الواضح في أصول الفقه فصل
يجوزُ النَّسخُ في السَّماءِ إذا كانَ هناكَ مكلف، مثلُ أنْ
يكونَ قدْ أُسرِيَ ببعضِ الأَنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم، ولا
يكون بَداءً، خلافاً للمتكلمينَ مِنَ المعتزلةِ، ومَنْ جحدَ
المعراجَ يقظةً: مَنعَ مِنْ وجودِ ذلكَ، كما منع منْ جوازِهِ
عقلاً (1).
فصل
في الدَّلائل عليه
إِنَّ النَّقلَ صحَّ بأنَّ الله سبحانَهُ فرضَ على نبيِّنا -
صلى الله عليه وسلم - خمسينَ صلاةً،
__________
(1) انظر "المسودة" (323)، و"روضة الناظر" 1/ 321 - 323، و"شرح
الكوكب المنير" 3/ 255.
(5/450)
ثمَّ لما راجعَ رسولُ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - في الاستنقاص، وتَضَرَّعَ (1) في التخفيفِ، نقصَ
إلى أنْ جعلَتْ خمساً (2)، وهذا هو النَّسخ قبلَ وقتِ الفعلِ
بعينه، وقدْ دَللنا عل هذا الأصلِ، ولأنَّ لله (3) سبحانه أنْ
يكلِّفَ الواحدَ كما يكلفُ الجماعة، ويكلِّفَ في السمَّاءِ كما
يكلفُ في الأرضِ، وقذ كلَّفَ الملائكةَ السجودَ لآدمَ عليهِ
السلامُ، وكلَّفَ آدَم وحواءَ قبلَ الإهباطِ (4) تركَ أكلِ
الشَّجرةِ، فإذا كانَ المكانُ صالحاً، وكانَ الشخصُ صالحاً،
جازَ أنْ يكلفَه ليلتزمَ ويعتقدَ، فيُثيبَه على توطينِ (5)
النَّفسِ على الأشقِّ الأكثرِ، ثُمّ ينسخَ ذلكَ بالأقلِّ
الأسهل، وفي ذلك لطيفةٌ، وهو أنَّ الأخيرَ يسهلُ بإسقاطِ
الأَوَّلِ، كما كلفَ مصابرة الواحدِ للعشرةِ، ثُمَّ خفَّفَ
بأنْ أَسقطَ ذلك إلى اثنينِ، وهذا يوجد في السماءِ في حقِّ
مَنْ كلَّفَه من الأنبياء، كما يوجد في الأرضِ، ولا فرقَ، وفي
إخبارِه لأُمتِه بذلك ممّا يوجبُ شكرَه، فيُعْقِبهم الشكرَ على
ذلك ثواباً، وما لم يَخْلُ عنْ هذه الفوائدِ لا وجهَ للمنع
منه.
فصل
في شبههم
قالوا: الأمر في السَّماءِ أمرٌ بالتبليغ، فإذا نسخَه، صارَ
كأنَّه قالَ لَه:
__________
(1) في الأصلِ: "وصريح".
(2) حديث المعراج وفرض الصلاة أخرجه البخاري (3207) و (3393) و
(3430) و (3887)، ومسلم (164)، والترمذي (3346)، والنسائى
(447).
(3) في الأصلِ: "الله".
(4) في الأصل: "الإحباط".
(5) في الأصل: "توطن".
(5/451)
بلِّغْ ذلك، لا تبَلِّغْهم، وهذا عينُ
البداءِ.
فيقالُ: بلِ النسخُ لذلك بانَ أنَّ المرادَ به اعتقادُه،
وتوطينُ نفسِه، على تبليغ ذلك، والعملِ بِه بنفسِه، وتبليغ
أُمَّتِه، وتبليغهم رفقَ الله بهم، ولُطْفَه، وإجابته إلى
سؤالِه فيهم، والتخفيف عنهم، فما خلا الأمر عنْ فائدةٍ، ولا
خلا النسخُ عنْ حِكْمةٍ ومصلحةٍ، ولا يتحقًقُ ما قالوا مِنَ
النفي لما أثبتَه، ولا النهى عمَّا أمرَه بِه مِنَ البلاغ.
