الواضح في أصول الفقه فصل
إذا تورَّط في معصيةٍ لا يمكنه الخروجُ منها إلا إقلاعاً
بالقلب دونَ تركِها صورةً، مثالُ ذلك: غاصبٌ لدار تمكَّن من
سكناها وتَوسُّطِها ابتذالاً واستمتاعاً بعِراصِها، ومستظلاً
(3) بسقوفِها، ومستنداً (4) إلى
__________
(1) في الأصل: "فذلك".
(2) تقدم تخريجه 1/ 278.
(3) في الأصل: "ومستظل".
(4) في الأصل: "ومستند".
(5/426)
جُدْرانهِا، ومستمتعاً (1) بأنواع
الاستمتاع بها، عرض له النَّدمُ لتذكرة ونظرٍ أَوْجبَ الندم،
وتحقَقَ لَه العزمُ على أَنْ لا يعودَ، فجعلَ يسعى في
عَرْصتِها خارجاً، ولرجله ناقلاً، فهل يكون بتحرُّكه فيها
آثماً؟
ومثال آخر: دار أو ساحَةٌ فيها جرحى في آخر أرماقِهم، أقدمَ
إنسانٌ إلى توسُّطِهم لينظرَ إليهم، فَحَصَلَ على ذواتِهم
ساعياً، ثم بلغ إلى جريح متوسِّطٍ، فظلَّ عليه واقفاً، ثمّ
عرضَ له الندمُ على حصوله، وعلى ما تقدَّم مِن تنقُّلِه حالَ
دخولِه، ووطئِه لواحدٍ منهم بعدَ واحدٍ، وعَزَمَ أنْ لا يعاودَ
إلى مثلها، فهل ينفعُه ندمُه في إزالةِ مأثمِ المقامِ على جسدِ
ذلك الجريح؟ وما الحيلةُ له؟ وهل يحصل له زوال المأثمِ
بالتوبةِ قبلَ الخروم، أو يكونُ على الذنب مُصِرّاً وبه
متلبِّساً؟
اختلف الناسُ في ذلك: فقالَ قومٌ من المعتزلةِ وغيرهم من
المتكلمين: لا تصحُّ له توبةٌ، وهو على ما تَصرَّفَ وتَحرَّكَ
في الدارِ المغصوبةِ، وفي لبْثِه على الجريح، عاصٍ مُصِرٌّ لا
توبةَ لَه (2).
وقالَ قومٌ: بل تصحُّ توبته، ولا تقفُ صحَّتُها على مفارقةِ
المكانِ، ولا مَشيه وسَعْيُه في عَرْصةِ الدارِ الغصبِ خارجاً
عصياناً (3) بلْ هو معَ الندمِ
__________
(1) في الأصل: "ومستمتع".
(2) انظر "البرهان" 1/ 298 وما بعدها، و"المنخول" (126) وما
بعدها.
(3) في الأصل: "عصيان".
(5/427)
والعزمِ تارك مقلعٌ، وهو الصَّحيحُ عندِي
(1).
