الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
أمّا قولُهم: منام، فإن منامَ الأنبياءِ فيما يتعلقُ بالأوامرِ والنواهي
وحيٌ مُعوَّلٌ (4) عليْهِ، وكانَ وحيُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - شهوراً بالمنامِ، فيأتي كفلقِ
الصبحِ (5)، وقيلَ: إنَّه كانَ ذلكَ ستةَ أَشْهُرٍ؛ ولذلكَ رويَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) في الأصل: "فاين".
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) جاء في الأصل بعد ذلك ما نصه: "والجواب له مضروب عليه في أصل النسخ"، ونظن أن هذه العبارة كانت في هامش الأصل المنقول عنه، فأثبتها ناسخ هذا الأصل في المتن ظناً منه أنها بعضه، والجواب عما أوردوه في الآية يأتي في الفصل التالي.
(4) في الأصل: "معمول".
(5) كما في حديث عائشة الطويل: أول ما بُدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .... أخرجه أحمد 6/ 153، والبخاري (3) و (4953) و (6982)، ومسلم (160).

(4/306)


قال: "الرؤيا الصالحةُ جزءٌ مِنْ ستةٍ وأربعينَ جزءاً من النبوة" (1) فكانت النبوةُ ثلاثاً وعشرينَ سنةً، والستةُ أشهرٍ التي كانَ يرى المنامَ (2 فيها جزء من ثلاثٍ وعشرينَ سنةً، فكانت الستةُ أشهرٍ جزءاً من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة 2) على ما رُوي، وهذا تأويل استفدْناهُ من رئيسِ الرُّؤساءِ (3) رحمه الله تعالى.
وقد عَمِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برؤيا عبد الله بن زيدٍ وعمرَ بنِ الخطابِ في الأذانِ (4)، فكيفَ برؤيا الأنبياءِ عليهم السلامُ؟ فلا يقالُ: فهو (5) ليسَ بحقيقةٍ، لأنَّهُ ليسَ بخيالٍ، وإنَّما هوَ إلقاء من الملكِ، وإيحاء منَ الله سبحانَهُ إلى قلوبهم، ولهذا رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "ما احتلمَ نبيّ قط" (6)، يعني: أنّه لم يَتَشَكَّلْ له الشيطانُ في المنامِ على الوجهِ الذي يتشكلُ لأهلِ الاحتلامِ، ولأنَّهُ لو كانَ خيالاً لا وحياً، لما ساغ لإبراهيم التصميمُ على الفعلِ لأجلِهِ.
وأمَّا قولُهم: ليس بلفظِ الماضي، ولا الحالِ، ولكنْ بلفظِ المستقبل،
__________
(1) أخرجه البخاري (6983)، ومسلم (2264).
(2 - 2) في الأصل: "ستة أشهر، فكان بالستة"، وعبارة الأصل كما ترى غير مستقيمة، وفيها اضطراب شديد، لذا آثرت إصلاحها كما هو مثبت.
(3) هو أبو القاسم علي بن الحسن ابن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة، الملقب برئيس الرؤساء، وَزَر للقائم بأمر الله. حدث عنه الخطيب البغدادي.
توفي سنة 450 هـ. "سير أعلام النبلاء" 18/ 216.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة (298).
(5) في الأصل: "فمن".
(6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (11564)، وابن عدي 3/ 93، ومدار الرواية على عبد العزيز بن أبي ثابت، وهو ضعيف، ووقع في "مجمع الزوائد" 1/ 267: عبد الكريم بن أبي ثابت، وهو خطأ.

