الواضح في أصول الفقه

فصل
إِذا وَرَدَ النَّصّ على حكمٍ شرعي معللاً، وَجَبَ الحكمُ في غير المَنْصوصِ عليه، إذا وجدَت فيه العِلَّةُ المذكورةُ في النصِّ، سواءً وَرَدَ النصَّ بذلك قبلَ ثُبوتِ حكمِ القياسِ أو بعدَ ثبوتِه، مثل قولِه: حَرَّمْتُ الخَلَّ لحُموضتِه، وأَبَحْتُ السّكَّرَ لحَلاوتِه. أَشارَ إليه صاحبنا أحمدُ بن حنبلٍ، فقال: لا يجوزُ بيعُ رَطبٍ بيابسٍ إذا كانت الثمَرَةُ واحدةً، واسْتَدَل بنهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرّطبِ بالتمرِ (3).
وبهذا قال إِبراهيمُ النَّظامُ والقَاسَانيُّ والنهْرُبِينيّ مِن نفاةِ القياسِ. قال أبو سفيانَ: وإليه كان يشيرُ شيخُنا- يعني: ابد بكر الرازيَّ- في
__________
(1) تقدم تخريجه ص (41).
(2) في الأصل: "الإصرار".
(3) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 6، والحاكم 2/ 139، والبيهقي 5/ 294.

(5/334)


احتجاجه بقولِ النبيِّ: "إنما هو دَمُ عِرقٍ، فتَوضَّئِي لكلِّ صلاةٍ" (1) في إيجابِ الَوُضوءِ من الرّعافِ ونحوهِ، وصارَ بمثابةِ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: الوُضوءُ مِن كلِّ دَمِ عِرْقٍ. وحَكَاهُ عن الكَرْخِيِّ أيضاً، ولم يُفرِّقْ بين ورُودِ النَّصِّ بذلك قبلَ ثبوتِ حكمِ القياسِ وبعدَه.
قال أَبو سفيانَ: وذهبَ بعضُ شُيوخِنا: إلى أَنَّه لا يجبُ أَن يُحكَمَ بما وُجِدَتْ فيه تلكَ العِلَّةُ بحكمِ المنصوصِ عليه قبلَ ثبوتِ حكمِ القياسِ.
واختارَ هذا التفصيلَ أَبو سفيانَ، وهو قولُ جعفرِ بنِ حَرْبٍ (2).
واختلفَ أَصحابُ الشافعيِّ:
فمنهم مَنْ قال كقولِنا.
ومنهم من قال: لايَجِبُ الحكمُ بذلك بما وُجِدَت فيه تلك العِلَّةُ إلاً أنْ يقومَ الدَّليلُ بذلك. وهو قولُ البَصْرِيِّ (3)، وهو اختيارُ الإِسْفَرايينيِّ (4) وهذه المقالةُ تُبْنى على العِلَّةِ الواقفةِ على مَحَلِّها، كالثَّمِنيَّةِ في الذًّ هبِ والفِضَّةِ.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 120.
(2) هو: أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي، انتهت إليه، رئاسة المعتزلة في وقته، توفي سنة ست وثلاتين ومئتين."سير أعلام النبلاء" 10/ 549.
(3) هو: أبو عبد الله الحسين بن على البصري، الملقب بالجُعَل، تقدمت ترجمته 3/ 352.
(4) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني الأصولي الاشعري. توفي سنة (418) هـ. "سير أعلام النبلاء" 17/ 353.

(5/335)