فصِل
في أدلّتِنا
فمنها: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على وجوبِ التوبةِ، والخطابَ
منصرفٌ إليهِ في تحصيلِها، والنهي عن الإصرارِ على ما أقدمَ
عليهِ مِن المعصيةِ والحوبة (2)؛ بدخولِ الدارِ والسَّاحةِ على
الصِّفةِ المذكورةِ، وهي المخالفةُ لأمرِ الشَّرع ونهيهِ،
وكلُّ مخاطبٍ بطاعةٍ فلا بُدَّ لَه مِن حصول شرطِها، وشرطُ
التوبةِ بعدَ تَقدُّمِ الندمِ على الماضي، والعزمِ في
المستقبلِ: التركُ، وإخراجُ المظلمةِ؛ إمّا برضا المظلومِ، أو
التوصُّلِ إلى إزالةِ الظُّلمِ عنه، ولا طريقَ لمفارقةِ الذنب
ها هنا -وهوَ الكونُ في المكانِ- إلاً بمفارقتِه، ولا تتحققُ
المفارقةُ للمكانِ إلاَّ بقطع الأكوانِ في مساحةِ الدارِ كوناً
بعدَ كونٍ كما يتخلصُ إذا تجدَّدَ الحَدَثُ (3)، بأنْ كانَ في
مسجدٍ، فأجنبَ، وحرمَ عليه اللّبثُ؛ فإنه يخرجُ، ولا يلبثُ،
وما خروجُه إلاّ كصورةِ لبثِه؛ في كونِ إشغالِ عرصةِ المسجدِ
به معَ حدثِ الجنابةِ، وكذلك مَن كانَ في دارٍ على وجهِ
الاستعارةِ من مالكَها، فانتقلتْ إلى غيرِه بأمر حقٍّ واجبٍ،
صارَ كونه فيها بعد الانتقالِ إلى ذلك الغيرِ ومقامُه عصياناً،
ثمَّ لا يكونُ
__________
(1) انظر "تيسير التحرير" 2/ 219، و"الأصول" للسرخسي 1/ 81.
(2) الحوب والحو بة: الإثم.
(3) في الأصل: "الحق".
(5/428)
بخروجه، وقطع عَرْصتِها خارجاً، عاصياً، بل
متخلِّصاً وتاركاً، وكذلك مَن طلَعَ الفجرُ عليهِ وهو مخالطٌ
لأهلِه نَزَعَ، وإنْ كانَ النَّزعُ تصرُّفاً في الفرج بعدَ
طلوع الفجرِ، لكنْ لمّا كانَ بتصرُّفِه تاركاً، خرجَ عن كونِه
آثماً، وكذلك غاسلُ الطيبِ عن ثوبهِ وبطنِه وظهرهِ بيدهِ، هو
مُطيِّبٌ لها، لكنْ لمّا كانَ قصدُه الإزالةَ، لم يُعَدَّ
بالغسلِ باليدِ مطيِّباً لليدِ، كما لم يُعَدَّ واطِئاً
بالنًزع لذَكَرِه من الفرج [فلا خلاف] في الإثم، وإنِ اختلفوا
في التكفيرِ، فما اختلفوا في معنى التأثيمِ.
فإنْ قيلَ: هو الذي ورَّطَ نفسَه، وأَلْجأَها إلى التصرُّفِ في
مِلكِ (1) الغيرِ، والوقوفِ على الجريح، والنَّدمُ في قلبِه لا
يُزيلُ الإصرارَ المحسوسَ بتصرُّفِه في دارِ المغصوبِ منْهُ،
وذات المجروح، فصار كالاعتذار من الجاني إلى غير المجني عليه،
وكُلُّ ما يتجدَّدُ مِنَ التصرُّفِ، فهو الذي أحوجَ نفسَه
إليهِ، وهذه جناياتٌ مبتدأةٌ، فلا تغني التَّوبةُ معَ بقائها؛
لأنَّها ندمٌ معَ ملابسةٍ، وذلك عينُ الإصرار.
وفارق حدوث الجنابةِ على مَن دخلَ المسجدَ غيرَ مُحدِثٍ، ودخلَ
دارَ الغيرِ وهو مالكٌ؛ لأنَّ الحدثَ تجدَّد، وملكَ الغيرِ
تَجدَّدَ، وما سبقَ منه فعل منهيٌّ فاستَدامَه، وها هنا سبقَ
منه الغصبُ، والدُّخولُ إلى الجرحى مقتحماً للنهي، فجميعُ ما
يتوالى من دوامه فهو عصيانٌ صورةً ومعنى، فلا سبيلَ إلى صحَّةِ
التوبةِ إلاّ بعد زَوالِه.
__________
(1) في الأصل: "تلك".