(4/307)


فإنَّ شاهِدَ الحال دل على أنها رؤيا سابقةٌ، (1 فإنه لو 1) كانَ للمستقبلِ، لما شَرَعَ في حملِ الولدِ، وسوقِهِ، واستصحاب (1 المُدْيةِ والحبلِ، وصرعِه 1)، ويجوزُ أنْ يكونَ قالَهُ بلفظِ المستقبلِ، لتتابع ذلكَ وتكرارِه (2 ........ 2) دوامُ الرخصِ، (2 وكذلك قول إبليس للمَشركين: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، يعني: رأيتُ ما لمْ تَرَوْا منَ الملائكةِ الذينَ أرسلَهُمْ الله سبحانه يومَ بدر لنبيه والمؤمنين، ولمْ يرد بهِ المستقبل، وإنْ كانَ بلفظِ المستقبلِ.
وأمَّا قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [فهو] دلالةٌ على أنَّ إبراهيمَ كانَ مأموراً، وقولهُ: {مَا تُؤْمَرُ}، يعني: ما أُمرتَ، وما تؤمرُ حالاً بعدَ حال، ووقتاً بعدَ وقتٍ، أوْ يكونُ افْعَلْ ما تؤمرُ في ثاني الحال من الذبحِ، أو غيرِهِ ممَّا يكونُ قبلَهُ من تعذيبٍ وإيلامٍ.
وأمَّا قولهم: إنَّهُ أمرَهُ بمقدماتِ الذبحِ، فلا يصح لوجوهٍ: أحدُها: أنَّ ذلكَ ليسَ بالحقيقةِ، لأنَّ حقيقةَ الذَّبحِ الشقُّ، قال شاعرُهم (3):
كأنَّ بينَ فكِّها والفكِّ ... فأرةَ مسكٍ ذُبحت في سُكِّ
يعني: شُقَّتْ.
الثاني: أنَّ قرائنَ القول ودلائلَ الحال، تعطي أنَّهُ نفسُ الذبحِ لا
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) هو منظور بن مرثد الأسدي، من رجز له. انظر "اللسان" (ذبح)،
وانظر "التفقه في اللغة" لابن أبي اليمان (613).

(4/308)


مقدماتهُ؛ لأنَّهُ قالَ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فهذا لا يقالُ إلاَّ على بلاءٍ صعب مُؤْلمِ، ثمَّ إِنَّ الله سبحانه يشهدُ لحالِهِ بأنّه بلاءٌ مبينٌ، بقولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106].
ثُمَّ إِنه قالَ: {وفَدَيْناهُ}، ولو كانَ المأمورُ بهِ هوَ المقدماتِ، وقد حصلت، لما كان الذِّبْحُ فداءً؛ لأن الفداءَ ما قامَ مقامَ الشيءِ، فلمَّا سمى ذبحَ الذِّبْح فداءً، عُلِمَ أنَّه كانَ المأمورُ بهِ عينَ الذبح، ثُمَّ أبدلَه الله سبحانه بإيقاَعِهِ في ذلكَ الحيوان، وسمَّاه فداءً؛ كما يَسمَّى المالُ المأخوذُ عن الأسرى فداءً، قال سبحانَهُ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
فإنْ قيلَ: وكيفَ لا (1 يكون أمرأَ بأمارات ومقدمات الذبح من أخذ 1) المدية والحبل (1 وتَلِّهِ للجبين، وأنه أُبهمَ 1) عليه عاقبة ذلكَ، فيعطي شاهد هذه الحال: أنَّ المتعقبَ لذلكَ لا يكونُ في ظاهرِ الحالِ إلا إيقاعاً للذَّبح في ولده، ويَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى مثلُ هذا بلاءً، ويظنهُ إبراهيمُ ذبْخاً، لأمرِهِ بمقدماتِ الذبحِ.
قيل: فعندكم لا يجوزُ تعريضُ المكلَّفِ للجهلِ، والأمرُ بالأماراتِ والمقدماتِ، قدْ (2) أَوْهَمَتْه أنَّها أمْرٌ بالذبح، وهذا خلافُ ما أَصَّلْتُموه من المنعِ منْ تعريضِ المكلفِ للجهل.
على أنَّ أهلَ النقلِ قد أجمعُوا على أنَّ إبراهيمَ كانَ مأموراً بذبح ولدِهِ، فلا وجهَ لخلافِهم (3)، ولأنَّ فيما ذكرنا من ذِكْرِ الفداءِ دلالةً علىَ
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "فقد".
(3) في الأصل: "لخلافيهم".

