الواضح في أصول الفقه

فصل
هلِ الأصل في القياسِ الشرعيِّ النصُّ، أوْ حكمُ النصِّ؟ وأيهما يقعُ الاستنادُ إليه؟
اختلفَ أهلُ الأصولِ في ذلكَ:
فقالَ قومٌ: الأصلُ النصُّ والنطقُ.
وقالَ قوم: الحكم.
والذي اخْتارُهُ: أَنَّ الأقربَ هوَ المستندُ، والأصلَ هوَ حكمُ النْصِّ وعلتُه.

(5/490)


فصل
والدلالةُ على ذلكَ: أنَّ عادةَ أهلِ العلم، لاسيَّما هؤلاء أهل الأُصولِ والجدلِ: لايضيفونَ الأمرَ إلاَّ إلى الأقربِ، فإذا وردَ الخبرُ بنهي أو تعليل، أضافوا الحكمَ إلى علتِه، ولا يضيفونَهُ إلى النصِّ، بلْ إلى الحكمِ أوِ العلَّةِ، ولهذا يستقبحونَ قولَ القائلِ، إذا سُئلَ عَنِ الإجماع: هلْ هُو حجَّة؟ أنْ يقولَ القائلُ: نعمْ، فيقالَ لَهُ: ما الدليل؟ فيقولَ: إثباث الصانع الحكيمِ، فإذا قيلَ لَهُ: أين الإجماعُ إلى إثباتِ الصَّانع؟ فيقولَ: لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أمتي لاتجتمعُ على خطأ"، ورويَ: "على ضلالةٍ" (1)، وإنما عرفنا صدقَه؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالمعجزِ الذي هو خصيصةُ فعلِ اللهِ سبحانه، وهي خرقُ العاداتِ، ولايكونُ خرقُ العادةِ دالاَّ على صدقِ مَنْ جاءَ بهِ إلاّ أنْ يسبقَ أنَّ المقيمَ لَهُ والمؤيدَ لَهُ حكيمٌ، لايؤيدُ كَذاباً بالمعجزِ، فهذا اَلتسلسلُ لايسلكُه أحد لإثباتِ حجَّةِ الإجماع، ولذلكَ لايحسنُ بالإنسانِ [أن] ينتسبَ إلى أدمَ ونوح، ويقولَ: مِنْ أولادِ الأنبياءِ، لكنْ يَنْتَسِبُ (2) إلى الأبِ الأقربِ، ويصيرُ الأبعدُ لا حكمَ لَهُ، حتى إنه يشرفُ بانتسابِهِ إلى هاشمٍ وعلي والعباسِ، وهم الآباءُ الأقربون (3)، ولايشرفُ بالأنبياءِ منَ الآباءِ الأباعدِ المتقدمينَ.
__________
(1) تقدم تخريجه 5/ 106.
(2) في الأصل: "ينسب".
(3) في الأصل: "الأقربين".

(5/491)


فصل
هلْ يجوزُ ويمكنُ أنْ ينصَّ الشرعُ على كل الأحكامِ التي للهِ سبحانه في الحوادثِ، حتى لايبقى لمجتهد في ذلكَ قول، وتتعطل آراءُ المجتهدينَ في الحوادثِ؟
قالَ بعضن الناسِ: لايجوزُ.
وعندنا: أنه يجوزُ ذلكَ، واعتلَّ أصحابُنا في تجويزِهِ عقلاً: بأنَّ الله سبحانَهُ أَحْوَجَ إلى الآراءِ والاجتهاداتِ في الحوادثِ، بأن لاينصَّ عليها، وفي (1) ذلكَ الحكمة البالغة؛ حيثُ أظهرَ جواهرَ المجتهدينَ باستخراج أحكامِ شرعِهِ باستنباطِهم، كما قالَ سبحانَهُ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ويثيبهم (2) على اجتهادِهم، كذلكَ لَهُ في تجويزِ تعميم (3) الأحكامِ بالنصوص الغنية عنْ الاجتهادِ صيانةٌ لهمْ عَنِ الخطأِ، فإنَّ الاجتهادَ وإنْ كانَ طريقاً للإصابة؛ فإنه عرضةُ الخطأِ، وترفيهُهم (4) عن كدِّ التأويلِ، وتعب الاستنباطِ فيه، وفي كلا الأمرينِ حِكمة بالغةٌ، وكرامة نافعة، فهذا في التجويزِ عقلاً.
وأمَّا الدلالةُ على الإمكانِ خلافاً لمنْ منعَ الإمكانَ، فإنَّ القادرَ على أنْ
__________
(1) في الأصل: "ففي".
(2) في الأصل: "ويثبهم".
(3) في الأصل: "نعيبم".
(4) في الأصل: "وترفههم".

