الواضح في أصول الفقه

[فصل]
مسائل تَتبعْتها ممَّا كنتُ أَغفلْمنها، وفصول لقطتها منَ الكتبِ والمجالس من غرائب المسائل والفصولِ.
إنْ قالَ قائلٌ: هلْ يجوزُ تأبيدُ التكليفِ إَلى غيرِ غايةٍ؟ فقدِ اختلفَ
الناسُ في ذلك:
فذهبَ الفقهاءُ، والأشاعرةُ مِنَ الأصوليينَ: إلى جوازِ ذلكِ في عدلِ
__________
(1) يُبين ابنُ عقيلٍ رحمه الله، هنا الطريقة التي اتبعها في ترتيب كتابه، ولعل هذا آخر الكتاب، وألحق فيما بعدُ المسائل الآتية، والله أعلم.

(5/469)


اللهِ وحكمتِهِ؛ فإنَّ لَهُ أنْ يقطعَ التكليفَ، ولَة أنْ يديمَه ويُؤبِّدَة.
وقالتِ المعتزلةُ: لايجوزُ ذلكَ، ولايجوزُ في عدلِ اللهِ وحكمتِهِ إدامتُه تكليفَه لخلقِهِ، بلْ يجث أنْ ينتهيَ ذلكَ إلى غايةٍ.

فصل
في الدلالةِ على جواز ذلكَ
ما أجمع المسلمونَ عليهِ مِنْ وجوبِ طاَعةِ اللهِ سبحانَهُ، ووجوبِ شكرِهِ على ما ابتدأَ بِهِ من النعمِ مِنْ غيرِ استحقاقٍ: إخراجِ من العدم، ودعاءٍ إلى المعرفةِ، وإقامةِ شواهدَ تدلُّ عليها، وترشد إليها، وأرزاقٍ دارَّة، وإلى نعم لاتحصى [ولا] تعد، كما قالَ سبحانُه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] واقتضانا الشكر (1) عليها، حيث قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وساقَ الاقتضاءَ، وبيَّنَه: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 8 - 14]، فإذا ثبت وجوبُ طاعتِهِ وشكرِه، وأبقى المنعمَ عليهِ أبداً، حَسُنَ أنْ يديمَ إيجابَ الطاعةِ والشكرِ أبداً.

فصل
في شبههم
قالوا: تُبْنى المسألةُ على أصلٍ، و [هو] أنَّ الثوابَ على الأعمالِ التي
__________
(1) في الأصل: "لشكر".

(5/470)


تضمنها التكليفُ، الشاقَّةِ على المكلفينَ بم منَ الوضوءِ في السَّبَراتِ (1)، والانزعاج من لذيذِ الرقادِ إلى الصَّلواتِ، وتركِ الماءِ البارِد في الصَّيفِ لأجل الصَّومِ، وهجران اللذاتِ لأجلِ نهيِهِ سبحانَهُ، والحمل (2) للسلاح، والثباتِ عندَ لقاءِ العدوًّ في مصافِّ الغزواتِ، ومقاطعةِ الأهلِ والعشيرةِ تعظيماً لكلمةِ اللهِ، وبغضاً في اللهِ، والصَّفح عنِ الإساءاتِ منْ قِبل الأقارب، وبَذْلِ الأموال حباً في اللهِ، والصَّبرِ على من آذى (3) أيضاً، وإنْ صعب على الطباع، وأَوْجعَ النفوسَ، كل ذلك مما ضَمِنَ عنه الأَعْواضَ، وأوجبَ على نفسِهِ المقابلةَ عليه بالنَّعيمِ، فإذا جوَّزتم إدامةَ التكليف، لم يبق زمان للمجازاةِ، فمن هاهنا أحلنا ذلك ومنعناه.
قالوا: وكذلك من أصلنا: أنَّ الوعيدَ واجب، وأنَّ العفوَ عن العصاة المصرِّين غيرُ جائزٍ، فلابدَّ من زمانِ المجازاة، وإيقاع العقوبةِ، فمنْ هذينِ الأَصلين منعنا إدامةَ التكليف إلى غير غاية.
والجوابُ: أنَّنا نعتبرُ هذين (4) الأصلين بما أوجب الله علينا من الطَّاعة بإجماعِنا، ولوْ قُلْنا: يجب الجزاءُ والثوابُ عن الفعل الواجب، لوجب علينا أيضاً الشكرُ عنِ الثوابِ الواجبِ، ولانزال كذلك نقابلُ واجباً (5) بواجب، فلا ننتهي إلى غاية، وقدْ ثبتَ أنَّ كلَّ واجبٍ، من قضاءِ الديونِ،
__________
(1) السَّبْرَةُ، بالفتح: الغداة الباردة، والجمع: سَبَرات. "القاموس": (سبر).
(2) في الأصل: "الصمد".
(3) في الأصل: "موارد".
(4) االأصل: "هذان".
(5) في الأصل: "واجب".

