الواضح في أصول الفقه

فصل
اختلف الناسُ في العلةِ التي لأجلِها لم يَحْصُلْ لنا العلمُ الضروريُّ بصحَّةِ قولِ الأعدادِ الذين بخَبَرِهم (1) يحصلُ التواترُ، وحصلَ بخبرهم عن دركِ الحواسِّ العلمُ الضَّروريّ.
فقالَ قوم: العلةُ في ذلكَ: [أنهم] في أنفسِهم غيرُ مضطرينَ بالعلمِ الاستدلاليِّ إلى ما أفضى بهمُ الاستدلالُ إليهِ، مثل: القول بحدث العالمِ، أو إثباتِ الصانع، فإذا كانوا غيرَ مضطرينَ في أنفسِهم، استحالَ أنْ يكونَ السَّامعُ منهم مضطراً، فيكونُ الفرعُ أكثرَ منْ أصلِهِ.
وقال قوم: إنَّ هذا ليسَ بتعليلٍ صحيحٍ، لأنه باطل بما يخبرنا به المهندسونَ منَ المقادير والنهاياتِ والخطوطِ، فإنّا لانجدُ أنفسَنا مضطرينَ إلى علمه، وإن كثر عددهم، فكانوا ببراهينهم (2) قاطعين بما أخبروا به مضطرين، فلوْ كانت العلةُ في كونِنا مضطرينَ إلى علمِ ما أخْبَرَنا بهِ أربابُ الحواسِّ كونَهم أخبرونا عنْ علمٍ ضروري، لكنا مضطرينَ إلى ما يخبرنا به أهلُ الهندسةِ وعلمِ الهيئةِ، لأنَّهمْ أخبرونا عنْ ضرورةٍ تجري مجرى درَكِ الحواسَ.
__________
(1) فِى الأصل: "التي بتاخرهم".
(2) في الأصل: "براهينهم".

(5/483)


فيقال: إنَّ لتلكَ العلومِ طرقاً وَعِيرَةً، وموصلاتٍ غامضةً تجري مجرى متائه الطرقِ، فلا يحص لنا (1) معَهم المشاركةُ؛ لعدم مشاركتنا لهمْ في التهدي إلى تلكَ المراقي والمدارج التيْ ينتهي فيها إلى الغاياتِ، فصاروا كالمخبرين لنا عنْ أمرٍ لايقطع بصحتِهِ، ويجوز خطأهمْ فيهِ.

فصل
هلْ يثبتُ الإجماعُ بخبر الواحدِ؟
بيانُهُ؛ أنْ ينقلَ إلينا الواحدُ أن الصَّحابَةَ أجمعت على المنعٍ منْ بيعٍ أمهاتِ الأولادِ، أو تحريمِ المتعةِ، فهلْ يكونُ ذلكَ الإجماعُ حجة معمولاً بها بنقل الواحدِ لها؟
اختلفَ الناسُ في ذلكَ:
فمذهبُنا (2): أنَّه يثبتُ، وهوَ قولُ أكثرِ الفقهاءِ.
وقالَ قومٌ (3): لايثبت إلا بطريقِ التواترِ؛ ليكونَ مقطوعاً. بمقطوعِ.
لنا: أنَّ أكثرَ ما فِى الإجماع أنَّه قول معصوم عنِ الخطأِ، فجازَ أنْ يكونَ طريقُ إثباتِهِ ظنيَّاً، أَو خبرَ واحدٍ؟ كقولِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - فالقولُ (4) منهُ معصوم، وطريقُ ذلكَ مظنون، كذلكَ إجماع الأمةِ، ولافرقَ.
__________
(1) في الأصل: "لها".
(2) انظر "المسودة" (344).
(3) انظر "تيسير التحرير" 3/ 261.
(4) في الأصل: "كالقول".