(5/492)


يمنَحَ العلماءَ فُهُوماً يستنبطونَ بها معانىَ توجبُ الأحكامَ، ويصرحون (1) ويفتون (2) بالفتاوي، قادرٌ على إخراج الأحكامِ إلى الأفهامِ بنصوص يعدها لكلِّ حادثٍ يحدثُ منها، وقدْ ذكرَ ذلكَ، وأخبرَ بهِ، حيثُ قالَ فيما يزيدُ على الأحكام: {وَوَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} إلى قولِهِ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، والكتاب نفس النصوصِ، وإذا كانَ عالماً بما يحدثُ منها، كاتباً في اللوح ما أملاهُ مِن معلوماتِهِ في خلقِهِ، كانَ الإمكانُ للتنصيصِ على جميع حوادثِ الأحكامِ حاصلاً في حقه سبحانَة.

فصل
في شبهةِ المخالفِ
قالَ: الخارجُ إلى الوجودِ على سبيلِ الأعداد والحصول متناهٍ، وهوَ في المثال ما ذكرتَ منَ اللوح المحفوظِ، وهو جسمٌ متناهٍ، وإنْ كبرَ وعظمَ، ولكنًّة ينتهي إلى حد، والمتُجدِّداتُ منَ الحوادثِ لا نهايةَ لها، وكيفَ ينطبقُ متناهٍ على غيرِ متناهٍ؟! ولهذا يمتنع أنْ يكونَ اللوحُ المحفوظ حاوياً لآحادِ نعيمِ أهل الجنة، لأنَّ نعيمَ أهلِ الجنةِ لاغايةَ لآحادِه؛ بل هو مارٌّ مسلسلٌ إلى غيرِ غايةٍ، فكيف ينطبقُ عليهِ مسطورٌ لَهُ غايةٌ؛! وليسَ لنا وجود شيءٍ لاغايةَ لَهُ حاصلٌ سوى القديمِ سبحانَة، فمِنْ هذا الوجهِ استحالَ تحصيل نصوصٍ في حوادثَ لاغايةَ لها.
__________
(1) في الأصل: "يصرحو".
(2) في الأصل: "وينعنون".

(5/493)


فصل
في جوابِنا عنِ الشبهةِ
وهوَ أنْ يقالَ: بأَنَّ حوادثَ المسائلِ التي نحنُ فيها حوادثُ في زمنِ التكليفِ، وللتكليفِ غاية هو القيامة، وليسَ بعدَ القيامةِ حوادثُ يكلَّفُ الناسُ فيها ولأجلِها فعلٌ، ولا تركٌ، وإذا كانَ لها غايةٌ انطبقَ عليها ما يخرجُهُ الله منَ النصوصِ التي لها غاية، فبطلَ المعنى الذي أَحَلْتَ تحصيلَ النّصوصِ لأجلِهِ، ولوْ كانَ الله سبحانَة يديمُ التكليفَ تقديراً، لقَدرْنا أيضاً أنهُ يحدثُ نصوصاً بحَسَبِ امتدادِ الحوادثِ، فالغاية منَ النّصوصِ للغايةِ من الحوادِث، إلى المعلومةِ، إلى يومِ القيامةِ، والحوادث المقدرةُ لا يستحيلُ على اللهِ سبحانَهُ أنْ يمدَّ بنصوصٍ إلى غيرِ غايةٍ، كما يمدُّ بنعيمٍ إلى غيرِ غايةٍ، فبطلَ ما تعلقَ به المخالفُ.