فصل
اختلفَ القائلونَ بجوازِ الاجتهادِ لرسولِ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - في الحوادثِ في تطرقِ الخطأِ عليهِ في اجتهادِه
على مذهبينِ:
أحدهما: جوازُ الخطأِ عليهِ، لكنْ لا يُقرُّ عليهِ، وهو
مذهبُنا، ومذهبُ الأكثرينَ منْ أصحابِ الشّافعيِّ، وأصحابِ
الحديث (1).
وذهبَ بعضُ أصحابِ الشّافعيِّ: إلى أنّه لا يجوزُ عليه الخطأُ،
بلْ هو معصومٌ في اجتهادِهِ، كعصمتِه في خبرِه عنِ اللهِ (2).
فصل
في الدلائل على ذلك
فمنها: أنَّ فِى القرآن معتبةً، منْ ذَلك: قولُه سبحانَه:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ
__________
(1) انظر "روضة الناظر" 2/ 409، و"المسودة" (507)، و"أصول
السرخسي 2/ 91.
(2) انظر "التبصرة" (524).
(5/452)
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:
43]، وقوه فِى المفاداةِ (1) في يومِ بدرٍ: {مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآيات، إلى قولِه: {لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، حتى قالَ: لوْ نَزلَ منَ السماءِ
عَذابٌ، لما نجا منه إلاَّ عمرُ بنُ الخطابِ (2)؛ لأنَّه كانَ
أشَارَ بالقتلِ، ونهى (3) عنِ المفاداة.
ومنها: أنه قدْ جازَ عليهِ السَّهوُ حتى سلَّم مِنْ نقصانٍ،
فقيلَ له: أَقَصُرتِ الصلاةُ، أمْ نَسِيت (4)؟ فقالَ: "كلُّ
ذلك لم يَكُنْ" وقد كان، ثُمَّ قالَ: " إنَّما أنا بشر أنسى
كما تَنْسَوْن (5) ".
فإن قيلَ: أمّا (6) النسيان، فقد بانَ منْه المصلحةُ بقولِه:
"إنما أنسى، لأسنَّ" (7).
قيلَ: إذا كان ينسى؛ ليسنَّ الاستدراكَ بالسجود والجبران، جاز
أن يُسلطَ عليه الخطأ، ولا يُعصمَ منْه؛ ليفصلَ بينَ رأيِه
وخبرِه عنِ اللهِ سبحانَه، وليمعنَ في الاجتهادِ تحذراً من
مضضِ المعتبةِ، وليعيَه فيعطيَ هو
__________
(1) في الأصل: "المفادة".
(2) أخرجه الطبري في التفسير (16319).
(3) في الأصل: "عها".
(4) تقدم تخريجه 2/ 551.
(5) أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572) من حديث عبد الله بن
مسعود.
(6) في الأصل: "انما".
(7) تقدم تخريجه 2/ 23.
(5/453)
وأمته الاجتهادَ حقه؛ مِنْ بذلِ الوسع،
وتركَ المبادرةِ إلى الجوابِ.
فصل
في شبههم
فمنا: أنّ تجويزَ الخطأِ عليهِ يوجب التوقُّفَ في قولِه
والشكَّ؛ لأنه إذا بادرَ بالجوابِ، وكان (1) يجوزُ عليه الخطأ،
تردَّدَ قوله بينَ الخطأِ والصَّوابِ.
فأوجب لنا تَردّداً فيه، وذلك عينُ الشَّكِّ في صحَّةِ جوابِه،
والشَّاكُّ أبداً يتوقفُ عن الاستجابةِ إلى حينِ يَترجَّحُ
عندَه أحد المجوَّزَينِ؛ إمّا (2) بظنٍّ، أو قطع، والشَّكُّ في
قولِه يوجب فسقَ الشَّاكِّ؛ لشكِّه وتوقفِه، قالَ الله تعالى:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}
[النساء: 65].
فيقالُ: إنَّ تجويزَ الخطأِ لا يوجب التوقّفَ، كما أنَّ تجويزَ
ذلك على المفتي مِنْ علماءِ أمتِه - صلى الله عليه وسلم - لا
يوجب التوقّفَ؛ خوفَ الاستدراكِ والخطأِ، ولا الشَّكَّ فِى
فتواهُ، بلْ يغلبُ على الظنِّ صحَّةُ قولِ المفتي، والانقيادُ
إلى فتواهُ، إلى أنْ تقومَ دلالةُ الخطأ.