(5/484)


وأيضاً: فإنَّ في إيقاف ثبوتِ حكمِ الإجماع وكونِهِ حجَّةً على نقلٍ مقطوع إيقافٌ للأحكام (1)، وأينَ لنا طريقٌ قطعيةٌ في ذلكَ؛ ولوِ اعتبرْنا ذلكَ، لوجبَ أنْ يعتبرَ للنقلِ التواتر في السُّنَّةِ، وما أسقطْنا اعتبارَ التواترِ في السنةِ إلاً لتعذرِ ذلكَ، فإنَّه يفضي إلى تعطيلِ الأحكامِ، كذلكَ في بابِ الإجماع.
احتجَّ مَنْ منعَ ذلكَ: بأنَّ خبرَ الواحدِ مجوَّز عليهِ الكذبُ، متردِّدٌ بينَ الصِّحَّةِ والبطلانِ، والطريقُ يجبُ أنْ يحكمَ الثابت بهِ، فلهذا لم يثبتِ القرآنُ القطعيُّ بخبرِ الواحدِ، ولا أَثْبَتْنا النُّبوةَ بخبرِ الواحدِ، ومعنى ذلكَ: أنَّ نَبِيّاً ثَبَتَت نبوتُه بقيامِ العجز على يديهِ، فروى عنْهُ عدلٌ ثقةٌ مِنْ أصحابهِ، أنه قال: بعدي نبيٌّ، في زمان تَقْبلُ النُّبوُّةُ الخَلَف كزمنِ عيسى، أوِ الشرَكةَ كزمنِ موسى، شركَه هارونُ في النبوةِ؛ فإنَّه لاتثبت نبوة المُخبَرِ به [بخبرِ] الواحدِ عنِ النبيِّ، أنَّه قالَ: هذا نبيٌّ بعدي، أو معي، ولوْ أنَّه قالَ لنا: هذا معي وشريكي، أو هذا نبيٌّ بعدي، ثبتَ ذلكَ، وكذا (2) إعجاز النبيِّ المخبَرِ [به]، وإنْ لم يكُن للمُخبَرِ (3) بكونِهِ خلفاً وشريكاً مُعجِز يخصُّه، وكذلك لايثبت القرآنُ بخبرِ الواحد، كذلك ها هنا.
والجوابُ: أنَّ النبوهَ لايتعذرُ في إثباتِها الطريقُ القطعيُّ؛ إما لإعجازٍ (4)
__________
(1) في الأصل: "الاحكام".
(2) في الأصل: "وكنا".
(3) فِى الأصل: "الخبر".
(4) في الأصل: "الاعجاز".

(5/485)


يخصُّها، أو قولٍ منْ جهةِ النبيِّ المخبرِ بها في غيرِه، أو لمحضرٍ (1) منْ عددٍ لايجوزُ عليهم التواطؤ على الكذبِ، فأمَّا في مسألتِنا، فإنهُ يتعذرُ ذلك، كما يتعذَّرُ النقلُ لكلامِ النبيِّ فى مختلف (2) الأحكامِ، فإنَّ في الحوادثِ كَثْرةً، وكلامُ النبيِّ فيها لايسمعُه إلا مَنْ يكونُ بمحضرٍ منْهُ، ولهذا عفا (3) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اعتبارِ التواترِ في الخبرِ عنْهُ إلى خبرِ الواحدِ عنْهُ، وهوَ في المدينةِ يقدرُ آحادُ الصَّحابةِ على سماع كلامِهِ في القضيةِ، ومعَ ذلكَ سَمع بعضُهمْ عنْ بعضٍ عنْهُ، ولا النبىُّ أنكرَ، ولاهُم استظهرُوا، فالواحدُ ينادي: ألاَ إنَّ القبلةَ قد حُوِّلَتْ، والآخرُ يقولُ في نسخ الكلامِ في الصَّلاةِ: إنَّ الله يحدثُ مِنْ أمرِهِ ما يشاءُ، وممَّا أحدثَ أنْ لا يتكلّمَ في الصَّلاة، ولا أحدَ منهمْ سألَهُ، فقالَ: إنَّ فلاناً يحكي عنكَ كذا، فهوَ كما قال؛ ولا النبيُّ أنكر سماعَ (4) ذلك عنْهُ منَ الآحادِ، بلْ عرضَهم لذلكَ؛ حيثُ أنفذَ بآحادٍ منَ الصَّحابةِ إِلى البلادِ حتى إنَّ معاذاً يقولُ: أجتهدُ رأيي، فأقرَّه وصوَّبهُ، ولم يقلْ: وأيُّ رأيٍ لكَ معَ وجودي، وقدرتكَ على سماع قولي المقطوع (5) بهِ؟! وما كانتْ تلكَ المسامحةُ إلا لأنَّ اشتراطَ عددِ التواترِ في نقلِ أحكامِه وقضاياهُ يُوقِفُ (6) أَكثرَ الشريعةِ، ولم يَقُلْ باعتبارِ معصومٍ عنْ
__________
(1) في الأصل:" لمحض".
(2) في الأصل: "مبدد".
(3) في الأصل: لاعنا".
(4) خرم في الأصل.
(5) في الأصل: "المطوع".
(6) في الأصل: "يوقت".