(4/309)


على أنَّ المأمورَ بهِ حقيقةُ الذبح لا مقدماتُهُ، وتأكُّدُه بقولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} لا يكونُ إلاَّ في الحَقيقةِ؛ لأنَّ المجازَ لا يُؤَكَّدُ؛ لأنَّ الأمرَ بالمقَدمات بلاءٌ مُوهَم ومُخيَّلٌ فأَمَّا مبين، فلا يكونُ إلا قدْ أُمِرَ بحقيقةِ الذبحِ.
وأمَّا قولُهم: إنَهُ ذبحَ والتحم، فهذا لو كانَ، لما أغفلَ البارىء ذكرَهُ وقد (1) ذكرَ المقدماتِ، وهذا من أعظمِ الآياتِ، وأبهرِ الإعجازِ، فكيفَ يتركُ ذكرهُ، ويذكر تلَّهُ للجبينِ؟ ثمَّ إِنَّهُ مع كونه من أبهرِ الآياتِ في فعلِ الله، فهو من أعظم البلاوي، وأبلغِ الطاعاتِ؛ حيثُ قطعَ أوْدَاجَ ولدِهِ وواحِدِهِ، ألا تَرَى أنًّ في إلقائه في النارِ، ذكرَ سبحانه أقصى ما فَعَلَهُ، فقالَ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، وذكر في قصة يوسف ما نالَهُ من إخوتِهِ؛ (2 من إلقاءٍ له في الجُبِّ 2)، والبيع له بالبخسِ، ومجيءٍ [على] قميصِهِ بالدمِ، وما لحقَهُ من انهمام امرأة العزيز (2 به، ومراودته عن نفسه، فذكر أن صبره على ذلك من 2) فضائل الصابرينَ من الأنبياء (2 فكيف يذكر ابتلاءَهُ بأشد 2) محنةٍ؛ لأنَّهُ لا تكليفَ أشقُّ ولا أوجعُ من أمرِ أبٍ بذبح ولدهِ وواحدة، ثُمَّ إِنه يقعُ منه ذلكَ طاعةً لله، وتسليماً لأمرِهِ، وصبراً عَلى بلائِهِ، ويتفقُ في ذلكَ الذابحُ والمذبوحُ، ثُمَّ يذكرُ مقدماتِ البلاءِ، ويسكتُ عن حقيقةِ البلاءِ، وفيهِ غايةُ التبجيلِ للمُبْتلَى، وإغلاق العروقِ وهي غايةُ الإعجازِ، وبيانِ القدرةِ في حقِّ المُبْتلِي (3) جَلَّتْ عظمتُهُ، هذا بعيدٌ جداً.
ثُمَّ إنَّ الذي يبطل هذه الدعوى، قولُه تعالى: {وفدَيْناهُ بذِبْح}
__________
(1) في الأصل: "و".
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) في الأصل: "المبلي".

(4/310)