(5/429)
فيقال. هذا جميعُه لم يمنع اتجاهَ الأمرِ
بالتوبةِ إليهِ، ومفارقةِ ما هو عليه بحسبِ إمكانِه، وإذا كانَ
مأموراً، كانَ التخلُّصُ بكونِه متصرِّفاً في الدارِ مغفوراً،
إذا كانَ تصرُّفُه للتخلُّصِ منَ الظُّلم، وإخلاءِ الدارِ من
جثتِه، ولا يمكنُه ذلك إلاْ بشيءٍ يكونُ به مفرغاً (1) للدارِ
عن جثَّتَه (2)، وعن شغلِها بجسمِه، ولهذا لو طيَّبَ المحرمُ
عضواً عَمْداً، كانَ عاصياً، فلو ندمَ، وجعلَ يغسلُ الطيبَ
بيدِه قاصداً لإزالتِه، لم يُعَدَّ متطيِّباً، ولو غصبَ عيْناً
منَ الأعْيانِ، ثم نَدِمَ، وشَرَعَ في حملِها على رأسِه
معتذراً إليهِ بعدَ اعتذارِه إلى اللهِ، لم يخرج عنْ كونِه
تائباً بذلك النقلِ، وإنْ كانَ تصرُّفاً، وكذلك إذا جعلَ
يُرسلُ (3) الصَّيدَ مِنَ الأَشْراكِ في الإحرامِ أو الحرمِ،
كانَ بذلكَ طائعاً لا عاصياً، إلاّ أنَّ الضَّمانَ باقٍ إلى
أنْ تحصلَ العينُ المغصوبةُ في يدِ المغصوبِ منه (4)، ويحصلَ
الصَّيدُ ممتنعاً بنفسِه طائراً في الفضاءِ، أو شارداً في
العراءِ؛ لأنَّ الضَّمانَ لا يقفُ على الإثمِ، ولا يتبعُ
الإثمُ الضمانَ بدليلِ المخطئِ والنًائمِ، وكذلك الرَّامي
بالسَّهمِ إذا خرجَ السَّهمُ عنْ محلِّ قدرتِه، فندمَ، سقطَ
المأثمُ، وبقيَ الضَّمانُ، وكذلك إذا جرحَ، وتابَ والجرحُ
مارٌّ (5)؛ إمّا إلى السِّرايةِ، أوِ الاندمالِ، صَحَّتْ
توبتُه.
__________
(1) في الأصل: "يعرعاً".
(2) في الأصل: "حشيته".
(3) في الأصل: "يسرسل".
(4) في الأصل: "الغاصب".
(5) في الأصل: "مارا".
(5/430)
فإنْ قيلَ: لا نُسلِّمُ هذا جميعَه، بلْ
كلُّ أثرِ معصيةٍ معصيةٌ إلى أنْ يَزولَ، وتعْقُبَه التوبةُ،
وقدْ جاءَ في السُّننِ ما يشهدُ لهذا المنع، قالَ النبيُّ -
صلى الله عليه وسلم - "مَنْ سنَّ سنَّةً سيِّئةً كانَ عليه
وِزْرُها، ووزرُ مَنْ يعملُ بها إلى يومِ القيامةِ" (1) ووردَ
في الخبرِ: أنّ الداعيَ إلى البدع إذا تابَ، قيلَ لَه: وكيف
بمنْ أضللْتَ (2)؟ وعن ابنِ عباسٍ في القاتلِ: وأنَّى لَه
التَّوبةُ (3)؟ وإنَّما قالَ ذلك في القتلِ، لأَنَّه أثرٌ لا
يمكنُ تلافيهِ بالإزالةِ.
قيلَ: إذا لم تُسلِّم، دلَّلْنا عليه بأنَّنا أَجْمَعْنا على
أنَّ الحاصلَ في دارِ الغيرِ غصباً مأمورٌ بالخروج عنها، فإذا
ثبتَ أنَّه مأمور، فخروجُه طاعةٌ لأمرِ اللهِ، فلا يجوزُ أنْ
يكونَ معصيةً وهو حركةٌ واحدةٌ، فيكون بها طائعاً منْ حيثُ
كانَ تاركاً، عاصياً مِنْ حيثُ كانَ في الدارِ ساعياً؛ إذْ لا
يجتمعُ النًقيضانِ للفعلِ الواحدِ، وبهذا المعنى مَنعْنا
صحَّةَ الصَّلاةِ في الدّارِ المغصوبةِ، وحَكَمْنا بإبطالِها،
حتى لا تجتمعَ الطّاعةُ والعصيانُ في كونٍ واحدٍ.