ولأنّه باطلٌ بالتجويزِ للسهوِ، فإنَّه إذا سَلَّمَ مِنْ
نقصان، وبانَ أنَّه كانَ أخطأَ، يجوزُ عليهِ الخطأُ فِى
مناسكِه، ولا يوجب شكّاً، وكلُّ عذرٍ لهم عنِ السهوِ صالحٌ أنْ
يكونَ عذراً عنِ الخطأِ.
__________
(1) في الأصل: "وكما".
(2) في الأصل: "أو".
(5/454)
ومنها: أنّ القائلينَ بالإحماع اتفقوا على
عصمتهِ عنِ الخطأِ، والإجماعِ ليسَ بأكثرَ منْ قولِ المجتهدينَ
منْ أمتِه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانتْ أمتُه معصومةَ
عنِ الخطأِ، لم يجزْ أن يكونَ هو مجوَّزاً عليهِ الخطأُ؛
لأنَّه لا يجوزُ أن تُعطى أمته رتبةً فوفَ إصابةِ الحقِّ لم
يعطَها هو، كما لا يجوز تميزُ أمتِه عليه في بابِ الخيرِ
والعصمة (1).
فيقالُ: إنما ثبتَ الأَوْلى (2) بعدَ صحةِ أصلِ المأخذِ منَ
الذي يمنعُ أنْ يكونَ لأمتِه نوع ميزةٍ، وقدْ أصابَ عمرُ في
رأيٍ بيَّنَ الوحيُ خطأَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنْ
تابعَه فيهِ، وهو ما تقدّمَ مِن المفاداةِ، ووافقَ ربَّه في
أشياءَ أشارَ بها، ولم يكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
سبقَ إليها، والخضرُ أصابَ في التأويلِ لأمرِ اللهِ وما طويَ
في تلك الأفعالِ مِن المصالح، وأنكرَها موسى عليه السلام،
والخَضِرُ تابعٌ، ورجلٌ منْ آحادِ أمةِ موسى، فهذا بابٌ لا
يتحقَّقُ فيه أصلُ القاعدةِ فضلاً عنِ الأَوْلى.
على أنَّ الأمةَ بعدَ موتِ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - لوْ
جُوِّزَ عليها الخطأُ، ولم تعصمْ عنه، لم يحصلِ الاستدراكُ
لذلك الخطأِ، واستمرَّ على الحوادثِ، ولم يَكُنْ للناسِ مَن
يبيِّن لهم؛ ليرفعوا عنْ خطأِهم، وليسَ كذلك النبيِّ - صلى
الله عليه وسلم -؛ لأنّه إذا أخطأَ، نبَّهه الوحيُ، وأوجبَ
عليه الاستدراكَ، فلمْ يستمرَّ الخطأ، فبانَ الفرقُ بينَه
وبينَ أمتِه في هذا.
__________
(1) زاد في الأصل هنا: "عليه"، ولا داعي لها.
(2) في الأصل: "الأول".
(5/455)
فصل
في صفةِ المفتي
وهو الذي يعرفُ بالأدلةِ العقليةِ النَّظريةِ حدثَ العالمِ،
وأنّ لَه صانعاً، وأنّه واحدٌ، وأنّه على صفاتٍ واجبةٍ لَه،
وأنه منزهٌ عن صفاتِ المُحدَثينَ، وأنّه يجوزُ عليهِ إرسالُ
الرسلِ، وأنه قدْ أرسلَ رسلاً بأحكامٍ شرعَها، وأنَّ صدقَهم
فيما (1) جاؤوا بِه ثبتَ بما أظهرَه على أيديهم منَ المعجزاتِ.
فإذا ثبتَ ذلك، وجبَ أن يكونَ محصلاً منْ كتابِ اللهِ، وسُنةِ
رسولِه، وطريقِ الاستنباطِ، وإلحاقِ الشيءِ بنظيرِه، ومناسبةِ
الحكمِ لعِلتِه.