(5/486)


معصومٍ إلا الشيعةُ، وقدْ رَأَيْنا كيفَ حالُهم في الأحكامِ، وتعطيلُهم (1) للقضايا انتظاراً للإمامِ المعصومِ.

فصل
منَ الزوائد
هلْ يجوزُ أنْ يردَ من اللهِ سبحانَهُ حروفٌ مقطعةٌ لايعقلُ لها معنى، وتكونُ رمزاً، والمرادُ بها: قصةُ نبيِّ، أو دولة ملكٍ، أو أمة خلتْ، فيقولُ سبحانَهُ (2): أردتُ بقولي: (حم)، أو (ق): قرناً كانَ، أو ملكاً كانَ، أو نبيَّاً من الأنبياءِ اسمهُ كذا وكذا.
فمذهبُنا: أنهُ يجوزُ ذلك على اللهِ، ولا يمتنعُ عقلاً ولاشرعاً؛ خلافاً لبعضِ الأصوليينَ: لايجوزُ ذلكَ، بلْ هوَ منِ (3) اللغوِ والعبثِ.

فصل
والدلالةُ على جوازِهِ: أنَّه إذا لم تكنِ الكلمةُ موضوعةً لتكليفٍ، ولا مضمنةً أمراً، ولانهياً، ولا خبراً تحته اقتضاءٌ، ولا طلباً، بقيَ أنهُ رمزٌ، ونحنُ بحكمتِهِ واثقون (4)، وبغوامضِ أسراره وأقدارِه الخافيةِ عنا مذعنون (5)، وعلى بصيرةٍ بأنَّ ما أبدى قليلٌ يسيرٌ فِى جنب ما كتمَ وأخفى، وأحاط به
__________
(1) في الأصل: "تعطلهم".
(2) في الأصل: "سبحانه فيقول".
(3) في الأصل: "عن".
(4) في الأصل: "واثقين".
(5) في الأصل: "مذعنين".

(5/487)


علماً (1 فما المانعُ من أن يكتُمَ معنى حرفٍ 1) نطقَ بِه، كما يكتُم الحكم المطويةَ في أفعالِهِ، فأقوالُه كأفعالِهِ، وقدْ عللَ أربابُ المصالح، واجتهدوا، وما بلغوا كنهَ مرادِهِ، ولا حقيقةَ حكمتِهِ في مختلفِ أفعالِهِ، واختلفوا في الحروفِ المقطعةِ فِى أوَّلِ السّورِ، فأوسعوا القولَ، والله أعلمُ، وبانَ أنهُ لا معنى لها عندَ العربِ؛ حيثُ دهشوا لما نزلتْ، وأمسكوا عنْ لغوِهم فِى تلاوتِه حيثُ سُمِعَتْ؛ إعجاباً منها، ودهشاً بها.

فصل
في شبهةِ المخالفِ، وأنه متى جُوِّز ذلكَ على اللهِ سبحانَهُ، أفضى إلى أقوالٍ فاحشةٍ، ومذاهبَ باطلةٍ، وهيَ مذاهبُ الإسماعيليةِ والباطنيةِ؛ حيث قالوا: الشجرةُ الملعونةُ: بنو (2) أميَّةَ، والزيتونةُ المباركةُ، لاشرقيةٌ ولا غربيةٌ، يكادُ زيتُها يضيءُ: هيَ أهلُ البيتِ خاصَّةً، والضَّالين: أصحابُ رسولِ اللهِ، وإلى أمثالِ ذلكَ.
وإذا حسمْنا عنْهُ سبحانه تجويزَ ذلكَ، كانَ أسلَم، وأمنعَ لاعتقادِ أهلِ الأَهواءِ.
ولأنَّ القرآنَ نزلَ بلغةِ العرب، والعربُ لم تضع الحروفَ المقطعةَ لقصصِ الأنبياء، ولا دُوَل الملوكِ، ولا القرون الخالية؛ والبارئ أثبته عربياً، ونفى عنه العجمةَ، فلا يضافُ إليه مانفاه.
__________
(1 - 1) غير واضح في الأصل.
(2) في الأصل: "بني".

