الواضح في أصول الفقه فصل
ولا يجوزُ للعاميِّ أنْ يستفتيَ في الأحكامِ مَن شاءَ، بل يجبُ
أنْ يبحثَ عنْ حالِ مَن يريدُ سؤالَه وتقليدَه، فإذا أخبرَه
أهلُ الثقةِ والخبرةِ أنَّه أهلٌ لذلك علماً وديانةً، حينئذٍ
استفتاهُ.
وقالَ قوم: لا يجبُ عليه ذلك، بلْ يسألُ منْ شاء (5).
فصل
في أدلنِنا
فمنها: أنَّ الرجوعَ إلى قولِ الغيرِ لا يجوزُ إلا بعدَ العلمِ
بأنَّه أهلٌ
__________
(1) في الأصل: "فتحيرت".
(2) فِى الأصل: "عن".
(3) تقدم تخريجه 3/ 225.
(4) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 232.
(5) انظر "المسودة" (464).
(5/465)
لذلك؛ بدليلِ النبيِّ، والحاكمِ،
والمقوِّمِ للسلع، والمخبرِ بالعيوبِ التي تنفسخُ بها العقودُ،
وإذا ثبتَ هذا فيما عزَّ، وهوَ النبوةُ والإمامةُ والحكمُ،
وفيما هانَ؛ كالعيوبِ وقيمِ المتلفاتِ، وجبَ اعتباره في
التقليدِ في أحكامِ الشَّرع، ومتى لمْ يعتبرْ ذلكَ، لم يثقِ
السائلُ بالمسؤولِ، والمستفتي بالمستفتى، ولم يكنْ قولُهُ
بأَوْلى مِنْ قولِ غيرِهِ.
ومِنْها: أنَّه لوْ كانَ سؤالُهُ لمَنْ شاءَ تقليداً كافياً،
لجازَ لَهُ أنْ يفعلَ ما شاءَ، وكانَ ذلكَ كافياً.
فصل
في شبهة المخالف
لوْ كانَ استعلامُ حالِ المستفتى معتبراً، لكانَ مِنَ الواجبِ
عليهِ معرفةُ الأدلةِ التي تُسنَدُ إليها الأحكامُ، فلما لم
يجبْ عليهِ البحثُ عنِ الأدلةِ، كذلكَ لايجبُ عليهِ البحثُ عنْ
صفاتِ المسؤولِ.
فيقالُ: أمَّا السُّؤالُ عَنْ حالِ المستفتى، فلا يقطعُ عَن
الأشغالِ، ولا يَنْشَغِلُ بهِ عنِ المعايشِ؛ إذْ ليسَ بأمرِ
يطولُ، فأمَّا تَعلّمُ العلومِ التي يَصلحُ بها للاجتهاد (1)،
ويصيرُ بها أهلاً لذلكَ، فيحتاجُ إلى إفرادِ وقتِهِ، وإِفراغ
وسعِهِ لذلك خاصةً، إلى أنْ يبلغَ مبلغَ أهلِ الاجتهادِ.
فإنْ قيلَ: فهلْ تعتبرونَ التواترَ في كونِهِ منْ أهلِ
الاجتهادِ؛ لتقطعوا على ذلكَ، أمْ تكتفونَ بخبر الواحدِ؟
__________
(1) في الأصل: "الاجتهاد".
(5/466)
قيلَ نَكْتَفي بأخبارِ الآحادِ، كما نكتفي
بخبر الواحدِ في الأحكامِ عَنِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -،
وليسَ طريق الرجوع إلى هذا بأَوْفى منْ طريقِ الرجوع إِلى
الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، في الأحكامِ الشرعية.
فصل
فإن لم يكنْ في المِصْرِ إلاَّ عالمٌ واحدٌ، رجعَ إلى قولِهِ،
وتسقطُ عنْهُ كلفةُ الاجتهادِ في طلبِ الأعلمِ والأورع، وإنما
(1) كانَ كذلكَ، لأنَّ الوحدةَ أَبداً تُسقِطُ الترجيحَ
والتخييرَ، كما إذا لم يجدْ إِلاَّ طعاماً (2) في كفارةِ
التخييرِ، تعيَّنَ عليهِ، وإذا لم يجدْ إلاَّ واحداً يصلحُ
للصلاةِ على الميتِ، تعيَّنَ عليهِ، وكذلك في كلِّ أمرٍ هو
فرضٌ على الكفايةِ، وإذا عدم الجامدُ في الاستنجاءِ، تَعيَّنَ
عليهِ استعمالُ الماءِ.
