الواضح في أصول الفقه فصل
في الكلام على مَنْ أحال التعبُّدَ به لأجل أنه يوجبُ على
المكلفين الأحكامَ المتضادة
قال هؤلاء: إنما وجب إحالةُ التعبُّد به، لأجل أنه يؤدّي إلى
ما لا يصحُّ دخولُه تحت التكليف من إلزام الأحكامِ المتضادَّة،
وما ليس في الوُسع والطاقة. قالوا: وبيانُ ذلك: أنَّه قد
يتردَّدُ الفرعُ بين أصلين أحدُهما محلَّلٌ، والآخر محرَّم،
ويُشبِهُهما، فيوجب شبهُه بالمحلل عند المجتهد كونه حلالاً،
ويوجب شبهُه بالمحرَّم كونه حراماً، فيوجب أن يكون حلالاً
حراماً.
فيقال: إنَّ هذا باطلٌ من وجهين: أحدهما: أنَّ أكثر القائسين
يَمنَعُ من ذلك، ويزعم أنَّه لا بدَّ من ترجيح شَبَهه
بأحدِهما، ونحن وكلُّ مَنْ يقول: إنَّ الحقَّ في جهةٍ، وليس
كلُّ مجتهدٍ مصيباً على هذا المذهب، وأنَّ الله سبحانه لم يجعل
شبهه إلا بأصلٍ واحدٍ: إمَّا حلالاً وإمَّا حراماً، وأمر
بالحاقه بذلك الأصل، فلا يجوز أن يُدَّعى أنْه يشبه الأصلين
المختلفين أو المتضادين شبهاً واحداً، ومتى عَرَضَ ذلك
للمجتهدِ، وَجَبَ عليه أن يجتهدَ في الترجيح، فإنه سيقعُ عليه
ويصادفُه، ويَهجُم به الاجتهادُ في النظر على لحوقه بأحدهما،
وربَّما قضى بعضُ المجتهدين فلم يعطِ الاجتهادَ حقه، فيَتهم
حينئذٍ نفسَه، ويتوفف ولايُقدِم فيه بقضيةٍ ولا فتيا، حتى إنهم
اختلفوا، أعني في هذا القبيل في أنَّه يقلِّد غيره، وبما
يخصُّه من حكم
(5/310)
الحادثة، أو يكون وقت فرض تعبُّده غَلَبَةَ
ظنِّه لقوةِ أحدهما على ما نذكره في كتاب التقليد من بعدُ.
وهذا جوابٌ يُبطِلُ ما أصَّلوه من إلزام التضادِّ.
جوابٌ آخر: مع التسليم أن التقاوُمَ والموازنةَ على المساواة
قد يَقَعُ في مثلِ هذا ويجده المجتهدُ من نفسه أحياناً، فحكمُ
اللهِ حينئذٍ تخييرُ المجتهدِ في ذلك بين إلحاقه بأيِّ الأصلين
شاءَ، كما يتخيَّر في الكفَّاراتِ بين الأعيان، وتعليقُ الحكم
على الواحد المنكَّر مثل قوله للمكلَّف: اقتل مشركاً، أو
أعتِقْ عبداً، فيَتَخيَّرُ في قتل أيِّ المشركين شاء، وعِتْق
أيِّ العبيد شاء، وهذا لايجيءُ إلا على القول بأنَّ كلَّ
مجتهدٍ مصيبٌ، وكذلك العاميُّ يقلِّدُ أيَّ العلماء شاء.
فصل
في القول في مُحيل التَّعبُّدِ به لأجل استحالةِ تَعبُّدِه
بالحكم بغالب اَلظنّ مع اَلقدْرة على النصّ وما يُوصِلُ إلى
العلمِ
فزَعَمُوا أنَّ ذلك لايجوزُ؛ لاستحالَة اقتصارِه بالمُكلَّف
على أَدْوَنِ الطريقين والدليلين: وهو القياسُ، مَعَ القدرةِ
على أعلاهما: وهو النَّصُّ، وما يَجْرِي مَجْراهُ مما
لايَحْتمِلُ إلا معنى واحداً.
فأوَّلُ ما يقالُ لهم: ولِمَ زَعَمْتُم أنَّ ذلك محال في صفتِه
سبحانه؟ وما دَليلكُم عليه مَعَ الخلافِ الواقع فيه؟
فإن قالوا: لأَنَّ الحُكْمَ بالعِلْمِ اليقينِ أَصلحُ في
تدبيرِ الخَلْقِ من إِحالتِهم
(5/311)
فيه على غالبِ الظنِّ.
قيل: ولِمَ زَعَمْتُم أَنَّه لايجوزُ أن يفعلَ بالخلقِ في
أَمرِ الدنيا والدينِ إِلا ما هو أَصلحُ الأمورِ لهم؟ وليس هذا
من كلامِ الفقهاءِ في شيءٍ.
ويقالُ لهم على سبيلِ ما ادَّعَوْه: ومِن أين عَلِمْتُم أنه
لابُدَّ أن يكونَ العملُ بموجِبِ النّصوصِ أَصلحَ في تدبيرِ
المكلَّفينَ مِن إِحالتِهم في كثيرٍ منها على موجبِ الرَّايِ
وغالبِ الظنِّ؟ وما أَنْكَرتم من أنَّه قد عَلِمَ سبحانه أنُّ
رَدَّهم فيَ كثيرٍ من ذلك إلى الاجتهادِ وغالبِ الرايِ أَصلح
لهم، وأنه لو نَصَّ لهم على كُلِّ حكمٍ بعَينه بم لنَفَرُوا عن
طاعتِه، وكان ذلك لُطْفاً في فسادِهم، وأَنَّ في تخفيفِ
مِحْنَتِهم وتسهيلِ الأَمرِ عليهم في الرُّجوع إلى الرَّايِ
لطفاً في المصلحة، وأَنّه عندَه أَقربُ إلى الوافقةِ والطاعةِ،
فلا تجِدُونَ إلى دَفْع ذلك طريقاً.
ويقالُ لهم أَيضاً: أَتَزْعُمُونَ أَنَّ غالبَ الرَّايِ
والظنِّ بيانٌ للحكم، وعَلَمٌ على وجوبِه، ومصلحةٌ في
التكليفِ، وإن كان التعبُّدُ بالرُّجوع إلى مُوجِبِ النصِّ
أَبْينَ وأَصلحَ، أَم تَزْعُمُونَ أنَّ غالبَ الظنِّ ليس ببيان
للحكمِ، ولا العملَ بموجِبِه مصلحةٌ في الدِّينِ أَصلاً؟
فإِن قيل: بل (1) هو بيانٌ ومصلحةٌ، وإِن كان دون البيان
بالنَّصِّ والاسْتِصلاح به؛ فقد أَقَرُّوا بأَنَّ الأَعلى
والأَدنى في مَرْتبةِ البيانِ والاستصلاح قد اسْتَوَيا، وهذا
إِقرارٌ بعَيْنِ ما أَنْكَرُوه علينا، وتَعلقُوا به.
__________
(1) في الأصل: "لم".