(5/488)


فصل
في الجواب
وهوَ انَّ تجويزَ ذلكَ لايفضي إلى ما ذكرْتَ؛ لأننا نحن لانجوِّز تفسيرَ القرآنِ إلاَّ بالنقلِ، وإذا لم نُجوِّزه إلا بالنقلِ المسندِ إلى المعصومِ، أَمِنا ذلكَ الذي ذكرْتَ منَ الذريعةِ، وليسَ كلُّ ما جوزناه على الله سبحانه استجزناهُ منْ نفوسِنا، كما أنَّنا نُجوِّزُ التحكمَ بالأحكامِ، ولا نتحكم نحن، ونجوزُ عليهِ أفعالاً لايظهرُ لنا وجهُ المصالح فيها، ولا نجوزُ لنفوسِنا أنْ نفعلَ فعلاً إلا بعدَ أنْ نحكمَهُ، ويتَمهَّدَ لنا وجهُ الصَّلاح فيهِ.
وأمّا العجمةُ التي نفاها، فإنما نفاها عمّا كلفَنا بهِ منَ الألفاظِ، فأمَّا مالا تكليفَ فيها، فلا، بدليلِ الحروفِ في أوائلِ السورِ التي أدهشتِ العربَ، حتى سكتوا عنِ اللغوِ، ولا يُدْهِشُ ويُعْجِبُ إلا ما لا يُعرف معناه.

فصل
يجوزُ نسخُ القياسِ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ طريقَ النسخ حاصلٌ، وهوَ الوحيُ، فإذا قال: حَرَّمْتُ المفاضلةَ في البُرِّ؛ لأنهُ مطعومٌ، كانَ ذلكَ نصاً منْهُ على الحكمِ، وعلى علتِهِ، وقد اختلفَ الناسُ؛ هل نصُّه على العلةِ إذنٌ منْهُ في القياسِ، أمْ لا؟ على مذهبينِ.
فإنْ كانَ هذا إذناً، أو أذنَ على القياسِ نصاً، فقاسوا الأَرزَّ على البُرِّ، فعادَ، وقالَ بعدَ ذلكَ: بيعوا الأرزَّ بالأَرُزِّ متفاضلاً.

(5/489)


قالَ قومٌ: يكونُ تخصيصاً للعلةِ بالطعم في البُرِّ خاصَّةً، كما عَللَ في تحريمِ الخمرِ بإِيقاع العداوةِ والبغضاءِ، وصدِّها عنْ ذكر اللهِ، وكانَ هذا موجوداً في السُّكْرِ في كلِّ زمان، فعلمنا بتحريمِهِ في هذهِ المسألةِ أنَّه خصَّها بصيانةٍ لم تكنْ فِى حقِّ الأممِ قبلها.
وقال قوم: يكونُ نسخاً للقياسِ.
والذي لاخلافَ فيه؛ أنْ يُصرِّحَ، فيقولَ: لا تقيسوا الأَرُزَّ على البُرِّ في تحريمِ التفاضلِ، فهذا غيرُ ممتنع، بلِ الممتنعُ نسخُ قياسٍ استنبطناهُ بعدَ وفاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا وحيَ ينزلُ، ولا حكمَ يتجدَّدُ بعدَ مضيِّ عصرِه، وانطواء زمانِه - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ عُثِرَ على نصِّ يخالفُ حكمَ القياسِ، كانَ للقياسِ رافعاً، لكنه لايكونُ نسخاً، لكنْ نَتبيَّنُّ أنَّ القياسَ كانَ باطلاً، لأنَّ مِنْ شرط القياسِ: أنْ لايخالفَ حكمُه نصَّ كتابٍ، ولاسنةٍ، حسبَ ما قالَ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ: "فإنْ لم تَجِدْ؟ " قالَ: أجتهذ رأيي، فصَوَّبَه بهذِه الشريطةِ.