فصل
في الفرق بينَ النسخ والتخصيص مِنْ طريق الأحكامِ والجمع
بينَهما في الَحقيقةِ
اعلمْ أنَّ النسخَ: رفع وإزالةٌ للحكمِ في وقتٍ بعدَ أن كان
ثابتاً على الدوامِ، كإِطلاقِ (3) قولِهِ: صَلُّوا إلى بيتِ
المقدسِ، والصَّلاةُ قدْ قامتِ الدلالةُ على دوامِها
وتكرُّرِها، والاستقبالُ الذي هوَ شرطها دائمٌ بدوامِها،
__________
(1) في الأصل: "وإن".
(2) في الأصل: "طعام".
(3) في الأصل: "باطلاق".
(5/467)
فإذا جاءَ النسخُ لقبلةِ بيتِ المقدسِ إلى
الكعبةِ، كانَ النسخُ رافعاً للحكمِ في المستقبلِ عَنِ
استقبالِ بيتِ المقدسِ فيهِ، وكانَ بياناً لزمانِ الاستقبالِ،
كما إذا وردَ لفظُ العمومِ بحكم في أعيان، كقتل المشركينَ،
وقتلِ المرتدينَ، ثم جاءَ النهيُ عَن قتلِ أهلِ الكتابِ إذا
بذلوا الجزيةَ، وقَتْلِ النساءِ والصبيانِ، خرجوا من العمومِ،
وزالَ الحكمُ في حقِّهم، وبانَ المرادُ منَ الأعيانِ
المقتولينَ.
فتحقق المعنى فيهما واحدٌ (1)؛ هذا تخصيصُ أعيان، وهذا تخصيصٌ
لزمان، وهذا بيانٌ لمدةِ التعبدِ باستقبالِ القبلةِ الأُولى،
وإزالة التعبد في المستقبلِ باستقبالِها، وكذلكَ تحريمُ الخمرِ
وإباحتُها، وإلى أمثالِ ذلكَ.
فأمّا افتراقُهما في غيرِ الحقيقةِ، فإنَّ النسخَ بدليلِ
العقلِ لايجوزُ، ويجوزُ التخصيصُ بدليلِ العقلِ، ولايجوزُ
النسخُ بهِ، وإنَّما كانَ كذلكَ، لأَنَّ دليلَ العقلِ يعملُ في
قولِه: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وإخراج صفاتِه
سبحانَه، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] تعمل
فيهِ دلالةُ العقلِ؛ بأنها ما دمَّرتْ هوداً ولا قومَه ممَّن
آمنَ بِهِ، وكانَ ذلك لدليلِ العقلِ المانع منْ كونِ (2)
صفاتِهِ اللازمة محدثةً، لما منعَ العقلُ منْهُ؛ منْ خلوِّه
سبحانه مِن علمٍ وقدرةٍ وحياةٍ، ومنعَ منْ إرسالِ الريح مهلكةً
لمَنْ خالفَهُ، ثُمَّ يهلكُ بها مَنْ تابَعَه، فلا يكونُ ذلكَ
هدىً، بلْ تضليلاً وإعداماً للثقةِ بالرُّسلِ،
__________
(1) في الأصل: "واحدا".
(2) في الأصل: "كونه".
(5/468)
فأمَّا النسخ، فلا يثبتُ إلاَّ بطريقٍ واحدٍ ليسَ للعقلِ طريقٌ
إلى علمهِ، وهوَ المصلحة في وقتِ إثباتِ الحكمِ، والمفسدة
بإثْباتِهِ في وقتِ نسخِهِ، وهذا أمرٌ لا اطلاعَ للعقلِ عليهِ،
فلذلكَ اختلفْنا فيهِ.
وأمَّا التخصيصُ للقرآن بخبرِ الواحدِ، والقياسِ، وقولِ
الصحابيِّ، وغيرِ ذلكَ منَ الأدةِ الظنيةِ، فكلَّ ذلكَ ممنوعٌ
منهِ عندَ قومٍ، ومُجوَّزٌ النسخُ بهِ عندَ طائفةٍ، فليسَ شيءٌ
منْ ذلكَ متفقاً على إثباتِهِ مخصِّصاً أو، إثباتِه ناسخاً.
فصل
وإنَّما سلكتُ فيه (1) تفصيلَ المذاهبِ، ثمَّ الأدلَّةِ، ثمَّ
الأسئلة، ثم الأجوبةِ عنها، ثم الشبهاتِ، ثم الأجوبةِ، تعليماً
لطريقةِ النظرِ للمبتدئينَ، والله الموفق بمنِهِ وكرمه. |