(5/312)
ويقالُ لهم أيضاً: إِنَّ الله سبحانه قد
رَدَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في كثيرٍ من الأَحكام
وأَصحابَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى طريق الظنونِ
بأخبارِ الآحادِ والآراءِ، والاسْتِثارةِ المُصدرةِ للرأيِ،
معَ قُدْرتِه على بيانِ جميع ذلك بالنُصوصِ غيرِ المُحتمِلةِ؛
بل بالمُوجِبةِ للقَطْع، فلِمَ مَنَعْتم إِثباتَ الأَحكام إِلا
من طريق النُّصوصِ دونَ الأَدِلةِ المُوجِبةِ للظُّنونِ؛
ومعلومٌ أنّه فَسَحَ لنا في العملِ بقولِ الشُّهودِ في
الدِّماءِ والأَموالِ والعُقودِ، وهي ظنونٌ، ورَجَّح
بالتصَرُّفاتِ والأَيدي واللَّوْث (1)، وكلُّ ذلك أَمارات
ظَنِّيَّةٌ لا أَدلَّةٌ قَطعيَّةٌ، وكذلك أَمرُ القِبْلةِ
ومواقيتِ الصلواتِ فِى أَيام الغُيومِ وخَفاءِ الأَظِلةِ
والأَفْياءِ المُستدَلِّ بها، وَكَلَنا فيه إلى الأَماراتِ، ثم
إِنَه قَدَّرَ بعضَ العقوباتِ -وهي الحدودُ- بالنُّصوصِ
القاطعة، ثم وَكَلَ إِلينا التعازيرَ للعَبيدِ والزَّوجاتِ عند
النُّشُوزِ (2)، وما دونَ الحُدودِ من عُقوباتٍ، وَكَلَها إلى
آراءِ الأَئِمَّةِ، وتلك ظنونٌ متجاذبةٌ، فأَينَ مطالَبتُكم
بالقطعيَّاتِ في الأَحكام معَ هذه الأَوضاع الشَّرعيةِ التي
لامَحِيصَ لكم عن التَّفَصِّي (3) عن القولِ فيها بغَلَبَةِ
الظنِّ دونَ القطع.
فصل
مفرد لبيانِ وُرود السَّع بذلك بعدَ فراغِنا من بيان أنَّه
طريقٌ
فنقولُ وبالله التوفيقُ:
إِنَّ النُّقو الصَّحيحةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
وعن أصحابِه- رضوانُ الله
__________
(1) اللوْث: البينة الضعيفة غير الكاملة. قاله الأزهري.
"المصباح المنير (لوث).
(2) النُشُوز: هو العصيان والامتناع. "القاموس": (نشز).
(3) التفَصِّي: التخلص أو التفلت."المصباح المنير": (فصى).
(5/313)
عليهم- مُطبقة على استعمالِه في الأَحكام،
فالأخْذُ به، والتعويلُ عليه فيما لانَصَّ فيه أَمر مقطوع به.
فمِن ذلك: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُئِلَ
عن القُبْلَةِ في حقِّ الصَّائمِ: "أَرَأَيْتَ لو
تَمَضْمَضْتَ؟ " (1) فانظر إلى استثارةِ المَعْنى؛ أَنَّ
القُبْلةَ الْتِذاذٌ يَحصُلُ بالفَمِ؛ هو مَبْدا الاستثارة
للشَّهوةِ التي تَنْتَهي إلى غايةِ الوَطَرِ، وهو الجِماعُ،
فكذلك وصولُ الماءِ إلى محل لايحصلُ به الرِّيُّ، وإنَّما
يحصلُ به الإحساسُ ببرودةِ الماء الذي هو مَبْدأ ينتهي إلى
غايةِ الوَطرِ، وهو الرِّيُّ.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - للَّتي سَأَلَتْه عن إِدراك
فريضةِ الحجِّ أَباها وهو شيخٌ كبيرٌ لا يَسْتمسِكُ، والحَجِّ
عنه: "أَرَأَيْتِ لو كان على أَبيكِ دين؟ " (2) فهذا في
الإِلحاقِ والتًعْدِيَةِ، وتَشْبيهِ الشيءِ بنَظِيرِه، وإفاضةِ
حُكْمِه عليه.
وإنما استثارَ العانيَ مثل قولِه: "إنما أَنْسَى لأَسُنَّ" (3)
إنما يأتيني (4) النسيان لأسنَّ التلافي والجبران، "إِنما
نَهَيْتُكم عنِ ادِّخارِ لحومِ الأَضاحي لأَجل الدَّافةِ" (5)،
وقال في القُبورِ: "كنت نَهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ، أَلا
فزُورُوها؛ فإنها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرةَ" (6) "إِذا
اسْتَيْقَظَ أَحدُكم مِن نومِه، فلا
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 54.
(2) تقدم تخريجه 2/ 54.
(3) تقدم تخريجه 2/ 23.
(4) في الأصل: "يلتقي".
(5) تقدم تخريجه 2/ 52.
(6) أخرجه أحمد 5/ 350، وأبو داود (3235)، والنسائي 4/ 89، من
حديث بريدة الأسلمي
(5/314)
يَغْمِسْ يدَهُ في الإِناءِ، حتى
يَغْسِلَها ثلاثاً، فإِن أَحدَكم لا يَدرِي أين (1) تَطُوفُ
يَدُه" (2)، وقال في الصَّيدِ: "فإن وَقَعَ في الماءِ، فلا
تَأكُلْ، لعلَّ الماءَ أَعانَ على قَتْلِه" (3)، "الهِرُّ ليست
بنَجِسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِينَ عليكم والطوَّافاتِ" (4)،
وقال في الجَمْع بين الأُخْتَينِ، والمرأَةِ وبنتِ أُختِها:
"فإِنَّكم إذا فَعَلْتم ذلك، قَطَعْتم أَرْحامَكم" (5)،
وسُئِلَ عن ضَاَّلةِ الغَنَمِ، فقال: "هي لكَ، أَو لأَخيكَ،
أَو للذِّئْبِ" تقديرُه: فخُذْها؛ لِئَلاَّ تكونَ للذئْبِ،
فتَهْلِكَ على رَبِّها وعليك، وقال لَمَّا سُئِلَ [عن]
ضَالَّةِ الإِبِلِ: "ما لكَ ولها، معها حِذاؤُها وسِقاؤُها،
تَرِدُ الماءَ وتَأكُلُ الشَجَرَ، فدَعْها حتى يَأنتِيَها
ربُّها" (6)، فأَبانَ بذلك عن عِلةِ الفَرْقِ بينها وبين
الغَنَمِ؛ لامتناعِها على الذئابِ، واستقلالِها بتحصيلِ
العَلَفِ مِن أَعالي الشَّجرِ إن عَدِمَتْ عُشْباً، وتحصيلِ
الماءِ العميقِ بطولِ أَعناقِها المُشبَّهةِ بالسقاءِ، وقوله:
"أَقِيلُوا ذوي الهَيْئاتِ عَثَراتِهم" (7)، "تجاوزوا عن
ذَنْبِ السَّخِيِّ" (8)، "إِنَّه شَهِدَ بَدْراً، وما
يُدْرِيكَ
__________
(1) في الأصل: "أن".
(2) أخرجه أحمد (7282)، ومسلم (278)، والنسائى 1/ 6 - 7 من
حديث أبى هريرة
(3) أخرجه البخاري (5484)، والنسائى 7/ 218، 219.
(4) تقدم تخريجه 2/ 108.
(5) أخرجه الطبراني في "الكبير" 11/ 337.
(6) أخرجه أحمد 4/ 117، والبخاري (2372) (2429)، ومسلم (1722)،
وأبو داود (1705) والترمذي (1372) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(7) تقدم تخريجه ص (41).