[الصافات: 107]، ومعلومٌ أنَّ الفداءَ ما كانَ قائماً مقامَ المفدى فإذا كانَ الذبحُ قد وقَعَ، والحلقُ انقطع حقِّ إسحاق والكبشِ، فهما جميعاً مذبوحانِ، فلِمَ كانَ الكبشُ فداءً؟!.
وأمَّا قولُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، فإن التصديقَ إنما عادَ إلى أفعالِ القلْبِ من الاعتقادِ وتصميم العزمِ، وتحصيلِ أدواتِ الفعلِ، وتلِّ ولدِه للجبينِ، وإمرارِ المُدْيةِ علىَ الحلقِ، وليسَ إليه في التصديقِ سوى هذا، فسمَّاهُ مصدقاً، لإثباتِهِ لكلِّ (1) فعلٍ ظاهرٍ دل على تصديقهِ، ولما اطَّلَعَ الله سبحانه عليه؛ من باطنِ قصده وعزمه وعقده، ولهذا قال سبحانه فيِ الضحايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37]، فأسقط حكمَ الذبح، وتفريقِ اللحم، وذكرَ أنَّهُ لا يقبلُ إلا خلوصَ القصدِ، وسلامتَه من الرِّياء، وقولُه تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] المرادُ بِهِ: الاعتقاد (2 والإخلاص لله عز وجل 2) وأَمَّا قولهم: (2 أرادَ ابتلاءَ2) صبرهِم (2 واختبارَ سِرِّهم. لا يليق بجلال الله 2) سبحانه، لأنه العالم بأحوال خلقِه، ومقاصدِهم، وسرائرِهم، ومقاديرِ صبرِهم، وإنما يفعلُ فعلَ المختبرِ، فيقعُ عليه الاسمُ مجازاً، كالغضبِ والآسفِ، وكلُّ ذلكَ لصَدْرِ أفعال الغضبانِ والأَسِفِ، لا أنَّ حقيقةَ الغضبِ -وهو غليانُ دمِ القلبِ طلباً للانتقامِ- مما يصحُّ عليهِ، ولو كانَ الامتحانُ حقيقةً في حقِّه، والغضبُ حقيقةً في حقه، والرَّحْمةُ (3) حقيقةً في حقِّهِ، لكانت الحدودُ لهذه الحقائقِ منطبقةْ عليه سبحانَهُ، كانطاقِ حَدِّ العلمِ والقدرةِ والحياةِ والإرادةِ،
__________
(1) في الأصل: "بكل".
(2 - 2) طمس من الأصل.
(3) في الأصل: "الرحم".

(4/311)


فالعلمُ في حقِّهِ وحقِّنا: معرفةُ المعلوم على ما هو به، والقدرةُ: صحةُ الفعل، والإرادةُ والمشيئة: صَدْر الأفَعالِ عن قصدهِ إليها، فلما كانَ الغضبُ هو انفعالٌ يدخلُ على النفس، وانشطاطٌ يهجمُ على الطبعِ، فيغلي لَهُ دمُ القلب، والاختبارُ واَلابتلاءُ: تسليطُ ما يُظهِرُ خوافيَ المُبْتَلَى، وكوامنَ أَسرارِهِ؛ بما يسلطُهُ عليهِ المُبْتلِي، كما يُمتحنُ الذهبُ على النارِ، عُلِمَ أنَّهُ ليسَ بصفةٍ لله، وإنَّما هو (1) أمرٌ يعود إلى فعله دونَ وصفِهِ؛ إذِ الحقائق لا تختلف شاهداً وغائباً، فلمَّا لم ينطبق الحدُّ عليه سبحانه، بطلَ دعوى الامتحان حقيقةً عليه، وهي أنه فعلٌ يصدرُ عنهُ يضاهي فعل الممتحنِ.
وأمَّا قولُهم: إنه جعَلَ على أوداجهِ صفيحةَ (2) حديدٍ أو نحاس تمنعُ من الذبح بعدَ (3 اضجاعِه للذَبح 3)، فغير مستقيمٍ على أصولهم؛ لأنَّهُ لا يأمر بمَا لا يطاقُ، وهذا (3 مما لا يطاق وعندهم لا يحال بين المأمور 3) وبين المأمور به (3 بل لا بد من الإقدار 3) عليه، ولهذا منعُوا من إماته المأمورِ قبل وقت مجيء الفعلِ (3 ومن تعجيزه 3)، ومن إِمراضهِ، وكلِّ مانع يحيلُ بينهُ وبين الفعلِ، ويكونُ عندهُم ذلك إغراءً بالمعاصي إنْ أعلمهُ، وتعريضاً بالجهلِ إنْ لَم يعلمهُ.
وأيضاً فماصحَّتْ بهِ الراويةُ من نسخِ ما فرضهُ الله على نبيهِ - صلى الله عليه وسلم - من خمسين صلاةً، ثم استنقصهُ، فنَقَصَهُ إلى خمس صلواتٍ قبلَ وقتِ الفعلِ لها، وكانَ ذلك منهُ لُطفاً وتسهيلاً، وحُكَمُه في السماءِ حكمُهِ في الأرضِ، وما جاَز أنْ يَشرعهُ في السماءِ، جازَ أنْ يأمرَ بهِ في الأرضِ.
__________
(1) في الأصل: "هي"
(2) في الأصل "صفحة".
(3 - 3) طمس في الأصل.