فصِل
في أَدِلتنا
فمنها: أَنَّ التحريمَ لو كان حكماً لأَجلِ السّكَّرِ وحلاوتِه المختَصَّةِ به، لَمَا كان لقولِه: لأَنه حُلْوٌ، فائدةٌ؛ لأَنَّ الحلاوةَ وصف للسُّكَّرِ لا تُفارِقُه، وكان يكفي قولُه: لا تأكلِ السُّكرَ، والحكيمُ إذا عَلقَ حكماً على مَحَل أَو عَينٍ من الأعيان ذاتِ أَوصاف غيرِ مفارقةٍ لها، كَفاه ذكرُ المَحَل والعَيْنِ، فإذا ذكرَ الصِّفةَ وعَللَ بها، لم يَخْلُ ذكرُه لها من فائدةٍ، ولا فائدةَ بالتعليلِ بالحَلاوةِ إلا التَّعدِيةَ (1) إلى كلِّ حُلْوٍ من سُكَّرٍ وغيرِه؛ إِذ لو كان المَحلُّ أَحدَ وَصْفي العلَّةِ، وكان معناه: لا تَأكُلِ السُّكَّرَ؛ لأنَّ حلاوتَه علَّةُ التحريمِ دونَ حلاوةِ غيرِه، لكان في ذكره كِفايةٌ، لأنَّه يَستَتْبِعُ حلاوتَه المُختصَّةَ به، وكان ذكرُ الحلاوةِ لايُفِيدُ إلاًّ ما أَفادَه النَّصّ.
فإن قِيلَ: بل أَفادَ ذكرُ العلَّةِ أَنَّ الحكمَ مُعفلٌ لا بحكمٍ، ولو أَطلق تحريمَ السُّكرِ، لكان تحريمُه بحكمٍ لا مُعللاً، فقد أَفادَ بيانَ التعليلِ بعد أَنْ لم يكُنْ ذلك مُستفاداً بمجرد النَّصِّ، وقد قال الله تعالى: انَّ لَهُ {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] وكان ذلك الحكمُ مقصوراً على بِنْيامِينَ، ولم يَتعَدَّ ذلك إلى الجماعةِ وإِن كانوا أَبناءَ ذلك الشَّيخ الذي بِنْيامِينُ ابنُه، وكذلك يجوزُ أَن تكونَ حلاوةُ السُّكَّرِ خاصَّةً تجلب الحُكم دونَ حَلاوةِ التَّمرِ.
قيل: هذا خلافُ الظَّاهِرِ في التعاليلِ كلِّها؛ فإنَّ المعقولَ مِنَ العِلةِ
__________
(1) في الأصل: "ولا للتعدية".

(5/336)


اسْتِقلالُها دونَ مَحلِّها، وعقلاءُ العربِ ما نَطَقوا بعلةٍ إِلاَّ وطَرَدُوها في غير المَحَلِّ الذي أَضافُوها إِليه، فإذا قالوا: اضرِبْ هذا العبدَ الأَسْودَ الطَّويلَ؛ لأنَّه يُسِيءُ، اقْتَطَعُوا ذِكْرَ السّوادِ والطّولِ عن التعليلِ بالإِساءَةِ؛ لبيانِ أَنَّ الضَّربَ لإِساءَتِه، فكان ذكرُ السَّوادِ والطولِ للتعريفِ بالإساءة، فيُعقلُ مِن كلامِهم أَنَّ الإِساءَةَ إذا وُجِدَتْ من أَبيضَ قصير، أَوْجَبَت ضَرْبَه بحكمِ التعليلِ، وإِنِ انْعدَمَتْ صِفَتا التَّعريف.
فإن قيل: عِلَلُ الشَّرع أَماراتٌ كالأَسماء على المُسمَّياتِ، فلا يَبعُدُ أَنها محلّها إِلاَّ بِدَلالةٍ، وذلك أَنَّه يجوزُ أَن تكَونَ المفسدة في حلاوةِ السُّكَّرِ خاصَّةً، ولا تكونُ المفسدةُ في غيرِه من حلاوةِ تَمْرٍ أو عَسَلٍ، أَلا تَرى أَنَّه قد وَرَدَ بتحريمِ المَيْتَةِ؛ فكان الموتُ علةَ تحريمِ الشَّاةِ والبعيرِ والبقرةِ، ولم يَكُنْ علةً لتحريمِ السَّمكِ والجرادِ، ودم العُروقِ حُرِّم، ودمُ الكَبِدِ لم يُحرَّمْ، فلا يجوزُ والحالةُ هذه أَن يُعدَّى الحكمُ عن محلِّه إِلا بِدَلالةٍ تُوجِبُ التَّعدِيةَ؛ لأَنّنا لا نَأمنُ أَن تكونَ التعديةُ مَفسدةً.
قيل: لو أَرادَ ذلك لنصَّ على تحريمِ السُّكَّرِ؛ لأَنَّ السُّكَّرَ جامعُ لذاتٍ في جسمٍ مخصوصٍ بالحلاوةِ، فكانت حلاوتُه تابعةً، فلما أَفْرَد التعليلَ بذكرِه الحلاوةَ، أَوْجَبَ ذلك إِعمالَ التعليلِ، كما أَوْجَبَ إعمالُ ذكرِ المَيْتَةِ تحريمَ كُلِّ مَيْتٍ سوى ما استَثْناهُ النَّصُّ، وما ذَكَرْتُ من المَيْتةِ فهو الحُجَّةُ؛ لأنَّه لَمَّا حَرَّمَها عَمَّ كلَّ مَيْتَةِ إِلى اُن تَأتِ دلالةُ التخصيص.
ولو كان ما ذَكَرُوه صحيحاً، لكانت الثِّقةُ غيرَ حاصلةٍ بالقياسِ؛ لأنَّنا لا نَأنمَنُ أَن يكونَ جمعُنا بينَ النصوصِ والمسكوتِ بما يُعللُ به المنصوصُ

(5/337)


مَفسدةً من الطريقِ الذي ذكرَه في تحريمِ الشَّرْع بعضَ الميتاتِ وإِباحتِه بعضَها، ولَمَّا لم يُوجب ذلك مَنْعَنا من القياسِ، كذلك لا يُوجِبُ منعنا ههنا من التعديةِ بذكَرِ العلةِ، وعدم الجمودِ على المحلِّ المنصوصِ عليه بحلاوتِه المُختصَّةِ به؛ إِذ لو كان ذكرُ العِلةِ في محل يُعطي أن يكونَ المَحلُّ أَحد وَصْفَيها، وأنَّها غيرُ مُفارقةٍ له، لما ساغَ لنا القياسُ، لأَنَّ الشِّدَّةَ في عصيرِ العِنَبِ، ودمَ العِرْقِ في الفَرْج، وملكَ البُضْع تحت العبدِ، والرِّقَّ في الأَمَةِ، يُوجب نصفَ الحدِّ، والعفوَ عما دون الدِّرهمِ من الدَّمِ في المحلِّ المخصوصِ به، ومتى سَلَكْنا هذا، امْتَنَعَ تعليقُ حكمِ علةٍ في محل على وجودِها في محل آخرَ؛ لفوات أَحدِ وَصْفيها؛ إِذِ العلةُ لاتعملُ إِلأ بكمالِها.

فصل
في شبههم
فمنها: أَنَّ العلةَ لو كانت تُوجب الَتعديةَ، لوَجَبَ إِذا قال: حرَّمْتُ عليكُم السُّكَّرَ لحلاوتِه، أن لا يَحْسُنَ قولُه بعدَ ذلك: وأَبَحْتُ العسَلَ، بل يكونُ مُناقِضاً، أَلا تَرى أَنَّ ما ظَهَرَتْ فيه التعديةُ بِدَلالةِ العقلِ، مثلُ قولِه: اضْرِبْ زيداً لَأنه مُسيءٌ، ولا تَضرِبْ عَمراً، وكان عَمرٌ ومسيئاَّ أً يضاً، لَعُدَّ مُناقِضاً، وكذلك لو قال: لاتُطْعِمْ وَلَدي أَو عَبدي الشُّوِنيزَ (1)؛ لأَنه حارٌّ، وأَطْعِمْه العسَلَ والعصافيرَ.
__________
(1) الشونيز: الحبةُ السود اء."القاموس": (شنز).

(5/338)


ومنها: أَنَّ تعليلَ الشَّرع يَخْتَصُّ بزمانٍ دونَ زمانٍ، فإِذا جازَ أَن تكون الشِّدَّةُ علةً لتحريمٍ عصيرِ العِنَبِ في بعض شريعتِنا، حلالاً في شرع مَن قَبْلَنا وشَطر مِن شريعتِنا، وبمَحَلِّ دونَ محلِّ، فيكونُ الموتُ في السَّلاحفِ مُحرِّماً لها، والموتُ في السَّمكِ والجرادِ غيرَ مُحرِّمٍ لها، لم نَأمَنْ أن تكونَ الشِّدَّةُ مُختصَّةً بعصيرِ العنبِ دونَ غيرِه، كما اخْتصَّت بزمان دونَ زمانٍ، فلا يُقْدَمُ على التَّعديةِ إِلاَّ بِدَلالةٍ.
ومنها: أَن قالوا: إِنَّ هذه الأَوصافَ، مثلُ: الشِّدَّةِ في العَصيرِ، والحلاوةِ في السُّكَّرِ، والموتِ في الحيوانِ، إِنَّما جُعِلَتْ عِلَلاً للمَنْع على سبيلِ المصلحةِ، ولذلك اخْتَصَّتْ بعصيرٍ دونَ عصيرٍ، وإذا كان كذلك، لم يَجُزْ أن نَتَعدَّى بها المَحَلَّ الذي عُرِفَتْ به؛ لأَنَّنا لا نَامَنُ أَن تكونَ المصلحةُ عَدَمَ التعديةِ، والشِّدَّة إِنّما اخْتَصَّتْ بالمحلِّ المخصوصِ كما اخْتَصَّت بالعصيرِ المخصوصِ.
ومنها: أَنَّ هذهِ عِلَلَ الشَّرْع ليست مُوجِبةً بنفسِها (1) بخلافِ العَقْليَّةِ، وإنّما هي مَجعولَةٌ يحَعْلِ جاعلٍ، فإِذا قال: لا تَأكُلُوا السُّكّرَ لحلاوتِه، فقد جَعَلَ حلاوةَ السُّكرِ مَحرِّمةً له، فلا يجوزُ أَن نجعلَ نحن حلاوةَ التَّمْرِ والعسلِ علَّةً في المنع منها، لأنَّها غيرُ مجعولةٍ.
ومنها: أَنه لو وَجَبَ تعديتُها، لوَجَبَ إذا قال القائلُ: عَبْدِي زيدٌ حُرٌّ؛ لأَنه أَسودُ، وله عَبِيدٌ كثيرٌ سودانٌ، أن يُعتَقُوا لِعلَّةِ السَّوادِ.
__________
(1) في الأصل: "لنفسها".

(5/339)


فصل
في جمع الأَجوبةِ عن شُبَههم
فالأولى منها: قولهم: لَمّا حَسنَ أَن نقولَ: وأبَحْت العسلَ، ولم يكن مناقضاً، دَلَّ على أَنَّ الحلاوةَ ليست عِلَّةً.
فيقالُ: إِذا قال في تحريمه: لانه حُلْوٌ، كان الظاهرُ تَعدِّي التحريمِ إلى كُلِّ حلْوٍ، فإِذا قال: وأَبَحْتُ العسل، كان هذا تصريحاً يَقضِي على الظاهرِ، تَبَيَّنا به أَنه ذَكَرَ الحلاوةَ، وهي أَحد وَصفَيْ علةِ الحكمِ، وأَنَّ الوصفَ الآخَرَ هو الجِنسُ- أَعني السُّكًرَ-؛ فكأَنَّه بانَ بذلك [أَن] (1) العله الجالبةَ للحكمِ حلاوةُ السُّكرِ. وليس إِذا اقْتَرَنَتْ باللًفظِ قرينةٌ، أَو دَلَّت عليه دَلالةٌ أَخْرَجَتْهُ عن ظاهرِه، ممَّا يَدلُّ على بطلانِ ظاهرِة وتعطّلِه؛ بدليلِ العموم والظاهر تُعطِّلُه القَرائِن والأَدِلًة عن شمولِه وظاهرِه، ويَجِبُ العملُ به عند إِطلاقِه.
وما استشهدَ به من إِساءَةِ العبدِ، وحرارةِ الشُّونيزِ، غيرُ صحيحٍ، بل يَحْسن ولا يعَدُّ مناقضاً، بل يتبيَّن أَنَّه أَرادَ إِساءَة ذلك بعَيْيه وحرارةَ الشُّونيزِ خاصَّةً.
وأَمَّا تَعلّقُهم بكون العِلَلِ الشَّرعيَّةِ تَختَصُّ بزمان دونَ زمانٍ، ومَحَل دونَ محلٍّ، فلَعَمْرِي، لكَنَّ ذلك لا يَمْنَعُ التعديةَ إلىً كُلِّ محلٍّ، مالم تَقُمْ دلالةُ التخصيصِ، كما أَنَّ لفظَ العمومِ يَتسَلًط عليه التخصيصُ بالدَّلائِلِ
__________
(1) ليست في الأصل.

(5/340)


والقرائِنِ، ولا يَدُلُّ على أَنَّ إِطلاقَه لا يَقْتَضِي الشُّمولَ والاسْتغراق، ولأَن هذا لَمَّا لمِ يَمْنَعْ جوازَ القولِ بالقياسِ، لايَمنَعُ التَّعدِيةَ، ولوَجَبَ أَن لا تَكُون علَّةَ إِلاَّ في الزمانِ الذي جَعَلَها علَّةً فيه، فيكون مقصوراً على الزَّمانِ الذي جَعَلَه علَّةً، ولَمّا لم يَصِحَّ أن يقالَ هذا في الزمانِ، [لم يَصِحَّ] (1) أن يقالَ ذلك في الأَعيانِ.
وأَمَّا تَعلّقُهم بأَنَّ التحريمَ المُعلَّقَ على العِلَلِ الشَّرعيَّةِ إنَّما هو للمصلحةِ، فهذا عندنا لا يَقِفُ التَّكليفُ عليه، ولا يُقصَرُ التَّعليل أَيضاً عليه، ولو سَلمْنا على طريقِ التَّوسِعَةِ، فإِنَّ المصلحةَ لا تحدُّ في التَّعديةِ حيث عَلَّقَها على علًةٍ تَعُمُّ كلَّ موصوفٍ بها، وكلَّ محلٍّ هي موجودةٌ فيه، ولو أَرادَ تخصيصَ العِلَّةِ بمحللِّها ووقوفها عليه، لَمَا احْتِيجَ إلى ذكرِ التعليلِ، لأَنَّ حلاوةَ السُّكَّرِ تابعةٌ له، وكذلك شِدَّةُ عصيرِ العنبِ، فلَمَّا عَلَّلَ بالحلاوةِ والشِّدَّةِ، عُلِمَ أَنَّه أَرادَ زيادةً على المحلِّ.
وأَمَّا تَعلّقُهم بأَنَّها مجعولةٌ، فإِدتَّ كونَها مجعولةً لا يَمْنَعُ تَعدِّيَها، لأنَّها تَصِيرُ بعدَ جعلِها علَّةً كالمُوجِبةِ بنفسِها، على أَننا إِذا رَجَعْنا إلى التحقيقِ في الجَعْلِ، كانتِ العقليَّةُ أَيضاً مجعولةً؛ لأنّ التحرُّكَ في الجِسْمِ الذي قامَتْ به الحركةُ مجعولٌ لله تعالى، فهو الخالقُ للحركةِ، وخالق التحرُّكِ عندها، إِلاَّ أَنَّها هي المُوجِبةُ لتحرُّكِه.
وأَمَّا قولُه: عَبْدِي زيدٌ حُرٌّ، لأَنه أَسودُ، أَو: أُعتِقُه، لأنه أَسودُ، إِنَّما لم
__________
(1) ليست في الأصل.

(5/341)


يُوجِبْ عِتْقَ كُلِّ عَبْدٍ له أَسودَ بخلاف تعليلِ صاحب الشَّرع؛ لأنَّ الواحدَ منا يجوز عليه المناقضةُ، ولأَنَّ إِزالةَ الأَملاكِ لم تُوضَعْ للتعْدِيةِ، وتعاليلُ صاحبِ الشَّرع تقييد للمجتهدِينَ عن الاسْتنباطِ (1)، فلا يجوزُ تعليلُ تعطيلِه، وفي إيقافِها على المحلِّ تعطيل للتعديةِ والاستنباطِ؛ إذ لا يُفيدُ إِلا ما أَفادَهُ النصُّ.

فصل
يجوزُ إِثباتُ الحُدودِ والكفاراتِ بالقياسِ، وبه قال أَصحابُ الشَّافعيِّ. وقال أَصحابُ أَبي حنيفةَ: لا يجوزُ إِثباتُها إِلا بالتوقيفِ (2).
فصِل
في أَدلتِّنا
فمنها: ما رُوِيَ عن معاذٍ أنَّه لَمّا بَعَثَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسأَله: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " فقال: بكتابِ [الله]، قال: "فإِن لم تَجِدْ"، قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال: "فإِنْ لم تَجدْ"، قال: أَجْتَهِدُ رَأيي (3). ولم يُفَرِّقْ، ولا فَصَّلَ له النيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأَحكامَ مَعَ حاجتِه إِلى البيانِ.
ومنها: أَنَّ أَصحابَ رسولِ الله لَمَّا اشْتَوَرُوا في حَدّ الشَّارِب للخَمْرِ،
__________
(1) فِى الأصل: "بالاستنباط".
(2) انظر "البحر المحيط" 5/ 51.
(3) تقدم تخريجه 5/ 2.

(5/342)


قال عليٌّ: إِنه إِذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذى، وإِذا هذى افْتَرى، حُدُّوهُ حَدَّ المُفترِي (1). فأَجْمَعَتِ الصَّحابةُ على إلحاقِه بالقاذفِ بالقياسِ والرايِ.
ومنها: أَنّه حُكم ليس فيه دليل قاطعٌ، فجازَ إِثباتُه بالقياسِ كسائرِ الأَحكام.
ومنها: أَنَّ القياسَ دليلٌ ثَبَتَ به الحَظر والإِباحةُ في الأَعْيانِ والعُقودِ، فتَثْبُتُ (2) به الكَفّاراتُ والحُدودُ، كخَبَرِ الواحدِ.
ومنها: أَنَّ القياسَ في معنى خبرِ الواحدِ، أَلا تَرى أَنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يثبتُ بالظنِّ (3)؛ فإِذا ثَبَتَ هذان الحكمان بخبرِ الواحدِ، جازَ أَن يَثْبُتا بما هو مِثْلُه في الرّتبةِ.
ومنها: أَنَّ أَصحابَ أَبي حنيفةَ أَثْبَتُوا إيجابَ الكفّارةِ على الأكل في نهار رمضانَ قياساً على المُجامعٍ فيه، وأَوْجَبُوا الحَدَّ في المُحاربةِ على الرِّدءِ (4) قياساً على المُباشرِ، وقياسا على استحقاق الغنيمة حيث اشترك فيه الردء والمباشر.
فإِن قيل: لم نُثبِتْ أَصلَ الكفارةِ والحَدِّ بالقياسِ، لكنْ أَثبَتْنا موضعَهما، وذلك جائزٌ عندنا، وإِنَّما الذي لا يجوزُ كإيجابِ القَطْع على المُخْتلِسِ
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 225.
(2) في الأصل: "ثبت".
(3) في الأصل: "الظن".
(4) الردْء: مهموز وزان حِمل: المعين والنْاصر. "المصباح المنير": (ردأ).

(5/343)


والنبّاشِ قياساً على السَّارقِ، والحدِّ على اللأئطِ قياساً على الزاني.
وأَمَّا الكفارة: فلم نُوجبْها قياساً، لكن بطريقِ الأَوْلى؛ فإِنَّ مَأثمَ الأكل أَكثر من مَأثمِ الجِماع؛ لأَنًّ الثوابَ على تركِه، أو مِن حيث كانت المَشقةُ في هِجْرانِه أَوْفَى؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشة" ثوابُك على قَدْرِ نَصَبِكِ" (1) فإِذا وَجَبَتِ الكفارة في الجماع، ففي الأَكل أَوْلى.
فيقال: تفريقكم بينَ مكانِ الحدِّ وأَصلِه، وإِيجابِ الكفّار ومكانِها أَيضاً، لا يَتحققُ فَرْقاً يُبْرؤُكم مِن عُهْدَةِ جمعِنا بينهما؛ لأَن (2) تعليلَكم في نفي إِيجابِ الحدِّ والكَفَّارةِ بالقياسِ: أَنَّ الحدودَ والكفاراتِ لا تعْرَفُ بالقياسِ؛ لأَنَّ مَقاديرَ الرَّدْع والزَّجرِ والعقوباتِ كمقادير المَأثمِ، وذلك لا يَعْلَمه إِلأ الله، وكما لا يُعلَمُ الأَصل، فالمَوضعُ والمكانُ أَيضاً يَجِبُ أَنْ لا يعلَمَ على قودِ قولِهم.
والاستدلالُ بالأَوْلى لا يَتحققُ في حقِّ الرِّدْءِ مع المباشرِ، بل المباشرُ أَشدُّ تأثيراً في الجنايةِ المستوجب بها العقوبةُ إِذا كانت في قَطْع الطريقِ، وفي المَثوبةِ إِذا كَانت في الجهادِ؛ فلا أَولى إذاً.
وأَمَّا دَعواكُم أَنَّ المَأثمَ في الأَكلِ آكدُ، فغيرُ صحيح، لأنَّ هَوالِجَ الطبع في باب الوِقاع والجِماع لا تَضبِطُها المروءات غالباً، وأَيسرُ أَنَفَةٍ وأَدنى تَماسُكٍ يَمنَعُ الأَكلَ والشربَ، وهذا معلوم طبعاً، وأَنَّ النَّاس لايَسْتقبِحون اللهَجَ. بمحبَّةِ الصُّوَرِ، والعِشْقَ، وإِنْشادَ الغَزَلِ والأَشْعارِ، والتظاهرَ بحُبِّ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 254.
(2) في الأصل: "لا".

(5/344)


المِلاح، وقد أَخبرَ الله سبحانه عن امْرأَةِ العزيزِ: أَنَّها جَمَعَت، وأَبرَزَتْ مَن به لهِجَت، وقالت: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 32]، وما مِن عَصْرٍ من الأَعصارِ إِلاَّ وفيه شخصٌ يَشْتَهِرُ في هذا الشأنِ، ويُدوَّنُ حديثُه في الأَخبارِ والتَّواريخ، والضِّنَّةُ به والبخلُ من أَكبرِ ما يُمدَحُ به الرِّجالُ، والبِطْنَةُ والشَّرَهُ في بابِ الطعامِ مذمومة، والبخلُ به مذمومٌ، والسَّماحةُ به غايةُ الكَرَمِ، والمَدحُ عليه وبه هو الغايةُ؛ حتى جُعِلَ نسباً، فقيل: هاشمٌ، وكُرِّمَ معشرٌ فقيل: بنو هاشمٍ، وهم الغايةُ، فمكابرُ هذا خارجٌ عن سَمْت النظَرِ والجدالِ إلى التعلُّقِ بالمُباهتةِ بالمُحالِ.

فصل
في شُبِههم
فمنها: أَنَّ الحدودَ والكفاراتِ وَجَبَتْ عُقوباتٍ ومُقابلاتٍ عن المَعاصي، فالحدودُ عقوبةٌ، وفي الكفَّارةِ شائِبةُ عقوبةٍ وشائبةُ عبادةٍ، وجميعُ ذلك لا يَعْلمُ مقدارَه إِلاَّ الله سبحانَه، بدليلِ المَأثمِ وعقابِ الآخرةِ، وأَعدادِ الرَّكَعاتِ.
ومنها: أَنَّ القياسَ على شُبهةٍ؛ لأنَّه إلحاقُ فرع بأَشْبهِ الأَصليْنِ، فيبقى الأَصلُ الاَخرُ شُبهةً في نفي الإلحاق، ولا يجوزُ إيجابُ هذه العقوباتِ مع الشُّبهاتِ.
ومنها: أَنَّه حقٌّ للهِ مقدَّرٌ، فلا يَثبُتُ بالقياسِ كمقاديرِ الرَّكَعاتِ، ونُصُبِ الزَّكَواتِ.

(5/345)


فصل
في الأجوبةِ عن شبهاتِهم (1)
أمَّا قولُهم: وجَبَتْ عقوباتٍ مَحْضةً، أَو عباداتٍ وعقوباتٍ مَشُوبةً.
فإنه لو كان هذا مانعاً من القياسِ فيهما، لكان مانعاً من القياسِ في جميع الأَحكامِ، لأنها مبنيةٌ على المصالح ونفي المقايس ومواضع الحدود والكفارات أيضاً، كما منع من ذلك نفاة القياس، فلمَّا لم يُمنَعْ من إِثباتِ سائرِ الأَحكامِ به، كذلك هذان الحُكمانِ. على أَنَّ ما أَشارَ إِليه أَميرُ المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: من أنَّه إِذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذَى، وإِذا هَذَى افترى، إِلحاقٌ بِمثْلِه، يَغلِبُ على الظنِّ إِيجابُ مقدارِ الجَلْدِ الواجبِ في القَذْفِ بالشُّربِ ليسيرِ الخَمْرِ.
وإِذا تَأَمَّلَ العاقلُ المجتهدُ تسويةَ ما بين كفارةِ الظِّهارِ والقتل في باب اعتبار إيمان (2) الرقبة، رأى أنَّ الشرع سوَّى بينهما في الصيام في عددِ الأَيامِ، ثم في الصِّفةِ، وهي تتابُعُ الصِّيامِ، مع كونِ الرَّقبةِ جُعِلَت في كفارةِ اليمينِ مُقابلةً بصيامِ ثلاثةِ أَيامٍ، فكان هذا شاهداً بإيجابِ التسويةِ بينهما واشتراط الإِيمان (3) فيمن أَقدم. . . . . . . (4) ولا يعتبر الراي في مثلِه.
__________
(1) انظر "التبصرة" 442.
(2) في الأصل:"أثمان".
(3) في الأصل: "الأثمان".
(4) بياض. بمقدار كلمتين لم أتبينه.