والذي يشتملُ عليهِ الكتابُ ممّا يحتاجُ إليهِ الفقيهُ: أحكامُ
القرآنِ، والفصْلُ فيما بينَ المحكم والمتشابِه، والنّاسخ
والمنسوغ، والمجمل والمفسرِ، والطلقِ والمقيدِ، والنَّصِّ
والظّاهرِ، والعامِّ والخاصِّ، والصَّحيح من الأخبارِ
والباطلِ، وطريقِ الجمع بينَ ما أوهمَ الاختلافَ بظاهرهِ،
ومعاني الآيِ والأخبارِ منْ لغةِ العربِ.
ولسنا نريدُ أنْ يكونَ في كلِّ علمٍ منْ هذهِ العلومِ ماهراً
مثلَ أنْ يكونَ في النحوِ مثلَ سيبويهِ والخليلِ، ولا في
اللغةِ كأبي زيدٍ، ولا في الحديثِ كيحيى بن معينٍ، فإنَّ ذلكَ
محالٌ حصولُه لأحدٍ معَ كثرةِ العلمِ وقلةِ العمرِ، لكنَّا
نريدُ ما دوَّنَه الفقهاءُ، وهذبَه العلماءُ في كتبهم، وقدْ
روى جماعةٌ عنْ أحمدَ رضىَ الله عنه: أنَّه اعتبرَ أنْ يكونَ
حافظاً لمئتي ألفِ
__________
(1) في الأصل: "مما".
(5/456)
[حديثٍ]، حتى إنّه تردَّد في الحافظ لأربع
مئةِ ألفِ حديثٍ، وهذا محمولٌ على أنّه يكونُ قدْ أنسَ
بالأحاديث التي تدورُ عليها الأحكامُ، وإلاّ فالحفظُ للأخبارِ
بغيرِ فقهٍ، كالحفظِ للقرآنِ بغيرِ معرفةِ الآياتِ المحكماتِ،
ولوْ حفظَ الآياتِ المحكمةَ التي تتضمّنُ أحكامَ العباداتِ
والمعاملاتِ والأنكحةِ والجناياتِ، لكفاهُ ذلك عنْ حفظِ
المواعظِ والقصصِ وما لا حكمَ فيهِ، ورويَ عنْه أيضاً: أنه
[قال]: استفتاءُ أصحابِ الحديثِ أولى منَ استفتاء أهلِ الرأيِ،
وهذا يحملُ على مَنْ جمعَ بينَ الأحاديث والفقهِ، وإلاَّ
فالمُحدِّثُ الذي لا فقهَ لَه، كالحافظِ للكتابِ الذي لا يفقهُ
معانيَ الكتابِ، ولا يعرفُ أحكامَه.
[و] مَنْ حفظ أحكامَ الفقهِ، وما أكملَ المعرفةَ بأصولِ
الدينِ، فهو عاميٌّ، لا يجوزُ أنْ يُستفتى، بلْ حكمُه أنْ
يَسْتفتيَ عالماً، ولسنا نريدُ أنْ يكونَ في الأصولِ كآحادِ
المتكلمينَ، لكنْ ما لا يسعُ جهلُه، وإنْ لم يُدَقِّقْ في
الحقائقِ، ويُمْعِنْ في الدقائقِ منَ الكلامِ، وهذا ممّا لا
يجهلُه أحدٌ منْ أئمةِ الفقهاءِ.
ويجبُ أنْ يكونَ قدِ اطَّلعَ منَ السِّيرةِ في عصرِ الصَّحابةِ
والتابعينَ ما يعرفُ بِه ما أجمعوا عليهِ مما (1) اختلفوا
فيهِ، والمحاوراتِ الفقهيةَ، فذلكَ أصل أيضاً، فإنّ بعضَ
النّاسِ يجعلُ قولَهم حُجَّةً، وبعضُهم يجعلُ ما اشتهر من
فتاويهم معَ سكوتِ الباقينَ وعدمِ نكيرِهم إجماعاً، فذلك منْ
بعضِ الأدلَّةِ الشَّرعيةِ التي لا غنى للفقيهِ عن الإحاطةِ
بها.
__________
(1) في الأصل: "فيما".