(4/312)


وقد قال قوم: لا يثبتُ الحكمُ في حقِّنا، ولا النسخُ ما لم يُنزَّل، وهذا إنما يكون، إذا كانَ مع جبريلَ عليه السلام قبل أنْ يتلقاه مأموراً بهِ، فأمَّا معَ تلقي نبينا - صلى الله عليه وسلم - للأمرِ، فإنهُ واصل إلى المكلفِ به (1)، فخطابهُ خطاب لَنا، وخطابنا خطاب لهُ، ودلائلُ الحال وقرينةُ الخطابِ دَلَّتْ على أنَّهُ كانَ إلزاماً لَنا أيضاً؛ لأنهُ روي أنَّ موسى عليه السلام كانَ يقول لهُ: "إنَّ أُمتكَ ضعفاءُ لا يطيقون، فاستنقص الله، ينقِصْكَ" (2)، وهذا يشهد بأنَّ ذلكَ تكليس وصلَ إلى المكلف، فلا يكون حكمه حكمَ النسخِ على يد جبريل؛ لأنَّ جبريلَ رسول غيرُ مكلف، ولا داخلٌ تحت الخطاب.
وهذه الطريقة مبنية على الإسراء، وهو ثابت عندنا يقظةً لا مناماً، وجميعُ ما صَحَّتْ به (3 المسألة هناك تصح به المسألة هنا 3)، فالحُجَّةُ هناك أَوضحُ وأظهر من الحُجَّةِ في هذه المسألةِ.

فصل
في أدلة الاستنباطِ
فمن ذلك: أمره بالفعل المطلق المقتضي بظاهره تكررَهُ بتكررِ (4) الأزمانِ، فما من زمانٍ مستقبلٍ إلا وهو مُسْتَوْعَبٌ مَشْمُولٌ بالأمرِ بالفعلِ المأمورِ به فيه، فلم يُمْنَعْ قطعُ ذلكَ الأمرِ عن أوقاتٍ مستقبلةٍ بنسخِ الأفعال المستقبلة، فكذلك نسخه للأمرِ الواحدِ عن إيقاعه
__________
(1) في الأصل: "له".
(2) تقدم تخريج حديث الإسراء في الصفحة 186.
(3 - 3) طمس في الأصل.
(4) في الأصل: "تكرر".

(4/313)


قبلَ (1) الوقتِ الواحدِ، ولا فصلَ، لأنَّ غايةَ ما يقولون في ذلك: أنه لا يفضي إلى اعتقادِ الجهل إذا كانَ أمراً مطلقاً، وقد وقع الامتثالُ، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ المكلفَ اعتقدَ الدوامَ، وما كانَ، أو يقالُ: اعتقدَ دوامَهُ بشرطِ أنْ لاينسخ، فمثله هاهنا يَعْتَقِدُ إيقاعَ الفعل إنْ لم يُنْسَخْ.
ومن ذلك: أنَّ التكليفَ لا يخلو أن يكونَ على سبيلِ الأصلح، كما قال بعضُ الأصوليين، أو على ما قالَ بعضهم: إنَه (2) على وجه اَلمشيئةِ المطلقةِ من غير اشتراطِ الأصلح؛ فإنْ كانَ على المذهبِ الأول، فلا بدعَ أن يكونَ الأصلحُ للمكلفِ اعتقادَ الوجوبِ، واعتناقَهُ، والعزمَ عليهِ، وتوطينَ النفسِ على إيقاعِهِ في الوقتِ الذي نيط به.
وإنْ كانَ على وجه المشيئةِ، فلا حجرَ، فلا وجهَ للمنعِ، بل له أن يشاءَ الأمرَ دونَ المأمورِ (3 به، والأمرُ 3) لتحصيلِ الاعتقادِ والعزمِ دون الفعل، ولا يشرط لأمرهِ ضمُّ (3 شيءٍ إلى أشياء3)، وتعلق شيء بشيء ويبينُ بالنسخِ أنَّ المرادَ مِنه ما أتى به التكليف (3 ولو أن ما أراده 3) كانَ ما شرعَ فيه من مقدمات الذبحِ، ولم يكنْ أرادَ عينَ الذبحِ لضرب (3 عن ذكر الأمر بالذبح 3).