(8) تقدم تخريجه ص (10).
(5/315)
أَنَّ الله اطلعَ إِلى أَهلِ بَدْرٍ، فقال:
اعْمَلوا ما شئْتم، فقد غَفَرْتُ لكم" (1) فنبَّهَ على تأثيرِ
مكارمِ الأَخلاقِ وفضائلِ الأَعمال فني إِسقاطِ المؤاخذةِ
والمقابلةِ على نَوادرِ الإِساءاتِ وبَوادرِ الخَطايا.
ولو تُتُبِّعَ دْلك مِنَ الشَّرع لَطالَ به الكتاب وفيما
ذَكرْنا كِفايةٌ للمُنصِفِ، ونَذْكرُ ما جاءَ عن الصَّحابةِ
رضوان الله عليهم في ذلك.
فصل
فِيما جاءَ في استعمال القياس عن أَصحابِ رسول اللهِ، وفزَعِهم
إليه عندَ اختلاَفِهم في اَلحوادثِ التي عَرَضَتَ في عصرِهم
فيما لم يَردْ فيه سَمع؛ إذ لوكان سَمع، لما وَقع الاختلافُ
بينهم
فَمِنْ ذلكَ:
اختلافهم في لَفْظَةِ الحَرامِ، وتوريث الجَدِّ مع الإخْوَةِ.
فبعضهم قاسَ لَفْظةَ الحرامِ على لَفْظةِ الظِّهارِ، وبعضُهم
شَبَّهَها باليَمينِ، وبعضهم جَعَلَها طَلاقاً ثلاثاً، وبعضُهم
جَعَلَها طَلْقةً بائنةً، وبعضُهم جَعَلَها طَلْقةً
رَجْعِيَّةً، وبعضُهم أَوْجَبَ بها كَفارةَ اليَمينَ، ولم
يَحْكُمْ بها يميناً (2).
وبعضُهم جَعَلَ الجَدَّ كالأَبِ في إسقاطِ الإِخوةِ والأخواتِ،
وبعضُهم
__________
(1) تقدم تخريجه ص (41).
(2) انظر "المغني". 1/ 396، و 11/ 61.
(5/316)
جَعَلَه كأَحدِ الإِخوةِ، ومَيَّزَهُ عندَ
المُزاحمةِ بتوفيرِ السُّدُسِ، وبعضُهم قاسَهُم به، مالم
تُنْقِصْه المُقاسمةُ من ثُلُثِ الأَصلِ أو ثُلُثِ الباقي
بحَسَبِ المكانِ (1).
ومِن ذلك: اختلافُهم في قَدْرِ حَدِّ الشَّاربِ، وقولُ عليّ
كَرَّمَ الله وجهَه: ارَاهُ إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى
افتَرى، فحُدُّوه حدَّ المُفترِي (2).
ومِن ذلك: مُشاورةُ عمرَ رضي الله عنه في التي أَنْفَذَ إليها،
ففَزِعَتْ، فأَجْهَضَتْ ذا بَطْنِها، وقولُ عثمانَ وعبدِ
الرحمن: إِنَّما أَنت مُؤَدِّبُ، لا نَرى عليك شيئاً، وقولُ
علي: أَرى عليك الدِّيَة (3).
ومِن ذلك: اختلافُهم في الإِكسالِ والإِنزالِ، وقولُ علي رضي
الله عنه: تُراني أَرْجُمُه بالحِجارةِ، ولا أُوجِبُ عليه
الاغتسالَ بصاعٍ مِن ماءٍ؟! (4)
ومن ذلك: قولُ ابنِ عباس في مسأَلةِ الجَدِّ: أَلا يَتَّقي
الله زيدٌ! يجعلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ أَبَ الأَبِ
أباً! (5)
وقولُه في العَوْل: مَن شاءَ باهَلَني، باهَلْتُه، والذي أَحصى
رَمْلَ عالجٍ عَدَداً، ما جَعَلَ اللهَ في الفريضةِ نِصْفاً
ونِصْفاً وثُلُثاً، ذهبَ المالُ بنِصْفَيه،
__________
(1) انظر "المغني" 9/ 65.
(2) تقدم تخريجه 3/ 225
(3) تقدم تخريجه ص (205).
(4) تقدم تخريجه 2/ 36.
(5) تقدم تخريجه 2/ 37.
(5/317)
فاُينَ موضعُ الثلُثِ؟ (1)
ومِن ذلك: قولُ ابنِ مسعود في بَرْوَعَ بنت واشِقٍ: أَفولُ
فيها برَايى؛ فإن يَكُنْ صواباً، فمِنَ الله، وإن يَكُنْ خطأً،
فمنِّى ومِنَ الشَّيطانِ (2).
ومِن ذلك: قولُ عمرَ في صَدُقاتِ النِّساءِ: فإِنها لو كانت
مَكْرُمةً أَو تَقْوى عندَ اللهِ، لكان أَسْبَقَكم إليها رسولُ
الله، فلما قالت له امرأَةٌ: لِمَ تَمْنَعنا ما أَعطانا الله؟
قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}
[النساء: 20]، [فقال]: امرأةٌ قالت، فأَصابت. ورُوِيَ: كلُّ
أَحدٍ أَفْقهُ مِن عمرَ حتى امرأَة! (3).
ومِنْ ذلك: قولُ أبي بكر الصِّدِّيق- رضي الله عنه- في
الكَلالَةِ: أَقولُ فيها برايي، فإن يكُنْ صواباً، فمِنَ الله،
وإِن يكُنْ خطأً، فمِني ومِنَ الشَّيطانِ، واللهَ ورسولُه منه
بَرِيئانِ، الكَلالَةُ، ما عدا الوالِدَ والولَدَ (4).
ومِن ذلك: أنَّه كان مِن رَايِه رضوانُ الله عليه التسوِيَةُ
بينَ الناسِ في العطاءِ، حتى قال له عمرُ: أَتَجْعَلُ مَنْ
هاجَرَ إلى الله ورسولِه، وتَرَكَ ديارَه وأَمْوالَه، كمَنْ
دَخَلَ في الإِسلام كُرْهاً؟! فقال أَبوبكر: إِنهم إِنما
أَسْلَمُوا
__________
(1) أخرجه البيهقي 6/ 253، وانظر 2/ 30.
(2) أخرجه أبو داود (2114) (2115)، والترمذي (1145)، والنسائى
6/ 431، وابن ماجه (1891).
(3) تقدم تخريجه 2/ 35.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 402، وعبد الرزاق (19191).
(5/318)
وهاجرُوا إِلى الله، فأُجورُهم على الله،
وإِنما هذه الدُّنيا مَتاعٌ (1) وكأَنَّ أَبابكر- رضي الله
عنه- لم يُحِب أن يَجْعَلَ مِنَ العَطاءِ ثمناً للإِيمانِ
والهِجْرَةِ وفضائل الأَعمالِ، ووَكَلَ ذلك إلى دَيّانٍ
يَسْمُو فِى العطاءِ، ثم لَمَّا صارَ (2) كُرْسِيُّ الخِلافةِ
إلى عمرَ رضي الله عنه، فاضَلَ في العطاءِ، وعَلِمَ أَن الله
سبحانه قد جَعَلَ الآخِرةَ دارَ الجَزاءِ، وعَجَّلَ في هذه
أَصْلَ العطاءِ، بُلْغَةً وإعانةً على ما هم بصَدَدِه مِن
نَدْبِ نفوسِهم لِمَا نَدَبُوها، فلَمَّا لم يَمْنَعْ ذلك
أَصْلَ العطاءِ- وإِن لم يَكُنْ ثمناً لكن بلاغاً- كذلك
الزِّيادة، فكُلٌّ منهما ذَهَبَ إلى وَجْهٍ مِن وجوهِ
الرَّأيِ، والمعنى الواضح.
