبرُ كلِّ واحد منهم متردداً بين الصِّدقِ والكذب، وهذا دليلٌ
قد رضيه المتكلمونَ لإثباتِ حدث العالم، وقالوا: كلُّ حركةٍ من
حركاتِ الفلكِ محدثة متجدِّدة، بعد أن لم تكن، فإذا ثبتَ لكلِّ
أجزائه الحدوثُ، فليس جملتُه بأكثرَ من آحادِه، فوجبَ أن تكون
جملتُه محدثةً بعد أن لم تكن، فثبتَ بهذِه الجملةِ انتفاءُ
العلمِ عن خبرِ التواترِ؛ بانتفاءِ العلمِ عن كلِّ واحدٍ من
المخبرين.
فيقال: إن هذه قضية كاذبةٌ، ولسنا نرضاها في هذه المسألةِ، ولا
في دلالة الحدث، وإنَّما المعوَّلُ على غيرِها هناك، ووجهُ
فسادِها، ونفيُ الرضا بها: أنَّ الجملَ أبداً في المحسوسات
والمعلوماتِ لها من الحكم ما ليس لآحادها، ويَتَجدَّدُ
للاجتماعِ ما ليس للانفرادِ، بدليلِ نعيمِ أهلِ الجنَّة؛ فإنَّ
كلَّ حالةٍ من أحوالِهم ذو أولٍ وآخرٍ ونهاية، والنعيمُ لا
غايةَ له ولا انقطاع، وكلُّ طابق من طوابيق الدارِ لا تملأ
صحنها، وجملةُ الطوابيقِ تملأ صحنَها، والأشياءُ الثقيلة
كالسَّاحَةِ والعِدْلِ الثقيلين، قد لا ينهض بهما الواحدُ
والاثنانِ، فإذا تكاثرَ عليهما الرجالُ، ارتفعت من الأرضِ،
وانتقلت من مكانٍ إلى
(4/331)
مكانٍ، وكذلكَ إذا أخبر الواحدُ حصلَ بعضُ
الثقةِ إلى قولِه، وكلما تكاثرَ عددُ المخبرين، تزايدت حتى
يحصلَ اليقينُ الذي لا يؤثَرُ فيه تشكيكُ مُشكِّكٍ، وهذا نجده
من نفوسِنا، في أنَّ لنا بلداً يعرفُ بمكة، وأنَّ فيه بيتاً
يعرف بالكعبة، حتى إنَّ المؤمنَ بأخبار الله والكافر متساويان
(1) في العلم بذلكَ، لأجلِ تواترِ الأخبارِ بالعلم (2) الذي لا
يدخلُ عليه ارتياب.
على أنَّ الواحدَ من الجماعةِ قد يكونُ له داعٍ يدعوه إلىِ
الكذبِ في خبرهِ، ولكن لا تتفق دواعي العددِ الكثيرِ والجَمِّ
العْفيرِ على حصول الداعي إلى الكذبِ، بل يستحيلُ ذلكَ على
الأمَّة الكثيرة، فقد بانَ مفارقة (3) الآحادِ للجماعةِ من هذه
الوجوه كلها.
ومنها أن قالوا: القولُ بالعلمِ بأخبارِ التواترِ يفضي إلى
محالٍ، وما أفضى إلى محالٍ محالٌ، وذلكَ أنَّ العددَ الذي
يحصلُ بخبرِهم العلمُ الضروريُّ عندكم، إذا أخبرَ عددٌ مثلُهم
بما يضادُّ خبرَهم، مثل أنْ يخبرَ هؤلاء بموتِ زيدٍ أمس،
ويخبرُ الآخرون بحياتِه في الوقتِ الذي أخبرَ أولئك بموته،
فيفَضي ذلك إلى أنَّ يَجْتمعَ (4) لنا العلمانِ بالضدينِ
جميعاً: موت زيدٍ، وحياته، وذلكَ محالٌ، فالمذهبُ المؤدِّي
إليهِ باطلٌ.
فيقالُ: هذا الفرضُ محالٌ، لا يجوزُ أن تُخبِرَ جماعةٌ لا
يجوزُ
__________
(1) في الأصل: "متساويين".
(2) في الأصل: "العلم".
(3) في الأصل: "مفارق".
(4) في الأصل: "يجمع".
(4/332)
على مثلهم التواطؤ على الكذبِ على خبرٍ،
ويجتمعَ مثلُهم على الإخبارِ بضِدِّه.