(5/457)
ويعرف مقاديرهم في المراتب والمعرفةِ؛
ليُرجِّحَ أقوأن بعضِهم على بعضٍ، وروايةَ بعضِهم على بعضٍ.
ويعرفُ ما الأصلُ الذي يُبْنى عليه استصحابُ الحالِ؛ هلْ هو
الحظرُ، أوِ الإباحةُ، أو الوقفُ؛ ليكونَ عندَ عدمِ الأدلةِ
متمسكاً بالأصلِ إلى أن تقومَ دلالةٌ تخرجُ عنِ الأصلِ.
ويَعْرفُ الأدلة وتراتيبَها على ما بيَّنّا في أوَّلِ كتابنا،
والصَّحيحَ منَ الفاسدِ، والحجَّةَ مِنَ الشبهةِ؛ ليَتبعَ
الحجَّةَ، ويرفضَ الشُّبَهةَ.
ويعرفُ الأَسماءَ الموضوعةَ في الأَصلِ -وهي الحقائقُ-
والمجازَ، ليَبْني الأحكامَ على الحقائقِ دونَ المجازِ
والاستعارةِ.
فصل
في الدلائلِ
فمنها: أنّ الاستفتاءَ استخبارٌ واستعلامٌ، ولا يجوزُ استعلامُ
مَنْ لا يعلمُ، ولا استخبارُ منْ لا يُحسِنُ؛ بدليلِ أنَّه لا
يجوزُ السُّؤالُ عنِ الإعرابِ لغيرِ نحوي، ولا عنْ معاني
الأسماءِ لغيرِ لغويٍّ، ولا السُّؤالُ عنْ فرضٍ في تركةِ
متوفىً لغيرِ فَرَضِي، وعلى هذا كلُّ صناعةٍ؛ حتى التقويم لا
يجوزُ أنْ يسألَ عنْه إلاّ مَنْ لَه خبرةٌ بالسِّلع،
والأسواقِ، والأسعارِ المتقلِّبةِ، والرغبات المختلفةِ.
ومنها: أنَّه معنى يحتاجُ فيهِ إلى التقليدِ، فاعتبر في
المُسْتَفتَى فيه الخبرةُ بطريقِ العلمِ بِه، كاستقبالِ
القبلةِ.
(5/458)
فصل
في صفة مَن يجوز له التقليدُ
وهو الذي لا يعرفُ الأدلة، ولا طرقَ الأحكامِ التي ذكرناها في
المستفتى، [و] منْ لم تكمُلْ فيه تلكَ الأحكامُ، جازَ لَه
التقليدُ؛ فإنَّنا لوْ كلَّفناهُ النظرَ فيهِ، لشقَّ ذلك على
الأمَّةِ، ولم يتسع الحالُ للمعايشِ والصَّنائع، ولذلك جعلَ
الله تعالى طلبَ العلمِ فرضاً على الكفايةِ بقولِه تعالى:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}
[التوبة: 122] بعدَ قولِه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وما ذاكَ إلاّ لِما ذكرْنا، وقدْ قالَ
صاحبُنا أحمدُ، وقدْ سُئلَ عنِ الرجُلِ يكونُ عندَه الكتبُ
فيها الأحاديثُ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،
واختلافُ الصَّحابةِ، ولا يعرفُ صحَّةَ الأسانيدِ، ولا
الصَّحيحَ منْ غيرِه: هلْ يأخذُ بِما شاءَ مِنْ ذلك؟ فقالَ:
لا، بلْ يسألُ أهلَ العلمٍ. فقدْ جعلَه عاميّاً، ولا يجوِّزْ
لَه الأخذَ بشيءٍ منْ ذلك، فكانَ ذلك تنبيهاً على أنّه لا
يجوزُ له أنْ يفتيَ غيرَه؛ لأنَّ تقليدَ الكتبِ، وأقوالِ
الصَّحابةِ، إذا لم يكنْ معَه معرفةٌ، غيرُ موثوقِ بها، فيصيرُ
بذلك مقلِّداً لِما لا يجوزُ تقليدُه، وهو المخبرُ، والمخبرُ
لا يقلدُ، كذلك الكتاب، ولهذا يمنعُ العاميُّ أنْ يعملَ بآي
المصحفِ؛ فإنه لا يعرفُ النّاسخَ منَ المنسوخ، ولا الخاصَّ منَ
العامِّ، ولا المصروفَ عنْ ظاهرِه بالدلالةِ إلى غير ما نطقتْ