(3 فصل
في النسخ بالقياس
لا يجوز النسخ بالقياس لأن القياس ليس بخطاب 3) على ما قدمنا (4)
__________
(1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "وأنه".
(3 - 3) طمس في الأصل.
(4) في 1/ 433 وما بعدها، وانظر "العدة" 3/ 827، و"المسودة" (225)، و"التبصرة" (274)، و"المستصفى" 1/ 126، و"فواتح الرحموت" 2/ 84،=

(4/314)


وإنما القياس (1 أن ينص على1) إباحة التفاضلِ بين الأَرز بالأرزِ؛ فإنه لا يُنْسَخُ بالمُستنبَطِ (1 من نَهيِه 1) عن بيع الأجناس، أو نهيه عن بيعِ الطعامِ بالطعامِ متفاضلاً، وما شابه ذلك، خلَافاً لبعضِ أصحاب الشافعيِّ: يجوزُ النسخُ بالقياس، وقال أبو القاسم الأنماطيُّ (2) منهمْ: يَجُوزُ بالقياس الجليِّ.

فصلٌ
في أدلتنا
فمنها: أنَّ القياسَ يستنبطُ من أصلٍ هو السنة، فلا يجوز أن يعودَ الفرعُ المستنبطُ على أصلهِ بالإسقاطِ.
ومنها: أنَّه قياس، فلا ينسخُ به، كالخفيِّ.
ومنها: أنَّ النص يُسقِطُ القياس إذا عارضَهُ، وما أسقط غيرَهُ، لم يجز نسخُهُ (3 به؛ كنصِّ 3) القرآنِ لَمَّا أسقط نصَّ السنةِ، لم يجزْ نسخُه بها.
__________
= و"أصول السرخسي" 2/ 66.
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي، أخذ عن المزني والربيع، وحدث عنهم، تفقه عليه: أبو العباس بن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، واشتهرت به كتب الشافعي ببغداد، توفي سنة (288) هـ.
انظر "طبقات الشافعية" 2/ 301، و"تاريخ بغداد" 11/ 292، و"شذرات الذهب" 2/ 198.
وانظر رأيه هذا في "شرح اللمع" 2/ 229، و"التبصرة" (274).
(3 - 3) طمس في الأصل.

(4/315)


فصل
في شبهة المخالف
لما جاز التخصيصُ لعمومِ القرآنِ، وصرفُ ظاهرِ القرآن به، جازَ أن يقضي على بيان مدةِ حكمِ النَصِّ، إذ ليس النسخُ بأكثرَ من بيانِ نهايةِ مدةِ حكمِ النصِّ الثابت بالقرآن، وكما جاز أن يقضي على عموم الأعيانِ التي يستغرقها عمومُ القرآن؛ بالبيانِ عن أنَّ المرادَ (1 منها بعضها1)، جاز أن يقضي على عموم الأزمانِ في حكمِ النصِّ، فيبين أنَّ المرادَ به بعضُ ما اقتضاه الإطلاق من الزمان.
فيقال: ليس النسخُ من التخصيص في شيءٍ، ولهذا نخصُّ عمومَ القرآنِ بدليلِ العقلِ، [و] بالإجماعِ، والقياس الخفي، ولا يُنْسَخُ نَصُّ القرآنِ بذلك.
شبهةُ الأنماطيِّ على (1 مذهبه: أنَّ 1) التنبيه يجري مجرى النص، ولهذا ينقضُ به حكم الحاكم، (1 فإذا جازَ النسخُ 1) بالنصِّ، جاز به.
ونحنُ موافقون له في هذا (1 القياس؛ لأن النصَّ لا يُسقط النص إذا عارضه، فجاز النسخ به، وليس كذلك القَياس، فإنه يُسقط القياس إذا عارضه فلم يَجُز نسخه به، بخلاف الأصل 1) المستنبط منه، ومهما (1 كان القياس، لا يُنْسَخُ به1) وإنما يَنسخُ الأصلُ الذي يستنبطُ منه، فيسقط حكمه، مثل أن ينصَّ على تحريمِ التفاضلِ في المطعوماتِ السِّتَّة، فيقاس عليها الأرز، فإذا نُسِخَ تحريم التفاضلِ في المطعوم، سقط قياس الأرز؛ لسقوطِ أصله.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.