ومنها: أن قالوا: لو كانَ العلمُ يحصلُ بنقلِ الجماعةِ
الكثيرةِ، لوجبَ حصول العلمِ لنا بما نقلته اليهود عن موسى،
والنصارى عن مسيحها، وأهل الرفضِ عن أئمتِهم؛ من العجائبِ التي
يقصدونَ بها إفسادَ مِلَّتِنا، وتكذيبَ كتابِنا ورسولِنا - صلى
الله عليه وسلم -، والطعنَ في أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه
وسلم -، قالوا: يوضِّحُ هذا: أنَّ المعنى الذي تمسكتم به، هو
أنَّ الدواعي لا تتفقُ على اختلاقِ الكذبِ، وهذا موجود في كل
ملَّة.
فيقال: إنَّ النقل الذي يوجبُ العلمَ عندنا، مشروطٌ باستواءِ
الطرفين (1)، فأمَّا أن يسمعَ الواحدُ، أو يرويَ، أو يشهدَ
الحال، ثم يحدِّثَ به أعداداً من الرجالِ، ويحدثَ أولئك
الأعدادُ الأفرادُ لأقوامٍ، فتكثُرُ (2) الرواةُ والمخبرون،
لكنْ هذا العددُ الكثيرُ نقلوا عن أعداد وأفراد، فلا يكون
محصلاً للعلم عندنا، ألا ترى أن سخاء حاتم، وفصاحة سحبان وائل
وقس بن ساعدة، وفهاهة باقل، وشجاعة علي والمقداد، لما نقلت
تواتراً متساوي الطرفين، لم يختلف في ذلك اثنان، ولم يقع فيه
شك لمرتاب، ومن شكَّ فيهِ فكأنَّما شكَّ في المحسوساتِ، ولأنَّ
يهودَ ما اتفقوا على ذلكَ، بدليل أن رؤساءهم وعلماءهم آمنوا
برسول الله، ولو كانوا نقلوا عن نبيهم شيئاً، لما
__________
(1) أني: أن يستوي العدد في طرفي الخبر ووسطه، فتكون رواية
الجمع الذين لا يجوز تواطؤهم على الكذب متحققة في كل حلقات
السند، ومثل هذا غير متحقق في خبر اليهود والنصارى، كونهم
يروون عن كتب وأعداد يسيرة.
انظر "التمهيد" 3/ 19، و"العدة" 3/ 843، و" المسودة" (292).
(2) في الأصل: "مكثر".
(4/333)
رجعوا عنه، ولو رجعوا إلى نبينا غير مذعنين
بل منافقين، لما حصلت الثقةُ بقولِهم الأول، كما لم تحصل الثقة
بقولهم في الثاني.
ومنها: أنَّه قد جازَ اجتماعُ الجماعةِ الكثيرةِ على الخطأ من
طريقِ الاجتهاد والرأي، كالفلاسفة و [أهل] الطب، فهلا جوزتم
اجتماع جماعةٍ على الكذبِ في النقلِ، وما الفرقُ بين الاجتهادِ
والنقل (1)؟! ولهذا جعلتم الإجماعَ حجةً مقطوعاً بها في الرأي،
كما جعلتم التواترَ حجة مقطوعاً بها في الخبرِ.
فيقال: أمَّا الاجتهادُ، فأدلته خَفِيّهٌ، فالاجتهاد في
الحقائقِ بالاستدلال العقلي، ففي أدلته غموضٌ، ولهذا تعترضه
الشكوكُ، وكم شاكٍّ وواقف في ذلك، وكم راجع عن رأيه ومذهبِه
بعد أن حَقَّقَ القولَ فيه.
وأمَّا ما طريقُه الخبرُ عن المُشاهَدة ودركِ الحواسِّ، فلا
شكَّ يعتري، ولا شبهة تعرض، فإذا اتفقت الجماعةُ المأمونُ
عليهم الاتفافَ على الكذبِ والاختلاقِ، فلا شكَّ عند السامعِ
فيما أَخْبَرُوا بِه، كما لا يتطرقُ الشك عليهم فيما رأوه.
ومنها: أنْ قالوا: لو كانَ خبرُ التواتر يحصلُ به العلمُ، لما
اختلفَ اثنان في نبوةِ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، لأنَّ
نقلَ ذلك بأخبارٍ متواترة، فلما وقعَ الخلافُ، فجحدَ أهلُ
الأدياد نُبؤَتَه، وجحدتها الفلاسفة و [أهل] الطب وأهلُ
الطبعِ، عُلِمَ أنَّه ليس بطريقٍ للعلمِ، ألا ترى أنَّ ما
أُدرِكَ ببَدائِه العقولِ وأدلَّتِها (2)، لم يختلف النَاسُ
فيه لَمَّا كان علماً ضرورياً.
فيقال: إنَّ النبوةَ حكمٌ، وليست معنىً يشاهَدُ، لأنَّها رتبةٌ
دينيةٌ،
__________
(1) في الأصل: "القول".
(2) في الأصل: "أولها".
(4/334)
والنبوةُ لا تنقل، إنما تنقل السِّيَرُ،
فيتصفحُ المنقولُ إليه منها ما يَدُلُه على النبوة، كما أنَّ
شجاعةَ عليٍّ لا تنقلُ، ولا سخاءَ حاتم، ولا فهاهة باقل، ولا
فصاحةَ سحبان وائل، لكنْ تنقلُ إلينا أفعالُهم وأقوالُهم،
فنستدلُّ بذلكَ على ما وراءها من. إثباتِ شجاعةٍ وفصاحةٍ
وسخاوةٍ، والنُّبوَّة تنقل إلينا أعلامُها، فنعلمُ بذلكَ نبوةَ
من ظهرت تلك الأعلامُ على يدِه، وقد نقل من طريق التواتر: أنَّ
المبعوثَ بتهامة ظهرَ على يده أشياءُ في الجملةِ، أدهشت
العقلاءَ حتى قالوا (1): سحرٌ، وما يقول القائلُ: سحرٌ، إلا
لما يدهشه، وجاءَ بهذا الكلامِ الذي تَحَدَّى به العربَ،
فعجزوا عنه، فكانَ عنادُهم لما جاءَ به استنطقهم بالتكذيب،
ودعوى السحر والاختلاف، واحتجاجهم معلوم منقول، وهو مجرد الجحد
بما لا يوجبُه، مثل قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}
[الأنعام: 8] {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12] ,
{يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:
7]، والمنقولُ بالتواترِ قد عُلِمَ، كما عُلِمت شجاعةُ عليٍّ،
فالطاعنُ على عليٍّ لم يدفع ما ثبتَ بالتواترِ؛ من أيامهِ
المشهودة، ومبارزاتهِ المعلومة، لكن قالَ فيه: إنه ما طلب
الحق، فكذلك قالَ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم
يأتِ بالحقِّ، لا أنهم أنكروا ما ظهر على يديهِ من الأمورِ
الخارقةِ.
على أنَّ الردَّ لِمَا جاءَ به، والخلافَ فيه، لا يوجبُ نفيَ
العلمِ، بدليلِ أنَّ لنا من جحدَ دركَ المحسوساتِ، وهم أصحاب
سوفسطا، ولنا من أنكرَ ما عدا الضرورات، ولنا من أنكرَ العلمَ
بغيرِ الأخبارِ، وهم مفسدو النظرِ والاستدلال، وزعم أن لا ثقة
بنظر، وجعل العلةَ في نفي ذلكَ وقوعَ الخلافِ فيه، وتسلُّطَ
الشكِّ عليه، ورجوعَ أهلِ
__________
(1) في الأصل: "قال".
(4/335)
النظرِ عن مذهبٍ كانوا زماناً عليه إلى
مذهبِ عادوا إليه، ولم يدلَّ ذلك عندنا وعندكم على إخراجِ
النظرِ من كونَه طريقاً للعلم.
وجوابٌ آخر: وهو أنَّ النبوَّةَ لا تثبتُ ضرورةً؛ لأنَّها إنما
تثبتُ بالاستدلالِ، فمن نقلَ نبوته إنَّما نقل ما قاله عن
اجتهادٍ، وليست بأكثرَ من الإلهية، والصانعُ ما ثبتَ إلا بدليل
صُنْعِه، وما صدر عنه، ولم يؤدِّ بنا ذلك إلى العلمِ به
ضرورةً، فنبوة أنبيائه لا تثبتُ ضرورةً.
ومنها: أنْ قالوا: إنَّ الكذبَ ممكن في حَقِّ كل واحد من
الجماعةِ المخبرين، فلا وجه لاستحالتِه على جماعتِهم، كما أنَّ
الصِّدقَ لَمَّا كان ممكناً في حَق كُلِّ واحدٍ، لم يستحل
وقوعُه من جماعة كثيرة العدد، وإذا كانَ كذلكَ، وانتفت
الاستحالةُ، ثبتَ التجويزُ، لأنَّ الاستحالة ليست إلا حكمَ
العقل بنفي التجويزِ، وقد حكمَ العقلُ بتجويزِ الكذبِ، فلا
وجهَ للعلم بصدقِهم من طريقِ الضرورةِ.
فيقال: التجويزُ على كلِّ واحدٍ لا يعطي التجويزَ على الجماعةِ
لما قدمنا، وأنَ اجتماعَ الكل على إتيان الكذبِ في الخبرِ،
محالٌ مع اختلافِ الطباعِ، وذلكَ أنَّه لا تكادُ تجتمعُ إرادةُ
جماعةِ أهلِ بلدٍ كبيرٍ ومصرٍ جامعٍ على إتيانِ الكذبِ، وإن
كانوا مجتمعين على القدرةِ، إذ ليسَ كلُّ مقدورٍ عليه تتساعدُ
دواعي الخلقِ الكثيرِعليه، فإنَّ كلَّ أحدٍ يقدرُ على القتل
وأذية الحيوان، لكن لا يتفقونَ على القسوةِ، بل يختلفونَ في
الرِّقَّةِ والقسوةِ.
فصلٌ
والعلمُ الواقعُ بالخبرِ المتواترِ ضروري (1)، وبه قال أكثر
الفقهاء
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 847، و"التمهيد" 3/ 22، و"المسودة" (234)،
=
(4/336)
والأصوليين، خلافاً للبلخي من المعتزلةِ،
والدقاق من أصحابِ الشافعي (1)،
فصل
في حجتنا
إِنَّنا نعلمُ من نفوسِنا الثقةَ والسكونَ إلى أخبارِ النَّاس
بالبلادِ النائيةِ، والسِّيَرِ بالقرون الخالية، حتى إنّنا لا
نَشُكُّ في ذلك بَتشكيك، حتى إنَّ من لم يشهد مكةَ، ولا غيرَها
من البلادِ، يتحقَّقُ وجودَها، ويخاطرُ بنفسِه سَفَراً إليها،
وينفقُ أموالَه في طلبتِها؛ ثقةً بأخبار من شاهدها، وسافرَ
إليها.
ومنها: أنَّه لو كانَ العلمُ الحاصل بخبرِ التواترِ بطريقِ
الاستدلالِ، لما وقعَ للصبيانِ الذينَ لم يَبْلغوا مبلغَ
النظرِ والاستدلالِ، فلمَّا وقعَ للصبيانِ العلمُ، عُلِمَ
أنَّه ضروريٌ، لأنّهم من أهلِ العلمِ الضروري.
ومنها: أنَّ الخلافَ لا يقعُ في العلمِ الحاصلِ بالتواترِ، كما
لا يقعُ بالمحسوساتِ، ولو كان استدلاليّاً لما خلا من مخالفٍ
فيه، ومناظرٍ عليه، فلمَّا اتفقَ العقلاءُ عليه بغيرِ اختلافٍ،
دل على أنَّه ضروريّ.
فصل
في شبه المخالف
فمنها: أنَّ العلم الواقعَ بخبرِ التواترِ؛ لو كانَ ضرورياً،
لما اختلفَ
__________
= و"شرح مختصر الروضة" 2/ 79.
(1) انظر "التبصرة" (293)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 27،
و"المحصول" 4/ 230.
(4/337)
العقلاءُ فيه، ألا ترى أنَّ الواقعَ من
العلمِ بدركِ الحواسِّ، لَما كان ضرورياً، لم يختلف فيه أهلُ
المذاهبِ، وكذلك المعلومُ بأوائل العقولِ، مثل العلمِ بأنَّ
الواحدَ أقلُّ من الاثنين، وأنَّ الجسمَ لا يكون في حالةٍ في
مكانين، وأنَّ الجَمَلَ لا يَلجُ في سَمِّ الخِياطِ، فلما وقعَ
الخلافُ في هذا العلم بينَ العقلاءِ، عُلِم أنَّه ليس من
العلومِ الضرورية التي لا تحتمل الخلاف.
فيقالُ: إنَّ حصولَ الخلافِ لا يجعلُه [غير] حجةٍ، انَّما
الحجةُ الأدلةُ، فإنَّ الخلافَ قد يقع عناداً وعصبيةً
وتقليداً، ولهذا دخلَ الخلافُ في دركِ الحواسِّ؛ بحدوثِ شكوكِ
سوفسطا أو تشكيكهِ، فخَيَّلَ عقول جماعة، وكثر أتباعُه في
مقالته، وكم من خيالٍ أحدثه أهلُ الأهواءِ والبدعِ، ونوظروا،
فصارَ في المسائل غيرِ المحتملةِ للخلافِ خلافاً.
ومنها: أن قالوا: وجدنا الإنسانَ يسمعُ الخبرَ من الواحدِ
والاثنين، فلا يحصلُ له العلمُ إلى أن يتكاثرَ عددُ المخبرين،
فيعلمُ حينئذٍ بتناصر أقوالهِم صحةَ خبرِهم، وصدقَ أقوالهم،
وهذا عينُ الاستدلالِ، كاستدلال المستدل على القبلةِ بأمارتين
فثلاثٍ.
فيقال: ليس سياقةُ الدلالة إلى أن يحصلَ العلمُ، يخرجهُ عن
كونه ضرورياً، كالمقدماتِ التي تكونُ سابقةً للعلمِ في العلومِ
الهندسيةِ في إِقليدس (1)، وإخراجها بالأشكال عن الأشكال، مثل
قولنِا: إنَّ الخطوط الخارجةَ عن مركزِ الدائرةِ على استقامةٍ
إلى الدائرةِ متساويةٌ، فإنَّ العلمَ بذلكَ ضروريٌّ وإن كان
بسياقةٍ.
__________
(1) هو رياضي يوناني مشهور بالهندسة، كان قبل الميلاد بثلاث
مئة عام، صنف في الهندسة كتابه المشهور المعروف "بأصول إقليدس"
أو "كتاب إقليدس". "دائرة معارف البستاني" 4/ 91.
(4/338)
وكذلك الإنسانُ ينظرُ الشيءَ من بعيدٍ
كالجملِ يراه صغيراً، ولا يزال يقرب منه أو يُصَمَّمُ
التأمُّلَ فيه، حتى يعلمه جملاً، ولا يكونُ ذلكَ النظرُ علماً
استدلالياً.
ومنها: أن قالوا: العلمُ لا يقعُ بأخبارِ الجماعةِ المعتبرين
في التواترِ، إلا أن يكونوا على صفاتٍ تصحبهم، يُستدلُ بها على
صدقِهِم، فصارَ كالعلمِ بحدث العالَمِ، وإثباتِ الصانعِ، لما
احتاج (1) إلى تأملِ صفاتِ العالَمِ؛ من حركاته وسكناتِه،
واجتماعاتهِ وتفرقاتهِ، وخروجهِ من هيئة إلى هيئةٍ، كان
استدلاليّاً، كذلك ها هنا.
فيقال: إن الأخبارَ وإن اعتبر فيها صفاتُ [المخبرين]، إلا أنَّ
العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار الصفاتِ، ألا ترى أنه قد
يقعُ العلمُ لمن لا ينظرُ في الصفاتِ، ويخالفُ العلمَ الواقعَ
عن النظر في العالم؛ فإنهَّ لا يقع إلا بعد النظر في المعاني،
وهي الأعراضُ، والاستدلالِ بها، وفي الأخبار يقع من غير نظرٍ
واعتبارٍ.
على أنَّ العلومَ الهندسيةَ لا بدَّ لها من مقدمات وسياقات
جارية مجرى الصفاتِ ها هنا، ولا تدلُ على أن تلك علومٌ
استدلاليةٌ، بل ضرورية، وكذلك دركُ الحواسِّ؛ لا بدَّ من
اعتبارِ صحةٍ، وزوالِ موانعَ معترضةٍ لتحقُّقِ دَركِها، وإذا
لم تكن الحواسُّ والمدارك على صفاتٍ مخصوصةٍ، لم تحصل الثقة في
إدراكها، ولا يدلُّ ذلك على أنَّ الحاصلَ عن إدراكها ليس
بضروري.
ومنها: أن قالوا: إنَّ الخبر الواقعَ من جهةِ الله سبحانَه
وجهةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، لا يحصلُ به العلمُ إلا
استدلالياً لا ضرورياً، فإحْبارُ مَن
__________
(1) في الأصل: "احتاجت".
(4/339)
دون الرسولِ المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، أَوْلى أنْ لا
يحصلَ به العلمُ الضروري.
فيقالُ: إن أصلَ المعرفةِ باللهِ سبحانَه [ثبت] بالاستدلالِ
عليه بصنائعِه ومخلوقاتِه، فخبرُه سبحانه مبنيّ على المعرفةِ
به، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معروفُ النبوةِ والصدقِ
بالاستدلالِ، فخبرهُ بما يخبر به معلومٌ بالاستدلالِ، فأمَّا
المخبرون (1) من الآدميين، فمعروفون (2) ضرورةً، مخبرون عما
أدركوه بحواسهم ضرورة، وهم عددٌ لا يجوزُ عليهم التواطؤ
والكذبُ، فكانَ العلمُ بخبرِهم على هذا الوجهِ ضرورة، وإذا لم
يتحقق منه دليلٌ، فالأَوْلى الذي ادَّعَوْه لا وجهَ له. |