(5/471)


وأداءِ الحقوقِ، لايجبُ الشكرُ عليهِ، ولا الجزاءُ عنْهُ، فإذا ثبتَ وجوب طاعةِ اللهِ، بطلَ إيجابُ الجزاءِ عليها، والأجرِ عنْها.
ولأَنهم قدْ قالوا: إنَّ تركَ المعرفةِ قبيح، وكذلكَ إهمال الاستدلالِ والنظرِ المؤديينِ إلى المعرفةِ، وإذا كانا قبيحينِ لأنفسِهما، وجبَ تركُهما بقضيةِ العقلِ، فمنْ أينَ يجبُ ثواب على ذلكَ، والحالُ هذهِ؟
وأمَّا وجوبُ دوامِ العقابِ، فظاهرُ (1) الفسادِ؛ فإنَّ العفوَ عَنْ كلِّ عقوبةٍ حسن في العقلِ، إلا إذا كانت تُفضيْ إلى مفسدةٍ توفي على ذلكَ، ولامفسدةَ في عفوِ اللهِ عنْ جميع حقوقِهِ بعدَ زوالِ التكليفِ.

فصل
هلْ يصحُّ أنْ يكونَ في نظرِهِ مطيعاً؟
قالَ أهلُ التحقيق لايتَأَتَّى أنْ يكونَ مطيعاً في نظرِهِ، لأنَّ النظرَ فِى دلائلِ العبرِ هيَ الطريقُ الموصلُ إلى معرفةِ الآمرِ الواجبِ (2) طاعتُهُ، ولاتصحُّ طاعةُ مَنْ لم يعرفْ، ولا معرفةَ لمَنْ لم ينظرْ، فمنْ هذا الوجهِ امْتَنعَتْ طاعةُ الناظرِ في نظرِهِ المؤدي إلى معرفةِ مَنْ تلزمُ استجابةُ أَمره.
اعترضَ معترضٌ بآيات الأمْرِ بالنظرِ، والمدح عليهِ، والذمِّ على تركه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف: 109]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ
__________
(1) في الأصل: "بظاهر".
(2) في الأصل: "الواجبه".

(5/472)


لِلْمُوقِنِينَ (20)} [الذاريات: 20]، وإلى أمثال ذلك، وإذا ثبتَ الأمرُ، فإنه استدعاءٌ من الأعلى، فإذا وقعَ النظرُ منَ الأدنى، تحفقَ حدّ الطَّاعةِ؛ لأن حدَّها الانقياد لأمرِ الأَعلى.
فيقالُ: لسْنا نمنعُ أنْ يكونَ مأموراً بكتابٍ سبقتِ المعرفةُ بالمتكلمِ بِهِ جلتْ عظمتُهُ، وهوَ الآمرُ، فالانقيادُ لَهُ بعدَ النظرِ الأولِ المُحصِّلِ لإثباتِهِ، ووجوبِ الاستجابة لَهُ، وكلامُنا في النظرِ الأوَّلِ الذي هوَ مقدمةُ العرفانِ، ذلكَ الذي لايقعُ طاعةً، لأنهُ ما ثبتَ الأمرُ المطاعُ قبلَ النظرِ في دلائلِ إِثباتِهِ، فخرجتِ الآياتُ عَنْ كونِها دلائلَ فيما وقعَ الخلافُ فيهِ.

فصل
في أخبارِ الآحاد إذا جاءتْ بما ظاهره التشبيهُ، والتأويلُ فيها [غيرُ] محالٍ، لكنْ يَبعُدُ عن اللّغة حتى يكونَ كأنه لغزٌ، هلْ يجبُ ردّها رأساً، أو يجبُ قبولُها، ويُكلَّفُ العلماءُ تأويلَها؟
اختلفَ الأصوليونَ في ذلكَ على ثلاثة مذاهبَ:
فقومٌ قالوا بظاهرِها؛ لأنَّ ظاهرها لايعطي الأعضاءَ والانفعالات، وحمل الأعراضِ؛ لأنها بينَ ذكرِ يدٍ ورجلٍ، وحَقْوٍ وأصابعَ، وأضراسٍ ولهواتٍ، ونزولِ وصعودٍ، ومشي وتدل، ووضع يدٍ على ظهرٍ ولها بردٌ، واستلقاءٍ على الَظهر ووضع إحدى الرجلينِ على الأخرى، إلى أمثال ذلك من إثبات الغضبِ صفةَ ذاتٍ، والرحمةِ صفةَ ذاتٍ، وهي [عبارةٌ] عنِ التهاب وغليان دم القلب طلباً للانتقام، ورقة طبع يتألم بوقوع الألم

(5/473)


والمكروهِ بالحيوانِ.
الذهبُ الثاني: ردُّوا الأخبارَ صفحاً، وكذبوا رواتها، واتهموهم بأنواع التهمِ؛ إمَّا الوضع والكذب على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أو عدم الضبطِ، أو كُذب لهم ولم يعلموا، ووضع على أسانيدَ صحاح، فاغتروا بذلكَ، وروَوْها منْ غيرِ النظرِ إلى بُعْدِ معانيها عنِ اللهِ سبحانَهُ.
والمذهبُ (1) الثالثُ قالَ: يجبُ قبولُها حيث تلقَّاها أصحابُ الحديثِ بالقبول، ويجبُ تأويلها لنقضها على ما يدفعُها عنْ ظاهرِها، وإنْ كانَ منْ بعيد اللَّغةِ ونادِرِها، وهذا هو اعتقادُنا، ولايختلف العلماء أنّه إذا كانَ طريقُ ذلكَ قطعياً؛ كالوارِد في آيِ القرآنِ منْ ذلكَ، وأخبارِ التواترِ لا تردُّ، بل تُقْبَلُ على مذهبينِ؛ إمَّا التأويل، أوِ الحمل على الظاهِر.

فصل
والدلالةُ على وجوبِ قبولها: أنَّ رواةَ هذهِ الأخبارِ، والمتلقينَ لها بالقبولِ، هُمُ العدولُ الثقاتُ الذينَ رضينا بهم في إشغالِ [الذِّممِ] الخاليةِ من الحقوقِ والأموالِ والديونِ، وأرقنا بهم الدماءَ المحقونةَ، وأبحنا بهم الفروج المعصومةَ، فلا وجهَ لردِّ أخبارِهم مع إمكانِ تأويلِ ما جاؤوا بهِ، وعدم استحالتِهِ التي توجبُ كذبَهم، لاسيَّما وقدْ عضدَ ذلك ما جاءَ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ممّا يوجبُ ظاهِرُه التشبيهَ؛ كذكرِ اليدينِ، والوجهِ، والمجئ والإتيانِ، والإقراضِ، معَ وصفِهِ نفسَهُ بأنَّ له كلَّ شىءٍ، [فقال]:
__________
(1) في الأصل: "قال والمذهب".

(5/474)


{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21]، وإضافةِ المكرِ والاستهزاءِ والأذيةِ إليهِ؛ بقولِه تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، وظواهرُ هذه الألفاظِ كلها مستحيلةٌ على اللهِ سبحانَهُ، فحُمِلَت بالتأويلِ (1) على أذيةِ رسولِهِ، والاقتراضِ من الأَغنياءِ منْ خلقِهِ للفقراءِ، فعبَّر عنِ الفقراء بنفسِهِ، وعلى هذا كلّ ما (2) جاءتِ [به] الأخبارُ مستبعداً (3) منَ الشرائع وكتبِها ورموزِها ومقدَّراتِها ومحذوفِها وزائدِها، وسرُّ ذلكَ: أنه قصدَ امتحانَ العلماءِ؛ ليجهدوا أنفسَهم باستخراخ التأويلِ الصارفِ لها عَنِ الظواهِر التي تقتضي التشبيهَ بالنُّصوصِ التي في كتبِهِ، وبأدلَّةِ العقولِ التي منحَهم، ولمعنى آخرَ أغمضَ منهُ وأدقَّ، وهو أنَّ الله سبحانَه علمَ أنَّ أكثرَ الناسِ عبدوا المحسوساتِ، وأنِسُوا إليها؛ لمكانِ المجانسةِ في الحدثِ والحسن، فقومٌ عبدوا النجومَ استحساناً لها، ونظراً إليها بعينِ البقاءِ والدوامِ، ثمَّ التّأثيراتِ (4) على ما توهموهُ منَ الأحكامِ، وأضافوا إلى كلِّ نجمٍ أمراً منَ الأمورِ منَ المنافع والمضارِّ والشرورِ واتفاقِ الأمور، وجعلوا جميعَ ما يحدثُ في العالم السّفليِّ إنَّما بتأثيرٍ عنها، وقومٌ عبدوا النّوَرَ والظلمةَ، وأضافوا الخيرَ إلى النُّورِ، وإلى الظلمةِ المضارَّ والشرورَ، وقومٌ عبدوا الملائكةَ، وقوم عبدوا الأشخاصَ كعيسى وعُزَيرٍ، وقومٌ عبدوا بعضَ البهائمِ كالبقرِ، وقوم عبدوا الديكةَ،
__________
(1) في الأصل: "حملت التأويل".
(2) في الأصل: "لما".
(3) في الأصل: "مستبعد".
(4) في الأصل: "المتاثرات".

(5/475)


وقومٌ عبدوا الحجارةَ المُشكلةَ، وكلُّ مَنِ استحسنَ شيئاً عبدَهُ، أو كَلِفَ بشيءٍ عظمَهُ، فأنست نفوسُ العالمِ إلى المحسوسِ المقطوعِ بوجودِهِ منْ طريقِ المشُاهَدة، فلوْ جاءتِ الشرائعُ بالتنْزِيه المحضِ، لجاءت بما يطابق الجحدَ والنفيَ، فلوْ قالوا: صفْ لنا ربَّنا؟ فقالَ: لاجسم، ولا عرض، ولا حامل، ولامحمول، ولا طويل، ولا عريض، ولا بشاغلٍ لمكانٍ ولا لجهة منَ الجهات الست، ولا متلوِّن، ولا ساكن، ولا متحرك، ولاراض، ولا غضبان، ولايحب، ولا يبغض، ولايريدُ، ولا يكره، ولا يغتمُّ، ولا يسرُّ، ولا يُتَخَيَّلُ في النفوس، ولا له صورة في القلوب من داخل، ولا يدركه الإحساسن من خارج، لقالوا له: فهاتِ حُدَّ لنا النفيَ، بأن تُميِّزَ ما تدعونا إلى عبادته على النفي، وإلاَّ علمنا (1) أنك دعوتنا إلى عبادةِ عدمٍ، وعيَّرتنا بعبادة أشياء موجودة، تأثيراتُها محسوسة، فهذِه الشمسُ تنضج الثمار، وتجفِّف الحبوبَ، وتعدل الأمزجة، وهذه النجوم تؤثرُ الاهتداء والاستضاءة، وهذه الرياحُ تُؤَبِّرُ اللقاح، وهذه الأصنام والأزلام قد جرَّبنا عليها النجاح، وبلوغ الأغراض، وأنت فقد أتيتنا بمحض النفي والعدمِ، تدعونا إلى تعظيمِهِ، فلما علم ذلك سبحانه بالعلم الإلهي، والخالقُ أعلمُ بما خلق، جاءَهمْ بأمماءٍ يعقلونَها، وصفاتٍ تعطي بلوغَ الأغراض؛ كلُّ صفةٍ تؤثر معنىً من منافعهم، فسميعٌ يعطي سماعَ أدعيتهم، وبصير يعطي النظر إلى ما يعرض لهم، ورحيم للتحنّنِ عليهمْ، وغضبانُ يوجب الانتقام من السيء المخالف لما وضعه من الشَّرائع لصالِحهم، وإلى أمثالِ ذلكَ.
__________
(1) في الأصل: "علمت".

(5/476)


فلما عقلوا (1) بالإثبات، جاءَ بنفي التشبيهِ، ولو بادأهمْ بالنَّفى، لأُحيلَ الإثباتُ، ثمَّ جاءتِ الأخبار والآثارُ بما يطابقُ القرآنَ، وكانَ القومُ أهلَ معاريضَ ورموزٍ واستعاراتٍ وتحاذيفَ (2) ومقاديرَ، فإذا قالَ: "الحجرُ الأسودُ يمينُ الله" (3)، علموا أنَّه أرادَ: جعلَهُ كيمينِ المصافح، فإذا قال: "الريحُ نَفَسُ الرحمن" (4)، علموا أنَّه أرادَ: تَفعل ما يفعلُ النفسُ مِنْ تنفيسِ الكُربِ، وترويح دواخل الأجسام، وبواطنِ الحيوان، وإذا قال: " اشدُدْ وَطْأتَكَ على مضر" (5)، و"آخر وطأةٍ وطئها الله بوَج" (6)، علموا أنَّهُ أرادَ: العذابَ، لا الدوسَ بجارحة الرِّجل، وعلى هذا فما أغنانا مع هذهِ الطريقةِ عَنْ ردِّ آثارٍ رواها الثقاث الأَثْباتُ الذينَ بنيْنا على رواياتِهم إراقةَ الدماءِ المحقونةِ، واستباحةَ الفروج المعصومةِ.

فصل
في شبههم
قالوا: إن الاستلانةَ والمساهلةَ في سماع هذه الأحاديثِ وقَبولِها فيهِ منَ
__________
(1) في الأصل: "عيعوا".
(2) في الأصل: "وتحاويف".
(3) أخرجه الخطيب في "تاريخه" 6/ 328 من حديث جابر.
(4) أخرجه عبد بن حميد من حديث أبي الدرداء كما في "المطالب العالية" (3373)، ولفظه: "الريح نفس الله".
(5) أخر جه أحمد (7260)، والبخاري (6200)، ومسلمِ (675) (294)، والنسائي 2/ 201، وابن ماجه (1244) من حديث أبي هريرة مطولاَ.
(6) أخرجه أحمد 4/ 172 من حديث يعلى العامري، و 6/ 409 من حديث خولة بنت حكم. و"وجُّ ": اسمُ وادٍ بالطائف لا بلد به. "القاموس": (وجّ).

(5/477)


الفساد مالا يندفُع بالتأويلِ، لأنَّ التأويلَ البعيدَ تنفرُ عنْهُ القلوبُ، لاسيَّما في حقِّ العوامِّ، وإذا دارتْ في الكتب، وسُمِعَتْ، ولم يُنكِرْها العلماءُ، ترسَّخَ في النفوسِ التشبيهُ، وتَعذَّرَتْ إزالته بضربٍ منَ التأويلِ، فكانَ حسمُ المادةِ بردِّهِ أَوْلى منَ المساهلَةِ والمسامحةِ بإثباتِهِ، والعلاج بنفى ظاهرِه، وقد بانَ ووضحَ مِنْ فسادِ طوائفَ كثيرةٍ منْ أصحابِ الحديث، وُلو ردَّتْ بأوَّلِ وهلةٍ، استرحنا وغنينا عَنْ كدِّ نفوسِنا بمنابذتهم، ومداراتِهم، وعلاجِهم بالتأويلِ الذي تَمُجُّه أسماعُهم، وهَبْ أنك تأوَّلتَ اليدَ والأَذى والإقراضَ، فما الذي عسانا نتأول به أنَّه يضحكُ، حتى تَبْدُوَ أضراسُه ونواجذُه (1)، وروي: ولهاته؛ والرَّحِمُ شُجْنةٌ (2) آخذةٌ - أو متعلِّقةٌ - بحَقْوِ الرَّحمنِ (3)، وأنَّه لما خلقَ السَّماوات والأرضَ، استلقى على عرشِهِ، ورفعَ إحدى رجليهِ على الأخرى، وقالَ: هذهِ نومةٌ لاينبغي لأحدٍ أنْ ينامها، أوْ ما شاكلَ هذا اللًفظَ، فإنَّ بعضَ الصَّحابةِ نامَ كذلكَ، فقرص آخرُ رجلَهُ، فقالَ: أوجعتني يا ابن أخي، فقالَ: ذاكَ أردْتُ، وروى لَهُ الحديثَ (4)، وهذا تصريحٌ بالتشبيهِ، والقرآنُ يكذبُ ذلكَ بقولِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ
__________
(1) انظر ما ورد في ذلك في "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 401 وما بعدها.
(2) في الأصل: "والرحمة شجن".
(3) انظر "الأسماء والصفات" 2/ 222 - 225.
(4) أخرجه البراني في "الكبير" 19/ 13، والبيهقي في "الأسماء والصفات": (761) وقال: "فهذا حديث منكر". وذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة": (755) وقال: "فالحديث يُسْتَشم منه رائحة اليهودية الذين يزعمون أن الله تبارك وتعالى بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض استراح، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وأنا أعتقد أن أهل هذا الحديث من الاسرائيليات ..... ".

(5/478)


لُغُوبٍ} [ق: 38]، وقوله: "القلبُ بينَ إصبعينِ منْ أصابع الربِّ، إنْ شاءَ أنْ يقيمَه أقامَهُ، وإن شاءَ أن يزيغَه أزاغه" (1)، و"إنَّ الملائكةَ خلِقَتْ من نورِ الذراعين" (2)، و"إنَّه مَرِضَتْ عينه، فعادَتْة الملائكةُ" (3)، وإلى أشباهِ ذلكَ، فتركُ هذهِ في كتبِ الشريعةِ، وجريُها على الألسنِ، وقبولُ العلماءِ لها، فتحُ بابٍ لايسدُّه إلاَّ الردُّ والإِنكارُ، وإذا استهدفَ لها الملحدةُ، مَجَنُوا واستهزؤوا بالشَّرع، وسخفوا، وجاءَ مِنْ ذلكَ تنفير العوامِّ عَنِ الشرائع، فما يقي ما ذكرتُم مِنْ قبولِ قولِ الرُّواةِ مثل هذا الفسادِ العظيمِ، ومن يَنْزِعُ (4) من القلوبِ التشكلَ والتمثيلَ والتشبيهَ بعدَ ما كتَبهُ؛ فما أغنانا عَنْ قبول شيءٍ يُثْبِتُ هذا الداءَ العضالَ، ثمَّ يعودُ يُعالِجُه، وعساهُ لايبرأُ بالعلاج.
وفارقَ ما جاءَ في القرآنِ؛ فإنَّه قطعيٌّ لم يبقَ لنا في ردِّه حيلةٌ، فأَخْلَدْنا إلى التأويلِ، وأزلنا التشبيه بما قدرنا، وأردنا (5) أنْ لايكون فيه شيءٌ يوهمُ التشبيهَ.
__________
(1) أخرجه بنحوه أحمد (6569) و (6610)، ومسلبم (2654)، وابن حبان (902)، والنسائي في "الكبرى" (7739) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات": (744)، وأبو الشيخ في "العَظَمة" 2/ 733، والبزار في مسنده 2/ 449، وابن مندة في الرد على الجهمية (78) عن عبد الله بن عمرو.
(3) هذا مما دَسَّهُ الزنادقةُ في الأحاديث لاجتيالِ الإسلام، انظر "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة: 245.
(4) في الأصل: "سوع".
(5) في الأصل: "ولروونا".

(5/479)


فصل
الأجوبة عن ذلك
إنَّ الفسادَ الذي جاءَ إنما اتُوا فيه مِنْ قِبَلِ نفوسِهم، وقلةِ مبالاتِهمْ بتحقيقِ النظرِ في اللهِ سبحانَهُ، (1 وصفاتِهِ التي رواها 1) الثقات، ولوْ صدقوا النظرَ، هجَمَ بهمْ على حقيقةِ ما يَستحِقّه سبحانَهُ مِنْ نفي النقائصِ عنْهُ، فإذا جاءتِ الألفاظُ التيْ للغةِ العربِ فيها نوعُ مساغ واتِّساع، وإنْ بَعُدَ عَنِ الحقيقةِ، صرفُوها عَنْ ذلك تبعيداً لها عَمَّا لايليقُ بالأزليِّ جلّتْ عظمتُهُ، ولوْ كانَ البارئ لايريدُ الامتحانَ والابتلاءَ بهذِه الألفاظِ، لما ضَمَّنها كتابَهُ العزيزَ، وإنْ كانَ عالماً بأنَّهُ سيضلُّ بها خلقٌ كثيرٌ، لكنَّهُ اعتمَد على ما أوضحَ بهِ السَّبيلَ، منْ نصِّ كتابِهِ، وما وضعَ في العقولِ منْ وجوبِ نفي التشبيهِ عنْ ذاتِهِ، ومهما وجدْنا للتأويلِ مساغاً، كنا ممنوعينَ مِنْ تكذيب الثقاتِ، وردِّ أخبارِ الرُّواة، ولو رددْنا خبرَهم في قبيلِ هذا، وماَ علينا تفسيقُهم، ولوْ وجب تفسيقُهم، لما ساغَ لنا سماعُ أخبارِهمْ في الدماءِ والفروج.
فإنْ قيلَ: لايلزمُ هذا، لأنَّ الشَّرعَ مبنيٌّ على سماع قول الإنسانِ في شيءٍ دونَ شىءٍ، فسمع في الأموال شهوداً ردَّهم في الدماءِ والفروج، وهيَ شهادةُ النساءِ معَ الرجالِ، وسمع في الولادة لِشاهدٍ (2) بغيرِ رجالٍ، ولم يسمعْ ذلك في الأموالِ، وردَّ شهادةَ الأبِ العدلِ لابنِهِ، ولم يَرُدَّ
__________
(1 - 1) فِى الأصل: "الذي روى عير"
(2) في الأصل: "ساهد".

(5/480)


شهادتَهُ لغيرِ ابنِهِ، ولايقالُ: فسَّقَهُ بالردِّ، وكذلكَ العدوُّ معَ عدوِّه، وقَبِلَ أخبارَ الدياناتِ منَ العبيدِ والنساءِ، ومن وراءِ حجابٍ، وبالعنعنةِ، ولم يَقبلْ مثلَ ذلكَ منْ أولئكَ بأعيانِهم بلفظِ الشَّهادةِ.
قيلَ: إنَّ الشَّهاداتِ على غيرِ بناءِ الأخبارِ؛ بدليلِ أنَّ أخبارَ النِّساءِ والعبيدِ في الحدودِ والقصاصِ مقبولةٌ، وفي الشهاداتِ مردودةٌ، وخبرُ الواحدِ في كلِّ شيءٍ مقبول، ولايُقبلُ في الشَّهادةِ إلا العدلانِ (1). ولأنَّ المانعَ ها هنا ليسَ إلاَّ التشبيهَ، فإذا انتفى عنهم بنوع تأويلِ لما يجبُ تأويلُهُ، بَقِيَ الرَّدُّ تَشَهِّياً لا لمعنى.

فصل
إذا نُسِخَ التَّنْبيهُ، لم ينُسَخْ ما نبهَ عليه، مثالُهُ: أنْ يُنسخَ المنعُ منَ التأفيف، فإنَّه لايرتفُع المنعُ منَ الإضرارِ والأذيةِ ممّا زاد على أذيَّةِ التأفيفِ؛ خلافاً لبعضِ القائلينَ بأنَّه قياس جليٌّ.
لنا: أنَّ هذا يبتَنى على أصلٍ، و [هو] أنَّ التنبيهَ ليس بقياسٍ، وإنَّما هو من جملة النصوص الموضوعة للنهي عن الزائدِ والأكثرِ، فإذا ثبتَ ذلكَ، كان نسخُ النصِّ الناهي عنْ شيءٍ، لايوجبُ نسخَ النهي عن شيءٍ آخرَ نُصَّ على (2) النهي عنْهُ، مثلُ أنْ يقولَ: لاتُؤْذِهما (3) بالتبرُّمِ والتَّضجُّرِ، ولاتُوْذِهما (2) بالشتمِ والسبِّ، ثمَّ إنهُ نَسَخَ الأدنى من الأذايا، بقيَ
__________
(1) في الأصل: "العدلين".
(2) في الأصل: "عن".
(3) في الأصل: "تؤذيهما".

(5/481)


المنصوصُ عليهِ بالنهي، وهوَ الأكثر من الأذايا.
والدلالةُ على هذا الأصلِ: أنَّ العربَ وضعت هذا نصاً مختصراً، فإذا أرادتِ استئصالَ الأذايا بالنهي، قالتْ: لاتقلْ لفلانِ أف، ولا تأخذْ منْ مالِهِ ذرَّةً، فيكونُ أخصَّ نصّاً منْ قولِهِ: لاتظلمْهُ بدينارٍ، ولا قنطارٍ، ولا بذرةٍ، وأخصرَ مِنْ قولِه: لاتشتمْه، ولاتسبَّه، فإنَّ هذا اليسيرَ المنبَّه به بعضُ ذاك الكثيرِ المنبَّهِ عليه.

فصل
قالوا: إنَّ التنبيهَ معقولٌ ومعنى وقياس، بدليلِ أنه يفهمُ منَ النهي عنِ التأفيفِ النهيُ عنْ أدنى الأذايا، لكونِه أذى، فإذا عُلِمَ أنهُ نهى عنْهُ؛ لأنه أذىً، وهو أذىً يسير، نَبَّهَ بذلكَ على النهي عنِ الأذى الذي هو أوفى، فإذا كانَ الأكثرُ مأخوذاً من هذا المنصوصِ عليه، وهو الأقلُّ، ثمَّ نُسخَ الأصلُ المستفادُ منه النهيُ، ارتفعَ (1) المستفادُ المأخوذُ، كما لو نصَّ على أَعْيان في منع (2) التفاضلِ، فعقلنا من ذلكَ النهي عِلته، كطعمٍ، أو قوتٍ، أو كيلٍ، فعدَّينا الحكمَ إلى الفروع غير (3) المنصوصِ عليها، ثم نسِخَ الحكمُ في الأصولِ المنصوصِ عليها، فإنه يرتفُع الحكمُ في الفروع، كذلكَ ها هنا.
فيقالُ: قدْ مَنَعْنا هذا الأصلَ، وبَيَّنا أنَّه ليس من القياسِ في شيءٍ، ثمَّ لو دَخَلْنا على هذا، لم يكنْ صحيحاً أيْضاً؛ لأنَّ النهيَ عن اليسير نهي عنِ
__________
(1) في الأصل: "وارتفع".
(2) في الأصل: "صيع".
(3) في الأصل: "عن".

(5/482)


الكثيرِ، لكنَّ الكثيرَ جُمْلةٌ فيها أَضْعافُ ذلكَ القليلِ، وإباحةُ القليلِ لاتعطي إباحةَ الكثيرِ، ولا يدخلُ الكثيرُ في القليلِ إباحةً وعفواً.