ومِن ذلك: أَنَّ أبا بكر الصِّدِّيقَ اشْتَهَرَ عنه أَنَّه
وَرَّثَ الجَدَّةَ أمَّ الأُمِّ، ولم يوَرِّثِ الجَدَّةَ أمَّ
الأَبِ، فقال له أَنصاريٌّ: لقد ورَّثْتَ امرأَةً مِن ميِّتٍ،
لو كانت هي المَيتةَ لم يَرِثْها- يعني: أُمَّ الأمِّ، فإِنَّه
ابنُ بِنْتِها- وتَرَكْتَ امرأَةً لو كانت هي الميَتَةَ،
وَرِثَ جميعَ ما تَرَكَتْ- يعني: أَن الأَبَ ابنُها-، فلَمَّا
سَمِعَ ذلك، أَشْرَكَ بينهما في السُّدُسِ (3). وهذا أَخْذٌ
منهم بالرَّايِ، وتعويلٌ على المعاني المستنبَطةِ المعقولةِ.
ومِن ذلك: ما أَجْمَعوا عليه مِنَ الرَّأيِ والاجْتهادِ، وكان
المبتدِئ به عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه، الذي لم يَزَلْ
رأيه موافقاً لِمَا يَنْزِلُ مِن وَحْي الله إِلى نبيِّه في
عِدَّةِ قضايا ومواطنَ: [وهو] ما رَآهُ وأَشارَ به من
__________
(1) انظر "الأموال" لأبي عبيد 264.
(2) في الأصل: "صارت".
(3) أخرجه عبد الرزاق (19084)، والبيهقي 6/ 235.
(5/319)
تَسطيرِ القرآن في المصاحفِ حِفظاً له عنِ
الشّذوذِ، لَمَّا رَأَى القَتْلَ قد اسْتَحَرَّ (1) بقُرَّاء
القرآن في قتالِ أَهلِ اليَمامَةِ، وقولُه لأبي بكرٍ
الصِّدِّيقِ، وقولُ أبى بكرٍ: لا أَفْعَلُ، وكيف أَفْعَلُ ما
لم يَفْعَلْهُ رسولُ اللهِ؟! وإِحضارُه زَيْدَ بنَ ثابتٍ،
وكَراهَةُ زيدٍ ما كَرِهَه أَبو بكر مِن جَمْعِه، وقولُ زيدٍ
(2): فلو كَلفُوني يومَئذ نَقْلَ جبالِ تِهامَةَ، لكان أَهْونَ
عليَّ مِن ذلك، ثم شَرَحَ الله صَدْرَ أبي بكر وزيدٍ والجماعةِ
إلى راي عُمَرَ (3)، واتفَقُوا على تَوْريثِ العَمَلِ به. وكان
في ذلك أكثرُ المصالح، حيثُ حُفِظَ القرآنُ من الزِّيادةِ
والنّقصانِ مِن أَهْلِ الاِلْحادِ، ومعلومٌ أَنه لم يَكُنْ
نُفورُهم عن رَايِ عُمرَ إِلا لعَدَمِ النقلِ والسَّمع، ثم
اتفَقُوا على مَحْضِ الرَّايِ ومُجرَّدِه.
ومن ذلك: ما رَآهُ عثمانُ رضي الله عنه مِن جَمْع الكُلِّ على
صَحِيفةِ أَبي بكر ومُصحَفهِ، وأَخْذِه مِن حَفْصَةَ، وضَمانِه
لها رَدَّهُ عليها حتى سَمَحَتْ به، وأَخْذِه لجميع المصاحفِ
الى كان فيها تَقديم وتَأنخير، وتَأويل وتَفسير، وتَبديل
وتَغيير، إِلى غيرِ ذلك من التخليطِ والتَّحريفِ، على قَدْرِ
حِفْظِ كاتِبِهِ، وتَحريقِ ذلك، ومُوافقةُ الكُلِّ له على ذلك
(4)، حتى إِنَّه لَمَّا قيلَ فِى فِتْنَتِه: حَرَّاقُ
المصاحفِ، قال عليّ رَدّاً على مَنْ عابَهُ:
__________
(1) أي: اشتد وكثر، وهو استفعل من الحَرِّ: الشدة. "النهاية"
(حرّ).
(2) في الأصل: "أبو بكر" وهو خطأ.
(3) أخرجه أحمد (76)، والبخاري (4679).
(4) أخرجه البخاري (4986) (4987).
(5/320)
واللهِ ما حَرَّقَها إلاَّ عن رَأي من
جماعتِنا أَصحاب محمدٍ (1). فكان ذلك مِن فضائلِ عثمانَ رضي
الله عنه.
وإنَّما جَعَل الله سبحانه الرَّايَ طريقاً، وإن كان قادراً
على إِنزالِ نُصوصٍ كاشفةٍ لأَحكامِ شريعتِه، ليُظْهِرَ
فضائِلَهم التي أَوْدَعَها، وجَواهِرَهم التي مَنَحَها، كما
أَبانَ عَمَّا أَوْدَعَه فيهم مِن تَلَقِّي أَثقالِ التكليفِ
بحُسْنِ الاستجابةِ ببَذْلِ النُّفوسِ والأَموالِ، وفِراقِ
الأَهلِ والأوطانِ، وقَطْع الأَرحامِ فيه، كذلك أَبانَ عن
فَضْلِهم في الاجتهادِ والرَّايِ.
ومِن ذلك: أَنَّهم ما تَحَرَّجُوا أَنْ ضَرَبُوا لأَحكامِ
اللهِ الأَمثالَ، فقالوا في الجَدِّ ما قالوا مِنَ التشْبيهِ
بشَجَرَةٍ تَشَعَّثَتْ (2) أغصانُها، وبنَهْرٍ انْخَلَجَ منه
خُلْجانٌ (3)، وهذا كُلُّه ثِقَةٌ منهم بأَنَّ الرَّايَ طريقٌ
من طُرُقِ الأً حكامِ.
ومِن ذلك: ما كاتبَ به عمرُ رضى الله عنه في العُشورِ،
ونَهْيُه للولاةِ بالعراقِ عن أَخْذِ الخُمورِ، فقال: وَلّوهم
بيعَها، وخُذُوا العُشْرَ مِن أَثْمانِها (4)، وهذا مِن أَفقهِ
الفِقْهِ، ومعناه أَخذَه مِن قولِ النبيِّ عليه الصلاةُ
والسَّلام في هَدِيَّةِ بَرِيرةَ ما كانَ تُصدِّقَ به عليها-
وكانت الصَّدقةُ تَحْرُمُ
__________
(1) أخرجه ابن أبى داود بنحوه في "المصاحف" 19.
(2) أي: انتشرت وتفرَّقت: "المصباح المنير": (شعث).
(3) جمع خليج، وهو النُّهَيرُ يقتطع من النهر الكبير إلى موضع
ينتفع به، وانخلج بمعنى: تفرَّع. "اللسان": (خلج).
