الواضح في أصول الفقه

فصل
في ذكر الدَّلاِئل على أَنَّ الحقَّ في واحدٍ من جهةِ الكتابِ والسُّنَّةِ
من ذَلك: قولَه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ
__________
(1 - 1) خرم في الأصل، واستدركناه من "العدة" 5/ 1549، و"التبصرة" (499).

(5/358)


إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79]، وتخصِيصُ سليمانَ بالفَهْمِ دَلالةٌ على أَحدِ أَمرَيْنِ: إِمَّا السَّلبُ للفهم في حقِّ داودَ، أَو (1) إِصابةُ الحقِّ بفهمِه دونَ داودَ، وإِلا سَقَطَتْ فائدةُ التًخصيصِ بالتفهيمِ، وعلى قولِهم: إِنهما جميعاً مُفْهَمانِ مُصيبانِ، تسقط (2) فائدةُ التخصيص بسليمان.

فصل في أَسئلتهم على الآيةِ
فمنها: قولُهم: ليس تخصيصُ سليماَنَ بالفهمِ بأَكْثرَ من تخصيصِهما جميعاً بالعِلْمِ، ثمَّ لم يَدُلَّ على تخصيصِهما به دونَ سائِرِ الأَنبياءِ صلوات الله عليهم، كذلك لا يَدُلُّ على تخصيصِ سليمانَ بالفَهْمِ.
ومنها: أَنْ قالوا: قد رُوِيَ أَنَهما حَكَما بالنًصِّ، ثم نَسَخَ الله الحُكمَ في مثلِ تلك القَضِيَّةِ في المُستقبَلِ، فعَلِمَ النسخَ سليمانُ، فحَكَمَ بالنصِّ الناسخ، فكان هذا هو الفهمَ الذي أَضافَه إِليهِ.
ومنها: إِن كانا حَكَما بالاجتهادِ، فلعلَّ سليمانَ أَصابَ الأَشبهَ المطلوبَ عنِ الله سبحانه.
ومنها: أَنْ قالوا: لَعَلَّ سليمانَ (3 حَكَمَ بنص خَفِي كان قد 3) وَقَفَ عليه، وخَفِيَ على داودَ.
__________
(1) في الأصل: "أن".
(2) في الأصل: "فسقط".
(3 - 3) غير واضح في الأصل، واستدركناه من "العدة" 5/ 1553.

(5/359)


ومنها: (1 أَنَّه لَمّا سَوّى بينهما في المِدْحَةِ، دَلّ ا) على اتفاقِهما في الإِصابةِ، وهو قولُه (2 سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، فلو كان أَحدُهما قد أَخطأَ، لم يَصِفْه بأَنَّه آتاه حُكماً وعِلماً، فثبت أَنَّ اجتهادَهما كان صواباً 2).

(3 فصل
في الأجوبة 3) على الأسئلة
فأَمَّا قولُهم: إِنَّ التخصيصَ لا يَدُلُّ على النَّفْي عَمّا سِواه؛ بدليلِ قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15]، ولم يَدُلَّ على سَلْبِ العِلْمِ عَمَّنْ عداهما، فهذا مُجرَّدُ دعوى، وبيانِ مذهبٍ، وإِلا فالعربُ لا تَخُصُّ بالاسمِ والصِّفةِ إِلأ وغيرُ المخصوصِ بهما غيرُ مُشارِكٍ لذلك المخصوصِ، وهذا أَصل قد سَبَقَ الكلامُ فيه، وهو دليلُ الخِطابِ.
وأَمَّا قولُهم: إِنَّ داودَ حَكَمَ ولم يَعْلَمِ النَّصَّ، وكان لسليمانَ نصٌّ خَفِيَ عن داودَ، فحكمَ به، فغيرُ صحيح؛ لأَنَّ شريعةً يكونُ فيها نصّ على حكمٍ لا يَخْفَى على نبيِّ تلك الشَّريعةِ، فهذا تأويل بعيد.
على أَنهُ لو كان نصٌّ (4)، لماَ عُزِيَ إِلى سليمانَ،- ولا سُمِّيَ ذلك باسمِ تَفْهيمٍ.
__________
(1 - 1) خرمٌ في الأصل.
(2 - 2) ليس في الأصل، واستدركناه من "التمهيد" 4/ 316 - 317 بتصرف.
(3 - 3) خرم في الأصلٍ.
(4) في الأصل: "نصا".

(5/360)


وأَمَّا قولُهم به في الأَشبَهِ، فإنَّ جماعةَ مَنْ خالَفَنا في هذه المسأَلة لا يقول: إِنَّ هناك أَشْبَهَ مطلوباً (1)، وإِنما فَرْضُه الاِجْتهادُ، ومَن قال: إنَّ هناك أَشبَهَ، قال: بأَنَّه لم يُكَلَّفْهُ، وإِذا لم يُكَلَّفْه، فلا يُؤَثِّرُ وجودُه وعَدَمُه في حقِّ أَحدِهما، ولأَنَّ الإِصابةَ إِذا كانت مصادفةً، فلا مِدْحةَ لصاحبِها، كالإِصابةِ للقبلةِ مِن غيرِ طَلَبٍ لها، ولا استدلالٍ عليها.
على أَنه قد رُوِيَ: أَنَّ سليمان نَقَضَ حكمَ داودَ، قال شيخُنا الإِمامُ أَبو يعلى رضي الله عنه: ولو كان على وَجْهِ مصادفةِ الأَشبهِ عندَ الله، لما نَقَضَ حكمَ داودَ، لأَنَّ المصادفَ لايكونُ على بَيِّنةٍ من أَمْرِه وخطأِ غيرِه.
وأَمَّا قولُهم: إِنَّه لَمّا سَوَّى بينهما في المِدْحةِ، دَلَّ على استوائِهما في الإصابةِ، فليس بصحيح؛ لأَنَّ الاجتهادَ (2 عندنا يَستحِقُّ المخطئُ فيه والمصيبُ المَدْحَ، فقد قالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذا اجتهدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ 2)، وإِن اجْتَهدَ فأَخطأَ، فله أَجرٌ" (3) والمَدْحُ يَتْبَعُ الأَجْرَ (4)، وقال سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد: 10]، ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولأَنَّ الاجتهادَ حُكمٌ وعِلم، وإِنْ لم يَكُنْ إِصابة.
__________
(1) في الأصل: "مطلوب".
(2 - 2) خرمٌ في الأصل.
(3) تقدم تخريجه 1/ 294.
(4) في الأصل: "الأحرة".

(5/361)


فصِل
في أَدِلّتنا
فمنها مِن جهةِ السُّنَنِ: ما رواه أَبو هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "إِذا اجْتَهَدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِنِ اجتهدَ فأخطأَ، فله أَجْر" (1)، وهذا نصّ في أن المُجتهدِينَ يخطئونَ (2).
وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - لعمرِو بن العاصِ: "احكم، فإِن أَصَبْتَ، فلك أَجْرانِ، وإنْ أَخْطَاتَ، فلك أَجْر" (3)، ولو كان الكلُّ على إِصابة، لم يَكُنْ لذِكْرِ الخَطأِ وجه.
فإِن قيل: هذا الخبرُ بأَن يعطيَ أَنَّ كُلَّ مُجتهدٍ مصيب، أَوْلى مِن أَن يُعطِيَ أَنَّ الحقَّ في جهةٍ؛ لأَنَّ الخطأَ لا يَحْسنُ ان يُقابَلَ إلا بالعُذْرِ، والعَفْوِ عن المؤاخذةِ، فأَمَّا الأَجر فلا، فلمَّا قابلَه بالأَجْر، علِمَ أَنهُ لإِصابةِ الحقّ، أَلا ترى إِلى قولِه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وقولِ النبيِّ عليه الصلاة والسَّلام: "عفِيَ لأمَّتي عنِ اَلخطأِ والنِّسيانِ" (4).
وأَمّا تسميته مُخطِئاً مَعَ حَمْلِنا له على الاِصابةِ، فليس براجع إلى خطأ في الاجتهادِ، وإِصابةِ الحُكْمِ بدليلِه، لكن عادَ إِلى أَن يُصيِبَ حُكمَ اللهِ،
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 295.
(2) في الأصل: "يخطئا".
(3) تقدم تخريجه 1/ 294.
(4) تقدم تخريجه 2/ 443.

(5/362)


كأن (1) يَقْتطِعَ المحكومُ له مالَ خَصْمِه أَو حَقه بذلك الحكمِ، لكَذِبِ الشُّهودِ؛ أَو مُغالطةِ الخَصْمِ بكونِه أَخْصَمَ وأَلحنَ بحُجَّتِه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما أَحْكُمُ بالظاهرِ؛ إنكم لتَخْتَصِمُونَ اِليَّ، ولعلَّ أَحَدَكم أَلحنُ بحُجَّتِه مِن صاحبِه، (2 فمَن قَضَيْت له بشيءٍ من مالِ أَخيه، فلا يَأخُده، فإِنما 2) أَقْطَعُ له قِطعةً مِن النارِ" (3)، (4 وهذا النوعُ من الخطأِ هو الذي يَستحِقُّ الحاكم 4) فيه أَجرَ اجتهادِه، وإِصابةِ حكمِ الشَّرع؛ حيث قَضى بالبَيِّنةِ بظاهرِ العدالةِ، وحُرِمَ أَجرَ تحصيلِ الحقِّ لمُستحِقِّه بحكمِه؛ إِذ كان إنَّما حَصَلَ لغيرِه بحكمِه، وصارَ ذلك بمثابةِ رجلٍ رَأَى مُضْطرَّاً إِلى الماءِ، ووَجَدَ ماءً لا يَعلَمُ أَنهُ مسمومٌ، فسَقاهُ، فماتَ فله أَجرُ قَصْدِه لريِّهِ، وأستِنقاذِه من تَلَفِ العَطَشِ، ولكن حُرِمَ ثوابَ إِحياءِ نفسِه بإِسقائِه؛ حيث لم يَتحصَّلْ ذلك بإِسقائِه.
فيقالُ: الجَهالةُ بكَذِبِ الشُّهودِ، وما شاكلَ ذلك من إِقرارِ الخَصْمِ على سبيلِ التّهَزِّي، [ونحو] ذلك، مِمَّا لا يُضافُ إِلى الحاكمِ به خَطَأٌ، ولهذا مَنْ جَهِلَ نجاسةَ ماءٍ، فتَوضَّأَ به بناءً على حُكمِ الأَصلِ، وأَخطأَ جِهَةَ القِبْلةِ مع اجتهادِه ولم يَعلمْ، لا يَنْقُصُ (5) ثوابُه، ولا أَجرُ عملِه؛ ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) في الأصل: "لكن".
(2 - 2) خرم في الأصل.
(3) تقدم تخريجه 1/ 259.
(4 - 4) خرم في الأصل، واستدركناه من "المسودة" (505).
(5) في الأصل: "نقص".

(5/363)


للرَّاعى، لَمَّا سأَله قوم عن الماءِ: "لا تُعلِمْهم (1) "، وقال عمر لصاحبِ المِيزابِ، لَمَّا قَطرَ منه ماء، فسَألوه عن حكمِه: لا تُعلِمْهم (2). ولو كان ذلك مما يُقصِّرُ أَجراً، أَو يُنقِصُ ثواباً، لَمَا أَمَرَ بكَتْمِه، على أنَّ اللّفْظَ عامٌّ في الجميع، لو كان هذا مما يَقَعُ عليه اسمُ الخطأِ.
فإِن قيلَ: فلعلَّ قولَه: إِذا اجتهدَ، فأَخْطأَ حكمَه باجتهادِه، وما عَلِمَ أَن [في] القَضيَّةِ نصّاً أَو إِجماعاً.
قيل: اللفظُ عامّ، فلا وجهَ لتخصيصِه، ولأَنَّ الأَجْرَ لا يَختَصُّ بإِصابة النصِّ والاِجماع؛ لأنَّ ما فيه نصّ أَو إِجماعٌ وما لا نَصَّ فيه فِى الأَجرِ سواءٌ، فَدَلَّ على عمومِه.

فصل
فيما وَرَدَ في ذلك عن (3) فُضلاء الصِّحابةِ، وأَقوالهِم الدَّالَّةِ على أَن الحقَّ في واحدٍ (4 من أقوال المجتهدينَ
فمنها: ما رُوِيَ عن أَبي بكرٍ 4) الصدِّيقَ أَنّه قال في الكَلالةِ: أَقولُ (4 فيها براي، فإِن يَكُنْ صواباً، فصنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإِن يَكُنْ خظأً، فمِنِّى 4)، وأَسْتغفِرُ الله (5).
__________
(1) أخرجه الدارقطني 1/ 26 من حديث عبد الله بن عمر.
(2) أخرجه الدارقطني 1/ 32.
(3) في الأصل: "من".
(4 - 4) خرم في الأصل.
(5) تقدم تخريجه ص (318).

(5/364)


ورُوِيَ عن عمرَ: أَنَّه حَكَمَ بحُكمِ، فقال له رجلٌ حَضَرَ: هذا- واللهِ- الحقُّ. فقال عمرُ: إِنَّ عمرَ لا يَدْري أنَّه أَصابَ الحقَّ، لكنَّه لا يَالو جَهْداً.
ورُوِيَ: أَنَّ عمرَ كَتَبَ، فقال لكاتبِهِ: اكتب: هذا ما رأَى عمرُ، فإِن كان خَطَأً فمنه، وإِن كان صواباً فمِنَ اللهِ.
ورُوِيَ عن علي: أَنَّه قال في المرأَةِ التي ستحْضَرَها عمرُ، فأَجْهَضَتْ ذا بَطْنِها، وقال له عثمانُ وعبدُ الرحمن: إِنَّما أَنتَ مُؤَدِّبٌ، لا نَرَى عليك شيئاً. فقال: إِنْ كانا اجْتَهَدا، فقد أَخْطأ، وإِنْ لم يَجْتهِدا، فقد غَشَّاكَ، أَرَى عليك الدِّيَةَ (1).
ورُويَ أَنه لَمَّا قال في امَّهاتِ الأَولادِ: ورَاي الآنَ أَن يبَعْنَ. قال له عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ: رَايك معَ الجماعةِ أَحبُّ إِلينا من رايِك وحدَك (2).
ورُويَ عن ابن مسعودٍ أَنَّه قال فِى المُفَوِّضَةِ: أَقولُ فيها برايي، فإنْ كان صواباً، فمِنَ اللهِ ورسولِه، وإِنْ كان خَطأً، فمِني ومن الشَّيطانِ، والله ورسولُه منه بريئانِ (3).
ورُويَ: أَن عليّاً وابنَ مسعودٍ وزيداً رضي الله عنهم خَطّؤُوا ابنَ عباسٍ في تَرْكِ القولِ بالعَوْلِ، وأَنْكَرَ عليهم ابنُ عباس قولَهم بالعَوْلِ، حتى
__________
(1) تقدم تخريجه ص (205).
(2) تقدم تخريجه ص (143).
(3) أخرجه أحمد (4099) (4100) (4276)، وأبو داود (2115)، والترمذي (1145)، والنسائي 6/ 121 - 122، وابن ماجه (1891).

(5/365)


قال ابنُ عباس: مَنْ شاءَ باهَلَنِى باهَلْتُه، إِنَّ الذي أَحْصى رَمْلَ عالِج عَدَداً لم يَجْعَلْ في مالٍ واحدٍ نِصْفاً ونِصْفاً وثُلُثاً، قد ذهبَ النِّصفانِ بالمالِ، فأَينَ موضعُ الثلُثِ؟! (1)
ورُوي عن ابنِ عباسٍ أَنَّه قال: أَلا لا يَتَّقي الله زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجْعَلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ ابد الأَبِ أَباً! (2).
وهذا إِجماعٌ ظاهرٌ على تَخْطِئَةِ بعضِهم بعضاً في مسائلِ الاجتهادِ، دلَّ على (3 أَنَّ الحقَّ من هذه الأَقوالِ في 3) واحدٍ، وما سِواه باطلٌ.
وممَّا (4 استُدِلَّ به: الإِجماعُ، فقد ثَبَتَ 4) بإِجماع الأمَّةِ أَنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَمَرَنا بالتَّأليفِ والاِجْتماع، ونهى عن الفُرقةِ والاِخْتلافِ، هذا مما أَطْبَقَتِ الأمَّةُ عليه، وورَدَ السَّمعُ به، فقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، اقْتَصَرَ على أَنَّ المُختلِفَ ليس من عندِه، وعلى زَعْمِهم أَنَّ المُختلِفَ من المذاهبِ: الحاظرِ والمُبيح، والمُوجِبِ والمسقِطِ، شرعٌ لله، وصوابٌ عندَ اللهِ، وقال سبحانه {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، فاسْتَثْنى المَرْحومِينَ من المُختلِفينَ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 36.
(2) تقدم تخريجه 2/ 37.
(3 - 3) خرم في الأصل، واستدركناه من "التبصرة" 501.
(4 - 4) خرم في الأصل.

(5/366)


جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقالَ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهذه آياتٌ كُلُّها تَمْنَعُ من الفُرْقَةِ، وتَزْخرُ عنها، وتَذُمُّ أَهْلَها، وتَحُثُّ على الاجتماع، وتَأمرُ به، وتَمدَحُ عليه، وعندَكم أَنَّ الكُلَّ سَواءٌ.
وللمُخالِفِ أَن يقولَ: لا مُتعلَّقَ لكم ولا حُجَّةَ في ذلك؛ لأَنّكم- وإِنْ قُلْتُم: إِنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإِنَّ كُلَّ مخالفٍ لذلك مُخطئٌ - لستُم ناهِينَ عن المخالفةِ، ولا آمِرينَ بالموافقةِ، لأَنَّ كُلَّ واحدٍ من المُجتهدِينَ غيرُ مأمُورٍ باتِّباع الآخرِ تقليداً له، ولا بموافقته في مَقالتِه، بل فَرْضُه الاجتهادُ وإِن خالَفَ وفارَقَ، ولو تَرَكَ اجتهادَه المُؤَدِّيَ إلى المخالفةِ، ووافقَ، لَلَحِقَه الوعيدُ، وكان داخلاً تحتَ النَّهىِ، غيرَ مُوافِقٍ للشَّرع، وإِذا كنا مُجمِعينَ على أَنَّ الله قد أَبْرأَ كافًةَ المُجتهدِينَ بما يُؤَدِّيهم (1) إِليه اجتهادُهم، ونَهاهُم عن الموافقةِ (2 لبعض المجتهدين 2) فيما ذَهَبُوا إِليه بالاجتهادِ، فصار الإِجماعُ (2. . . . . . . . .2) دونَ طَلَبِ الموافقةِ، وتَرْكِ المخالفةِ، وفي أُصول الشَّرع شواهدُ لذلك ممَّا أَوجبَ (3 فيه الأخذ بما أدى إليه الاجتهاد 3) دونَ مجرى الوِفاقِ، فمن ذلك: اختلافُهم في القِبْلةِ؛ مَعَ اختلافِهم في الاجتهادِ، قد أَجْمَعْنا على تحريمِ المُوافقةِ، وإِيجابِ استقبالِ كلِّ واحدٍ إِلى ما أَدّاهُ اجتهادُه إِليه من الجِهاتِ، وإِنْ وَقع الخلافُ.
__________
(1) في الأصل: "يؤديه".
(2 - 2) خرم في الأصل.
(3 - 3) خرم في الأصل.

(5/367)


ومن ذلك: إِذا قالت زوجةُ رجلٍ: سَمِعْتُه يُطَلِّقُني ثلاثاً. وقال الزَّوجُ: لم اطَلِّقْها. أَمَرَهما الشرعُ بالفُرقةِ، ومَنَعَهما مِنَ الاجتماع، فقيل للمرأَةِ: اهرُبي، فأَنتِ مُحرَّمةٌ عليه. وقيل للرَّجلِ: اطْلُبْها، فهي زوجتك.
وكذلك الأَعْيانُ الواجبةُ في الكفاراتِ؛ يَختلِفُ الناسُ فيها باختلافِ أَحوالِهم؛ فهذا فَرْضُه العِتْقُ، وهذا فَرْضُه الإِطعامُ أَو الكسْوَةُ، وهذا فرضُه الصَّومُ.
وهذا في المُترتِّباتِ، وأَما المُخيَّراتُ؛ فقد جَعَلَ الله سبحانه اختيارَ كُلِّ إِنسانٍ مُفوّضاً إِليه فيما يُكَفِّرُ به من أَنواع التكفِيرِ.
فهذا اختلافٌ مأمورٌ به في الاعتقاداتِ والتعبُّداتِ من الأَفعالِ.
وكذلك تقويمُ المُقوِّمينَ إِذا اختلَفُوا في قيمةِ المُتلَفِ، لم يُؤْمَرُوا بالاتِّفاقِ، بل يُؤْمَرُ كُلُّ واحدٍ منهم بما يُؤَدِّيه اجتهادُه، ويُنهى عن موافقةِ مَنْ يخالِفُه.
فإِذا ثَبَتَ أَنَّ الأصولَ على هذا، فلا بُدَّ أَن يَكُونَ الذَّمّ للفُرْقةِ، والأَمرُ بالاجتماع والاتِّفاقِ، راجعاً إِلى تَرْكِ المُعاندةِ للحقِّ، والمخالفة للمُحِقِّينَ الدين اتبَعُوا الأَدلةَ، وهَجَرُوا الشّبُهاتِ، وكم طالبٍ للفُرقةِ، وهاجرٍ [للأَدلةِ] (1) بمجرد الأَنَفةِ من الاتِّباع لدليلٍ صارَ إِليهِ مَن (2 يَتَعصَّبُ عليه، أَو لمُغالبةٍ 2) ومطاولةٍ، أَو انفرادٍ بمذهبٍ ليُتَّبَعَ؛ فيَصِيرَ به صاحب قالةٍ، والناسُ على هذا إِلاَّ مَن عَصَمَ الله، وإِنَّما سَطرتُ هذه الطريقةَ، ليُجْتَنَبَ
__________
(1) خرم في الأصل.
(2 - 2) خرمٌ في الأصل.

(5/368)


سلوكُها، والتعويلُ عليها.

فصل
في أَدلَّتنا النَّظَريةِ
فمنها: أَنَّ الأمَةَ قد أَجْمَعَتْ على وجوبِ النَّظَرِ، والفَزَع إليه عندَ حدوثِ الحادثةِ، ووقوع الواقعةِ، وتَرْتيبِ الأَدِلةِ، وبناءِ بعضِها علىَ بعضٍ، ولو كان الجميعُ حقاً وصواباً، لم يكن للنَّظر وجهٌ، ولا كان لعقد مجالس النظرمعنىً، بل كان مُجَرَّدَ العَبَثِ، وإِتعابِ النفْس، أَلا ترى أَنَّ كلَّ مُتَّفَقٍ عليه من خَبَرٍ أَو حُكمٍ يَقْبُحُ فيه النِّزاعُ والمُماراةُ، فلو اجْتَمَعَ قومٌ يَتَناظَرُونَ في الماء: هل هو طَهورٌ؛ أَو الزِّنى: بأَنَّه فُجورٌ، أَو في الأَعيانِ المُخيَّرِ بينها في الكًفَّارةِ: أيها المُسقِطُ للفَرْضِ، والمُبرئُ للذِّمَّةِ؟ لكان ذلك تضييعاً للوقتِ لمَحْضِ العَبَثِ؛ حتى قال الحكماءُ: لو أَنَّ طَبَقاً من رُطَبٍ أو غيرِه مِن المأكولاتِ حَضَرَ بينَ يديْ إنسانٍ، واذنَ لَه في الأكلِ، واتفقَ أنَّ آحادَ ذلكَ متساوٍ في الجودةِ وكلِّ صفةٍ مرغوبٍ فيها؛ بحيثُ لا تفضُلُ واحدةٌ من ذلكَ على الأخرى، لَما امْتَدَّتْ يدُ ذلك الإنسانِ إلى واحدةٍ، ولا يُوجب مدُّ اليدِ إلا بحصولِ ترجيحٍ؛ بجودةٍ، أو قربٍ، أو ما شاكلَ ذلك، وهذا ممّا يجدُه الإنسانَ من نفسِه، إذا خطرَ له في طريقٍ توجَّه فيه المُضيُّ إلى جهتينِ مُختلفتينِ، وتساوَيا فلم تترجَّح إحدى الجهتينِ على الأخرى بنوعٍ من أنواع الترجيح؛ فإنَّه يقِفُ لا قصْداً، بل يوقفُه التردُّدُ عن

(5/369)


التوجُّهِ، فإذا ترجَّحَ أحدُ المقصدينِ، خطا نحوَه؛ فالجسدُ (1) في حَجرِ الرَّأيِ، كما أنّ الرَّأيَ والجسدَ في حَجْر قدرِ اللهِ تعالى وقضائِه وتوفيقِه، فإذا ثبتَ هذا، علمَ أنَّه إنَّما جازَ الَنظرُ والاستدلال ووجَبَ؛ لكونِ الجهاتِ غيرَ متساويةٍ، وإنما هناك مطلوبٌ خفيٌّ تُظهِرُهُ الدَّلائِلُ.
فإِن قيلَ: لا نُسلِّمُ أَنَّ النظرَ واجب في مسائِلِ الاجتهادِ، بلِ الإنسانُ عندنا بالخيِارِ بين الأَقاويلِ، يأخُذُ منها بما شاءَ، كما نقولُ في أَعْيانِ الكَفاراتِ المُخيَّرِ فيها بينَ العِتْقِ والكسوةِ والإطعامِ.
قيل: هذا خِلافُ الكتابِ والإجماع، أَمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] والمرادُ به: كتابُ اللهِ وسُنةُ رسولِه، وأَمَّا الاجماعُ: فإِنَّ العلماءَ لا يَختلفُونَ في الفَرْق بين العامِّىِّ المُقلِّدِ، والعالمِ المجتهدِ، فبعضُ الناسِ يقولُ: إِنَّ العامِّيَّ يُقلِّد مَنْ شاءَ من المُجتهدِينَ، وبعضُهم قال: يَجْتهِد في أَعْيانِ المُجتهدينَ، ولا يقلِّدُ مَنْ شاءَ، بل الأَعْلمَ الأَوْرعَ، وأَمَّا العالمُ المجتهد، ففَرْضُه الاجتهاد، فلو كان مُخيَّراً في القول بأيّ مذهبٍ شاءَ، لكان كالعامِّيِّ سواءً، ولم يُفِدْهُ اجتهادُه رُتْبةً في التكَليفِ.
فإِن قيل: إنما يَتناظَرُونَ ويَجتهدُونَ في ذلك لمعرفةِ النصِّ والإجماع؛ حتى لايقْدِمُوا على مخالفتِهما.
قيل: هذا خطأ، لأَنَّ الاجتهادَ لا يَقَعُ إِلاًّ فيما لا نَصَّ فيه، ولا
__________
(1) غير واضحة في الأصل.

(5/370)


إِجْماعَ، والنصُّ لا يَخْفى إِلى حَدِّ يَجْتهِدُ الإِنسانُ في طَلَبِه، وإِنْ خَفِيَ، فعلى مَنْ ليس مِن أَهلِ الاجتهادِ، فأَمَّا أَنْ يَخْفى على مُجْتهِدٍ، فلا.
فإِدْ قيل: يُحتَمل أنَّ اجتهادَهم ومُناظرتَهم لطلبِ الأَصلح والأَشبهِ دونَ معرفةِ الصَّحيح من الفاسدِ.
قيل: الأَصلحُ لا أَمارةَ عليه، لأَنَّ الله سبحانه إِنما أَمَرَنا ونَهانا، ونَصَبَ الأَدِلةَ على ما أَمَرَنا به ونهانا عنه، فأَمَّا الأَصْلحُ لنا، فلا دليلَ عليه يفرَد به، ولرُبَّما قال قومٌ: إِنَّ الأَصلحَ فعلُ ما أَمَرَنا به، وتركُ ما نهانا عنه، فإِذا كان المأمورُ به والمَنهيُّ عنه منصوصاً، فلا اجتهادَ مع النصِّ، على ما بَيَّنا.
فإِنْ قيل: فالنظرُ والاجتهادُ والمناظرةُ لطلبِ الأَشبهِ.
قيل: إِنْ كان الأَشبَة ما قالَه الكَرْخِيُّ: مِن أَشبه [مطلوب] عندَ اللهِ تعالى في الحادثةِ، فقد سَلَّمْتُم المَسْأَلَةَ؛ لأَنَّه إِذا كان لنا عندَ اللهِ أَشبهُ مطلوبٌ، دَلَّ على أَنَّ الحقَّ هو ذاك، وهو واحدٌ، فمهما سَمَّيْتُمُوه من أَشبهَ، أَو حقٍّ، أَو صوابٍ، فهو ذاك، وما سِواه ليس بحقٍّ.
وإِن كان الأَشبهُ ما قالَه أَبو هاشمٍ: وهو الحُكْمُ بما هو أَوْلى عندَه، فهذا ما لا فائدةَ في النَّظرِ لأَجلِهِ؛ لأَنَّه إِذا كان الجميعُ حقّاً وصواباً، لم يَكُنْ للنَّظرَ معنىً أَكثرَ من إِتعابِ الفِكْرِ، وتقطيع الوقت في غيرِ فائدةٍ.
فإِن قيلَ: بل الأَوْلى مقصودٌ عندَ العقلاءِ، ولا يكونُ تقطيعاً للوقت.
قيل: إِذا كان هناك أَوْلى لا يُصِيبُه الكُلُّ، فليس كُلُّ مجتهدٍ مصيباً

(5/371)


للمطلوبِ، وهو الأَوْلى.
فإِن قيل: إِنَّ المُناظرةَ قد تُفِيدُ عثوراً، على نصِّ في المسأَلةِ، يُظفَرُ به عندَ مذاكرةٍ ومناظرةٍ، وذاك مما لا يَسُوغُ الاجتهادُ مع وجودِهِ، فنستفيدُ الاِسْتِبْراءَ، كطالبِ الماءِ والسترةِ والقِبْلَةِ.
قيل: إِنا لم نُلْزِمْكمُ الاستعلامَ عن النُّصوصِ ممَّن جَهلَها، وإِنما الكلامُ في النَّظرِ والارتياءِ مع تَحقُّقِ عَدَمِ النصِّ، بالتراجيح، والتًّعلُّقِ بالأَماراتِ.
ومنها: أَنَّ مَقالةَ الخَصْمِ تُؤَدِّي إِلى مُحالٍ، وما أَدَّى إِلى المُحالِ، فمحالٌ، وذلك أَنَّ النَّاسَ قد اختلفوا في العَيْن الواحدةِ، فحَرَّمَها قوم، وأباحَها قومٌ، كالنبيذِ، وفي العَقدِ (1 الواحدِ، فصححه ا) قومٌ، وافسَدَهُ قوم؛ كالمُتْعَةِ، والعِبادةِ أَوْجَبَها قومٌ، ولم يُوجِبْها قومٌ، كالوِتْرِ، والتحلِيلُ والتحريمُ، والصِّحَّةُ والفَسادُ، والإِيجاب والإِسْقاطُ، نقائِضُ لا تَجْتَمِعُ في جهةٍ واحدةٍ، وعَيْنٍ واحدةٍ، بل يَستحيلُ اجتماعُها؛ فإِنَّ الحُكميْنِ المُتضادَّيْنِ للعَيْنِ الواحدةِ، كالعَرَضَيْنِ المتضادَّيْنِ للجَوْهَرِ الواحدِ، فكما يَستحيلُ أَن يكونَ الجَوْهَرُ ساكناً مُتحرِّكاً في حالةٍ، أَسْودَ أَبْيضَ (2) كذلك، يَستحِيلُ أَن تكونَ العَيْنُ الواحدةُ حلالاً حراماً، والعبادةُ واجبةً ساقطةً، والعَقْدُ صحيحاً فاسداً، ومَنْ قال: إنَّ المَذهبَيْنِ صوابانِ عندَ اللهِ، فقد أَثْبَتَ المُستحِيلَ، وكَفَى بذلك خَطَأً.
__________
(1 - 1) خرم في الأصل.
(2) في الأصل: "أسوداً أبيضاً".

(5/372)


وقد أَخْرَجَه ممَّن وافَقَنا في هذا المذهبِ قومٌ، وأَنَّ الحقَّ في جِهَةٍ واحدةٍ مَخْرَجَ التقْسيمِ؛ فقالوا: لا يَخْلُو أَن يكونَ المذهبان صَحيحينِ، أَو فاسدَيْنِ، أَو أَحدهما صحيحاً، والآخرُ فاسداً، لا يجوزُ أَنَ يكونا فاسِدَيْنِ، لأَنَّ ذلك قولٌ يُخالِفُه الإِجماع، وما خالفَ الإِجماعَ مقطوعٌ بفسادِه، ولا يجوزُ أَن يكونا صَحيحيْنِ، لأَنه يفْضِي إِلى كونِ العَيْنِ الواحدةِ حلالاً حراماً، والعَقْدِ الواحدِ صحيحاً فاسداً، وذلك محالٌ، فلم يَبْقَ إِلاَّ أَنَّ أَحدَهما صحيحٌ، والآخرَ فاسدٌ، وهو قولنا.
فإن قيل: إِنّما لا يجوزُ أَن يكونا كذلك في حقِّ شخصٍ واحدٍ، ولا يُنكَرُ ذَلك في حقِّ شخصَيْنِ، أَلا ترى أَنَّ المَيْتَةَ ولحمَ الخِنْزيرِ يجوزُ أَن يكونَ مُباحاً للمُضْطرًّ مُحرَّماً على المُكْتَفِي، والعَقْدَ بلا وَلِيٍّ ولا شُهودٍ نكاحٌ صحيحٌ في حقِّ الكُفَّارِ، حتى إِنَّه يجوزُ لهم اسْتِدامتُه بعدَ الإِسلامِ، وهو فاسدٌ في حقِّ المُسلِمينَ، وإِفطارَ رمضانَ حرامٌ على المقيمِ السَّليمِ، مباحٌ للمريضِ والمُسافرِ، كذلك لا يَمْتَنِعُ أَن يكونَ القَدَحُ من النَّبيذِ، والحيوانُ المخصوصُ كالسِّباع، مباحاً طاهراً في حقِّ مَنْ أَدَّاهُ اجتهادُه إِلى إِباحتِه وطهارتِهِ، حراماً (1) على من أَدَّاهُ اجتهادُه إِلى حَظْرِه وتحريمِه، قالوا: ولهذا يحسنُ أن نقول: هذه العين حرامٌ على مَنْ أَدَّاه اجتهاده إلى تحريمها، حلالٌ لِمَن أَدَّاه اجتهادُه إِلي إِباحتها، كما يَحْسُنُ أن نقولَ في الجِهَتيْنِ المُختلِفتيْنِ على كلِّ واحدةٍ منهما: قِبْلةٌ، لمَنْ أَدَّاه اجتهادُه إلى كونِها قِبْلةً.
__________
(1) فِى الأصل: "حرام".

(5/373)


قيل: الضَّرورةُ ومَشقةُ السَّفَرِ حالٌ من أَحوالِ المُكلفِ، فحَسُنَ أَن يُخالِفَ الشَّرع بالنص بينَ الحالتَينِ رِفقاً ورُخْصةً، والاجتهادُ طَلَبٌ (1) لحق، وتَحر (2) لمُصادفةِ معنىً، والناس في أَدواتِ النَّظَرِ وكُلِّيِّ العقول وإِزاحةِ العِللِ لا يَتفاوَتُونَ، وإِنَّما يَجِىءُ (3) التفاوتُ من جِهَتِهم بنوع إهْمالٍ، ونوع تقليدٍ للرِّجالِ، وإِذا كان بالاجتهادِ، وعن صحةِ عَقْلٍ، وسلامةِ أَدواتِ النظرَ، فإذا وَقَعَ به أَحدُهما على المطلوبِ، ولم يَقَع الآخرُ على عَيْنِ ذلك، علِمَ أنَّه أَخطأَ.
ولأَنَّ ما ذَكَرُوه مِن تلك الأَعيانِ وَرَدَ النص فيها على سبيلِ التفصيلِ والمخالفةِ، فكان الحكمُ في حقِّ الشَّخصَيْنِ بحَسَبِ التفصيلِ، فأَمَّا في مسأَلتِنا، فنحن نَتكَلمُ فيما وَرَدَ الشَّرعُ فيه على سبيلِ العمومِ والاطلاق، فلا يجوزُ أَن يُقْضى بالحكمِ على سبيلِ التخصيصِ.
فإِن قيل: الدليلُ الذي يَذلُّ على الحكم ظَنُّ المُجتهِدِ، فأَمَّا الأَمارات فإِنها تَقَعُ متكافِئَةً، وظنّ كلِّ مُجتهِدٍ يَخُصُّه لا يتناولُ غيرَه.
قيل: هذا خَطَا، بل الدليل الكتابُ والسُّنةُ والقياسُ، ولهذا قالَ الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فَرَدَّ إِلى الكَتابِ والسُّنةِ، وقالً النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ حينَ بَعَثَهُ إِلى اليَمَنِ: "بمَ
__________
(1) في الأصل: "طلباً".
(2) في الأصل: "وتحرياً".
(3) في الأصل: "هى مجئ".

(5/374)


تقْضِى؟ " (1)، فذَكَرَ الكتابَ والسُّنةَ والقِياسَ، ولم يَذْكُرِ الظنَّ.
ولأَنَّ العلماءَ أَجْمعَ لا يَفْزعُونَ عندَ حدوثِ الحادثةِ إِلاَّ إِلى الكتابِ والسُّنَّةِ والقياسِ، فدَلَّ على أَنَّها هي الأَدِلَّةُ دونَ الظنِّ.
ولأَنهُ لو كان الدَّليلُ هو الظَّنَّ، ما صَحَّ أَن يَحْتَجَّ أَحد على أَحدٍ بكتابٍ، ولا سُنةٍ، ولا قياسٍ، لأَنَّ ذلك غيرُ الدَّليلِ، وما ليس بدليلٍ لا يُحْتَجُّ به.
ولأَنه لو كان الدليلُ هو الظَّنَّ، لاستوى العالمُ والعاميُّ في ذلك، لأنَّهما في الظنِّ واحد، ولأنَّ الظنَّ نَتِيجةٌ وثَمَرَةٌ تَحْصُلُ في قلبِ المجتهدِ عن الدَّليلِ، فتُثمرُ الأَماراتُ والدَلائلُ الظنَّ، كما يُثمِرُ النظَرُ والاستدلالُ العِلْمَ، وما كان ثمرةَ الدَّليلِ، فهو (2) غيرُ الدَّليلِ.
فإِن قيل: لو كان الدَّليلُ على ما ذَكَرْتم، لوَجَبَ إذا نَظرَ الحَنفِيُّ فيما يَنْظرٌ فيه الشافعيُّ والحَنبليّ والمالِكيّ مِنَ الدليلِ، أَن يَقعَ له ما وَقَعَ لهم.
قيل: ليس مِن حيثُ لم يَتَساوَوْا ويَتَّفِقوا في الوقوع لهم، يَدُلُّ على أَنَّ ما نَظرُوا فيه ليس بالدَّليلِ، أَلا تَرَى أَنَّ مسائلَ الأصولِ كلّ واحدٍ من المُختلفِينَ فيها يَنْظرُ فيما نَظر فيه الآخرُ مِن أَدِلةِ العَقْلِ، ولا يَقَعُ لكلِّ واحدٍ ما يَقَعُ للآخرِ، ثم لا يَدُلُّ على أَنَّ المنظورَ فيه ليس بدليلٍ، ولا أَنَّ الظنَّ هو الدليلُ.
__________
(1) تقدم تخريجه 512.
(2) في الأصل: "فهي".

(5/375)


ومن أَدِلتِنا في هذه المسأَلةِ: ما يُقارِب هذا، ويُسْتخرَجُ منه: أَنَّ تحليلَ الشَّيءِ وتحريمَه، وإِفسادَ العَقْدِ وتصحيحَه، لا يجوزُ ورودُ الشَّرْع به، ولو جاز ذلك، لجاز ورودُ النَّصِّ به، فيقول: النبيذ حلالٌ حرامٌ، والنكاحُ بغيرِ وَلِي أَو بغيرِ شهودٍ صحيحٌ فاسدٌ، فلما لم يَجُزْ وُرودُ الشَّرع به، ومجيءُ النصِّ عليه، لم يَجُزْ أَن يَدُلَّ عليه النظرُ والاجتهادُ.
يُبيِّنُ (1) صِحَّةَ هذا: أَنَّ النَّظرً والاجتهادَ نتيجةُ النصِّ والإجماع، فإذا استحال أن يدلَّ النصُّ والإجماع على تحليل الشيء وتحريمه على الإطلاق، استحالَ أن يدلَّ عليه النظر والاجتهاد، إذ لا يجوز أَن تَدُلَّ نتيجةُ الشَّيءِ على ما لا يَدُلُّ عليه أَصلُه.
فإن قيل: إِنَّما يَسْتحِيلُ ورودُ الشرع من جهة النظر والاجتهاد في حقِّ الَواحد، فأمَّا في حقِّ الاثنين، فلا يستحيل، أَلا ترى أَنَّ النَّصَّ قد وَرَدَ بتحليلِ المَيْتَةِ للمضْطَرِّ، وتحريمِها على الغَنِيِّ عنها، وإِحلالِ الفِطْرِ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، وتحريمِه على الصَّحيح الحاضرِ، فكذلك هاهنا يجوزُ أن يَحِلَّ الشَّيءُ في حقِّ المجتهدِ، ويَحْرُمُ في حقِّ غيرِه، ويفسُدُ العقد في حقِّ مجتهدٍ، ويَصِحُّ في حقِّ غيرِه.
قيل: لسنا نُنْكِرُ ورودَ الشَّرْع بتحريمِ الشَّيءِ على شخصٍ، وإِباحتِه لغيرهِ؛ بحَسَبِ ما يَقْتضِيه الأَصلحُ أَو الحاجةُ، وبحَسَبِ ما تَقْتضِيهِ الدِّلالةُ من التفصيلِ والتخصيصِ، وإِنما نُنكِرُ ورودَ الشَّرْع بتحليلِ الشَّيء
__________
(1) في الأصل: "بين".

(5/376)


وتحريمِه، وإِفسادِه وتصحيحِه، على سبيلِ الإِطلاقِ والعمومِ، وذلك لا يجوزُ من جهةِ النصِّ والإِجماع، كذلك لا يجوزُ من جهةِ النَّظرَ والاجتهادِ.
ومنها: أَنَّ ما ذَهَبُوا إِليه يُفْضِي إلى قولٍ شَنِيعِ في الإِسلامِ، ومخالفةِ الإِجماع، وأَن تكونَ المرأَةُ الواحدةُ تحتَ زَوجَيْنِ؛ وذلك أَنَّها إِذا تَزَوَّجَتْ من رجلٍ بغيرِ شاهِدَيْنِ؛ لاعتقادِه أَنَّ العقدَ صحيح، وكان مصيباً، وتَزَوَّجَها آخرُ بعدَه بوَلِيِّ مُرشدٍ وشاهديْنِ؛ لاعتقادِه أَن الأَوَّلَ باطلٌ والثانيَ صحيحٌ (1)، وكان عند الله سبحانه مصيباً، فهي امرأَةٌ ذاتُ زَوجَيْنِ، وهذا من أَشْنع قولٍ في الإِسلامِ، وأَشَد خلافاً للإِجماع.
فإِن قيل: ما يَلْزَمُنا من الشَّناعةِ يَلْزَمكم مِثْلُه؛ من القولِ بالتًسْويغ، وعدمِ الإِثمِ.
قيل: أما الإِصابةُ؛ فإنَّها حكمُ اللهِ تعالى بالصِّحَّةِ، وَأَمَّا التَّسويغُ؛ فإِنَّما هو إِقرارٌ مُجَرَّدٌ، لا حكَمَ فيه بصِحَّةٍ ولا انعقادٍ، فلا يُفْضِي القولُ به إِلى إحالةٍ ولا فسادٍ.

فصل
في جَمعْ شُبَههم في المسأَلةِ
فمنها: قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"أَصَحابي كَالنُّجومِ، بايَهمُ اقْتَدَيْتُم، اهْتَدَيْتُم" (2)، فوجهُ الدَّلالةِ من الحديث: أَنَّهُ جَعَلَ الكلَّ مهتدِينَ مَعَ كونِهم
__________
(1) في الأصل: "صحيحاً".
(2) تقدم تخريجه 1/ 280.

(5/377)


مُختلِفينَ في الحوادثِ الخِلافَ المُتبايِنَ، فهذا يُسقِطُ الإِخوةَ بالجَدِّ، وهذا يُوَرِّثُهم، وهذا يقولُ بالعَوْلِ، وهذا يَنْفِي العَوْلَ، وخلافُهم في لَفْظِ الحرامِ معلومٌ، هذا يَجْعَلُه طَلاقاً ثلاثاً، وهذا يَجْعلُه طلاقاً رَجْعيّاً، وآخرُ يَجْعلُه ظِهاراً، وآخرُ يَجْعَلُه يَمِيناً، وآخرُ يَجْعَلُه واحدةً بائِنةً، وآخرُ يُوجِبُ فيه كَفارةَ اليمينِ، ولا يَجْعلُه يَمِيناً.
فإِذا أَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّ المُقْتدِيَ بكل منهم مُهتَدٍ، ثَبَتَ أَنَّ الكلَّ على هدايةٍ، والخطا لا يُسمَّى هدىً، وإِذا كان الخطأ هدىً، صارَ لَقَباً واسْتِعارةً لا حقيقةً.
والجوابُ: أَنه يُحْتَملُ أَن يكونَ مرادُه بالاقتداءِ: الأَخْذَ بالرِّوايةِ دونَ الرأي.
ويحتمَلُ أنَّه أَرادَ بالهُدى: نفيَ المَأثمِ بتقليدِ العامِّيِّ آيهم قلدَ، وسَوغانُ الاجتهادِ معَ الخَطَأِ يجوزُ أَن يُسمَّى هدىً، من حيثُ بَذْلُ الوُسْع في طَلَبِ الصوابِ، ويَكْشِفُ ذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذا اجْتهَدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِذا اجْتهَدَ فأَخطأَ، فله أَجْرٌ"، فالذي سَمَّى الكلَّ هدىً، أَوْقَعَ على البعضِ اسمَ الخَطأِ.
ويحتمَلُ أن يُرِيدَ بذلك: الإِمامة، وأنَّ كلا منهم صالح لها، فالاقتداءُ به هُدىً.
ويحتمَلُ أَن يُريدَ به: إِذا اتفَقوا على الحُكمِ، كان المُقلِّدُ مُخيَّراً بينَ تقليدِ هذا أَو هذا، والتخييراتُ في المُتساوياتِ أَبداً، والتساوِي معَ الاتفاقِ يُفيدُ أَن لا يَخْتصَّ التقليدُ بالأَرْفع، فإِنْ قلدَ مُعاذاً مع وجودِ علي جازَ،

(5/378)


وإن قَلَّدَ ابنَ عباس مع وجودِ أَبي بكر وعمرَ جاز، فهذا أَفادَ التخيُّرَ.
ومنها: تَعلُّقُهم أَنَّ الصَّحابةَ رضوان الله عليهم اخْتَلَفُوا في مسائلَ كثيرةٍ، وحوادثَ عِدَّةٍ، فلا أَحدَ منهم تَبَرَّأَ مِن مخالفِه، ولا غَلَّظَ القولَ فيه، بل وَلوْا قُضاةً وحُكَّاماً يَعْلَمونَ مخالفتَهم لهم في الأَحكامِ، وتَدافَعُوا الفَتاوَى، وبعضُهم دَلَّ على بعضٍ، وقال: ائت فلاناً، واذْهَبْ إِلى فلانِ، ولو كان يَعتقِدُ أَحدٌ منهم خطأَ غيرِه، وعَدَمَ إِصابتِه، لَمَا دَلَّ عليه، ولَا أَرْشَدَ إِليه؛ فإنَّ الدَّالَّ على المُخطئِ في الرَّايِ مُضلِّلٌ لمَن دَلَّه وعَيَّنَ له، أَوَ لا تَراهُم كيفَ غلَّظُوا على مانِعي الزَّكاةِ، وتَبَرَّؤُوا منهم، وأَظْهَرُوا التبَرُّؤَ مِمَّن خالفَ ما تَضَمَّنَه المصحفُ المُصطَلحُ عليه، وحَرَّقُوا ما سِواه، وَأظهَرُوا التَّبرُّؤَ من الخوارج، وقاتَلُوهم، واسْتَباحُوا دماءَهم، فلو كانوا يَعْتقِدونَ تحريمَ ما أَباحهُ الله، وإِباحةَ ما حَرَّمَه الله، وحِرمانَ مَن أَعطاه الله؛ لأَنْكَرُوا ذلك على مَنْ أَتى ذلك، وأَفْتَى به، فلَمّا تَساكَتُوا على الخِلافِ، ولم يُقنِعْهم (1) ذلك حتى أَقَرُّوا، ودَفَعُوا الفَتاوَى، فأَحالُوا على مَن خالفَهم، عُلِمَ أَنهم حَكَمُوا بتساوي الكلِّ في الإِصابةِ.
والجوابُ: أَنَّ لنا مِن إِجماعِهم أَكْبرَ حُجَّةٍ بحيثُ تُقابِلُ ما ذَكَرْتُم، فتُوقِفُه، أَو تُسقِطُه وتُبطِلُه؛ وذلك أَنهم صَرَّحُوا بتَخطِئَةِ مَنْ خالفَهم بما قَدَّمْنا من الأَقوالِ المُغنِي عن الإِعادةِ، لكنَّا نُشيِرُ إِليه:
فهذا يقولُ: أَلا يَتَّقِي الله زيدٌ! جعلَ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ أَبا
__________
(1) في الأصل: "يتبعهم".

(5/379)


الأَبِ أَباً (1)!
وهذا يقولُ: والَّذي أَحصى رَمْلَ عالِج عَدَداً ما جعلَ الله في الفَريضةِ نِصْفاً وفصفاً وثُلُثاً (2).
وهذا يقولُ: إِن اجْتهَدُوا، فقد أخطؤُوا، وإن لم يَجْتهِدُوا، فقد غَشُّوكَ (3). إلى أمثالِ ذلك.
فأَينَ تَرْكُ الإِنكارِ؟! وأَين الموافقةُ، والإِذعانُ بالإِصابةِ، وهم على هذا الاختلافِ (4)، والإِزراءِ على المقالةِ التي ذَهَبَ إِليها مَن خالفَهم، والعَتَبِ؟ وأَمَّا التبَرُؤُ: فإِنما لم يَرْتَقُوا إِليه في أَمثالِ هذه المسائلِ؛ لأَنَّ دلائِلَها أَماراتٌ تَلُوحُ (5) وتَخْفى، وليس لها أَدِلةٌ قطعِيَّةٌ، بخلافِ ما ذَكَرْتُم من الامتناع من إِخراج الزَّكاةِ، أَو مِن اعتقادِ وجوبِها، وبخلاف تَكْفيرِ علي وعثمانَ بما لا تُوجَدُ فيه شُبْهةٌ فَضْلاً عن حُجَّةٍ، ومَعَ إِيضاح دلائِلِ فضائِلِهما، من السَّابقةِ، ومَدْح رسولِ الله لهما، والشَّهادةِ بأَنهما من أَهلِ الجنَّةِ، والدعاءِ لهما في عِدَّةِ مَقاماتٍ، ووضوح بُطلانِ ما تَعلقَ به الباغِى عليهما، من التّجِيبِيِّ وطائفتِه المِصْرِيّينَ في حقِّ عثمانَ، والتمِيمِىِّ وطائفتِه
__________
(1) تقدم 2/ 37.
(2) تقدم 2/ 36.
(3) تقدم ص 205.
(4) في الأصل: "الاخلاف".
(5) في الأصل: "ببلوح".

(5/380)


من الخوارج في حقِّ علي وعثمانَ، وما شَهِدَتْ به السّنَنُ والآثارُ من ذمِّهم، والشَّهادةِ عليهم بالمُروقِ من الدينِ.
فأَمَّا الأَحكامُ الفُروعيَّةُ، فإِنَّها مما تَقابَلَتْ فيها الأَماراتُ، واشْتَبَهَت الظواهرُ، وتَخَيَّلَتِ الشُّبهاتُ بالدلائِلِ، فليس بذلك يَبْرَأُ بعضُهم من بعضٍ، وقالوا في ذلك بحَسَبِ الخطأِ فيه؛ من نوع مَلامةٍ، وتَعْييبِ المَقالةِ بإِيرادِ أَمارةٍ، كما (1) ظَهَرَ منهم في حق ابن مسعودٍ ومخالفتِه في المُصحَفِ، وما ظَهَرَ منهم في حقِّ عثمانَ؛ لكن ذلك لِماَ ظَهَرَ من تقديمِ أَهْلِه وعشيرتِه، وتَفَسّحِه فِى المالِ.
ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ؛ لنَصَبَ الله عليه فى دليلاً، وجَعَلَ إِليه طريقاً، ليُزِيحَ عِلَّةَ المُعتَلِّ، ويَقطَعَ حُجَّةَ المُحتجِّ، تلك سنَّتُه في كلِّ ما دعا إِليه، قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال (2) سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134]، ولو أَقامَ دليلاً، وأَوْضَحَ إِلى ذلك الحقِّ والصَّوابِ طريقاً؛ لسَقَطَ فيه عُذْرُ المخالِفِ؛ ولوَجَبَ أَن يُحكَمَ على كلِّ مَن خالفَ ذلك بالفِسْقِ، ويقْضَى عليه بالإِثْمِ، كما فَعَلْنا ذلك في باب العَقْليَّاتِ.
__________
(1) في الأصل: "وما".
(2) في الأصل: "فقال".

(5/381)


والجوِابُ: أَنَّه قد نَصَبَ عليه دليلاً بحَسَبِ ما اقْتَضى، وهو أَنه اقْتَضانا بالظنِّ، ونصَبَ على الحكمِ أَمارةً ظَنِّيَّةً، وأَبانَ بها خَطَأَ المُخالِفِ أيضاً بطريقِ الظنِّ، فكما لم يَجبْ على المُكلًفِ المجتهِدِ أَن يَقْطَعَ بإِصابتِه؛ حيثُ لم يَجْعَلْ له على الحَكمِ دليلاً قَطْعِيّاً، كذلك لا يَجِبُ عليه المَقطعُ بخطأِ مُخالِفِه، وكان من جُمْلةِ ما سَهَّلَه إِسقاطُ المَأثمِ، ولم يَقْنَعْ بإِسقاطِ المَأثمِ؛ حتى جَعَلَ له على كلْفَةِ الاجتهادِ أَجراً؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -"إِذا اجْتَهدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِذا اجتهدَ فأَخطأَ، فله أَجرٌ" (1).
ولأَنَّ الله سبحانه قد نَصَبَ على شًغلِ الذِّممِ بعدَ براءَتِها أَدلَّةً ظَنِّيَّةً، وأَوْجب الحكمَ بها في استحقاقِ الأَموالِ، ونقلِ الأَملاكِ، وإِراقةِ الدِّماء، واسْتِباحةِ الفُروج، وهي شهادةُ الشَّاهِديْنِ، ولم يَذلَّ ذلك على أَنَّ المالَ مُباحٌ للاِثْنيْنِ (2): المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه، ولا أَن الدَّمَ مُستحَقٌّ (3) غيرُ مُستحَق، ولا أَنَّ البُضْعَ مباحٌ حرامٌ، بل أَثْبَتَ هذه الحقوقَ بدَلالةٍ ظَنيَّةٍ وحُجَّةٍ غيرِ قطعيَّةٍ، وقَضَى بها على دَلالةِ القَطْع، وهي بَراءَةُ الذِّمَمِ الثابتةُ بدَلالةِ العقلِ؛ بأَن (4) كان الحقُّ لجهةٍ واحدةٍ.
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 294.
(2) فِى الأصل: "الاثنين".
(3) في الأصل: "يستحق".
(4) في الأصل: "فان".

(5/382)


ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقّ في جهةٍ واحدةٍ، لوَجَبَ أَن يُنقَضَ به كلُّ حُكمٍ (1 يُخالفُه، كما قال 1) الأَصَمّ وبِشْرٌ المريسِيّ، ولَمَّا قلتم: لا يُنقَضُ أنكم بما يُخالِفُ ما اعْتَقَدتموه إِصابةً وحقّاً، دَلَّ على أَن الحُكميْنِ جميعاً حقٌّ وصوابٌ.
والجوابُ: أَنه إِنَّما لم يُنقض الحكم؛ لأَنَّ الله سبحانه جَعَلَ (2) أَدِلَّةَ الحقِّ خَفِيَّةً، والشبهاتِ مُعترِضةً، والأَدلَّةَ مُتجاذبَةً، فلو جَوَّزَ نَقْضَ الحُكمِ، لَما ثَبَتَ للشَّريعةِ حكمٌ، ولنَقَضَ كلّ حاكمٍ على غيرِه، فسامحَ الشَّرعُ وساهلَ في ذلك، لِئَلاّ يَقَعَ التَّهارجُ والتَّنازعُ، وعدمُ استقرارِ حكمِ الله في الأَرضِ؛ إِذ كان كلّ واحدٍ من الحكَّام ينقض على مخالفه، فلا يستقرّ شيءٌ من الأحكام، وليس كل ما (3) عَفَى عنه، ولم يَتعرَّضْ له بالنَّقضِ، دلَّ على أَنَّه حقٌّ، فإنَّه سامحَ أَهلَ الكِتابيْنِ بالإِقرارِ على ما يُخالِفُ حكمَ الإِسلام، ولا يَتعرَّضُ لأَحكامِهم بالنَّقضِ، ولا لِبيَعِهم وصَوامِعِهم وكَنائِسِهم بالهَدْمِ، وكذلك البَيْعُ عندَ النداءِ، والسَّوْمُ على سومِ المسلمِ، والخِطْبةُ على خِطْبتِه، كلّ ذلك لا يُنقَضُ، ولا يَدُلّ على أَنه حقٌّ وصوابٌ، ولا جائزٌ في الشَّرع.
على أَنه إِن كان عَدَمُ النقضِ دليلاً عندَكم على الصَّوابِ، كان وجوب الرّجوع عن الاجتهادِ الأَوَّلِ إِلى الثاني دَلالةً على أَنَّ الكلَّ ليس
__________
(1 - 1) بياض في الأصل.
(2) في الأصل: "لله".
(3) في الأصل: "كلما".

(5/383)


بصوابٍ؛ إِذ لا وَجْهَ لتر الصَّوابِ إِلى مِثْلِه.
ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ، لَمَا ساغَ لأَحدٍ من العوامِّ أَن يُقلِّدَ أَحداً من العلماءِ إِلا بعدَ الاجتهادِ وتَحَرِّي الصوابِ، فلما جازَ للعامِّيِّ تقليدُ مَنْ شاءَ منهم، عُلِمَ تساوِيهم في الصوابِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لا يُخيَر إِلاَّ بينَ مُتساوِيَيْنِ؛ كتَخْيِيرهِ بين الأَعيانِ في كَفاراتِ التخييرِ.
والجوابُ: أَنَّ مذهبَنا في ذلك مُختلِفٌ، فلا نسَلِّم أَنَّ العامِّيَّ يُقلِّد مَنْ شاءَ، بل يُقلِّدُ الأَعْلمَ، ويكون (1تعويلُه في الأَعلمِ على من أَشارَ إليه 1) أَهلُ العلمِ بأَئة الأَعلمُ، والصحيحُ عن صاحبِنا؛ ما تَكاثَرَتْ به الرِّواياتُ (2) عنه: أَنَّه دَلَّ على حِلَقِ الدنيِّين بجامع (3) الرّصافةِ.
وقال لبعضِ أَصحابِه: لا تَحْمِلِ الناسَ على مذهبِك.
ورُوي: أنَّه أستَفْتاه إنسانٌ، فقال: سَلُوا عبدَ الوهَّابِ. ورُوي: أنَّه أَحالَ بالفَتْوى على أَبي ثَوْرٍ.
فعلى هذا إِنما يجوز له تقليد مَنْ لا يُخالِفُ الحقَّ، فنقول له: قَلِّدْ عالِماً بشَرْطِ أَن لا يُخالِفَ النًصَّ.
على أَنَّا لو مَنَعْنا العامِّيَّ أَن يُقلِّدَ إِلا مَن مَعَه الصوابُ، لم يَجِدْ إلى معرفةِ ذلك سبيلاً؛ إِلاَّ بأَن يَتعلمَ الفِقْهَ، ويَعْرِفَ الأَدلَّةَ، وفي إيجابِ ذلك
__________
(1 - 1) غير واضح في الأصل.
(2) انظرها في "العدة" 5/ 1571 - 1572.
(3) في الأصل: "لجامع".

(5/384)


على كلِّ إحدٍ مَشقَّةٌ وفسادٌ؛ لوقوفِ المَعايشِ.
ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ، والباقونَ على خطأٍ، لَمَا جازَ لبعضِهم أَن يُوَلِّي غيرَه القضاءَ مَعَ اعتقادِه أَنَّ الحقَّ والصَّوابَ معَه، وأَنَّ غيرَه على الخَطأِ؛ لأَنَّ المُوَلِّيَ للمُخطئٍ كالحاكمِ بالخطأِ؛ لأَنَّه يَعلَمُ أَنَّه إِنَّما يَحكُمُ بمذهبِه، ومذهبُه خطأٌ، وكما لا يَحِلُّ له الحُكْمُ بالخطأِ، لا يَحِلُّ له توليةُ مَنْ يَحكُمُ بالخطأِ.
والجوابُ: أَنَّ الله سبحانه حيثُ وَضَعَ أَدِلّةَ هذه الأَحكامِ، وَضَعَها وَضْعاً لا يُؤَدِّي إِلى قَطْعِ، بل جَعَلَها أَماراتٍ مُتَرَدِّدَةً بينَ إِصابةِ الحقِّ والخطأِ، وجعلَ بَذْلَ الوُسْع في الاجتهادِ (1. . . . . . . . . 1) هذا إذا صدق الاجتهاد (1. . . . . . . . . . . .1) بأَنه يُحدِثُ لكلِّ حادثةٍ اجتهاداً يكونُ معه ... فلسنا نُوَلِّيهِ ليُقلِّدَ، ولا ليَعمَلَ بمذهب غيرِه، ولكن بمذهب اعتقده واجتهد فيه، فعرفناه ط وعلمنا خطأَه، فوَلَّيْناه.
وعلى نظيرهِ (2) جَعَلَ الشرعُ الوِلاياتِ، فقال: "إِذا اجْتهَدَ الحاكمُ، فأَخطأَ، فله أَجرٌ"، وإِذا كان خطأً مغفوراً لم يَمنَعْ، فكيف إِذا كان خطأً هو عليه مأجور؟! فإِذا جَوَّزَ الشَّرعُ توليةَ حاكمٍ مَعَ تَجْويزِ الخطأِ عليه؛ ثِقَةً بظاهرِ الإِصابةِ مع بَذْلِ الاجتهادِ، وشَهِدَ بأَن (3) له على اجتهادِه مع
__________
(1 - 1) خرم في الأصل.
(2) في الأصل: "بصيرة"
(3) في الأصل: "فإن".

(5/385)


خطأه أَجراً، لم يَمْنَع تَوْلِيتَهُ؛ تعويلاً على إصابةِ الحَقِّ، وعَفْواً عن الخطأ إِن لم يُؤَدِّهِ اجتهادُه إِلي الحقِّ، وأَصلْ العُذرِ فيه: ما قَدَّمْنا من أَنَّ الأَماراتِ المَنصُوبةَ على هذه الأَحكامِ عْيرُ مُوجِبةٍ للعِلمِ والقطْع.
ومنها: قولُهم: لاخلافَ أَنَّ المُجتهِدَ إِذا بَذلَ وُسْعَه فِى الاجتهادِ وطَلَبِ الحكْمِ، وَجَبَ عليه اعتقادُ ما أَدَّاهُ إِليه الاجتهادُ، ومتى تَرَكَ ذلك، أستحَقَّ الذَّمَّ، فلو لم يَكُنِ المأمورُ ما أَدَّاهُ اجتهادُه إِليه، لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ على تركِه، وإِذا ثَبَت أَنَّ ذلك هو االمأمورُ، وجبَ أَن يكونَ حَقّاً وصواباً، لأن هذين الخَصمين على الحق.
والجواب: أنه لا يصحُّ منك دَعْواكَ وقد عُلِمَ إنكارُ المخالفِ لك في ذلك، ومنعُه منه، وإظهارُ الاحتجاج على فسادِه. وعنده أن هذا من مضائق التسويغ دون الحقِّ والصواب.
ولو سَلَّمْنا ذلك تَوْسِعةً للنَّظرِ، لم يتمَّ لك الدليلُ، لأنَّ الموجب لذلك إِنَّما يُوجِبُه بشَرْطِ السَّلامةِ (1 والصحة، فإذا أدّى إلي خلاف الحق، نسبناه 1) إِلى الخطأ، كما يجوزُ (2 الرمي إلى الهدف بشرط السلامة 2)، فإذا أَدَّى إِلى إتلافِ مالا يَمْلِكُ إِتلافَه، نَسَبْناه إلى التفريطِ، وعَلِمْنا خطأَه فيه.
ثم هذا يبْطُلُ بهِ، إِذا أَدّاه الاجتهادُ إِلا حكمٍ لا يَعْلَمُ أَنَّ فيه نَصّاً يُخالِفُ اجتهادَه، أَو كان وَرَدَ نسخٌ خَفِيَ عليه؛ فإِنَّه مَأمور بما أَدَّاه اجتهادُه إِليه، ولم يَدُلَّ ذلك على آنه حقٌّ وصوابٌ.
__________
(1 - 1) خرم في الأصل، وما اثبتناه من "التبصرة" (508).