فإنْ قيلَ: فذاكَ هو الحجَّةُ [عليكم]؛ لأنَّكم غلَّبتُم
المعصيةَ على
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 224.
(2) أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": (287)،
ورواه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" 28 - 29، وذكره شيخ
الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 16/ 23 - 24، وقال: إنه
من إلاسرائيليات.
(3) أخرجه أحمد (1941) و (2142)، والترمذي (3029)، وابن ماجه
(2621)، والنسائي 7/ 85 و 8/ 63.
(5/431)
الطّاعةِ، فأبطلتم الصَّلاةَ؛ لكونِه
لابثاً في الدارِ المغصوبةِ، فأَبْطِلوا ها هنا التوبةَ،
وأوقِفوا صحَّتَها على مفارقةِ الدّارِ، كما أَوْقَفْتُم
صحَّةَ صلاتِه على الخروج منِ الدّارِ، وإنْ كانَ الشَّرع
يأمُرُه بالصَّلاةِ لا سيَّما عندَ ضيقِ الوقتِ، كما يأمُرُه
بالخروج ها هنا، ثُمَّ أَسْقَطْتُم حكمَ الأمرِ، وغلَّبتُم
الحظرَ، فوجبَ أنْ تُغلبوا الحظرَ ها هنا على الأمرِ بالخروج،
ولا يقعُ الخروج طاعةً، وإنْ كانَ مأموراً بِه.
قيلَ: الأمرُ بالصَّلاةِ مشروطٌ بالبقعةِ الحلالِ، فلم تَحصُلْ
طاعة إلاّ بالخروخ عنِ الغصبِ، وها هنا الطّاعةُ المأمُورُ بها
فهي نفسُ الخروج، ولا يجوزُ أنْ يقعَ الخروجُ مشروطاً بأنْ لا
يكونَ في العَرْصةِ ساعياً، وفيها ماشياً، بلْ يكونُ مشروطاً
بأنْ لا يكونَ مُصِرّاً، ولا قاصداً للمقامِ والتصرفِ، ألا ترى
أنه يحسُنُ أنْ يقالَ: صلِّ بشرطِ أنْ لا تكونَ غاصباً لمكانِ
الصَّلاةِ، ولا يحسُنُ أنْ يقالَ: اخْرُجْ منَ الغصبِ ولا
تَكُنْ في الغصبِ ساعياً، فلا يبقى ما يدخلُ تحتَ الإمكانِ
إلاّ تغييرُ قصدِه، فأمّا تغييرُ مكانِه، فلا.
[و] لو قيلَ في الصَّلاةِ في البقعةِ المغصوبةِ: إنها
كمسألتنا، لم يَبْعُدْ، فهو أنَّه لو غصبَ داراً، فحبَسَه فيها
غيرُ (1) مالِكها، ومنعَه من الخروج، فإنه إذا ندمَ وأقلعَ،
ثُمَّ صلّى، صحَّتْ صلاته، وإنْ كانَ مصلِّياً في نفسِ
المكانِ، لكنْ لمّا زالَ الإصرارُ، وحصلَ الندمُ والإقلاعُ،
صحَّتِ الصَّلاةُ
__________
(1) في الأصل: "عن".
(5/432)
بحَسبَ الإمكانِ.
