الواضح في أصول الفقه فصل
إِذا ثَبَتَ الحكمُ في فرع بالقياسِ على أَصلٍ، جازَ أن
يجْعَلَ هذا الفرعُ
(5/348)
أَصلاَّ لَفرع آخرَ يقاسُ عليه بعِلًةٍ
أُخرى على قولِنا، وقو أَبي عبدِ الله البَصْرِيِّ من أصحابِ
أَبي حنيفةَ، وأَحدِ الوَجهَيْن لأَصحابِ الشَّافعيِّ، خلافاً
للوجهِ الآخَرِ لأَصحابِ الشَّافعيِّ، ولأَبي الحسنِ
الكَرْخِيِّ: لا يجوز ذلك (1).
دليلنا: هو أَنَّ الفرعَ لَمَّا ثبَتَ الحكمُ فيه بالقياسِ،
صارَ أَصلاً في نفسِه، فجازَ أَن يُسْتنبطَ منه معنىً، ويقاسَ
غيرُه عليه، كالأَصلِ الثابتِ بالنَّصِّ.
فصل
في احتجاجِ المُخاِلفِ
قالوا: إِنَّ العلَّةَ التي ثَبَتَ بها الحكمُ في الفَرْع هو
المعنى الذي انْتُزِعَ من الأَصلِ وقِيسَ عليه الفرعُ، وهذا
المعنى غيرُ موجودٍ في الفرع الثَّاني، [أي] (2) ما ثبت به
الحكم في الفرع الأول، فلم يَجُزْ قياسُه عليه.
فيقالُ: ليس يَمْتَنِعُ أن [لا] (3) يكونَ موجوداً في الثاني
ويقاسُ عليه؛ أَلا ترى أَنَّ ما ثَبَتَ به الحكمُ في الأَصلِ
من النصِّ غيرُ موجودٍ فيما يقاسُ عليه، ولا يَمْنَعُ ذلك
صِحَّةَ القياسِ عليه فكذلك ها هنا يجوز أن [لا] (2) يوجَدَ في
الفرع الثاني معنى الفرع الأول ثم يصحُّ القياس عليه.
__________
(1) انظر "المسودة": 397.
(2) ليست في الأصل.
(3) ليست في الأصل، واستدركناها من "التبصرة" 451.
(5/349)
ومما احْتَجُّوا به: أنَّه إِنَّكم إِذا
عَللْتم السُّكرَ بأَنه موزونٌ، وقِسْتُم عليه الرَّصاصَ
خَرَجتُم (1) عن أَن تكونَ العِلة في السُّكرِ أنَّه طعوم،
وأَنتم تُعلِّلُونَه بالطُّعْمِ في إِحدى الرِّواياتِ.
فيقالُ: لا نَخْرجُ عن أن يكونَ الطُّعْمُ عِلةً في السكرِ، بل
الطُّعْمُ علًة والوَزنُ علَّةٌ، ويجوزُ أَن يَثْبُت الحكمُ
الشرَّعيُّ في العَيْنِ الواحدةِ بعِلَّتينِ.
__________
(1) في الأصل: "أخرجتم".
(5/350)
فصولُ الاجْنهادِ
فصل
الحقُّ في أُصولِ الدِّياناتِ في واحدٍ من قول المُجتهدِينَ،
وما عداه باطلٌ.
هذا مذهبُنا، وبه قال الفقهاءَ والأصوليونَ، خلافاً لعبيدِ (1)
الله بنِ الحسنِ العَنْبرِيِّ في قوله: إنَّ المُجتهدِينَ مِنٍ
أهلِ القِبْلةِ مصيبونَ معَ اختلافِهم، وليس أحدٌ منهم
مُبطِلاً، ولا ضالاّ.
فصل
في أدلَّتنا على صحَّةِ ما ذهبْنا إليهِ، وإبطال مذهبِ
العَنْبريّ
فمنها: أنَّ معنى الإِصابةِ مصادفةُ الحقِّ، والحقُّ هو ما إذا
أَخْبرَ بِه المخبِرُ، كانَ في خبرِه صادقاً، وقد ثبَتَ أنَّ
المُختلفينَ في أصولِ الدينِ، بعضُهم يقولُ: ليس لله علمٌ،
وكلامُه خَلْقُه وفِعْلُه، وإنَّه لا يصِحُّ أنْ يُرى بأبصارِ
العُيون، وإنَّه لا يُريدُ بإرادةٍ ومشيئةٍ هي صفةٌ له، بل
يَخلُقُ إرادةً للمُراداتِ، وإنه ما أرادَ كُلَّ موجودٍ مِن
أفْعالِ الآدميينَ، لكن أرادَ الحسَنَ منه دونَ القبيح
المنهيِّ عنه، وإنَّ المعاصيَ والشُّرورَ ليست مِن تقديرِه
(2).
وبعضُهم يقولُ: إنَّ له كلاماً قديماً وعلماً وإرادةً هي صفةٌ
لذاتِه، وإنَّه
__________
(1) في الأصل: "لأبي عبيد الله" وتقدم ص 237.
(2) انظر "العدة" 5/ 1540 - 1541.
(5/351)
يَصِحُّ أنْ يُرى، وإنه يَقضي ويُقدِّرُ
أفعالَ عبادِه خيرَها وشرَّها، وعلي العكسِ مِن جميع ما
ذَهَبَتْ إليه الطائفة الأولى.
وإذا ثَبتَ هذا، وعُلِمَ أنَّ اجتماعَ الأمرَينِ في حقِّ اللهِ
سبحانه مُحالٌ، أعني: أنَّه لا يجوز أنْ يكونَ عالماً بعِلمٍ
لا عالماً بعِلم وأن كلامَه قديم مُحْدَثٌ، وأنّه لا يَصِحُّ
أنْ يُرى ويَصحُّ أنْ يرى، وأنّ المخبِرَ بالأمرَينِ عنه
سبحانه كان فِى أحدِ خَبرَيهِ كاذباً، وجَبَ أنْ لا يكونَ
الحقُّ مجتمعاً (1) في الاثنينِ، وأنْ يكونَ أحدُهما هو
المصيبَ حَسَبَ ما تقومُ به دلائل الإصابةِ، وما كانَ ذلك إلا
بمثابةِ الاختلافِ بينَ المُسلمينَ الموحِّدينَ، والنصارى،
والمجوسِ في التوحيدِ والتثْنيةِ والتثليثِ، لما لم يَجُزْ أنْ
يكونَ الله سبحانه إلا واحداً، واستحالَ بدليلِ التمانُع أنْ
يكونَ خالقُ الخَلْقِ أثنَين، وأوجبت الدلائلُ كونَه سبحانه
واحداً، لا جَرَمَ كانَ مذهبُ التَّثْنيةِ والتثْليثِ باطلاً.
ومنها: أنّ أدلةَ الأُصولِ هي أدلًة عقليةٌ قطعية، ونصوص
جلِيَّة، تدلُّ على مُعتقَد مخصوص، وأن ما عداه باطلٌ، والخبر
عنه كذِب، وأنَّ ما يَتعلقُ به المخالفُ شبهةٌ تتخيَّل للضعيفِ
النظرِ، اْو المُخلدِ إلى التقليدِ والعَصبيَّةِ، كأنَّها
مُرشدةٌ وهي مُضِلةٌ، فدعوى التًساوي في الإصابةِ رجوعٌ عن
القولِ بأنَّ أدلةَ الأصولِ قاطعةٌ؛ فإنّه لا اشتباهَ مع
القطع، وإنما يؤتى المجتهد مِن قِبلِ نفسِه، ومتى صدَقَ نفسَه
الاجتهادَ، هَجَمَ بِه على إصابة الحقِّ الذي دعا الله إلى
اعتقادِه، ونهى عنِ العُدولِ عنه.
__________
(1) طمس في الأصل.
(5/352)
ومنها: أنَّ هذه المقالاتِ؛ أعني: القِدَمَ
والحُدوثَ، والنَّفيَ والإثباتَ فيما أشَرْنا إليهِ مِن
الصِّفاتِ، ومثلَ اعتقادِ خلافةِ أبي بكرٍ، واستحقاقِه لها،
والقولِ بأنَّ المُستحِقَّ غيرُه وإنَّما غلَبَ عليها، واعتقاد
الخوارج في عثمانَ وعلي، وأنهما كفرَا بعدَ ايمانهما، واعتقادِ
أهلِ الحقِّ أنَّهما خَليفتانِ عَدْلانِ إمَامَا هُدىً، لا
يجوزُ أنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بصحَّةِ جميعِها؛ فنقول: كلُّ
قولينِ لا يجوزُ ورودُ الشَّرع بصحَّةِ كلِّ واحدٍ منهما، لم
يَجُزْ أنْ يكونَ القولُ بهما صواباً، كالقولَينِ اللَّذَينِ
أحدُهما توحيدٌ، والاَخرُ تثْنيةٌ وتَثْليثٌ.
فصل
في الأسئلةِ، وهي شُبَهُهِم
قالوا: معلوم أنه لا يجوزُ أنْ يكونَ الوَصف ونقِيضُه للهِ
سبحانه، ولا يجوزُ أنْ يكونَ كلامُه قديماً محدثاً، ولا
مُستحيلَ الرُّؤيةِ مُجوَّزاً (1) رُؤيَتُه، ولا قاضياً
بالشُّرورِ لا قاضياً بها، وكيف نقولُ ذلك والنَّقيضان لا
يجتمعانِ؟! فكيف يَصحُّ اعتقادُهما على الصِّحَّةِ والإصابةِ؛!
لكن ما يُنكرُ من قولِنا: إنَّ القائلَيْنِ: كلُّ واحدٍ منهما
مصيبٌ فيما بَذَلَه من جُهدِه ووُسعِه؛ وإنه لم يبقَ عليه بعدَ
ذلك شيءٌ، فهو مُصيبٌ من هذا الوجهِ، فأمّا الحقُّ عندَ اللهِ
في القِدمِ أو الحَدثِ، والسلبِ والإثباتِ، فهو (2) واحدٌ من
الأمرَينِ، ونعوذُ بالله من الاعتقادِ في اللهِ سبحانه أنْ
يكونَ عندَه وفي
__________
(1) في الأصل: "مجوز".
(2) في الأصل: "فهي".
(5/353)
علمِه كونُ الشيءِ الواحدِ قديماً ومحدثاً،
وذلك علمُ الشيء على خلاف ما هو به، وذلك هو الجهلُ (1)
المستحيل عليه سبحانه، بل على آحاد خلقه، إذ لا يجوز أن يكون
الواحد من خلقه يعلم الشيء الواحد قديماً مُحدَثاً، حَقّاً
باطلاً.
قالوا: ولأَنه إِذا جازَ أَن يكونَ كُلُّ مجتهدٍ مصيباً (2) في
أَحكامِ الشرع؛ من الإِباحةِ والحَظْرِ، والإِيجابِ والندْبِ،
وإِن كانا نَقِيضيْنِ يستحِيلُ اجتماعهُما، [جاز مثله في
الأصول] (3).
فصل
في الأَجوبةِ لنا عمَّا ذكرُوه
أَمَّا الأَوَّل، وأَنَّ الإِصابةَ هي بذلُ الوُسع، فهذا سوءُ
عبارةٍ عمَّا قَصَدْتُموه، وإِنما غاية ما يقالُ في ذلك: أَنَّ
صاحبَه معذور، ولا يُسمَحُ له بذلك، فإِنه ما قَصَدَ الأَمرَ
من بابِه، حيثُ لم يَستَدِلَّ بأَدلةِ اللهِ سبحانه المُوجِبةِ
للقطع، الكاشفةِ عن الحقِّ، بل عَدَلَ عنها إلى الشُبَهِ
المُضِلةِ بنوع من تقصيرٍ: إِمَّا لتقليدٍ، أَو عَصبيَّةٍ، أَو
إِهْمالٍ وإِغْفالٍ يَظُنُّ معه أَنهُ قد بَدَلَ الوُسْعَ،
فأَمَّا أَن يقالَ: إِنه مصيب، فلا وجهَ للاِرْتقاءِ إِلى هذه
الرُّتْبةِ، مع انَّ حقيقةَ العُذْرِ لم تَتحققْ؛ إذ لم يتحقق
بذلُ الوُسْع.
__________
(1) في الأصل: "الجهد".
(2) في الأصل: "مصيب".
(3) ما بين معقوفين ليس في الأصل.
(5/354)
على أَنهُ إِن جازَ دعوى ذلك، فالثنوِيَّةُ
يَدَّعونَ أَنَّهم بَذَلُوا الوُسعَ في إثباتِ الاِثنينِ؛
لِمَا نَعْلَمُ ممَّا أَوْرَدُوه من شُبَهِهم في تَثَنِّي
الأَفعالِ إلى خيرٍ وشر، ونَفعِ وضُر، وحَسنٍ وقبيع، وأَنَّ
الَحسنَ أَوْجَبَ المدحَ، والقبيحَ أَوْجَبَ الذَّمَّ،
والحَسنَ أَوْجَبَ لفاعلِهِ الحِكْمَةَ، والقبيحَ الضارَّ (1)
أَوْجَبَ لفاعلِه ضِدَّها، فكان يَجِبُ على قودِ قولِكَ أَن
يكون كلُّ واحدةٍ من الطَّائِفتينِ مُصِيباً ومُحِقُّا؛ من حيث
بَذل وسعه، فأَدّاهُ اجتهادُه إِلى مقالتِه، فلا يَتحقَّقُ
فرقٌ بين أَصلِ التوحيدِ والتثْنيةِ، والصِّفاتِ في (2) النًفى
والإِثباتِ، والقِدَمِ والحدوثِ.
وأَمَّا الثاني، وإِلزامُ الأَحكامِ الفُروعيَّةِ، فلا
نُسلِّمُ أَن المُجتهدِينَ المُختلِفينَ على الإصابةِ كُلُّهم،
بل الحقُّ في واحدٍ؛ مثل مسألتِنا، وكما لا يَصِحُّ أن يكون
القديمُ مُحدَثاً، والمُحدَثُ قديماً عندَ اللهِ، لا يكون
الحرامُ حلالاً، والواجبُ نَدْباً، ولو سَلَّمْنا على سبيلِ
توسعةِ النَّظرَ، فالفرقُ بينهما ظاهر، وهو أَنَّ الفروعَ ليس
عليها أَدِلَّةٌ قاطعةٌ، فلم يَجُزْ ألت يكونَ كُلُّ مجتهدٍ
مصيباً.
ولأَنَّ الأَحكامَ يجوزُ أَن يَرِدَ الشَّرعُ بكون العَيْنِ
الواحدةِ مُحرَّمةً في وقتٍ، ويَرِدَ بكونِها مباحةً في وقت،
أو يَرِدَ بكونِها مُحرَّمةً على شخصٍ، ويَرِدَ بكونِها مباحة
في حقِّ شخصٍ، وقد كان ذلك، مثلُ: الإِباحةِ
__________
(1) في الأصل: "المضار".
(2) في الأصل: "و".
(5/355)
للمضْطَرِّ، والتحريمِ على غيرِه، وإِباحةِ
الأَمَةِ للعبد على كلِّ وجهٍ، وتحريمِها على الحرِّ، وتحريمِ
الخمر على غيرِ المُتداوِي بها، أَو الدافع بها التخَنّقَ، ولم
يَرِد الشَّرع بقِدمِ شيءٍ وحُدوثِهِ، وإِثباتِ شىءٍ وسَلْبِه،
على ماقَدَّمْنا.
فصل
والحقُّ من قولِ المُجتهدِينَ في الفروع في واحدٍ أَيضاً، وعلى
ذلك الحقِّ دليلٌ يَجِب على كُلِّ مجتهدٍ طَلَبُه، و [هو] مَن
سَلِمَ من العاهات، وسلمت آلات اجتهاده، وأدوات نَظرِه من
الآفات، ثمَّ إنه سلم بعد ذَلك من المَيْلِ والهَوى،
والعَصبيَّةِ للأَسْلافِ والمتبوعينَ.
نصَّ عليه أَحمدُ في الحديثَيْنِ المُختلفَيْنِ عن النبيِّ -
صلى الله عليه وسلم -، إِذا أَخَذَ رجلٌ بأَحدِ الحديثيْنِ،
وأَخَذَ آخرُ بالحديثِ الآخرِ ضِدَّه، فالحقّ عندَ اللهِ في
واحدٍ، وعلى الرَّجلِ أَن يَجْتهِدَ، فهذا نَصٌّ منه على ما
ذَكَرْنا.
ويَتخرَّجُ عن صاحبنا روايةٌ: أَن يكونَ الحقُّ في جهاتٍ؛
لأَنهُ قد ثَبَتَ عنه أَنَّهُ كان يَدُلّ ويُرشِدُ
المُستَفْتِيَ إلى حِلَقِ المُخالِفينَ، ولا تجوزُ الدَّلالةُ
على الخطأِ إِلأ ليُجتنَبَ، فأَمَّا ليُتبعَ فلا؛ ولهذا لا
يَجوزُ أَن يَدُلَّ مَنِ اسْتَرشدَه في القِبْلةِ على مَنْ
يَغلِبُ على ظَنِّه أنَّه يُرشِدُه إِلى غيرِها، فهذا مَأخذٌ
لإِصابةِ كلِّ مجتهدٍ.
فأَمَّا حكمُه بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَهم -وقد نَصَّ عليه في
مواضعَ-، فهو مَاخَذٌ بعيدٌ؛ لأَنَّه قد يُحكَمُ بصحَّةِ
الصَّلاةِ خلفَ مَن لا تَتحقَّقُ إِصابته؛
(5/356)
لأنّ اعتبارَ ذلك يَشُقُّ ويُحرِجُ؛
لاختلافِ المذاهبِ، واتساع الفَلَواتِ، واحتياج العَوامِّ إِلى
صلاةِ الجماعاتِ خلفَ المُصيبِ والمُخطئِ، وحاجتِهم إلي
الصَّلاةِ خلفَ كلِّ بَر وفاجرٍ، فأَمَّا الحاجةُ إلى استفتاءِ
المخطئِ، فإدت حصلت، فإِن الدِّلالةَ عليه والإِرشادَ لا (1)
حاجةَ بنا إِليه، كما أَنَّنا نحكَمُ بصحَّةِ صلاةِ العامِّيِّ
والأَعمى خلفَ المُجتهدِ في القِبلَةِ، وإِنْ سأَلنا عن
الصَّلاةِ خلفَهم، لم نَحكُمْ ببُطلان صلاتِهِم، ولا يَدُلُّ
ذلك على تجويزِ دِلالَتِنا للمُسترشِدِ السائلِ عن القِبْلةِ
إِلى مَن نَعْلَمُ أَنَّه على خطأٍ فيها بالرَوايةِ الأُولى.
وبهذا قالَ أَكثرُ أَصحابِ الشَّافعيِّ، حتى إِنَّ القاضِيَ
ابا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، رحمه الله تعالي، بالغَ في ذلك،
فقالَ: إِنَّني أَعلمُ إِصابتَنا للحقِّ، وأَقطَعُ بخطأِ مَنْ
خالَفَنا، وأَمْنَعُه من الحكمِ باجتهادِه، غيرَ أَنَّني لا
افَسِّقُهُ (2).
ووافَقنا أَيضاً بِشْرٌ المريسِيُّ، والأَصَمُّ، وابنُ
عُلَيَّةَ.
وقال أَبو الحسنِ الكَرْخِيُّ -فيما حكاه أَبو سُفْيَان
السَّرخسِيُّ عنه-: مذهبُ أَصحابِنا جميعاً: أَنَّ كلَّ مجتهدٍ
مصيبٌ لِمَا كُلِّفَ من حُكمِ اللهِ تعالى، والحقُّ في واحدٍ
من أَقاويلِ المُجتهدِينَ. قال: ومعنى ذلك: أَن الأَشْبَهَ
واحدٌ عندَ اللهِ، إِلاَّ أنَّ المُجتهِدَ لم يكلَّفْ
إِصابتَه.
__________
(1) في الأصل: "بلا"
(2) في الأصل: "أنقضه"، والمثبت من "المسودة": 497 - 498.
(5/357)
قال: وهكذا حُكِيَ عن عيسى بن أَبانَ: أنَّه كان يقول: لابُدَّ
من مطلوبٍ هو أَشْبَهُ الأَشْياءِ بالحادثةِ، إلا أَنَّ
المجتهدَ لا يُكلفُ إِصابتَه، وإنما تَعَبَّدَهُ الله أَنْ
يَحكُمَ فيها بحكمِ الأَصلِ الذي هو أَشبهُ به في غالبِ
ظَنِّه.
ونحوَ هذا حَكَى أَبو عبد الله الجُرْجانِيُّ، وفَسَّرَ
الأَشْبهَ: بأَنَّ شَبَهَ الحادثةِ ببعضِ الأصول أَقربُ عندَ
اللهِ تعالي، وأَنه لو أَنْزَل ذلك الحكمَ، لكان يُنزِلُه
بأَحدِ الوَجْهَينِ.
وذَهَبَتِ المُعتزِلةُ وأَبو علي الجُبَّائِيُّ في إِحدى
الرِّوايتينِ (1 عنه، وأَبو هاشمٍ: إلى أنَّه ليس هناك أَشبه
مطلوب أَكثر من أَنَّ الحُكمَ بما هو أَوْلى عندَه أَن يَحكُمَ
به.
واختلفتِ الأَشعريةُ: فقالَ الأَكثرُ منهم، مثلُ؛ ابنِ
فُورَكَ، وأَبي إِسحاق الإِسْفَرايينيِّ، وغيرِهما: مثلَ
قولِنا.
وقال أَبو بكر بنُ البَاقِلانيِّ: لأَبي الحسنِ الأَشْعَرِيِّ
في ذلك قولان 1). واختارَ هو: أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وأَنَّ
فرْضَ كلِّ واحدٍ ما يَغلِبُ على ظَنِّه، ويُؤَدِّيه إِليهِ
اجتهادُه، وليس هناك أَشْبَهُ مطلوبٍ. |