(5/386)


جوابٌ أخر: وهو أَنَّ هذا حُجَّةّ عليهم؛ لأَنَّه مَن أَدَّاه اجتهادُه إِلى شيءٍ، وقَامَ الدَّليلُ عليه، لم يَجُزْ له اعتقادُ غيرِه، فلو كان الجميعُ حَقاً وصواباً، لجازَ تَرْكُه إِلى غيرِه، كالمُخَيَّراتِ كُلِّها في الكَفّاراتِ.
ومنها: قولُها: لاخِلافَ أَنَّ ترجيحَ الظواهرِ المُتقابلةِ يجوزُ بما (1) لايجوزُ أَن يُثبِتَ (2) الحكمَ بنفسِه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ دليلَ الحَكمِ هو الذي وَقَعَ فيه المُقابَلةُ، وأَنَّه إِذا تعارضَ ظاهرانِ، فقد قامَ دليل كلِّ واحدٍ مِنَ الخَصْمَينِ على الحكمِ؛ فدَلَّ على أَنَّ الجميعَ حقٌّ وصوابٌ.
والجواب: أَنَّا لانُسَلِّمُ؛ فإنَّه لايُرَجَّحُ أَحدُ الدَّليلَينِ على الآخرِ إِلاَّ بما يَجوزُ أَن يُجعَلَ دليلاً عندَ الكَشفِ والتَّقريرِ.
على [أنَّ] هذا هو حُجَّة عليكم، فإنَّه لو كان الجميعُ حَقّاً وصواباً، لما طَلِبَ تقديمُ أَحدِ اللَّفظَيْنِ على الآخرِ بضروبِ التَّراجيح، ولَمَّا عَدَلُوا عند التَّقابُلِ إِلىٍ التَّرجيح، دَلَّ على أَنه لايجوزُ أن يكونَ ما اقْتَضاهُ الظَّاهرانِ جميعاً حَقّا.
ومنها: قولُهم إِنَّ أَدِلَّةَ الأَحكامِ في مسائلِ الخِلافِ تَقَعُ مُتكافِئَةً، ليس منها ما يَقْتضِيِ القَطْعَ، أَلا ترى أَن كُلَّ واحدٍ من الخَصْمَيْنِ يُمكِنُه أَن يَتناولَ دليلَ خصْمِه بضَرْبٍ من الدَّليلِ، ويَصرِفَه عن ظاهرِه بضَرْبٍ من التَّأوِيلِ، ويُسنِدَ إلى دليلٍ، بحيثُ لا يصرفه لأحدِهما على الآخر مزية في
__________
(1) في الأصل: "ما".
(2) في الأصل: "ثبت".

(5/387)


البناءِ والتأويلِ فدَل على أَنَّ الجميعَ حَقٌّ.
والجوابُ: أَنا لانسَلِّمُ أَنَّه يَنْتَهي أَمرُهما إِلى التَّساوي؛ بحيثُ لايَتَرجَّح أَحذهما على الآخرِ، ولا يتَكافَأُ دليلانِ في الشَّرع، وهذا ظاهرٌ في المُناظراتِ، وأَنَّه لايَخْلُو مِن ظهورِ أَحدِهما على الآخرِ.
على انَّ هذا لو كان دليلاً على أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ في الفُروع، لدَلَّ على أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ في الأصولِ؛ فإِنَّ الأصُوليِّينَ إذا تَكَلَّموا في مسألةِ القَدَرِ، أَو تخليدِ الفُسَّاقِ من أَهلِ المِلةِ؛ فإنَّه تكاد الظواهر تَتقابَلُ، ولا تَدُلُّ أنَّ الحقَّ في جِهَتَيْنِ، ولا يُقال فيها بتَكَافُؤ الظَّاهِرَيْنِ.
ومنها: أَن قالوا: إِنَّ حَمْلَ الناسِ على مذهبٍ واحدٍ يُؤَدِّي إِلى التَّشديدِ والتَّضييقِ، فوَجَب أَن يُجعَلَ الجميعُ حَقّاً؛ ليَتوسَّعَ الناسُ فيها.
فالجواب: أَنَّه لو كان هذا دليلاً، على أنَّ الجميعَ حَقٌّ، لوَجَبَ أَن لايَلْزَمَ العملُ بما وَرَدَ، به النَّصُّ والإجماعُ من الأحكام المُغلَّظةِ، لأَنَّ في ذلك تغليظاً وتشديداً، فلَمَّا بطَلَ هذا بالإِجماع، بَطَلَ ما ذَكَرُوه أَيضاً.
ولأَنَّ المصالحَ في الشرْعيَّاتِ لا تَتعلقُ بما تميل إِليه الطِّباعُ، وتَحصُل به الرّخْصة والاتِّساع، بل مَبْناها على ما هو الأَ نْفعُ لهم والأصلحُ، لا الأَطْيب والأَشهى والأَخَفُّ؛ فإذا كان في التَّكليفِ نوعُ صعوبةٍ، كان ثوابُ ذلك أَوْفرَ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "ثوابُك على قَدْرِ نَصَبِكِ" (1).
__________
(1) تقدم تخرجه 1/ 254.

(5/388)


ومنها: قولُهم: لَمَّا كان القُرَّأءُ كلامُهم على صوابٍ في قِراءاتِهم (1)، كذلك الفقهاءُ في مَقالاتِهم.
والجوابُ عن ذلك من وجْهَينِ:
أَحدهما: أَنَّ تلك منصوصٌ عليها، حيثُ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"نَزَلَ القرآنُ على سبعةِ أَحْرُفٍ، فاقْرَؤُوا كيفَ شئتُم" (2). ورُوي: "كُلّها شافٍ كافٍ" (3).
والثاني: أَنَّه لا تَناقُضَ بين القِراءَتَيْنِ؛ ولذلك جازَ للقارئ أَن يَقْرَأَ بالسَّبْعةِ، وبأيَها شاءَ، ولايجوزُ للفقيهِ أَن يَعْتقِدَ الإِباحةَ والحَظْرَ في حالةٍ واحدةٍ، ولا يَتخَيَّرَ أَيَّ الحكمَيْنِ شاءَ.

فصل
القولُ بتكَافُؤ ألأَدِلَّةِ قولٌ فاسدٌ، ومذهبٌ باطلٌ، ولابُدَّ أَن يكون لأَحدِ الدَّليليْنِ مَزِيَّة وتَرجيحٌ يُخرِجُهما عن التَّكافؤ (4).
هذا مذهبُنا، وبه قال الفقهاءُ.
__________
(1) في الأصل: "قراءته".
(2) تقدم تخريحه 2/ 133.
(3) أخرجه أحمد فى 5/ 114، وأبو داود (1477)، والنسائي 2/ 153 - 154 من حديث أبي بن كعب.
(4) انظر "العدة": 5/ 1536، و "التمهيد" لأبي الخطاب 4/ 346، و "التبصرة"

(5/389)


وقال أَبو عليِّ وأَبوهاشمٍ: يجوزُ أن يتكافَأَ دليلانِ، فيَتخيَّرَ المجتهدُ، فيعملَ بما شاءَ منهما.
ووَجَدْتُ للمُحقِّقِينَ منهم: أنَّ ذلك في الأَماراتِ خاصَّةً دونَ الأَدلًةِ.
لنا: أَنَّ هذه المسأَلةَ مَبنيَّةٌ على أَصل، وهو أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإِذا ثَبَتَ بما قَدَّمْنا أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، لم يَجُزْ أَن يُخْلِيَ الله سبحانه ذلك الحقَّ من دليلٍ، ولايجوزُ أن يُسوِّيَ بين دليلَيْنِ بم يُؤَدِّي كلُّ واحدٍ منهما إِلى حكمٍ يُخالِفُ الحكمَ الذي دَلَّ عليه الآخرُ؛ لأنَّ في ذلك تضليلاً وحَيْرَةً تَمْنَعُ إِصابةَ الحقِّ.
وحُجَّةُ ما ذَهَبَ إِليه المخالفُ: أَنَّ الحادثةَ تأخُذُ شَبَهاً من أَصْلَيْنِ، بحيثُ لايُرجَّحُ أَحدُهما على الآخرِ، فدلَّ على جوازِ تكافُؤ الدَّليليْنِ.
والجوابُ: أَنَّ هذه دعوى وجودٍ، وليس يُمْكِنُ الخالفَ أَن يُبررَ ذلك في مسألةٍ بعَينها، ومتى ادَّعَى ذلك في شبْهَيْنِ، أَظْهَرْنا التَّرجيحَ والمَزِيَّةَ، فمنه الدَّعوى، وعلينا بيانُ إِبطالِ كلِّ ما يُشِيرُ إِليه من ذلك في أَعيانِ السائِلِ.

فصل
فإِذا ثَبَتَ أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، وأَنَّ الأَدِلَّةَ لا تَتكافَأ؛ فإِنَّ ما يؤَدِّي إِليه اجتهادُ المجتهدِ بأَدةِ الحكمِ غيرُ مقطوع به، وإنما هو مظنونٌ، والدَّلالةُ على نفى القَطْع أَشياءُ:
أَحدها: أَنَّا نُوجِبُ على المجتهدِ إِذا اسْتُفْتِيَ في مثلِ تلك الحادثةِ أَن يُحْدِثَ لها اجتهاداً ثانياً؛ لئَلا يكونَ قد تَغَيَّرَ اجتهادُه.

(5/390)


الثاني من الدَّلائل على ذلك: أنَّا لو قَطَعْنا على كونِ الحقِّ مَعَنا فيما أَدَّى إِليه اجتهادُنا، لفَسَّقْنا أَو كَفرْنا، وضَلَّلنا مُخالِفَنا، كما قُلْنا فى الأُصولِ، لَمَّا كان على مسائِلِها دلائِلُ قاطعةٌ، ضَلَّلْنا المخالفَ فيها، فلَمَّا لم نضَلِّلْ مُخالِفاً في هذه الأَحكامِ، عُلِمَ أَنَّها ظَنِّيَّةٌ غيرُ قطعيَّةٍ، وصارت أَدلَّةُ الأَحكامِ الفِقهيَّةِ (1) بمثابة بيِّنةِ الحقوقِ وأَماراتِ القِبْلةِ بم فإنَّ الشَّهادةَ مما تَثْبُتُ بها الأَحكامُ، والأَماراتِ تُوجِبُ استقبالَ الجهةِ أنت دَلًّتْ عليها.