(4) أخرجه البيهقي 9/ 206.
(5/321)
عليه كتحريمِ الخَمْرِ علينا والرِّبا-،
فقال: "هو لها صدقةٌ، ولنا هَديَّةٌ" (1).
فأَخَذَ مِن تَغيُّرِ الحكْمِ بالانْتقالِ، تَغيُّرَ حكم
أَثمانِ الخمورِ عن أَعيانِها، ونَهَى أَصحابَ رسولِ الله عن
قَبْضِها وبيعها، ووَكَلَ ذلك إِلى مَنْ يَعْتَقِدُها مالاً.
ومِن ذلك: تَلَوُّمُهم على الصِّدِّيقِ وتَحرُّجُهم مِن قتالِ
مانِعِي الزَّكاةِ، واحْتِجاجُهم بقولِ النبيِّ - صلى الله
عليه وسلم -:"امِرْتُ أَن اقاتِلَ النَّاَسَ، حتى يَقُولوا: لا
إلهَ إِلا الله، فإِذا قالوها، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم
وأَموالَهم " (2) وأَجابَهم بالرِّوايةِ، وهو قولُه: أَليس قد
قال: "إِلاَّ بحَقِّها"؛! أَوَليستِ الزَّكاةُ مِن حقِّها،
والرَّاي بِقوله: أَدَعُ اليومَ لهم الزَّكاةَ، وغداً
الصَّلاةَ، فأَحُلُّ الإسلامَ عُرْوَةً عُرْوةً! وقولِه: كيف
افَرِّقُ بين ما جَمَعَ الله، والله يقولُ: {وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؟! ثم صارَ الناسُ
كلُّهم إِلى رَايِه.
[و] قولُ عمرَ رضي الله عنه يومَ السَّقِيفَةِ لأَبي عُبيدةَ:
امدُدْ يَدَكَ أبايِعْكَ، وقولُ أبي عُبيدةَ له: ما كان لك في
الإِسلام فَهَّةٌ (3) غيرها، تقولُ هذا وأَبو بكر [فينا]!
ومُقاوَلتُهم واحتجاجُ كل منهم، هذا يقولُ: مِنا أَمير، ومنكم
أَميرٌ، فيقولُ الآخرُ: سَيْفان في غِمْدٍ لا يَجْتمعان
أَبداً، فهذا يقولُ: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
(4) أَوْصَانا فيَكم، فقال: "اوصِيكَم بالأنصارِ
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 117، والبخاري (1493)، ومسلم (1074).
(2) تقدم تخريجه 1/ 190.
(3) الفهَّة: السقطة والجهلة والعي. "النهاية" و "القاموس":
(فهه).
(4) سها الناسخ فكتب: "إنَّ الله عزَّ وجل أوصانا فيكم".
(5/322)
خيراً" وهذا يَدُلُّ على ذَوِي الحِجَا
منكم: أَنَّ الأَمْرَ فينا دونَكم؛ إذ لو كان فيكم، لأَوْصاكُم
بنا (1). وهذا كُله نَظر واستنباط عندَ عَدَمِ النصِّ.
ومِن ذلك: تَصرُّفُ أَبي بكرٍ في الخِلافةِ برَايه، ونصُّه على
عُمرَ برَايِه، ومصيرُ الكلِّ إليه، ومُوافقتُهم له، وإنْ لم
يَكُن في ذلك نَصّ مِنَ القرآنِ يُتْلى، ولا حديث عن رسولِ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرْوى، سوى قولِ أَبي بكر عن
رأيِه فيه، ونَظرَه واجتهادِه، فأَمْلى عَهْدَه الذي عَهِدَه
مِن لَفْظِه على عثمانَ رضي الله عنه: هذا ما عَهِدَ عبدُ
اللهِ بنُ عثمانَ آخِرَ عهدِه بالدُّنيا وقتاً يُسِلمُ فيه
الكافِرُ، ويَبَرُّ فيه الفاجِرُ، فأُغْمِيَ عليه، ثم أَفاقَ،
فقالَ له: مَنْ كَتَبْتَ؟ قال: عُمَرَ بنَ الخطَّابِ، فقال:
أَصَبْتَ ما في نَفْسِي، ولو كَتَبْتَ نفسَك، لكُنْتَ لها
مَوضِعاً، ولم يَعْتَرِضْ عليه أَحدٌ فيما رَآهُ (2).
ولَمَّا اعْتَرَضَ عليه اثنانِ، سَمِعَا ما قال فيهما مِن
عَدَمِ صَلاحيَّتهما للخِلافةِ، فقال لِطَلْحَةَ لَمَّا قال
له: ماذا تقولُ لربِّكَ وقد وَليْتَ علينا فَظّاً غَليظاً؟
فأَغْلَظَ له في القولِ، ثم قال: أَقولُ له: وَلَّيْتُ عليهم
خيرَ أهلِكَ (3).
وكان مِمّا قال في ذلك: إني مُستخلِفٌ عليكم عمرَ بنَ
الخطَّابِ، فإن
__________
(1) لم نجد حديث السقيفة بهذه السياقة، وانظر القصة بتمامها
فِى "مسند" أحمد (391)، والبخاري (6930) من حديث ابن عباس.
(2) انظر "تاريخ المدينة المنوَّرة" لعمر بن شبة 2/ 665 - 666،
و"مناقب عمر" لابن الجوزي 48.
(3) انظر المصدر السابق.
(5/323)
يَعْدِلْ فذاك ظَنِّي فيه، وإِنْ لم
يَفْعَلْ فأَنا منه بريء، والخيرَ أَرَدْتُ (1).
ومِمّا قال في ذلك: إِنَّ هذا الأَمْرَ لا يَصْلُحُ إِلاَّ
للقَوِيِّ في غير عنْفٍ، اللطيفِ- وروي: الليَنِ- مِن عْير
ضَعْف، ومَن صِفَتُه كذا وكذا، وأَطالَ في صفةِ الإمامِ، ثم
قال: لا أَعْلَم إلا عُمرَ بنَ الخطابِ، فشاوِرُوا وانطروا في
أَمرِكم (2).
وهذ كُلُّه تصريحٌ بالرايِ بعد الارْتياءِ والنظَرِ
والاجتهادِ، إذ لم يَكُنْ لهم في ذلك سمعٌ ولا نصٌّ.
ومِن ذلك: اختيارُ عُمرَ رضي الله عنه السِّتةَ مِن بينِ
أَصحابِ رسولِ اللهِ، وجعلُ الإِمامةِ شورى في النَّفَرِ
الذينَ نَصَّ عليهم واقْتَطَعُهم برأيِه (3).
ومن ذلك: ما اشْتَهَرَ عنه فيما عَهِدَهُ إلى أبى موسى رضى
الله عنهما: اعْرِفِ الأَشباهَ والأَمثالَ، ثم قِسِ الأُمورَ
برايِكَ، ولا يَمْنَعُكَ قضاءٌ قَضَيْتَه بالأَمسِ، راجَعْتَ
فيه عَقْلَك، وهُدِيتَ فيه لرُشدِكَ، أَن تَرْجِعَ إلى الحق،
فإِنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ مِنَ التَّمادي (4). فكان
يَعْمَلُ بالقياسِ والتمثيلِ، ويَأمُرُ حكامَه بالعملِ بذلك،
ولو تُتُبِّعَ ذلك مِن أَقوالِه وأَحوالِه
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) انظر المصدر السابق.