(4/316)


فصل
ولا يجوز نسخُ الإجماع، ولا النسخُ به، وما عَرَفْتُ مخالفاً، فأَحكِيَ قولَه.
والدلالةُ على ذلك: أنَّ النسخَ إنَّما هو إِمَّا رفعُ الحكمِ بعد ثبوتِهِ، أو بيانُ مدة الحكمِ، وانتهاء غايتها، وذلكَ لا يكونُ إلا لمن نزل عليه وحيٌ يطلعهُ على انتهاءِ مدةِ الأصلح، أو مدةِ الإرادةِ، وهو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والإجماعُ لا يثبت حكمُهُ في عصَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ إذْ لا حكمَ للاتفاق ولا الاختلافِ مع وجوده - صلى الله عليه وسلم -، ولا وجودَ لنزولِ الوحي (1) في عصرِ الإجماع، وإذا لم يجتمعا، لم يكن أحدهما ناسخاً للآخر ولا (1) منسوخاً به.
فإنْ قيلَ: أليسَ إذا وَرَدَ عمومٌ، خَصَّصْتمُوهُ بالإجماعِ، إذا لم يكن لحملهِ على عمومِهِ وجهٌ عندَ جماعةِ المجتهدين؟ وكذلك خبرُ واحدٍ لا وجهَ له عندهم، يُتْرَكُ بإجماعهم، وليسَ النسخُ إلا التركَ، أو هو والتركُ سواءٌ.
قيل: ليسَ التركُ بالإجماعِ نسخاً للنص بالإجماعِ، وحصولِ اجتهادِ الكلِّ الذي شهدَ الشرعُ له (2 بالعصمة من 2) الضلالة، والسلامةِ من الخطأ، وأنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، (2 وأنه لا بدَّ في زَمَن 2) الفَتْرة مِنْ بعثَة نبي يتجدد، وأنَّ هذه الأمة لا نبي بعدَ نبيها - صلى الله عليه وسلم - إلى الخصَوص وكذا (2 ...... 2) تركه بهذا الدليل وأن (2 ...... 2) عَلِمْنا
__________
(1) طمست في الأصل.
(2 - 2) طمس في الأصل.

(4/317)