(5/346)


وأَمَّا قولُهم: إِنَّ القياسَ على شُبْهةٍ، فكَلاً؛ لأَنَّ تَرجُّحَه إِلى الأَشبهِ به من الأَصلَيْنِ يُخرِجُه إِلى بابِ غَلَبَةِ الظنِّ، كعدالةِ الرَّاوي والشَّاهدين بعد تَردُّدِ الخَبَر بينَ الصِّدقِ والكذبِ، وتجويزِ الاشتباهِ على الراوي والشَّاهدِ رَجَّحَتِ الصّدقَ، فأَوْجَبْنا بها الحدَّ؛ لتَرجُّح الصِّدقِ لا القطع، لمكانِ العدالةِ المُرجِّحةِ.
وقد دَخَلَ ما تعلقوا به من أَعدادِ الرَّكَعاتِ فيما ذكرنا على أَدِلَّتِهم من الأَجوبةِ.

فصل
يجوزُ القياسُ على ما وَرَدَ به الخَبَرُ مُخالِفاً للقياسِ، وهو الذي يُسَمِّيهِ أَصحابُ أَبي حنيفة موضعَ الاسْتحسان بم خلافاً لهم [بأَنه] لا يجوزُ القياسُ على ذلك إِلأ أَن يكونَ الخبرُ الواردُ مُعللاً، أو يكونَ مُجْمعاً على تعليلِه، أَو هناكَ أَصلٌ آخرُ يُوافِقُه، فيجوزُ القياسُ.

فصل
في دلاِئِلنا
فمنها: أَنَّ ما وَرَدَ به الخبرُ أَصلٌ، يَجِبُ العملُ به، فجازَ أَن يقاسَ عليه بمعنىً يُستنبَطُ منه، كما لو لم يَكُنْ مُخالِفاً للقياسِ.
ومنها: أَنَّ المخصوصَ من العُمومِ يجوزُ القياسُ عليه، ولا يَمْنَعُ منه العُمومُ، فكذلك المخصوصُ من الأَصلِ يجبُ أَن يجوزَ القياسُ عليه، فلا يَمْنَعُ منه الأَصلُ.

(5/347)


ومنها: أَنَّ الخبرَ لو نُصَّ على تعليلِه، جازَ القياسُ عليه، فإذا ثَبَتَ تعليلُه بدليلٍ مِن جهةِ الاسْتنباطِ، وَجَبَ أَن يَجُوزَ القياسُ عليه؛ وذَلك لأَنَّ ماثبت بدليلٍ شرعي يكونُ كالمنصوصِ عليه.
ومنها: أَنَّ ما وَرَدَ به الخبرُ أَصلٌ، كما أَنَّ ما ثَبَتَ بالقياسِ [أَصلٌ]، فليس رَدُّ هذا الأَصلِ لمخالفةِ ذلك الأصلِ بأَوْلى من رَدِّ ذلك الأصلِ لمخالفتِه هذا الأَصلَ، فوَجَبَ إجْراءُ كُلِّ واحدٍ منهما في القياسِ عليه على مايَقْتَضِيهِ.

فصل
في شبهةِ المُخالفِ
بأنَّ ما ثبت بقياس الأصولِ مقطوعٌ به، وما يَقتَضيه هذا القياس مظنونٌ، فلا يجوزُ إبطالُ المقطوع بأَمرٍ مظنونٍ.
ويقالُ: هذا باطل بالخصوصِ من عُمومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، فإِنه يجوزُ القياسىُ عليه وإن كان فيه إِبطالُ مقطوعِ به بأَمرٍ مظنونٍ.
ويَبْطُلُ أَيضاً بالخبرِ إِذا وَرَدَ مخالفاً للأُصول وكان مُعفلاً، فإنَّه يثبت من طريقِ الظنِّ، ثم يقاسُ غيرُه عليه، ويُتْرَكُ له قياسُ الأُصولِ الذي طريقُه القَطْعُ.