فإن قيلَ: هذا حكمُ الدارِ المغصوبةِ، فما قولُكم في حصولِه في
السَّاحةِ المستوعبةِ بالجرحى، إذا حصلَ على واحدٍ منهم،
وندمَ، ما الذي يصنعُ؟
قيلَ: لا يجوزُ أنْ ينتقلَ إلى آخرَ قولاً واحداً؛ لأنَّه
يحصلُ مبتدئاً بالجنايةِ على ذلك الإنسانِ، كما لو سقطَ مِن
غيرِ اختيارِه، فحصلَ سقوطُه على واحدٍ، لم يَجُزْ عنْدَنا
جميعاً أنْ ينتقلَ؛ لأنَّ الأوَّلَ أصابَتْهُ محنة لم يكن
للساقط عليه فيها صنعٌ، وإذا أراد الانتقال إلى الغيرِ، صارَ
مبتدئاً بالجنايةِ، فيقفُ مُتندِّماً (1) مُتمنِّياً أنْ
يُخلَقَ له جناحانِ يطيرُ بهما، أو يَتدلَّى لهُ حبلٌ
يَتشبَّثُ به، فإذا علمَ الله منه ذلك، كانَ ذلك غايةَ جهدِهِ،
وصارَ بعدَ ندمِه كحجرٍ أَوْقعَه الله على ذلك الجريح، وقد
قالَ الفقهاءُ مثلَ ذلك فيمن كانَ في مركبٍ، فرماهُ أهلُ
الحربِ بالنَّارِ، فإن علمَ بأنه ينجو بإسقاطِ نفسِه إلى
البحرِ، أو غلبَ على ظنِّه السَّلامةُ بذلك، وجبَ عليه
الرَّميُ بنفسِه ليقيَها من العطبِ، وإنْ غلبَ على ظنِّه
السَّلامةُ معَ المقامِ في المركبِ بتلافي النارِ وإطفائِها،
حَرُمَ عليه طرحُ نفسِه في البحرِ، وإنْ تساوى الأمرانِ في
تجويزِ السّلامةِ، تخيَّرَ، وإنْ تساوى الأمرانِ في تحقّقِ
الهلاكِ، وقف ولم يَتحرَّكْ، حتى لا يكونَ شارعاً في إهلاكِ
نفسِه، فلأن يموتَ مغلوباً على هلاكِ نفسِه، وليسَ ذلك
فِعْلَه، أَوْلى مِنْ أنْ يشرعَ في فعلٍ يكونُ فيهِ وبِه
مساعداً على هلاكِ نفسِه.
__________
(1) في الأصل: "مبتدباً".
(5/433)
ومنها: أنَّه أتى بالمأمورِ بحسبِ إمكانِه،
فلا يكونُ عاصياً، كما لو ضربَ ساقَه، فعجزَ عنِ الصَّلاةِ
قائماً، أو ضَرَبَتْ بطنَها، فنَفِسَت وأَجْهضت ذا بطنِها،
فإنه يجعل ذلك بمثابةِ ما كانَ الأمران جميعاً منْ قِبَل
غيرِهما، في سقوطِ الصَّلاةِ عنِ النّفَساءِ، والقيامِ عنِ
المَكسورِ السّاق، كذلك السَّعيُ في السّاحةِ بعدَ التوبةِ
قصداً للخروج طاعةٌ، فلا يجوزُ أن يُجعَلَ معصيةً معَ كونِه
خرجَ بحَسَبِ إمكانِه.
ومنها: أنَّ إخراجَ نفسِه منَ الغصبِ قاطعاً بها كوناً بعدَ
كونٍ، وهُويّ اليَدِ في مِلْكِ المغصوبِ منه، ليسَ بأكثرَ مِنْ
حملِ العينِ المغصوبةِ لرَدِّها (1) على مالكِها قاطعاً بها
كوناً بعدَ كونٍ وهىٍ (2) في يدِه على الصُّورةِ التي كانت، ثم
مرورِه بها إلى دارِ صاحبها، نادماً على ما سبقَ منَ الغصْبِ،
عازماً على أنْ لا يعاودَ غصبَها، ولا غصبَ غيرِها، وذلك محضُ
الطّاعةِ الى لا يَشوبُها عصيان، كذلك الخروجُ بنفسِه منِ
البقعةِ المغصوبةِ.