بِه الاَيةُ، مثل أنْ يسمعَ قولَه تعالى: {وَلَا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ} الي قوله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]، فيدخلَ
بيتَ رجلٍ منْ معارفِه بغيرِ إذنِه، ويأَكلَ طعامَه، أو
يُفْتِيَ بذلك، أو يسأله أَعمى، أو أعرجُ عنْ
(5/459)
مثلِ ذلك، فيقولُ: ليس عليك إثم ولا حَرَج،
ويتلو على ذلك: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وعلى هذا وأمثاله، فلذلكَ
منعَ أحمدُ العاميَّ مِنَ الأخذِ بِما في الصحفِ منْ
السُّنَّةِ وأقاويلِ الصَّحابةِ، والذي يشهدُ بذلك: أنَّ
النبيٍّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أخبروهُ بالذي شُجَّ
(1) رأسُه، فقالَ: هلْ تجدون لي رخصة؛ فقالوا (2): لا،
فاغتسلَ، فماتَ، قالَ: "قتلوهُ، قتلَهم الله، هلاّ سألوا إذ
(3) لم يعلموا" (4) ومعلوم أنهم إنما تعلقوا بقولِه تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وكانوا
واجدين للماءِ، فلمْ يكنْ فيهم فقيه يعلمُ أنَّ ضررَ الجرح
كالعدمِ، ولوْ كانَ سألَ فقيهاً منْ فقهاءِ الصحابةِ رضوانُ
اللهِ عليهم، لأَفْتاهُ، وتركَ ظاهرَ الآيةِ بالدلالةِ
المفهومةِ منَ الآيةِ، أوْ منْ غيرِها منَ الأدلةِ.
فصل
في خصالٍ يستحبُّ أنْ تعتبرَ في المفتي ذكرَها صاحبُنا أحمدُ
رضيَ اللهُ عنْه
فينبغي للمستفيّ أنْ يَتخيَّرَ منَ الفقهاءِ مَن تجتمعُ فيه،
ويتجنبَ مَن لا تكونُ فيه؛ مِن طريقِ طلبِ الفضلِ، لا على وجهِ
الشرطِ.
قالَ أحمدُ: لا ينبغى للرجلِ أنْ ينصبَ نفسَه -يعى: للفُتيا-
حتّى تكونَ فيه خمسُ خصالٍ:
__________
(1) في الأصل: "مسح".
(2) في الأصل: "فقال".
(3) في الآصل: "إذا".
(4) أخرجه أبو داود (336) من حديث جابر بن عبد الله.
(5/460)
أنْ تكونَ له نية، فإنَّه إذا لم تكقْ لهُ
نيةٌ، لم يكنْ عليهِ نور، ولا على كلامِه نور.
والثانيةُ: أنْ يكونَ لَه وقارٌ وسكينةٌ.
والثالثةُ: أنْ يكونَ قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفتِه.
والرابعةُ: الكفايةُ، وإلا مضغَه النّاسُ.
والخامسةٌ: معرفةُ النّاسِ (1).
فصل
في تفسيرِ ذلك وبيان فوائدِ هذه الخصال
أمّا النيةُ، فإنّه يعني: قصدَ الإرَشادِ، وإظهارِ أحكَامِ
اللهِ سبحانَه للعامَّةِ، وهدايةِ المسترشدينَ، دونَ الرياءِ،
والسُّمعةِ، والتنويهِ باسمه، فإنَّ ذلك إذا خلصَ، كانَ عليه
مسحةٌ منَ القبولِ، فاستجابَ لَه المسترشدُ، وصارَ إلي فتواهُ،
ويكونُ قصدْه في بيانِ أحكامِ الشرع العملَ بها، كما يقصدُ
المجاهدُ إعلاءَ كلمةِ اللهِ.
وأمّا قولُه: ويكونُ عليهِ سكينةٌ وحِلْمٌ ووقارٌ، فإنَّ ذلك
ممَّا يُرغِّبُ المستفتيَ في الإصغاءِ إلى فتواهُ، والاستجابة
لأحكامِ اللهِ، فإنَّ المفتيَ مخبر عنِ اللهِ، ووارثُ رسولِ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكما أنّ للنبوةِ (1 وقاراً
معتبراً
__________
(1) "إعلام الموقعين" 4/ 199.