فصل
في تعلُّقِ الحكمِ الشَّرعى بعلتينِ وأكثر، فذلكَ جائز عندَ جمهور الفقهاءِ (1) والأصوليينَ، خلافاُ لبعضِ الأصوليينَ (2).
والدلالةُ على جوازِ ذلكَ: أنَّ عللَ الشَّرع أمارات، فهي كأماراتِ الكائناتِ؛ كمجيءِ المطرِ، ووقوع الحربِ، وحصولِ المرضِ؛ فإنَّ الغيمَ الكثيفَ أمارةٌ ودلالة على مجيء المطرِ، وقدْ ينضمُّ إليه الهواءُ النديّ، وتتابعُ
__________
(1) انظر "المسودة" (416).
(2) إنظر "إرشاد الفحول" (209).

(5/494)


الرعدِ، وكونُ البرق متشققاً، وهذهِ أماراتٌ متعددةٌ مؤذنة بالمطرِ الموازن بحكمِ عللِ الشرع، وكذلكَ حصولُ المنافرةِ بين الحيين، وذكرُ الحقائدِ القديمةِ والثارات، ثمَّ جمعُ الخيلِ والرجل، والوعيدُ باللقاء (1. . . . . .1) مؤذنٌ بالحرب وبتكسر البدنِ، وألم الأعضاءِ، وتكررُ التمطي مؤذنٌ بالمرضِ، فعللُ الشرعِ كذلكَ؛ فإنَّ الزنى من المحصنِ، معَ القتلِ في المحاربةِ، معَ قتلِ الكافىء عمداَ محضاً ظلماً وتعدياً، مؤذنٌ بإباحةِ إراقةِ الدمِ، بلْ بوجوبِهِ، وهذهِ عللٌ عدةٌ، والحكمُ واحدٌ.
وفارق العللَ العقليةَ التي (2) تستقلُّ بمعلولها، ولا يتصورُ اعتقادُها في معلولها بغيرِها، كالحركةِ لا توجبُ إلاَّ التحركَ، ولا معلولَ لها (3) سوى التحركِ، والسوادُ يوجبُ كونَ الجسمِ أسودَ، ولا يشركُه غيرُه في كونِ الجسمِ أسودَ، لَمَّا كانت موجِبةً، لم يُتصوَّرْ موجِبٌ آخرُ يعضدُها.

فصل
في شبهةِ المخالفِ
قالوا: هيَ وإنْ كانت أماراتٍ، إلاَّ أنَّها موجبة لمصالحَ، ودافعةٌ لمفاسدَ، وليست من جنسِ ما ذكرتَ منَ الأماراتِ السَّاذجةِ العاطلةِ من إيجابٍ، فإنَّ صاحبَ الشَّرع إذا قالَ: لايحلُّ وطءُ مَنْ رأتْ دمَ الحيضِ أوِ النِّفاسِ، ولا مَنْ أَحرمَتْ بالحجِّ، فإنَّ المتعةَ بها مَفْسَدَةٌ في الدينِ، كانت
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "الذى".
(3) في الأصل: "معلولها".

(5/495)