أنَّه منسوخ بطريقٍ يصلحُ للنسخِ، وهو الوحيُ، لا أنَّنا نسخْناهُ، لكن بيَّنَّاه بالدليل المقطوع عليه.
فإنْ قيلَ: أليسَ إذاكانتِ الصحابةُ على قولين، وأُجْمعَ علي أحدِهما، صارَ إجماعاً يُسْقطُ القولَ الآخرَ، وهذا صورة النسخِ للقولِ الآخر.
قيل: لا نقولُ ذلك، ولا نرضى به مذهباً، بل الخلافُ على حالِهِ؛ وذلكَ لأنَّ اختلافَ الصحابةِ على قولين اختلاف صورة (1 ...... 1) إجماع معنى؛ لأنَّهم اتفقواعلى تسويغِ الاجتهادِ في ذلك الحكمِ، (1 فإذا أَجْمعَ 1) التابعون على أحدِهما، بقي القولُ الآخر مجمعاً على تسويغِهِ من (1 جهة أخرى1)، فلا يقوى إجماعُ التابعين على رفعِ إجماعِ الصحابة.
على أنَّ التحقيق عندي: أنْ يقالَ: لا يجوزُ أن يجمعَ التابعونَ على نفي تسويغٍ سبق أَخذُ الصحابة به، كما لا يجوزُ بعثةُ نبيٍّ يُكذِّبُ مَقالَةَ نبيٍّ قبله، والإجماع في العصمة كالنبوةِ، فمتى طَرَقْنا تجويزَ إجماعٍ بعدَ إجماعٍ يخالفه انسدَّ علينا بابُ العلمِ بصحة الإجماع، وذلكَ محالٌ، وكلُّ (1 قولٍ يفضي إليه 1) محال، فلا ينبغي أن يقالَ: إنه إجماعٌ، ولا يعمل به.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.

(4/318)


فصل
(1 يُنسَخُ الشيءُ 1) بغيرِهِ، وإنْ أمْكَنَ اجتماعُه معه، كنسخ عاشوراء بصومِ رمضانَ، وإنْ كانَ الجمعُ بينَ الإيجابينِ -ممكناً، بلى لا يمتنعُ الجمعُ بين حُكْمينِ وبينَهُما تاريخٌ، إلا كانَ الثاني منهما ناسخاً للأولِ.
(1 قال شيخُنا 1) رضيَ الله عنه في كتابِهِ (2): لا ينسخُ الشيءَ إلاّ بمعارض (1 فإذا ما ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر 1)، (1 وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لايَصح لأنه لا تنافي بين صوم رمضان وصوم عاشوراء 1) أصلاً، فإذا قيل: (1 نُسِخ حكمُ كذا بكذا، كان 1) معناه: نُسِخَ إليه، أو أُبدِلَ به، وإلا فالنسخُ حقيقةً هو حكمُ الله بوَحْيه لبيانِ (3) مدة حكمِهِ الأولِ، وأَنَّ هذا وقتُ غايتِهِ وانقطاعِهِ؛ إما لمكاَنِ مصلحةٍ اقْتَضَتْ ذلكَ، أو مجرد مشيئةٍ.

فصل
قال إمامُنا أبو يعلى ابنُ الفراء رحمةُ الله عليه (4): وأذا قالَ الصحابيُّ رضي الله عنه: هذهِ الآيةُ منسوخةٌ، لم نَقْنَعْ بذلك، ولم (5) نَصِرْ الى قوله؛ حتى يُبَيِّنَ ناسخَها، وبماذا نُسِخَتْ؛ وقد أومأ إليه أحمدُ، وأنْ النسخَ راجع (5) إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعنه روايةٌ أخرى أيضاً:
__________
(1 - 1) طمسى في الأصل وأثبتناه من "العدة".
(2) انظر "العدة" 3/ 835.
(3) في الأصل: "بيان".
(4) انظر "العدة" 3/ 835.
(5) طمست في الأصل.

(4/319)


إلى قولِ الصحابي: (1 إن هذه 1) الآية منسوخة. وبالأُولى قالَ أصحابُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ (2).
وجه الأُولى: أنَّ الصحابيَّ قد يجوزُ أنْ يعتقدَ التخصيصَ نسخاً، وما ليسَ بنَسْخٍ نسخاً، وهذا على قولِ مَنْ لا يُجوِّزُ نقلَ الأخبارِ بالمعنى، أبَلغُ في المنعِ، فهو خَبَرُ واحدٍ، وخبرُ الواحدِ لا يجوزُ به نسخُ القرانِ.
ووجه الثانية (1 أن النسخَ لا يقعُ 1) بالمحتملِ، والصحابةُ أعلمُ بذلكَ، فثبتَ أنَّه لا يقولُ: إنه منسوخٌ، (1 إلآ وسَمِعَه 1) مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُمحتملٍ.