الواضح في أصول الفقه فصل
يجوزُ التَّعبدُ بالاجتهادِ في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - لِمَنْ كان غائباً عنه وبمحضرٍ منه - صلى الله عليه
وسلم -.
وقال قوم من المُتكلِّمينَ: لايجوزُ التعبُّدُ بالاجتهادِ في
عصرِه، لا مَعَ الغَيْبَةِ عنه، ولا مَعَ الحضورِ عندَه.
وقال قومٌ: يجوزُ التَّعبُّدُ لمَنْ غابَ عنه من أَصحابه
وخُلَفائِه وقُضَاتِه، وأَنَّه قد وَرَدَ بذلك السَّمْعُ عنه -
صلى الله عليه وسلم -.
وذَهبَ بعضُهم: إِلى جوازِ التَّعبُّدِ بذلك لمَن لم يَمْنَعْه
من ذلك، وجَعَلُوا عَدَمَ المَنْع كالإذنِ (2) منه.
ويجوزُ التَّعبُّدُ به في عصرِه، مَعَ الغَيبَةِ، وبحَضرَتِه.
قالَه (3) أبو بكر ابنُ
__________
(1) في الأصل: "الفقيه".
(2) في الأصل: "كالأمر".
(3) في الأصل: "قال".
(5/391)
الباقِلانيِّ، والشيخُ الإمامُ أَبو إسحاقَ
الشِّيرازِيُّ رحمة الله عليه، وجماعةٌ من أَصحابِ الشافعيِّ،
وذهبَ قومٌ من أَصحابِه: إِلا المَنْع من ذلك، على ما ذَهَبَ
إِليه بعضُ المُتكلِّمينَ كما (1) قَدَّمْناه.
وذَهَبَ الجُرْجانِيُّ من أَصحابِ أَبي حنيفةَ: إِلى أَنَّه
إِن كان بإِذْنِه، جازَ، ولا يَجُوزُ بغيرِ إِذْنِه (2).
فصل
في الأَدِلَّةِ على جوازه في عَصْره مع الغَيْبَةِ عنه
وبمَحْضَرٍ منه
فمنها: أَنَّ أَبابكرٍ الصًّدِّيقَ قال. إِن أَقْرَرْتَ
أَرْبعاً، رَجَمَك رسولُ الله (3). وهذا فتوى منه.
وقولُه في قِصَّةِ السَّلَبِ: لاها اللهِ، لايَقْصِدُ إِلى
أَسَدٍ مِن أُسُدِ اللهِ قاتلَ عن اللهِ ورسولِه، فيُعْطِيكَ
سَلَبَهُ. وعَنَى بقولِه: أَسداً من أُسُدِ الله: أَبا قتادةَ؛
حيثُ قتلَ رجلاً من المُشرِكينَ يومَ حُنَيْنٍ، فأَخَذَ سَلَبَ
المقتولِ غيرُه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
"صَدَقَ" (4)، يُصَدِّقُ أبا بكر في فَتْواهُ.
ومنها: أَنه ليس في ذلك إِحالةٌ في صِفَةِ الرِّب جَلَّ (5)
ذِكرُه، ولافي
__________
(1) في الأصل: "مما".
(2) انظر "العدة" 5/ 1590.
(3) تقدم تخريجه 1/ 41.
(4) أخرجه سعيد بن منصور (2696).
(5) في الأصل: "حال".
(5/392)
صِفَةِ العبدِ المُكلَّفِ، ولاقَدْحٌ في
الشَّرْع، ولاخروجٌ عن سَمْتِه ووَضْعِه؛ فإِنَّ الاجتهادَ
طريقٌ، والقياسَ دليل، والتَّعبُّدَ [به] جائزٌ، وليس ذلك مما
يُخْرِجُنا عن العِلْمِ الذي نحن به عالِمونَ، فكان مَعَ هذه
الحالِ جوازُ التَّعبُّدِ به كجوازِ تَعبُّدِنا بسائرِ
العِباداتِ، بل مَعَ حضورِه الذي يَحصُلُ به استدراكُ خطأ إِن
حَصَلَ، وبيانُ زيادةٍ إِن قَصَّرَ المُجتهِدُ، أَوْلى منه
مَعَ العُذْرِ والغَيْبةِ التي يَنْعَدِمُ فيها الاستدراكُ.
ومنها: أَن الاستصلاحَ بالتَّعبُّدِ لسائرِ المكلَّفينَ أَو
بعضِهم ليس بمحالٍ في صِفَةِ القديمِ جَلتْ عظمتُه، وإِن لم
نَقُلْ نحن: إِن ذلك واجبٌ عليه سبحانه الحكْمَةِ، وقاله
غيرُنا، وإِذا جازَ ذلك باتِّفاقٍ، لِم يَمْنَعْ أَن يَعلَمَ
الله سبحانه أَن تَعَبُّدَ العلماءِ باجتهادٍ فيما لم يَقُل
(1) فيه نصّاَ مصلحةٌ للنبيِّ، أَو لأُمَّتِه، أَو لبعضِ
الأُمَّةِ، فجاز لذلك أَن يَستصلِحَ بذلك مَن يَعلَمُ أَنَّ له
فيه مصلحةً، وذلك يَعُمُّ عصرَه في الغائبِ عنه والحاضرِ
عندَه.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ بمعرض الخطأ، وقد جازَ بحيثُ
لامُستدرِكَ يَستدرِكُ، وهو في غيرِ عصرِه، ومعَ الغَيْبةِ عنه
عندَ قومٍ، فالاجتهادُ بحَضْرَتِه - صلى الله عليه وسلم - معَ
استدراكِه للخطأ، وعَدَمِ إِقرارِه عليه، أَوْلى أَن يَجُوزَ.
ومنها: أَن ما جازَ الحكمُ به في غَيْبَةِ النبيِّ - صلى الله
عليه وسلم -، جازَ الحكمُ به، أَو التَّعبُّدُ بالحكمِ به مَعَ
حضورِه، كخبرِ الواحدِ، يُوَضِّحُ هذا: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما
مُوجب للظنِّ، وهو بعُرْضةٍ للخطأ.
__________
(1) في الأصل: "يقول".
(5/393)
فصل
في جمع شُبهاتِهم
فمنها: أَن قالوا: إِنَّ الموجودَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَادرٌ على طريقِ النصِّ الذي هو القاطعُ على
الحُكْمِ، والأَصْلحُ، والمعصومُ عن الخطأ، فلا يجوزُ
الانحطاطُ عنه الي الظنِّ المُجَوَّزِ فيه الخطأُ والفسادُ،
وإنما أَباحَ الشَّرْعُ الانتقالَ إِلى الظّنونِ عند عَدَمِ
النصوصِ، والمُوصِلِ إلى النُّصوصِ.
فيقالُ: هذا غيرُ مُمتنِع بم بدليلِ قَبولِ خبرِ الواحدِ، عن
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مقدوراً على
السَّماع منه، والسَّماعُ منه قطع، والسَّماعُ عنه ظَنَّ.
وكذلك يجوزُ العملُ بخَبَرِ الواحدِ، وإِن قُدِرَ على الرُّجوع
إِلى خبرِ جماعةٍ يَحصُلُ العِلْمُ بخبرِهم.
على أَنَّ الاجتهادَ بحَضْرَتِه حكمٌ بالعلمِ؛ لأَنه
لايُقِرُّه على الخطأ، فإذا حَكَمَ، وأَقَرَّه - صلى الله عليه
وسلم -، بانَ أَنه حَكم بطريقِ العِلمِ لا الظنِّ، وقد
حَكَمُوا بالأَمارةِ مع إِمكانِ طَلَبِ القَطْع (1)؛ وذلك
أَنَّ البخاريَّ رَوَى في "صحيحه" (2): أَنَّ قوماً سأَلوا
أَصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هل كان يَقْرا
النبيِّ في الأُخْرَييْنِ، فقال قومٌ من الصَّحابةِ لمَنْ
سأَلَ: نعم، فإنا كنا نرى حَرَكةَ لِحْييه. فما ظَنّك بقومٍ
تَعَلقوا في قراءَتِه بتحريكِ لِحْمتِه؟ وذلك أَمارة، وقد
__________
(1) في الأصل: "والقطع".
(2) برقم (760).
(5/394)
كانوا قادرينَ.
ومنها: أَن قالواة الاجتهادُ بحَضْرتِه - صلى الله عليه وسلم -
تَعَاطٍ عليه، وإسقاط لأُبَّهةِ النُّبوة؛ لأنَّه طريقُ
الوَحْي؛ ومَعْدِنُ تَلَقِّي مواردِ الحقِّ بالأَمرِ والنهي،
فإِذا نَطَقَ بحضرتِه ناطقٌ في شَرْعِه من طريقِ الرَّايِ
الصادرِ عنه، أَيّ حكمٍ يَبْقَى لَىُ؛ فهذا غايةٌ في فَتْح
بابِ الافْتِئاتِ عليه؛ حتى إِنَّ في اطِّرادِ العُرْفِ أَنَّه
سوءُ أَدبٍ وافْتِئات؛ ولهذا رُوي: أَنَّ عليّاً رضي الله (1
عنه قالَ: أَيُّ 1) آيةٍ في كتابِ الله أَرْجى؟ فأَخَذَ مَن
حَضَرَه يَحْرَجُونَ في افتقادِ الآيِ، فيَتْلو هذا آيةً،
وَيَتْلُو هذا آيةً، فقامَ رجلٌ، فقال: هَلاَّ رَدَدْتُمُ
الأَمرَ إِلى عالمِكم، قلِ (2): يا أَميرَ المؤمنينَ، قال (4):
{وَالضُّحَى (1)} [الضحى: 1] إِلى قولِه: {فَتَرْضَى} [الضحى:
5]، تم قال: واللهِ لايَرْضَى (3) محمدٌ ومن (4) أُمَّتِه في
النارِ (5) أَحدٌ.
ومَنْ صَانَه عن أَن تُرفَعَ الأَصْواتُ بحضرتِه، يَفتحُ بابَ
الفَتْوى بحَضْرتِه؟ هذا بعيدٌ.
فيقالُ: أَمَّا مراعاةُ آُبهَةِ النُّبُوَّةِ فيما طريقُه
الاعتراضُ في الفقهِ،
__________
(1 - 1) خرم في الأصل.
(2) في الأصل: "قيل".
(3) في الأصل: "رضى".
(4) في الأصل: "في".
(5) في الأصل: "من"
(5/395)
وحوادثِ الشَّرع؛ فإِنَّهم لم يُنْهَوْا عن
ذلك مع إِكثارِ اعتراضِهِمُ الذي لايُحْصى عدداً، مثلُ قوهم:
نَراك تَتَوضَّأ من بِئْرِ بُضاعَةَ وهي يُلقَى فيها
المَحائِضُ، والجِيَفُ، ولحومُ الكلابِ، وما يَنْتَجِي الناس
(1).
[وقولِهم]: نَهَيْتَنا عن الوِصالِ، وواصَلْت (2).
[و] أَمَرْتَنا بفَسْخ الحَجِّ، وما فَسَخْت (3).
[و] أَجبتَ بَيتَ فلانٍ لَمَّا دَعَوْكَ، ولم تُجِبْ بيتَ
فلانِ، فقال: "إنَّ في بَيْتِ فلانٍ كَلْباً" (4)، قالوا:
إِنَّ في بيتِ فلانٍ هِرّاً.
[و] قال: "هَلاّ أَخَذَ أَهلُ هذه الشَّاةِ إِهَابَها،
فَدَبَغوهُ، فَانْتَفَعُوا به"، فقالوا: إِنها مَيْتَةٌ (5).
وقالوا له في غمْرةِ القَضاءِ، لَمَّا أَجابَ أَهلَ مَكَّةَ
إِلى مَحْوِ اسمه من الرِّسالةِ، ورَدِّ مَنْ جاءَه مسلماً،
ورَجَعَ عن العُمرةِ إِلى العامِ القابلِ: أَلَسْتَ رسولَ
اللهِ حقّاً؛! أَلَسْنا المُسلمين (6)؛ فعَلامَ نُعْطيِ
الدَّنِيَّةَ من ديينا؟! أَليسَ قد نُزِّلَ عليك:
{لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ} (7)؟ [الفتح: 27].
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 15، وأبو داود (67)، والترمذي (66).
(2) تقدم تخريجه 2/ 26.
(3) تقدم تخريجه 3/ 106، تعليق (1).
(4) تقدم تخريجه 2/ 27.
(5) أخرجه أحمد 6/ 329، ومسلم (363)، وأبو داود (4120)،
والنسائي 7/ 171وابن ماجه (3610) من حديث ميمونة رضى الله
عنها.
(6) في الأصل: "المسلمون".
(7) تقدم تخريجه 2/ 35، وتقدم أن ذلك كان في صلح الحديبية لا
في عمرة القضاء.
(5/396)
فلو كان ذلك الحِجاج أَو الاعتراضُ مِمَّا
يُسقِطُ أُبَّهَةَ النبوَّةِ، ويَطْعن (1في مَقامِها 1)، لَمَا
أَجَابهم عنه رسول اللهِ؛ فعلِمَ أَنَّ الاجتهادَ أَولى أَنْ
يَجُوزَ في عَصْرِه (2) وبحضرَتِه.
فصل
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجتهِدُ في الحوادثِ،
ويَحكُمُ فيها باجتهادِه، وكذلك سائرُ الأنبياءِ صلوات الله
عليهم.
هذا مذهبُنا، ذكرَه أبنُ بَطَّةَ من أَصحابنا، وذُكرَ عن أَحمد
نَحْوُه.
وبه قال أَصحابُ أَبي حنيفةَ، فيما حكَاهُ الجُرجانيُّ
والسَّرخسِيّ.
واختلف أَصحابُ الشَّافعيِّ على وجهين:
أَحدهما: مثلُ قولِنا.
والثاني؛ المنعُ من ذلك.
وبالمنع قال بعضُ المُعتزلَةِ.
فصل
لجمعِ أَدلَّتِنا
فمنها: قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}
[النساء: 105]، وهذا يَعُمُّ ما يَرَاهُ من النَّصِّ
والاسْتنباط
__________
(1 - 1) خرم في الأصل.
(2) في الأصل: "عصرته".
(5/397)
من النُّصوصِ، واسمُ الرَّأْيِ بالاجتهادِ
أَخَصّ منه (1) بالنّصوص.
وقولُه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]،
والمُشاوَرَةُ لا تَقَعُ في الوحْي، ولا فيما يَرِدُ من اللهِ
سبحانه، فلم يَبْقَ إِلاً فيما يُحْكَمُ فيه من طريقِ
الاجتهادِ.
وقولُه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]،
يَأمُرُ بالاعْتبارِ لأُوِلي الأَبْصارِ، والنبيُّ - صلى الله
عليه وسلم - داخلٌ لأنَّ ذلك، لأَنه من أهل (2) البَصائِرِ، بل
أَشرفهم وأَسْبَقُهم في ذلك.
وقولُه تعالى في آياتٍ تَدُلُّ على العَتْبِ، والمَعْتَبةُ لا
تَقَعُ إِلاً عن خطأ، والخطأ لايَقَعُ في الوَحْي، فلم يَبْقَ
إِلاَّ الاجتهادُ.
وقولُه تعالى إِخْباراً عن أَنْبيائِه [أنهم] (3) اجْتهَدُوا،
فقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الآية، وقولُه: {فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:
79]، وما يُذكَرُ بالتَّفهيمِ إِنَّما يكونُ بالاجتهادِ،
فأَمَّا الوَحْيُ والتَّنزيلُ، فلا يُذكَرُ بالتَّفْهيمِ.
فصل
في الأَسئلةِ على الآياتِ
فمنها: أَنَّ قولَه: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]،
والذي أَرَاهُ: قوله:
__________
(1) في الأصل: "معه".
(2) في الأصل: "أدل".
(3) ليست في الأصل
(5/398)
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} [المائدة: 49].
أِ منها: قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
من الحُروبِ، وأُمورِ الدّنيا كُلِّها، وسِياساتها.
منا: أَن العَتبَ ورَدَ على تركِ التَّذفِيفِ (1)، أَو
مُساكَنةِ الرِّقَّةِ على قومِه، والمَيلِ إلى استِبقائِهم،
كما عاتبه (2) على الاستِغفارِ لمَنْ ماتَ على الكفرِ من
أَهلِه، وقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
فصل
في الأَجوبة عن الأَسْئلةِ
أَمَّا األأَوَّلُ: فإِنَّما أَحالَه على رأيِه، فإِذا
حَمَلتَه على الوَحْىِ، وأَنَّه هو الذي أَرَاهُ الله،
فيُفْضِي إلي حَملِ قولِه: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:
105] على ما أَنْزَلَ الله، والظَّاهرُ من تغايرِ اللَّفْظَينِ
والصِّيغَتَيْنِ تغايرُ المَعْنيَيْنِ.
على أنَّ الاجتهادَ حكم بما أَنْزَلَ؛ لأَنَّه قال: {كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، [وقال]:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
وأَما حملُهم آيةَ المشاورةِ على أَمرِ الدنيا، فغيرُ صحيح؛
لأنَه شَاوَرَهم
__________
(1) في الأصل: "التوقف"، والتذفيف: الإجهاز على الجريح.
(2) في الأصل: "عتبه".
(5/399)
في الفِداء، وهو من كبارِ أَحكامِ
الدِّينِ؛ لأَنَّه أَمرٌ يَتعَلقُ بالدِّماءِ، ومَصْلحةِ
أَكْثرِ عبادِه، وهو الجهادُ.
وأَما قولُهم على آيةِ العَتْبِ: إِنَّه لمكانِ الرِّقَّةِ
والرَّاُفَةِ، فذاك أَمرٌ داخلٌ في الاجتهادِ وعِلَّتِه (1)،
وإلاَّ فالأَصلُ اسْتِخراجُ الرأْيِ لحكمٍ من أَحكامِ اللهِ،
وهو المَنُّ أَو الفِداءُ، فلا يُظَنُّ به أَنه تَرَكَ أَصْلَ
الرَّاي، وعَدَلَ إِلى الرِّقَّةِ، بل الرِّقَّةُ داخلةٌ؛ مثل
قولِه تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ} [النور: 2]، فنهَى عن مُساكنةِ الرِّقَّةِ
والرَّافَةِ في إِقامةِ الحدِّ، كذلك هاهنا؛ إِن حَصَلَ
العَتْبُ على رَافةٍ ورِقَّةٍ أَوْرَثَتْ تحريفاً في الرايِ،
فقد أَجازَ أَصْلَ الرايِ، وعَتِبَ على التقصيرِ فيه، فهذا
غايةُ ما يكونُ في الحُجَّةِ لمن أَثْبَت الاجتهادَ.
وأَمَّا أَدِلتنا فيها من جهةِ السُّنَّةِ: فما (2) رواه
الشَّعْبِيُّ قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
يَقْضي القَضِيَّةَ، ويَنْزِلُ القرآنُ بعدَ ذلك غيرَ ما كان
قَضَى، فيَتْرُكُ ما كان قَضَى على حالِه، ويَسْتَقْبِلُ ما
يَنْزِلُ به القرآنُ.
فإِن قيلَ: هذا مُرْسلٌ، وخبرُ واحدٍ.
قيلَ: المُرسَلُ حُجَّةٌ، وهو مُؤَكِّدٌ لهذا الرَّايِ، إن لم
يَكُنْ مُثْبِتاً لأَصلِه.
على أَنَّ هذه أُصولَ الفقهِ ليس طريقُها القطعَ، وأَينَ
أَدِةُ القطع منها، وهي مما لايُفَسَّقُ، ولا يُبَدَّعُ
المُخالِفُ فيها؟
__________
(1) في الأصل: "وعليه".
(2) في الأصل: "ما".
(5/400)
فصل
في أَدِلَّتنا من جهةِ المَعْقول والمعاني
فمنها: أنَّ المعانيَ المُسْتنبَطةَ طريقٌ لإِصابَةِ الأَحكامِ
الشرْعيَّةِ، تدْرَك بجَوْدةِ الانتقادِ، وصفاءِ النَّحِيزَةِ،
وجَوْهرِ النَّفْسِ، والقُوَّةِ على إلحاقِ المِثْلِ
بالمِثْلِ، واستخراخ المعاني من الأَلفاظِ، وهذا فضيلةٌ
دائِبةٌ، ثم إِنّه من أَجَلِّ الأَعمالِ، وأَفضلِ العباداتِ،
وأَوْفَى أَسبابِ الثَوابِ، ومِثلُ هذا لا يُحْرَمُه النبيُّ -
صلى الله عليه وسلم -، لأنَه من الفضائلِ العظيمةِ، والطاعاتِ
الكثيرةِ، ونُحرِّرُه قياساً، فنقولُ: ما جازَ أَن تَثْبُتَ به
الأَحكامُ الشَّرعِيَّةُ، جازَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
الاسْتدلالُ به، أَو الحُكْمُ به. أَو نقولُ: جازَ للنبيِّ أَن
يَحْكُمَ به؛ كالكتابِ والوَحْىِ النازل على قَلْبِه - صلى
الله عليه وسلم -.
ومنها: أَنَّ طريقَ القِياسِ: النَّظَرُ، وملاحظةُ المَعْنى،
وإِلحاقُ الشَّيءِ بنظيرِه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
أَوْلى النَّاس بذلك؛ لأنَّه السَّليمُ الخَلْقِ، المخصوصُ
بسلامةِ القَلْبِ، المعصومُ من الإِقرارِ على الخطأ،
المَلْطوفُ به في نَظَرِه واجتهادِه.
ومنها: أَنَّه سببٌ للثَّوابِ، فلا يجوزُ أَن يُحْرَمَه - صلى
الله عليه وسلم -، ويَحْظى به مَن دونَه من الأُمَّةِ، بل هو
المُميَّزُ بأَسبابِ الثَّوابِ، بإِيجابِ قيامِ اللَّيْلِ،
والوِترِ، وغيرِ ذلك.
ومنها: أَنَّه لا يُقَرُّ على الخطأ، فإِذا اجْتَهَدَ فأَصابَ،
فذلك سُنَّةٌ مُتَّبَعةْ، وإِذا أَخْطأَ، فرُدَّ عن الخطأ، كان
فيه أكثرُ الفوائدِ؛ لأَنَّه يُعلَمُ به طريقُ الخطأ
فيجْتَنَبُ، كما إِذا بانَ الصَّوابُ بالإقرارِ يُتَّبَعُ،
ومازالَ الانْتِفاع
(5/401)
بطريقِ التحْذيرِ من الخطأ، كما يَحصُلُ
الانْتِفاعُ بالتَّحْريضِ على الإِصابةِ، فنقول: طريقٌ يُومَنُ
مَعَه بقاءُ حكمِ الخطأ، فكان طريقاً للأَحكامِ في حقِّ
النبْيِّ، كالنًصِّ.
ومنها: أَنَّ النبيَّ إِذا قَرَأَ الآيةَ، وعَرَفَ منها الحكمَ
وعِلَّةَ الحكمِ، فلا يَخْلُو: إِمَّا أَن يَعْتقِدَ ما
تَقْتَضِيهِ العِلةُ، أَو لايَعْتَقِدَ؛ فإِنِ اعْتقَدَ،
فلابُدَّ أن يَعمَلَ بما اعْتقَدَه، وهو الاجتهادُ (1) الذي
أَثْبَتْناهُ، وإِن لم يَعْمَلْ به، كان تاركاً للعملِ بما
اعْتقَدَ، وَحُوشِىَ من تَجَنّبِ الصَّوابِ على بَصِيرةٍ.
فصل
في جمع الأَسئلَةِ لهم على الأَدِلَّةِ المَعْنوَّيةِ
فمنها: أَن قالوا: صَدَقْتم أَن في الاجتهادِ فضيلةً وثواباً
(2)، ولكن إِذا صَدَرَتِ الأَحكامُ عن رَأيه، أَوْرَثَ تُهْمةً
في حَقِّه، وأَنَّه هو الواضعُ لهذا الأَمرِ مِن عندِه،
وطَرَّقَ عليه مِنَ المَشُورةِ المُراجعةَ والمُخالفةَ
المُسقِطَيْنِ لِحشْمَةِ مَنْصِبِ النّبُوَّةِ وأبهَتِها، وقد
يَحْرِمُ الله نبيَّه فضيلةً، إِذا كان إِثْباتُها له يَجُرُّ
عليه تُهْمَةً، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ
قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}
[العنكبوت: 48]، ثم عَللَ ذلك بقولِه: {إِذًا لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ}، فإِذا حَرَمَه فضيلةَ الكَتْبِ، مَعَ كونِه
امْتَنَّ بها على مَن عَلمَه إِياها بقولِه: {اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ
__________
(1) في الأصل: "الجهاد".
(2) في الأصل: "وثواب".
(5/402)
مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5]، وقال:
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 -
4] وإِذا كان كذلك، جازَ أَنْ يَحْرِمَه فضيلةَ الاجتهادِ وإن
كان فيها نَوْعُ ثوابٍ؛ لدَفع التُّهْمةِ، وتخصيصُه بسُلوكِ
الاتِّباع لمُجرَّدِ الوَحْى، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ
عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3
- 4]، ووَصَفَه في التَّوراةِ: بأَنَّه (1) لايقولُ عنِ اللهِ
إِلا ما قِيلَ له، وسِيرتُه كانت انْتِظارَ الوَحْى، حتى
إِنَّه كان يُنْسَبُ إِلى الانقطاع؛ لِشدَّةِ انتظارِه للوحى
في جوابِ ما يُسأَلُ عنه، وذلك مشهورٌ في السِّيَرِ.
ومنها، أَن قالوا: إِنَّ الاجتهادَ عُرْضةُ الخطأ، فلأَن
يُصانَ عنه، ويُخَص بطريقةِ الوَحْى خاصَّةً التي لايجوزُ
عليها الخطأُ، أَولى.
ومنها: أَن قالوا: إِنَّما جازَ النَّظَرُ مشروطاً بعَدَمِ
النَّصِّ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لايَتحقَّقُ في
حقِّه هذا الشَّرْطُ، لأَنَّ النَّصَّ يَأنتِيهِ، والوَحْيَ
يَنْزِلُ عليه أَحياناً بما يَشْرَعُ له، فإِذا لم تَتحقَّقْ
شريطةُ الاجتهادِ، فارق أُمَّتَه في ذلك، فلم يَجُزْ له
الاحتهادُ لعَدَمِ شَرْطِه، وهو تَعذُّرُ الوحى.
فصل
في الأَجوبةِ عن أَسئلَتهم
أَمَّا الأَوَّل، وأَنَّ ذلك يُورِثُ تُهْمةً في حَقِّه،
ويُطَرِّقُ عليه المُراجعةَ، فحَرَمَه لهذه الفضيلةِ لأَجلِ
هذه التُّهمةِ والمَنْقَصَةِ، كما حَرَمَه فضيلةَ
__________
(1) في الأصل: "فإنه".
(5/403)
الكَتبِ، فإنَّ التّهمةَ لا وَجْهَ لها
هاهنا؛ لأَنَّ الذي نَفَى عنه تُهْمةَ ما يَأتِي به عن الوَحى
من الأَحكامِ، نَفَى عنه تُهْمةَ ما يَاتي به من الأحكامِ عن
الاجتهاد والرأيِ، وهو ظهور المعْجِزِ الدّالِّ على صِدْقِ ما
ادَّعاهُ من النّبوَّةِ، بل ربَّما كان إِلى نَفْى التهْمةِ
أَقربَ؛ لأَنه إِذا اجْتَهَدَ فاعْتَراهُ الخطأُ، رُدَّ عليه،
ويَبْعُدُ عن الإِنسانِ أَن يَأتِيَ بما يكونُ كاشفاً عن
خطئِه، فإِذا اجتَهَدَ بتجويزِ الشَّرع له الاجتهادَ،
تَبَرَّأَ من التُّهمةِ؛ حيثُ كان اجتهادُه عُرْضةً للرَّدِّ
عليه بم من الله تارَةً؛ فإِنَّه لايُقِرّه على الخطأ، ومن
أُمَّتِه أخرى؛ بحيثُ إِنهم لايُمسِكُونَ عن المَشُورةِ
بالرايِ.
ولأَنَّ تَعلّقَك بأَنه عُرْضةُ اعتراضِهم عليه المُزِيلِ
لأُبَّهة النّبُوَّةِ، غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ذلك لو كان مِمّا
يَجِبُ صِيانتُه عنه، لأَنْكَرَ عليهم اعْتِراضاتِهم عليه، وما
زالوا يَعْترِضُونَ والوَحيُ لايُنْكِرُ والنبيُّ - صلى الله
عليه وسلم - يَصِبرُ عليهم، ولو تَتَبَّعْنا ذلك لأَطَلنا؛
لكنا نَذكُرُ طَرَفاً من ذلك: وهو اعنزاضُهم عليه في وُضُوئِه
من بِئْرِ بُضاعةَ، والإِجابةِ لبيتِ قومٍ، وعدم إِجابتِه
لآخَرِينَ، ومُواصلتِه في الصَّومِ مَعَ نَهْيِه لهم عن
الوِصالِ، وأَمْرِه إِيَّاهم بفَسخٍ الحَجِّ ولم يَفسَخْ،
واعتراضُهم عليه يومَ عُمْرَةِ القضاءِ، لَمَّا أَجابَ قُريشا
إلى ما اقتَرحوا عليه، ورَدِّه لأَبي جَنْدَلِ، حتى قالوا:
ففيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ من ديينا، (1والله يقولُ:
{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 1)؛ [الفتح: 27]،
وقولُهم: ما بالُنا نَقصُرُ، وقد أَمِنا؟ حتى أَحْرَجُوه إِلى
الأَجوبةِ عن
__________
(1 - 1) وقعت هذه الجملة في الأصل بعد قوله: "وقد أمنا"
ورأيْنا أن الصواب الموافق للسياق إثباتُها في هذا الموضع.
(5/404)
هذه الأَسولةِ والاعتراضاتِ؛ بأَن قال:
"الماء طهُور"، "إِنَّ في بَيْتِ فلانِ كلباً"، "لستُ
كأَحدِكم؛ إِني أَظَلّ عندَ ربيِّ، فيُطعِمُني ويَسْقِييي"،
"لوَ استَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما استَدْبَرْتُ، لمأسُقْتُ
الهَدْيَ، لكني سُقْتُ هَديِي، ولبَّدْتُ راسِي، ولا أَحِل حتى
أَحلِقَ".
وما أَنْكَرَ البارئ عليهم في قرآنِ هذا الشَّانَ، أَو
أَنْكَرَه عليه الصلاة والسلام، كما أَنْكَرَ عليهم القِراءَةَ
مَعَه، فقال: "مالي أُنازَعُ القُرآنَ؟ " (1)، فلم يَستطِعْ
أحدٌ (2) أَن يَقرَأَ معَه بعدَ قولِي ذلك، فلَمَّا لم يُنكِرْ
ذلك، عُلِمَ أَنه ليس من الأمورِ المُسقِطةِ لأُبَّهَةِ
النّبُوَّةِ على ما ذَكَرْتَ، وما زالتِ النّبُوَّاتُ
مَبْنيَّةً على ماقاساةِ الأُمَمِ ومُداراتِهم، فبالصَّبْرِ
فضلوا، وبه وُصِفُوا، قال سبحانه لي تعالى: {فَصَبَرُوا عَلَى
مَا كُذِّبُوا} [الأنعام: 34] (3. . . . . . . . 3)
النّبُوَّةت طَلَبِ الحُكمِ بالاجتهادِ (3. . . . . . 3)؛
لأنَّ البارئ، سبحانه لم يَرْفَعْه عن أن (3 يَسألهم
ويَستشيرهُم 3) في الأَمْرِ، ومَدَحَ المُتخلقِينَ (3 بذلك،
فقال 3) {وَأَمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
وقولُهم: إنَّه عُرضةُ (4) الخطأ، فهو هذا بعيْنِه، وقد
أَجَبْنا عنه، على أَنَّه لايُقَرُّ عليه، وإِنَّما يُخافُ
مِنَ المَضَرَّةِ بالخطأ، ولا مَضَرَّةَ به إِذا لم يُقَرَّ
عليه،
__________
(1) أخرجه أن (7270)، وابن أبي شيبة 1/ 375، وأبو داود (827)،
وابن ماجه (848)، والبيهقي 15712 من حديث أبي هريرة.
(2) في الأصل: "أحداً".
(3 - 3) خرم في الأصل.
(4) في الأصل: "عرض".
(5/405)
وفي رَدِّه عنه، وبيان خطئِه فيه، دليلٌ
على أَنه لم يَضَعْ ذلك لنفسِه، وأَنه تابعٌ لغيرِه؛ إِذ لو
كان عن نفسِه يقول، لما رَدَّ بنَفسِه على نفسِه، وقد
اسْتَدَلتْ عائشة رضي الله عنها بمثل ذلك؛ حيثُ قالت: لو
كَتَمَ محمدٌ على نفسِه أَمْراً، لكَتَمَ ما في نفسِه، والله
سبحانَه يقولُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
[الأحزاب: 37]
وأَما قولُهم: إِنَّما جازَ النَّظرُ والاجتهادُ والاسْتنباطُ
مشروطاً بعَدَمِ النصِّ، ومهما وَجَدَ المُجْتهِدُ النَّصَّ،
لم يَجُزْ له الاجتهادُ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
سبيلُ النصِّ في حَقِّه مُتسَهِّلٌ مُتيسِّرٌ، ولا مَعْنى
لاجتهادِه. فإِنَّ ذلك باطلٌ باجتهادِ أَهلِ عصرِه، ومعلومٌ
أَنَّه نَصَّ على ذلك، وأَقَرَّ عليه قُضاتَه، كمُعاذٍ وعَتابٍ
وعليِّ بنِ أَبي طالبٍ، ومازالُوا يَجْتهِدُونَ، ويَعْترِضُ
أَحكامَهم، فيُقِرُّهم عليها؛ فمن ذلك: حكمُ علي في
الزُّبْيَةِ (1) التي وَقَعَ فيها ثلاثة؛ واحد على آخرَ،
فهَلَكُوا (2). وقولُه (3 لسعدِ بن معاذ 3): "يا سعد، لقد
حَكَمْتَ بحُكْمِ الله من فوقِ سَبْعةِ أَرْقِعَةٍ (4) ". (3
وقال معاذٌ حينَ بَعَثَه إلى اليمنِ:3) أَجتهدُ
__________
(1) الزُّبيةُ: حُفرة تُحفر وتُغَطى ليقع فيها الأسد أو غيره
فيُصاد.
(2) في الحديث أنهم أربعة، أخرجه أحمد (573) و (574) و (1063)
و (1310)، والبيهقي 8/ 111، والطيالسي (114)، وابن أبي شيبة 9/
400 من حديث علي.
(3 - 3) خرم في الأصل.
(4) أخرجه بنحوه أحمد (11168)، والبخاري (4121)، ومسلم (1768)
(64)، وأبو داود (5216)، والنسائي في "الكبرى" (8222) من حديا
أبي سعيد الخدري.
(5/406)
رايي، فقال: "الحمدُ لله الذي (3 وَفَقَ
رَسُولَ رسولِ الله لِمَا يُرْضِي رَسولَ 3) الله" (1).
فصل
في جمع شبههم
فمنها: (3 قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وأَمره أَن يقول:
{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، وهذا
ينفي القولَ بالاجتهادِ، ويوجِب أَنَّه لايقول إِلاًّ عن وحي.
فيقال: نحن قائلون بالآية، وأَنَّه - صلى الله عليه وسلم -
لايَنطِقُ عن الهوى؛ لأَنَّ الهوى هو ما تهواه الأَنفسُ،
والقول بالاجتهاد استنباطٌ مما أَوحى الله سبحانه إليه،
فانتزعَ من المنطوقِ علَّةً يُعَدِّي بها الحكمَ إِلى المسكوت،
وهذا لايسمَّى هوىً، ولا يَخرُجُ عما أَنزلَ الله وأَوْحى.
وأما الآية الأخرى، فلا حجَّةَ فيها؛ لأَنهبم قالوا: {ائْتِ
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، فنفى
التبديلَ من عنده، والاجتهادُ تاويلٌ، وليس بتبديلٍ.
ومنها: أَن قالوا: إِنَّ الاجتهادَ طريقُه الظنُّ، والنبيُّ
قادرٌ على القطع، ومَنْ قدرَ على القطع، لايجوزُ له سلوكُ ما
طريقُه غلبةُ الظنِّ.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 5.
(5/407)
فيقال: إِنَّ النبيَّ لايقال: إنَّه قادر،
بل راج لنزو الوحي، وإِلاَّ فأَيُّ قدرةٍ له على نزول حبريلَ
عليه، وإِنزال الله إليه؛ بلِ ذلك إلى الله تعالى، يوضح هذا:
قولُه إِخباراً عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا
بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]، وإنَّما غايةُ مايقال: إنه -
صلى الله عليه وسلم - إِنَّما (1) يَتَرجَّى ويتَوقعُ نزولَ
الوحي عليه، وهذا أَمرٌ لايمنعُ من الاجتهادِ فيما لم يَنزِلْ
فيه وحي، ولم يُتلا فيه نصٌّ، أَلا ترى أَنَّ آحادَ أُمته من
أَصحابِه ومعاصريه قادرونَ على سؤالِه عن أَحكام الحوادثِ التي
لانصَّ فيها عندهم؛ كمعاذٍ لما بعثه إِلى اليمن، أَقرَّه على
قوله: أَجتهدُ راي، ومدحَه على ذلك، وسماه موفقاً، وكان في
إمكانِ معاذٍ الكتابةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
بالسُّؤال، لكنَّه لم يُوجِبْ عليه ذلك، ولا منعَه من
الاجتهادِ مع وجودِ هذا الطريق، وكذلك سماعُ الصَّحابةِ بعضهم
من بعضٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخبرُ الواحد عنه
ظنٌّ، وسؤالُه وجوابُه لسائِله قطعٌ، ومعٍ هذا سَمِعُوا
الأَخبارَ في مدينتِه عنه، ولا إِنكار منه لذلك، ولاحثّ أَحدا
منهم على العدولِ عن سماع الخبرِ عنه إِلى سماع القول منه.
ولأَنَّ الله سبحانَه كان قادراً على جعل طريقِ الأَحكامِ
كلِّها النصَّ القاطعِ، ثم إنَّه غاير بين الطرق إِلى
الأَحكام، فجعل بعضَها نصاً، وبعضَها ظاهراً، وبعضها وَكَلَهُ
إِلى مجرَّد الاجتهادِ، وهو عُرضةُ الخطأ؛ فإمَّا أَن يكونَ
ذلك تحَكماً منه سبحانه، فلا يُستنكَرُ أَن يفعلَ في حقِّ
نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ما فعلَ في حقِّ الأُمَّةِ، ولا
فرقَ في التشريع بين ما يَعُمُّ أَو يَخُصُّ، أَو يكونَ
__________
(1) في الأصل: "إنه".
(5/408)
دْلك معلَّلاً بأَنَّه سبحانه قصدَ تكليف
ذوي العقولِ استخراجَ المعاني، واستنباطَها من النّصوص
والظَّواهر؛ ليُثيبَهم بذلك الاجتهاد الذي هو أَعمالُ القلوبِ،
كما أَثابهم على أَعمال الأَبدان، وكلُّ ذلك جائزٌ على الله
سبحانه، حسنٌ في العقل، لا يمنعُ منه مانعٌ، ولا يناقضُ أَصلاً
من أُصولِ الشرع.
ولأَنَّه يجوزُ أن يَحْكُمَ بنص واقعةٍ أَو حادثةٍ مع تجويزِه
أن ينسخَ الله ذلك النَّصَّ بغيره، ممَّا يُوجِبُ تغييرَ حكمِ
ذلك النصِّ، وكذلك في أَعصارِ الصَّحابة والتابعين بعدَه،
يجوزُ الاجتهادُ لكلِّ واحدٍ منهم في صُقْعِهِ وزاويته، وإن
جازَ أَن يكونَ قد سبق اجتهادَه ما يجري مجرى النَّص في
العصمةِ والقطع، وهو الإِجماعُ على حكمِ الحادثةِ.
ومنها: أَنّه لو كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحكم
بالاجتهادِ، ما كَفَرَ مَنْ خالفَ أَمرَه، ولمَّا أَجمعنا على
أَنَّ مَنْ خالفَ أمرَه كفرَ، كان ذلك دليلاً على أَنَّ أَمره
لايقعُ عن طريقٍ مظنونٍ؛ لأَنَّه إِنَّما يَكفُرُ الإِنسانُ
بمخالفةِ القطع.
والجواب: إِنما كفرَ بتكذيب ما ضمنَ الله سبحانَه عصمتَه،
وإقامةَ الدلالةِ القاطعة على صدقِه، وبقوله: {مَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
[الحشر: 7]، ولا علينا ممَّن صَدَرَ ولا عمَّا صدرَ؛ كالإجماع
إِذا كان على حكم، وجبَ اتباعُه، وإِن كان الإِحماع قد يصدُرُ
عن قياسٍ، أَو خبرِ واحدٍ، وهو مثلُ الإِجماع، من حيث إِنَّ
الإِجماعَ معصومٌ عن الخطأ، والنبيُّ لايُقَرُّ على خطأ.
ولأَنَّه يجوزُ أَن يكونَ كفرُه بم لأَجل أَنَّه كما يُخبِر عن
اجتهاده، قد يُخبِرُ
(5/409)
عن الوحي، فإِذا ردَّ قوله، فقد ردَّ ما يجوزُ أن يكون وحياً
(1) من الله سبحانه. |