(5/461)
ليكونَ 1) ذلك داعيةً إلى الاستجابةِ لَهم،
كذلك ورثةُ الأنبياءِ -وهمُ العلماءُ- يجب أنْ يتخلًقوا
بأخلاقِهم؛ ليستتبعوا في أحكامِ الحوادثِ العوامَّ، كما
إستتبَعَ الأنبياءُ عليهم السلام الأممَ في أصلِ ما دعوا إليه
منَ الإسلامِ، ولأنَّ المفتي مخبر عنِ اللهِ، فإذا كانت عليه
سكينةٌ ووقارٌ وحِلمٌ، كانَ ذلك منْه تعظيماً للخبرِ
والمُخبَرِ عنْه، وإذا كانَ فيه خَرَقٌ وتَبذّلٌ وهَزْلٌ، لم
يثقِ النّاسُ إلى خبرِه كلَّ الثقةِ، وقالوا في نفوسِهم: لوْ
كانَ ما يدعونا إليه على علمٍ منه، لسبقَ إليه، ولفاضَ ذلك على
أبعاضِه وأطرافِه.
وأمّا قولُه: يكونُ قوياً، فإنّما يعني به: قوياً في العلمِ،
ويأوي إلى ثقةٍ بالدلالةِ التي أسندَ إليها فتواه، كما قال
سبحانهَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]،
يعني: بفهمٍ وعلم لما (2) يفهمُ، ويقين لما يسمعُ، وقالَ لموسى
عليه السلامُ في التوراةِ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، ومتى لم
يكُ كذلك؛ كانَ مخمِّناً أو حادساً، والضعف ميزةُ التقليدِ،
والقوةُ ميزة الأخذِ بالدليلِ.
وأمّا قولُه: الكفايةُ وإلاّ مضَغه النّاسُ، فيريدُ بذلك:
المعيشةَ، و [أَن] لا يمنعَه التفقهُ منَ التكسبِ، فإنَّ
المنتدبَ للعلمِ متى لم تكنْ له جهةٌ يرتفقُ بها، نسبَه
النّاسُ إلى التكسبِ بالعلمِ، وأخذِ العوضِ عليه، فسقطَ قولُه
إذا تكلمَ الناسُ فيهِ، ولهذا حمى الله أنبياءَه عنْ أخذِ
أموالِ النّاسِ، بلْ لم يَنصبْ نبياً للبلاغ عنْه إلاّ ولَه
حرفةٌ بينَ خياطةٍ، وقصارةٍ، ونجارةٍ، ورعي
__________
(1 - 1) في الأصل: "وقار معتبر ليكن".
(2) فى الأصل: "بما".
(5/462)
غنمٍ، ليكون (1) ذلك أبعدَ للتهمةِ،
والتهمةُ تمنعُ قبولَ القولِ، والمندوبُ للاستجابةِ لَه لا
يعرضُ لِما يلفتُ النّاسَ عنْه، فيسقط مقصودُ النصبةِ، والمنصب
منصبُ (2) استتباعِ.
وأمّا قولُه: فمعرفةُ النّاسِ، فيحتملُ: أنْ تكونَ معرفة
الرجالِ، ليعولَ على روايةِ المعروفِ بالحفظِ والثقةِ،
ويتجنَّبَ مَن يعرفُه بالتحريفِ، أو الغلطِ، أو عدمِ الحفظِ،
أو تَنكّبِ السُّنَّةِ، ويحتملُ: ومعرفةُ النّاسِ الفاجرِ الذي
لا يستحقُّ الرُّخصَ والتسهيلَ عليهِ، فيلزمُ عليه العزائم،
ولو استفتاهُ في الخلوةِ بالمحارمِ معَ علمِه بأنه يسكرُ، لا
يفتيهُ، فإنّه لا يُؤمنُ وقوعُه على محظورٍ منْها، ويزن بمعارف
الرجالِ كما وزنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشّابَّ
والشيخَ في سؤالِهما عنِ القُبْلةِ في الصَّومِ، فأمرَ
الشَّيخَ بجوازِها، والشّابَّ بالنهي عنْها، وكذلك رخصُ
السَّفرِ لا يُفتى بها أجناد وقتِنا؛ لمعرفتِنا بأسفارِهم،
فهذا وأمثالُه لا يحصلُ إلاّ بمعرفة النّاسِ، وكذلك
المُعْتدَّاتُ إذا كنَّ على صفاتِ وقتِنا، لا ينبغي أنْ يسهلَ
عليهم أمر العِدَّةِ بقبولِ قولِهنَّ في أقصرِ مُدَّةٍ، بلْ
تبنى الفُتيا لهنّ على العادةِ منَ الحيضِ، ويستشهدُ الثقات من
بطانةِ اُهلِها، وإلى أمثالِ [ذلك].
فمتى لم يكنْ الفقيهُ ملاحظاً لأحوالِ النّاسِ، عارفاً لهم،
وَضَعَ الفُتيا في غيرِ موضِعِها، وإلى هذا أشارَ النبيُّ -
صلى الله عليه وسلم - بقولِه (3): "اسْتَفْتِ نفسَك، ولو
__________
(1) في الأصل: "ليكن".
(2) في الأصل: "ينصب"
(3) فِى الأصل: "لقوله".
(5/463)
أفتاكَ المفتونَ" (1).
فصل
ولا يقفُ الاستفتاءُ والتقليد على إمامٍ معصومٍ، بلْ منْ ظهرَ
علمُه وعدالتُه وبلوغُه حده، كانَ تقليدُه جائزاً، خلافاَّ
لَلشيعةِ: لا يُعتَدُّ إلا بتقليدِ إمامٍ معصومٍ، وهذا يُبنى
على أصلٍ لهم نخالفُهم فيهِ، وهو إثباتُ معصومٍ غيرِ الإجماع.
فصل
الدلائل على ذلك
فمنها: أنَّ العصمةَ لوْ كأنت معتبرةً في التقليدِ في الحكمِ،
لكانت معتبرةً في المخبرينَ عنِ الإمام؛ لأنه لا تجتمعُ معَ
شيعتِه في سائرِ الآفاقِ، فإنْ اوقِفَتِ (2) العصمةُ في
المُبَلِّغينَ عنْه، بطلَ قولُهم؛ لأنَّ خبرَ الواحدِ غير
المعصومِ عنِ المعصومِ فِى الحكمِ، كتقليدِ غيرِ المعصومِ في
الأحكامِ أنفسِها، وإذا جازَ إسنادُ التقليدِ إلى المخبرِ عنِ
الإمامِ، ولا عصمةَ في حقِّه، بطلَ هذا الأصلُ.
ومنها: أنَّ الإمامَ عندَهم لم يَظْهَرْ تَقِيَّةً،
والمُتَّقِي لا تظهرُ فتواهُ، ولا تنفصلُ التقِيَّةُ عنْ
غيرِها في الفتوى، فلا يحصلُ الوقوفُ على أحكامِ اللهِ.
ومنها: أنه لو راعينا في أحكامِ الفروع الرجوعَ إلى القولِ
المقطوع،
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في "الحلية " 9/ 44 من حديث
واثلة بن الأسقع.
(2) في الأصل: "اومت".
(5/464)
لوقفتِ الحوادثُ، وإذا بنيَ الأمرُ فيها على الظن، تحيرتِ (1)
الأحكامُ.
ومنها: أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ كرمَ الله وجهَه- وهو إلأصلُ
في هذا - نطَقَ بما يُبنى على (2) الظنِّ دونَ القطع، مثلُ
قولهِ في حدِّ السكرانِ: إنَّه إذا سكرَ هذى، وإذا هذى افترى،
فحدُّوه حدَّ المفتري (3)، وقولِه في الرجلِ الذي كانَ يؤتى
كما تؤتى النساءُ: عاقبوهُ بما عاقبَ الله بِه قومَ لوطٍ، وهو
الرجمُ بالحصى (4)، وهذه استدلالاتٌ ظنيَّّةَ، وتعليلاتٌ
إقناعيةٌ، بنى عليها الأحكامَ الشرعيةَ. |