(3) "تاريخ المدينة المنورة" 3/ 924 وانظر ما تقدم في 3/ 88.
(4) تقدم تخريجه 2/ 55.
(5/324)
وأَحكامِه في أَعيان المسائلِ، لَكَثُرَ.
ومِن ذلك: قولُ عثمانَ لعُمَر رضي الله عنهما في بعضِ القضايا:
إن نَتَّبِعْ رَأيَك أسَدُّ، وإِلى نَتَّبِعْ رَايَ مَن
قَبْلَك، فنِعمِ ذو الرايِ كان. وهذا إخبارٌ منه بجوازِ القولِ
بالرايِ، ويُومِىءُ أَيضاَ إِلى القولِ إِلى تصويبِ
الرَّأيَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ، ولو كان فيه دليلٌ قاطعٌ على
أَحدِهما، لم يجز تصويبهما (1ولا على 1) باقي الأُمَّةِ
إِقراره على تصويبِ قولينِ أَحدُهما خطأٌ مقطوعٌ به.
ومِن ذلك: ما رُويَ عن علي وعثمانَ رضي الله عنهما أَنَّهما
قالا في الجَمْع بين الأختَيْنِ بملْكِ اليَمينِ: أَحَلَّتْهما
آيةٌ وحرمتهما آية (2)، ويَعْنِيان بذلك قولَه تعالى: {أَو ما
مَلَكَتْ أَيمانُكم} [النساء:3]، وقولَه: {واحِلًّ لكُمْ ما
وراءَ ذلكُم} [النساء: 24]، ولا بُدَّ أَن يكون لهما في ذلك
قولٌ، ولو كان معهما دليلٌ آخَرُ يَقْطَعُ (3) بوجوبِ الحكمِ
بموجِب إِحدى الآيتيْنِ، لم يَجُزْ أَن يقولا: إِدى التحليلَ
والتحريمَ في ذلك يَتَعارَضُ، وعندَهما في نَفْي التعارضِ
دليلٌ قاطع، فلا يَصِيرُ معتقدُ التعارضِ في ذلك إِلاَّ إلى ما
يُوجِبُ غالبَ الظَّنِّ والرَّايِ.
ومن ذلك: قضايا عليِّ بنِ أبي طالبٍ كرَّم الله وجهَه، وكان
أَكثرَهم
__________
(1 - 1) غير واضح في الأصل.
(2) تقدم تخريجه 3/ 318.
(3) في الأصل: "فاقطع".
(5/325)
أَخْذاً بالرَّايِ: فرُوِي أَنَّ عمرَ بنَ
الخطابِ كان يَشُكُّ في قَوَدِ القتيلِ الذي اشْتَرَكَ في
قَتْلِه سَبْعَةٌ، فقال له عليّ: يا أَميرَ المُؤْمنينَ،
أَرَأَيت لو أَنَّ نَفَراً اشْتَركُوا في سَرِقةٍ، أَلَسْتَ
قاطِعَهم؟ قال: نعم، قال: فذلك (1). يعى بقولِه: "فذلك" أَنه
مِثْلُه، وهذا قياسٌ وتمثيلٌ.
وقال في قَضِيَّةٍ: أَقضي فيها برأيى، فإنْ وافقَ قضاءَ رسولِ
الله، وإلا فقَضائِي فَسْلٌ (2) رَذْلٌ (3).
وقال في أمِّ الولدِ: كنتُ أَرى أَن لا يُبَعْنَ، والآن رَأيى
أَن يُبَعْنَ، حتى قال له عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ: رَايك مَعَ
الجماعةِ أَحبُّ إِلينا من رأيِك وَحْدَك (4).
وقال في المَرْأةِ التي أَجْهَضَتْ بإنْفاذِ عمرَ إليها: أَمّا
المَأثَمُ، فأَرجو أن يكونَ عنكَ زائِلاً، وأَرَى عليك
الدّيَةَ، فقال: عَزَمْتُ عليك أَلاّ تَبْرَحَ حتى تَضْرِبَها
على قومِك بني عَدِي. يعنى: قَوْمِي (5).
وقال في قتالِ أَهلِ البَصْرةِ وصِفِّينَ ونهْرَوانَ ما دَلَّ
على أنَّه برَايه لابسَمْعٍ، وحَلَفَ أَنه ما عَهِدَ إِليه
رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عَهْداً، قالَ:
إنما هو برايٍ رَأَيْناه، فقال له السَّائلُ: ما بالُنا إِنِ
ابْتُلِينا بِقتالٍ غداً؟ قال:
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (18077).
(2) أي: رديء. "المصباح المنير": (فسل).
(3) الرذل: الدون الخسيس، أو الرديء من كل شيء. "القاموس":
(رذل).
(4) تقدم تخريجه في الصفحة 143.
(5) تقدم تخريجه ص (205).
(5/326)
مَنْ أَرادَ الله بذلك نَفَعَه (1).
فقد بانَ بهذه الجملةِ الكافيةِ أَنَّ الصَّحابةَ رضوان الله
عليهم مَثَّلُوا الأَحكامَ بغيرِها، وشَبَّهُوها بنَظائرِها،
ورَدُّوها إِليها، وذلك مَحْضُ القِياسِ.
فقد جَمَعْنا بينَ دلائِلنا على جوازِ التًعبُّدِ به عَقْلاً
وشَرْعاً، وبينَ العملِ به إجماعا.
فصل
في اعتراضاتِهم على ذلك
فمِن ذلك: أنَّ هذه كُلها أَخبارُ آحادٍ، وغايةُ ما تُعْطي
الظنَّ، ونحن في إِثباتِ أَصلٍ لا نَقْنَعُ في إِثباتِه إلاَّ
بأَدِلَّةٍ قَطعِيَّةٍ.
ومنها: أَنَّ جميعَها مردودٌ بما رَوَىُ عنِ النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتي فِرَقاً،
فأَعظمُهم فِتْنةً الذين يَقِيسُون الأُمورَ بالرَّايِ" (2).
ورَوَى أَبو هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه
قال: "تَعْمَلُ هذه الأُمَّةُ بُرْهَةً بكتابِ اللهِ، وبُرْهَة
بسُنَّةِ رسولِ الله، وبُرْهَة بالرَّايِ، فإذا فَعَلُوا ذلك،
ضَلُّوا وأَضَلُّوا" (3) وهذا نصٌّ في الذمِّ على العملِ
بالقياسِ.
__________
(1) أخرجه نحوه أحمد (1207) و (1217)، وانظر "الصواعق المحرقة"
لابن حجر الهيتمي 2/ 116 - 118.
(2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 430، والخطيب في "تاريخ
بغداد" 13/ 307، من حديث عوف بن مالك.
(3) أخرجه أبو يعلى (5856).
(5/327)
ومنها: ما رُوِيَ عن أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ
أَنه لما سُئِلَ عن الكَلالَةِ، قال: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلّني،
وايُّ سَماءٍ تُظِلّني، إذا قلتُ في كتابِ الله برأيي (1)؟
ورُوِيَ عن علي أنَّه قال: لو كان الدِّينُ بالقِياسِ -وزوِيَ:
بالرأي-، لكان باطنُ الخُفِّ أَوْلَى بالمسح من ظاهرِه (2).