كل واحدةٍ منْ هاتينِ العلتينِ -أعني: الحيضَ والإحرامَ- ميستقلَّةً بتحصيلِ المفسدةِ وتأثيرِها، وما كانَ مستقلاً بالحكمِ وحدَهُ، لايتصور اثنانِ منْة يجتمعان في التأثيرِ، كالفعلِ بينَ فاعلينِ، والمقدورِ بينَ قادرينِ؛ لما استقلَّ كلُّ قادَرٍ بكل الفعلِ والحكمِ، فلا ينقسمُ أيضاً، فيقعُ بعضه بعلةٍ، وبعضُه (1. . . . . . . . . .. . 1) ثُمَ إنَّ هذه العللَ الشرعيةَ تتساعد (2) فيها الأوصافُ العدَّةُ، فتكونُ العلةُ ذاتَ وصفينِ وثلاثةٍ وأربعةٍ، مثل قولِنا: سرقَ نصاباً، من حِرْزِ مثلِهِ، لاشبهةَ لَهُ فيهِ، وهوَ مِنْ أهلِ القطع، وقَتَلَ من يُكافِئُه ظلماً لاستبقاءِ نفسِهِ، كلُّ واحدٍ مِنَ الأوصافِ مؤثرٌ لايجوز أنْ يكونَ حشواً معطلاً مِنْ مناسبةٍ للحكمِ وتأثيرٍ، بخلافِ العللِ العقليةِ التي لا تحتملُ التساعدَ (3) بالأوصافِ أصلاً.
ثُمَّ إنَّ عللَ الشرع قدْ تكونُ مشروطةً بشرطٍ (4) وشرطين، مثلُ:
إيجابِ الرجمِ، يقفُ على كونِ المحدودِ حُرّاً، وعندَ قومٍ: مسلماً، ثمَّ يكون قدْ وَطِئَ في نكاح صحيح، وعلل العقلِ تجلبُ معلولَها بنفسِها، بغيرِ أوصافٍ ولا شروطٍ.
وأمّا ما ذكرتَ منَ استقلالِها بالحكمِ، وأنَّ ذلكَ يحيلُ مساعدةَ أخرى مستقلةٍ بالحكم، كما ذكرتَ مِنَ المقدورِ بينَ قادرينِ، فماْ تنكرُ أنْ تكونَ
__________
(1 - 1) طمس في الأصل. بمقدار سطر.
(2) في الأصل: "ساعد".
(3) في الأصل: "للتساعد".
(4) في الأصل: "لشرط".

(5/496)


عندَ انفرادِها تستقلُّ، لكن (1) إذا انضمَّ غيرُها إليها، صارتا جميعاً في جلبِ الحكمِ كوصفين لعلةٍ واحدةٍ في التساعدِ؟ وهذا صحيحٌ، فإنَّها مجعولة، ألا تراها تكونُ علةً في بعض الأزمانِ دونَ بعضٍ؛ كشدةِ الخمرِ الموقعةِ للعداوةِ والبغضاءِ، ما تزال كذلكَ مؤثرةً لمعلولِها في الطباع القابلةِ للإسكارِ والعربدةِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرعَ جعلَها في وقتٍ مخصوصِ موجبةً لأحكامِها؛ منَ التنجيس، والتحريمِ، وإيجابِ الحدِّ [و] إذا كانت مجعولةً، لم يُستبعدْ أنْ يقول: حَرَّمت الاستمتاعَ بهذِه المرأةِ الحائضِ؛ لأجل قيام الحيض بها، وكونِه أذىً، فإذا أَحْرمت، حَرَّمت المتُعةَ بهذين الأمرين جميعاً: الحيضِ، والإحرامِ، والمقدورُ بين قادرين ليسَ هو بالجعلِ والوضع، بلْ من أَحالَهُ، جَعَلَهُ ممتنعاً لمعنى يعودُ إلى نفسِهِ وذاتِهِ.

فصل
في الاستدلال هلْ هُوَ قيال أم (2) ليسَ بقياسِ؟
مثالهُ: أنْ يعللَ في طَهارةِ الهر؛ بكونِها منَ الطوافينَ والطوافاتِ، فيحكمَ المعللُ بأنَّ الفأرةَ طاهرةٌ مقيسة على الهرِّ بعلةٍ جمعتْ بينَهما، وهي (3) التطوافُ الذي يشقُّ معَهُ حفظ المائعاتِ التي في بيوتِ الناسِ عنْها، كما يَشُقُّ الاحترازُ (4) منَ التحفظِ عَنْ نظرِ الأطفالِ والعبيدِ؛ بقولِهِ:
__________
(1) في الأصل: "ممن"
(2) في الأصل: "امر".
(3) في الأصل: "وهو".
(4) في الأصل: "الاحراز".

(5/497)


{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، وذكَرَ أوقاتاً (1) يكونُ الإنسانُ فيها نائماً (2) متكشفاً باديَ العورةِ، ثُمَّ عللَ، فقالَ: {ثلاثُ عَوْراتٍ لكم} [النور: 58]، فلأجلِ ذلكَ وجبَ استئذانُ منْ يتولجُ البيوتَ في غيرِها منْ أوقاتِ التحفظِ.
فمذهبُنا: أنهُ ليسَ بقياسٍ، وهوَ مذهبُ جماعةٍ منَ الفقهاءِ.
وقالَ قومٌ مِنَ الفقهاءِ، وأهلِ الجدلِ: هوَ قياس.