ورُوي عن عمرَ أنه قال: إِيَّاكم وأَصحابَ الرَّأي؛ فإنْهم
أَعداءُ الدِّينِ، أَعْيَتْهُمُ الأَحاديث أَن يَحْفَظُوها،
فقالوا (3) بالرايِ، فضَلّوا وأَضَلُّوا.
وقال: إِيَّاكم والمُكايِلَةَ، فسُئِلَ، فقال: المُقايَسَةُ.
وعن شُرَيح قال: كَتَبَ إِليَّ عمر، وكنت يومَئِذٍ مِن
قِبَلِه: اقْضِ بما في كتابِ الله، فإِن جاءَك ما ليس في كتابِ
اللهِ، فاقْضِ بما في سُنةِ رسولِ اللهِ، (4 فإن جاءَكَ ما ليس
في سُنَّةِ رسولِ الله، فاقْضِ بما أَجْمَعَ عليه أهلُ العلم،
فإنْ لم تجد فلا عليك ألاَّ تقضي (5).
وعن ابنِ مسعودٍ قال: إِنْكم إِنْ عَمِلْتُم في دينِكم
بالقِياسِ، أَحْلَلْتم كثيراً 4) مما حَرَّم الله، وحَرَّمْتم
كثيراً مما حَللَ الله (6).
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 380.
(2) أخرجه أبو داود (162).
(3) في االأصل: "فقال".
(4 - 4) طمس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1304.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 240، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 115.
(6) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتففه" 1/ 182.
(5/328)
وعنِ ابن عباسٍ: إن الله تعالى قال
لنَبيِّهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يَقلْ: بما رَأَيت (1)، ولو جُعِلَ
لِأَحَدٍ أَن يَحكُمَ برايِه، لجُعِلَ ذلك لرسولِ الله.
وقال: إيَّاكم والمَقاييسَ، فإنما عُبِدَتِ الشمسُ والقمرُ
بالمقاييسِ (2).
وعن ابنِ عمرَ: السُّنَّةُ ما سنه رسولُ اللهِ، فلا تَجْعَلِ
الرايَ سُنَّةً (3).
فقَابَلُوا بهذا ما ذَكَرْناه عن الصَّحابةِ رضوانُ الله
عليهم.
ومنها: قولُ الرَّافِضةِ منهم: وأَنَّى (4) الثِّقةُ إلى
أقوالِ مَن رَوَيْتم عنهم، وقد كَتَمُوا نصَّ رسولِ الله - صلى
الله عليه وسلم - على علي رضي الله عنه، وتَأَلبُوا على أهلِ
بييه، وغَصَبُوهمُ الخِلافةَ، ومَنَعُوا فاطمةَ بنت رسولِ
اللهِ إِرْثَها المنصوصَ عليه في كتاب الله بروايةٍ انفردَ بها
الواحد، إلى مثل ذلك من أفعالهم المانعة من أن يكون عملهم
بالرأي شرعاً، بل ابْتِداعاً منهم، وأَشْنَعوا في ذلك بما
ذكروه في الإِمامةِ من أُصول الدِّينِ، وليس هذا موضِعَه، لكن
ما ذَكَرْناه كافٍ في البلوغ بما رامُوه مِنَ الطعْنِ الذي
لايَقدَح ولا يُؤَترُ.
والذي يُشِيرُ إلى ذلك مِن طريقِ الشَّاهدِ لما ذَكَرْناه:
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرج الطبري في "تفسيره" (12124) أثراً نحوه.
(2) أخرجه الدارمى 1/ 65 عن ابن سيرين.
(3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 2/ 166 عن عمر.
(4) فِى الأصل: "وأمَّا".
(5/329)
قال: "لا تَرْتَكِبُوا ما ارْتَكَبَ مَنْ
قَبْلَكم، فتَستحِلُّوا محارمَ اللهِ بأَدنى الحِيَلِ، إِنَّ
الله إذا حَرَّمَ شيثاً حَرَّمَ ثَمَنَه" (1). وأمَرَ
الصَّحابةَ بالمُتْعَةِ، وأَمَرَهم بفَسْخ الحجِّ إِلى
العُمرةِ طلباً لفَضْلِ الثمتُّع وتأَسفاً عليه، فقال: "لو
استَقبَلْتُ مِن أَمري ما استَدْبَرْتُ، ما سُقت الهَدْيَ،
ولجعَلْتُها عُمرةً" لَمَّا قالوا له: أَمَرْتَنا بالفسخ ولم
تَفْسَخْ (2).
وهذا عمرُ بنُ الخطابِ فَعَلَ ما خَالَفَ الخَبَريْنِ، فكَتَبَ
إلى عامِله (3 يَنْهاه عن أَخذِ الخمورِ، وقال: وَلُّوهُم 3)
بَيْعَها، وخُذُوا العُشْرَ (4 من أَثمانِها (5). وخَطَبَ رضي
الله عنه الناسَ، فقال: إن الله عز وجلَّ رَخصَ لنبيِّه ما
شاءَ، وإن نبيَّ اللهِ قد مضى لسَبيلِه، فأَتِمُّوا الحَجَّ
والعُمرةَ كما أَمَرَكم الله عَزَّ وجَلَّ (6). فها هو قد خالف
الخَبرَيْنِ ولم يُعوِّلْ 4) عليهما، ومَنٍ كانت مُخالَفتُه
للسّنَنِ كذا، كيف يُوثَق إلى عملِه بالقياسِ، ويُجعَل حُجَّة
في الشَّرْع؟
__________
(1) أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة كما في "تفسير ابنِ كثير" 2/
257 في تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} وقال: وهذا
إسناد حيد.
(2) تقدم تخريجه 2/ 33.
(3 - 3) طمس في الأصل.
(4 - 4) طمس في الأصل.
(5) تقدم تخريجه ص (321).
(6) أخرجه مسلم (1217)، والبيهقى 5/ 21.
(5/330)
وأَبو بكر تَنَدَّمَ عندَ الموتِ على
أَشياءَ عَدَّدَها، وقال فيما فَعَلَه: وَدِدْتُ أَني لم
أَفْعَلْه، ولو كان الرايُ طريقاً للعملِ به، لَمَا تَنَدَّم
على ما فَعَلَه به، كما لم يَتَنَدَّمْ على ما عَمِل فيه
بكتابِ اللهِ وسُنَةِ رسوله.
وقد ذَكَرَ الجاحظُ في (1) كتابِ "الفُتْيا" عن أَبى إِسحاقَ
النًظَّامِ مِن ذَمِّ أَصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم
-، لِمَا حَكَيْنا عنهم من العملِ بالرَّايِ، وتَهَجَّمَ
بتَسْخيفِ آرائِهم، ما دَلَّ به على فسادِ عَقْدِه، وسُخْفِ
رايه وعَقْلِه، ولم أَحْكِه تَحرُّجاً وتَورُّعاً، ولو كان فيه
نوعُ شُبْهةٍ، لحَكَيْتُهَ لأَتَكلمَ عليه، لكني رَأَيْتُه
فارغاً مِن حُجَّةٍ وشُبْهةٍ، دالاّ على دَخَلٍ كان في قلبِه،
استرْوَحَ به إِلى ذِكرِهم رضوان الله عليهم.