فصل
في الدلالةِ على مذهبنا
هو أنَّ هذا الحكمَ دخلَ تحتَ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - "اليسَ بنجسٍ، إنْها منَ الطوافينَ عليكمْ والطوافاتِ" (3)، فعمَّ هذا الطوافُ كلَّ طائفٍ، فغنِينا بالعمومِ مِنْ صاحبِ الشرع عن أنْ نُعلقَ الحكمَ على قياسٍ مستنبطٍ، وإلحاق الفأرةِ بالهر (4) إلحاقَ الفروع بالأصولِ؛ إذ كانَ العمومُ منتظماً لهما، فَكانا أصلينِ في المعِنى، وصارَا في انتظامهما في العموم كالأجناسِ الست في انتظامِها بالنص؛ لايقال في الشعير: مكيل جنس (5)، فَحَرُمَ
__________
(1) في الأصل: "اوقات".
(2) في الأصل: "ماثما".
(3) تقدم تخريجه 2/ 108.
(4) في الأصل: "بالنفس".
(5) غير واضحة في الأصل.

(5/498)


التفاضلُ فيه كالبر، وما أخرجَ هذا أنْ يكونَ قياساً إلاَّ انتظامُ الشعيرِ والبرِّ جميعاً في نصِّ صاحبِ الشرع، فكانَ دخولُ الشعيرِ في نصِّهِ كدخولِ الحنطةِ، فلمْ يكنْ كون الحنطةِ أصلاً بأَوْلى من أنْ يكونَ الشعيرُ أصلاً للحنطةِ؛ لدخولهما جميعاً تحتَ النصِّ، كذلكَ ما دخلَ في العمومِ استغنى عنْ قياسِ أحدِ الداخلين على الآخرِ؛ لوجودِ التطوافِ المصرَّح بِهِ على الفأرةِ، كدخولِهِ على الهرِّ، ودخولُ الفأرةِ فيهِ كدخولِ الهرِّ، فلمْ يبقَ معَ هذهِ الجملةِ إلاّ أنْ يكونَ القياسُ مثلَ رؤية النعاسِ الشديدِ، والجوع المفرطِ، والخوفِ المحفزِ، والحزنِ، في حقِّ القاضي يقاسُ على الغضبِ؛ حيثُ قالَ - صلى الله عليه وسلم -:"لا يقضي القاضي حينَ يقضي وهوَ غضبانُ" (1)، فلمّا كانَ الجوعُ والخوفُ والحزنُ غيرَ داخلٍ في عمومِ قولِهِ: "وهوَ غضبانُ"، كانَ منعنا لَهُ منَ القضاءِ معَ هذهِ الأحوالِ مقيساً على الغضبِ بعلَّةٍ مستنبطةٍ منْ جهتِنا، حيثُ رأيْنا أنَّ كلَّ واحدٍ منْ هذهِ الأحوالِ مانعاً لَة منَ الثباتِ لفصلِ الأحكامِ، والاعتدالِ الذي يتأتى معَهُ النَّظرُ في حكمِ القضية، والاستدلال، والسلامة من التضجرِ والتبرمِ، والاستعجالِ المانع منَ الموعظةِ لمَنْ عزمَ على اليمين، والتخويفِ باللهِ، فهذا وأمثالُهُ منَ القياسِ، والله أعلمُ.

فصل
لايجوزُ للعاميِّ أنْ يقلِّدَ في التوحيدِ والنُّبواتِ، وهوَ مذهب الفقهاءِ،
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 525.

(5/499)


وأهلِ الأصول والكلامِ، خِلافاً لما حكيٍ عن بعض أصحابِ الشافعيِّ: يجوزُ تقليدُهُ في ذلك، ولم يختلفوا في أنه ليسَ لَهُ أنْ يقلِّدَ في أصولِ الشَّريعةِ، كوجوبِ الصَّلواتِ، وأعدادِ الركعاتِ (1).

فصل
الدلالةُ على المنع مِنْ ذلك
إنَّ المأخوذَ على المكلَّفِ من هذهِ الأمورِ العلمُ، والمقلِّد لايحصلُ له العلمُ بصحَّةِ قولِ مَنْ قلدَ، بلْ يجوزُ عليهِ الخطأ، وركوبُ الهوى، لأجلِ ذلكَ [مَن] لم يُجِزْ تقليدَهُ في أصولِ الشَّريعةِ، فقدْ ناقضَ، لأنَّ المعرفةَ بوجوبِ الصَّلاةِ والصِّيامِ لاتصحُّ إلاً بعدَ المعرفةِ بصدقِ مَنْ جاءَ بها وبوجوبِها، فإنْ قلدَ في صدقِهِ، فقدْ قلدَ في وجوبِ جميع ما جاءَ بِهِ، وإنْ جازَ أنْ يعلمَ صدقَهَ بالتقليدِ، جازَ أن يعلَم أصولَ الشَّريعةِ بالتقليدِ.

فصل
في شبهةِ مَنْ خالفَ في ذلك
إنَّ الأصولَ أدلَّةٌ تدقُّ عَنْ فهمِ العوامِّ، فاحتاجوا إلى تقليدِ العلماءِ.
ومِنْ ذلكَ: أَنَّ تكليفَ العوامِّ استخراجَ الأدلة يقطعُهم عَنِ الأشغالِ والمعايشِ، وبهذِه العلة جوَّزْنا التقليدَ للعوامِّ في فروع الدينِ، فإنا لو كلفنا جميعَ العوامِّ الاجتهادَ، لكَلفْناهم التفقهَ، وذلك يقطعهم عَنْ عمارةِ الأرضِ، وملابسةِ المعايشِ والتجائرِ.
__________
(1) انظر "المسودة" (457)، والعتمد 2/ 941.

(5/500)


فصل
في الجواب عَنْ شبههم
أمَّا الأول، فإنَّ دلائلَ الأصول وإنْ كاَنَتْ دقيقةً، إلاَّ أنَّ طريقَها العقلُ، والعقلُ يتساوى فيه جميع الأنامِ من خواص وعوام، ولوْ صرفُوا عنايتَهم إلى ذلكَ؛ لتمَهَّرُوا فيهِ، ألا تراهُمْ لمَّا صرفُوا همَّتهم نحوَ الصَّنائع الدقيقةِ والتجائر، [مهروا فيها]، وليسَ في علمِ الأصولِ المأخوذِ اعتقادُها ما يطولُ، فيقطعُ الزَّمانَ، ويعطِّلُ عَنِ الأشغالِ، وإنّما هو حدثُ العالمِ، وأنَّ لَهُ مُحْدِثاً، وأنَّه مستوجبٌ لصفاتٍ مخصوصة، ومُنزهٌ عن صفاتٍ مخصوصةٍ، وأنَّه واحدٌ في ذاتِهِ وصفاتِهِ، وهذا معَ الأيام لو جعلَ (1) لهُ لحظةً في تصاريفِ الأيامِ، لأَتى على القصودِ مِنَ الإثباتِ.
ولأنَّه ينقلبُ عليهمْ في التقليدِ، فيقالُ: إنْ قَلَّدَ واحداً (2) دونَ غيرِه، فلا بُدَّ أنْ يكونَ للذي يقلِّدُه معنىً خصَّهُ بجوازِ التقليدِ أو وجوبهِ لَهُ دونَ غيرِهِ، فإذا كانَ كذلكَ، فلا بُدَّ مِنَ النَّظرِ في رجلٍ يصلُح أنْ يُقلِّدَه، وذلكَ لا يتحصَّلُ إلا بنوع تأمُّلٍ وترجيح، وذاكَ أيضاً لابُدَّ فيهِ مِنْ معرفةِ ما يرجحُ بهِ الأشخاصُ، ولأنَّ العقلَ محثوثٌ على الاحتياطِ والاحترازِ، وآكدُ الاحتياطِ ما ينجي مِنْ سوءِ العاقبةِ، ويعودُ بالعيشِ السَّالمِ، والنعيمِ الدائمِ، وقد استطارت دعوى الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهمْ في سائرِ الأقطارِ؛ بالتخويفِ منَ النَّارِ، وبالبعثِ بعدَ الموتِ؛ للمناقشةِ في الحسابِ، والمجازاةِ
__________
(1) في الأصل: "فعل".
(2) في الأصل: "واحد".

(5/501)


على الأعمالِ، ومثل ذلكَ لوْ لم يثبتْ بدليلِ الإعجازِ، بلْ كانَ قولاً بغير حجةٍ، لأفزعَ العاقلَ إلى النظرِ لنفسِهِ، والتحرُّزِ (1) والاحتياطِ لعاقبتِهِ، كما قالَ سبحانَهُ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وقال في حقِّ نبيِّنا صلواتُ اللهِ عليه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57]، وإذا كانَ في العقلِ باعثٌ يبعثُ على التحرزِ، فليسَ دعاءُ الأنبياء بما جاؤوا بِهِ بأقلَّ مِنْ قائلٍ على طريقٍ: يا قوم، تزوَّدُوا لهذا الطريقِ، وتحَرَّزُوا (1 فإنه مَهْلكة، فيأخذ القوم في التحرُّزِ و 2) الاحتياط لقولِ ذلكَ القائلِ مِن غيرِ حجَّةٍ، فهلْ يجوزُ أنْ يُشْغِلَ عنْ هذا النوع مِنَ النظرِ للنفوسِ والاحتياطِ معاشٌ؟ أو يجعلُ العاقلُ دَأبَه العملَ بالفكرِ والبحثِ والنظرِ لعاقبتِهِ، ويجعلُ لذلكَ نصيباً منْ أوقاتِهِ، وإخلاء بعض زمانِه، فأمَّا اطِّراحُ ذلكَ، وتقليدُ الرِّجالِ فيهِ، [فلا]، ولو (3) كانَ ذلكَ كذلكَ، لكانَ أحقَّ مَنْ قُلِّدَ الأنبياءُ صلواتُ اللهِ عليهم، ومعلوم أَنَّ الله سبحانَهُ لم يقنعْ للخلقِ بمجردِ دعايتهم، وحسنِ طريقتِهم بما يغلبُ على الظّنونِ صدقهم، حتى أيَّد ذلكَ بالمعجزاتِ القطعيةِ، والبراهينِ الخارقةِ، فليسَ هذا مِنَ النَّظرِ في الفقهِ وأدلتِه في شيء؛ فإنَّ طرقَ ذلكَ كثيرة مختلفةٌ، ثُمَّ بعدَ تحصيلِ الطرقِ يحتاجُ إلى النظرِ، وً طريقُ هذه الأصولِ إنما هي العقولُ، وقد تساوى فيها المكلَّفونَ، ولايحتاجُ معها إلى سواها، فلا وجهَ لتقليد مساوٍ فيها، كما لايجوز للعالمِ بالفروع والأصولِ
__________
(1) في الأصل: "والمتحرز".
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) في الأصل: "فلو".

(5/502)


تقليدُ مساويهِ وعلمِهِ (1).
واحتجَّ بعض المخالفينَ في هذا الفصلِ؛ بأنْ قالَ: المقصودُ ثقةُ النفسِ إلى المعتقد وسكونُها، وإذا وجدَ ذلكَ، سقطتِ الطرّقُ؛ لأنَّ الطرقَ لا ترادُ لأنفسِها، إنَّما ترادُ لدَرْكِ الغايةِ، والغايةُ في المقصود، فسواءٌ حصلَ بالسكون والثقةِ بقولِ شخصٍ، أو بنظرٍ يحصلُ من النفس أو بإلقاءٍ يُلقيه البارئ في القلوبِ، فتزول معه الشبه في نفوسِهم والريب، وهذا التقليدُ أمر يحصلُ به سكونُ نفوسِ العوام، حتى أنَّ ما وَقَرَ في نفوسِهم لا يزولُ، وكثير منهم تُوفِّيَ على ثقةِ العلماءِ بما علموه بالأدلَّة القاطعة، فإنَّ العلماءَ تَعترضُهم الشبه فيما اعتقدوه، فالواحدُ منهم يذهبُ إلى مذهب يطمئن إليه، ثم يعرض له مذهبٌ آخرُ، والعاميُّ الناشئ في بيعةٍ عتيقة، أو كنيسةٍ، لاتستنزلُهُ عنْ دينهِ كلُّ حجَّةٍ، وإنْ ظهرتْ للعقولِ ظهورَ المحسوسات للحواسِّ، وكذلك مَنْ نشأ ببلاد الرَّفضِ لاتستنزله أدةُ السنةِ عَن اعتقادِ الرفضِ، ومن نشأ في بلادِ الخوارج لا تَسْتَنزلُهُ أدلَّةُ الحجج عنِ المناصبةِ لعليٍّ وأهلِ البيتِ، كلُّ ذلكَ للثِّقةِ. بمنْ قلَّدُوهُ.
والجوابُ: أنَّ الثقةَ لابطريقٍ، تبخيتٌ (2)، والتبخيتُ لا يرضى به العقلُ طريقاً، وإنْ حصلَ مِنْ طائفة الثقةُ به، فقدْ حصلَ مثل (3) ذلك منَ النِّساءِ بضربهنَّ بالحصى، ومنَ الأكرادِ في إِشعار الكفِّ، ومِنْ قومٍ بزجرِ السعيرِ، ومِنْ قومٍ بزجرِ الطائرِ، وأنسوا بالفألِ، وعوَّلُوا على الحذرِ بالطِّيَرةِ، وأنسَ
__________
(1) في الأصل: "عمله".
(2) أي اعتماد على الخط، فالبَختُ: الجد والحظ: "القاموس": (بخت).
(3) في الأصل: "منك".

(5/503)


قومٌ بالسِّحرِ، وأنسَ قوم بالشعاوذِ، واعتقدوا أنّه لافرفَ بينَها وبينَ معجزاتِ الأنبياءِ صلوات اللهِ عليهمْ، وبنَوْا على ذلكَ أمورَ الدينِ والدنيا، واستباحوا به الفروجَ والدماءَ، وأخذَ قومٌ بقولِ القائفِ في الأنسابِ، وقومٌ باللوْثِ فِى إراقةِ الدماءِ، وأنس قومٌ إلى المنامِ والأحلامِ، وبنَوْا على المنامات في الاعتقاداتِ، وأخذَ قوم بشواهدِ الأحوالِ، وأنكرَ قوم درك الحواسِّ ونقولَ الحقائقِ بما تخيَّلَ وتطرق على المدارك من العوارِض والاختلال، فأفسدوا المدارك الأصليةَ معَ السلامةِ والاعتدالِ بتطرّف العوارضِ، وأَنِسوا بذلك أنساً أزالوا (1) به أصلَ ما استدوا بهِ، فقالوا: أَيُّ ثقةٍ لنا أن القمرَ وأحدٌ والأحولُ يراه قمرَيْنِ؟! وأيُّ ثقة لنا بأَنَّ العسلَ حلوٌ والممرورُ يُدرِكُه مُرّاً؟! وأيُّ ثقةٍ لنا (2 أن العودَ مُستقيم، وهو 2) يرى في الماء مكسوراً مُتعرِّجاً؟!، وأيّ (2 ثقةٍ لنا أن الدارَ ثابتة 2)، والمدار به يرإها دائرةً، ويرى نفسَه غيرَ ساكنة، بلْ يُدار بها، وإلى أمثالِ ذلكَ، فجمعوا العاهات العارضةَ على الحواسِّ بآفاتٍ تتجدَّدُ على الأمزجةِ، هلْ كانَ ذلكَ عندنا وعندَكم طريقاً (3) يؤخذ بِهِ، ويعولُ عليه؟ فمنْ قولِكمْ: لا، فيقالُ: فقدْ بطلَ تعلّقُكم بثقةٍ تحصلُ منَ المقلدينَ أنساً إلى غيرِ طريقٍ، ولا مخلصَ لَهُمْ مِنْ هذا، والله أعلمُ.
وصلواته على سيدنا محمدٍ النبيِّ وآلِهِ وسلّمَ تسليماً
والحمد للهِ ربِّ العالمينَ.
__________
(1) في الأصل: "ازلوا".
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3) في الأصل: "طرائف".

(5/504)