فصل
في الأَجوبةِ عما تَعَلَّقُوا به مِن شُبَهِهِم
فأمَّا قولُهم: إِئها أَخبارُ آحادٍ، فإِنَّ اشتِهارَ ذلك عنهم
تَوَاتر، وإن كانت آحادُ القضايا آحاداً في النقلِ، فصارَ
كشجاعةِ علي، وسَخاءِ حاتمٍ، وفَصاحةِ قُسٍّ، وفَهاهَةِ
باقِلٍ، وبُخلِ مادِرٍ، تَواتَرَ في الجملةِ، وإن كانت
جُزئِيَّاتُ أحوالِهم وأَقوالِهم آحاداً، على أَنَّ اصولَ
الفِقْهِ لايُطلَبُ لها القَطعِيَّاتُ مِنَ الأَدِئةِ إِذ كأنا
إِلى إِثباتِ الأَحكامِ أَقْربَ، وعن أصولِ (2 الدِّينِ
أَبْعدَ، ولهذا لا نُفسِّقُ المُخالِفَ فيها، ولا نُبدِّعُه
...... 2) فنُقابِلُه بما
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "المسوَّدة" 368 - 369.
(5/331)
رُويناهُ: مِن أنه مَدَحَ معاذاً، حيثُ
قال: أَجتهدُ رَايى (1)، وْقوله: "إِذا اجْتَهَدَ الحاكمُ
فأَصابَ، فله أَجرانِ، وإذا اجْتهدَ فأَخطأَ، فله أَجر" (2)،
وقوله: "أَرَأيْتَ لو تَمَضمَضْتَ؟ " (3)، "أَرَأَيْتِ لو كان
على أَبيكِ دَيْن؟ " (4)، وما رويناهُ عن جماعةِ الصَّحابةِ
وآحادِهم، ولا بُدَّ مِنَ الجمع بينَ هذين، فلم يَبْقَ للجَمْع
وَجْه، إلَّا أَنَّ أَخبارَنا عادَتْ إِلى إِثارةِ المعاني
مِنَ الظواهِرِ والنُّصوصِ لمسائلِ الفُروع، وذَمُّ الرَّايِ
وأَهلِه في أَخبارِهم رَجَعَ إلى مَنْ تَرَكَ السُّنَنَ لأَجل
الرَّاى؛ ومَن تَرَكَ السَّمعَ للرأيِ مُستحِقّ لِلذمِّ
والوَعيدِ، وذلك مِثلُ تَعاطِي اِّلمُعترِضينَ من المُلحِدينَ
على قوانينِ الشَّرع، وقولُهم: المَرْاًةُ ضِلْع أَعْوَجُ،
والرَّجلُ مُكتسِب، فلِمَ فُضِّلَ عليها في المِيراثِ؟
والبَوْلُ والغائِطُ نَجِسانِ بإجماع، وهما أَخْبس وأكثرُ مِن
المَنِيِّ، والمَنِيُّ مُختلَف في طهارتِه، فما بالُهَ يُغسَلُ
لخروجه جميعُ البَدَنِ، ويُقْتَنَعُ في الطهارةِ عن الأَخبس
بغَسْلِ أَعضاءٍ أَرْبع؟ وما باَلُ الشَّرع يُوجِبُ غَسْلَ
الوجهِ واليَديْنِ ومسحَ الراسِ وغَسْلَ الرِّجلَيْنِ مِن خروج
الغائطِ والبَوْلِ، ولا يُوجِبُ غسلَ مَخْرَجِهما؟ فهذا
وأمثالُه، إذا قاله قائل، واعْتَرَضَ بأمثالِه معترِضٌ قَصْدَ
الإزراءِ على الشَّرع، فذاك مارِقٌ مِنَ الدِّين، مُستحِقٌّ
الوعيدَ
__________
(1) تقدم تخريجه 512.
(2) تقدم تخريجه 1/ 294.
(3) تقدم تخريجه 2/ 54.
(4) تقدم تخريجه 2/ 54.
(5/332)
بإِجماع المسلمينَ، فأَمَّا الآراءُ التي
هي إِلحاق (1. . . . . . . . . .1) وقد تَوأتَرَتِ الأَخبارُ
بها عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابِه.
وأَما ما تَعاطَتْه الرَّافضةُ الجُهّالُ، وحكاه أَبوعثمانَ
الجاحظ عن أَبي إِسحاقَ النَّظَّامِ مِنَ الطَّعْنِ في أَصحابِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولٌ لا يَتَعَدَّى
قائِلَه، دَالٌّ على فسادِ العَقْدِ، وعدم العَقْلِ؛ فإنَّ
الله سبحانَه مَدَحَهم بالعدالةِ، فقال: {وكذلك جَعَلْناكم
أُمَّةً وسَطاً} [البقرة: 143]، وبالرَّافَةِ والرَّحمةِ على
أَمثالِهم، والشِّدَّةِ والغِلْظَةِ على الكفَّارِ، وأَثنى
عليهم، فالقادحُ فيهم مردودٌ قَولُه في نَحْرِه، ثم يقالُ له:
إنَّ هذه المقالةَ عائدةٌ بإبطالِ النّقولِ عن الرَّسولِ،
مُعدِمةٌ للثِّقةِ بالنّصوصِ، لأَنَّ القومَ إذا كانوا بصِفَةِ
الاستعلاءِ بالظّلْمِ والاستبدادِ بالرأيِ، وكان أهلُ البَيْتِ
على التَّقِيَّةِ والكَتْمِ والمُظاهرةِ بالموافقةِ، لم يَبقَ
مِنَ الشَّرع على زعمِكم إلاَّ اعتقاداتٌ مكتومةٌ عندَ
أَربابِها، تَتلَجْلجُ في الصُّدورِ تموتُ بموت مُعتقدِيها،
ولا يعملُ النَّاسُ إلاَّ بما سَمِعوا وشَهِدوا دونَ ما غابَ
عنهم، وإذا بَطَلَ النَّقلُ بفسادِ النَّقَلَةِ وكَتْمِ
الحَفَظَةِ، تَبِعَ المُعِلَّ للرايِ في الإِبطالِ، فلا سَمْعَ
ولا رَأيَ، وما أَفْضى إلى هذا التَّعطيلِ فعاطلٌ في نفسِه.
على أننا لو نَزَلْنا في ذلك على الأَشَدِّ، وأَنَّ القومَ ما
خَلَوْا من هَفَواتٍ وزَلاَّتٍ، فقد كان منهم في عصرِ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَقْدَمَ على قَذْفِ مَنْ
عَظُمَتْ حُرْمةُ قَذفِه كمِسْطَحٍ، ومَن كاتبَ بأخبارِ رسولِ
الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين كحاطبِ بنِ أَبي
بَلْتَعَةَ، ومَن آذى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا
يجوزُ له مِنَ
__________
(1 - 1) هنا في الأصل خرمٌ. بمقدار سطرين.
(5/333)
القولِ والأَذى، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنه
شَهِدَ بَدْراً، وما يُدرِيكَ أَنَّ الله اطلَعَ إِلى أَهلِ
بَدْرٍ، فقال اعْمَلوا ما شِئْتم، فقد غَفَرْتُ لكم" (1) أما
يقولُ ذلك مع الإِقْرارِ (2)، فلا يَضرُّهم قَدحُ القادح،
والظاهِر أنَّه لايكون ذلك على هذا الوجهِ، فلا يَبْقى إِلأ
أَنَّ الله يُوَفِّقُهم للاستغفارِ ليُحَققَ المِدْحَةَ لهم. |