فإنْ قيلَ: لا نُسلمُ، بلْ حكمُه حكمُ الغاصبِ في المأثمِ، إلى
أنْ تزولَ يدُه إلى يدِ المالكِ، كما تقولُ الجماعةُ في
الضَّمانِ لها، وإنْ كانَ حاملاً لها إلى (3) مالكِها، ولم
يبرأ منْ ضمانِها، كذلك نقولُ نحنُ في مأثمِ الغصبِ.
قيلَ: لا بقاءَ للمأثمِ بعد ما رضيَه الشَّرعُ معذرةً وتوبةً،
فقال: "التوبة
__________
(1) في الأصل: "كردها".
(2) في الأصل: "وهو".
(3) في الأصل: "على".
(5/434)
تَجُبّ ما قبلَها" (1)، كما لا بقاءَ
لسيئةٍ معَ الإيمانِ بعدَ الكفرِ؛ لقولِه: "الإسلامُ يجبُّ ما
قبلَه" (2)، وبابُ الضَّمانِ لا يُقارِب المأثمَ؛ بدليلِ أنَّ
المبتدئ بإتلافِ المالِ على وجهِ الخطأِ أو الجهلِ لا يأثمُ
بِه، وإنْ كانَ ضامناً معَ الجهلِ والخطأِ، والذي خاطَبَه
الشرعُ بِه منَ التوبةِ، وأحبطَ به الماضي، لم يَكُنْ إحباطَ
الماضي مِنَ الذنوبِ بالمستقبلِ منَ التوبةِ إلاّ لأَنَّ
العملَ (3) الماضيَ، والواقعَ الفارطَ، لا يمكنُ تلافيهِ بأمرٍ
يعودُ إليه، لكنْ بندمٍ على وقوعِهِ، وعَزْمٍ في المستقبلِ أنْ
لا يعاودَ إلى مثلِهِ، ولا علَّةَ في قبولِ التوبةِ، وإحباطِها
لما سبقَ، إلاَّ هذه العلةُ، وهوَ أَنَّه لا يمكنُه تغيير ما
وقعَ وسبقَ، ولا إزالةُ ما سلفَ، وهذا في الحاصل في عَرْصةِ
الجرحى والغَصْبِ ممتنعٌ استدراكُه بعدَ حصولِهِ، منْ طريقِ
إزالةِ دوامِ كونِهِ في السَّاحةِ والدارِ المغصوبةِ، فلا يبقى
لَة فيه حيلةٌ، فيصير في استحالةِ التلافي كالماضى منَ
الأعمالِ القبيحةِ، ويبقى ما (4) امرَ بهِ منَ التوبةِ ندماً
وعزماً على ترك المعاودةِ، ماحياً لمأثمِ دوامِ كونِهِ صورةً
ممثلةً، كما محًتِ التوبةُ ما قدْ كانَ منَ الأعمالِ، وخرجَ
إلى الوجودِ منها، وكما صارَ بالتوبةِ ما
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 188 - 189 من حديث شداد بن
أوس، بلفظ: "التوبة تغسل الحوبة".
(2) أخرجه أحمد 4/ 199و 204 و 205، وابن سعد في "الطقات" 7/
394 - 395، والبيهقي في "دلائل النبوة" 4/ 351، من حديث عمرو
بن العاص الطويل في قصة إسلامه.
(3) في الأصل: "العل".
(4) في الأصل: "بما".
(5/435)
كانَ، كأنَّه لم يكنْ، وَآثار (1) ما سبقَ
منْ فعلِهِ تتخلدُ بمن قتلهم، صرعى في الصحراءِ تأكلهم
العافِية (2)، أو في لحودهم وقبورهم، وآثارُ أفعالِه في
تَخريبِ الأبنيةِ، وإحراقِ العروش، وقلع الغروسِ، وقطع
الأعضاء، والمسألة التي أوقعَها في المظلومين مِنَ الأحياءِ
يرون بها أنفسَهم بينَ الأَصِحّاء، فهذه آثارُ الأفعالِ
باقيةٌ، وتوبتُه منْ ذلكَ لجميع ذلكَ ماحيةٌ، كذلكَ نفيُ كونِه
بعدَ التوبةِ في هذهِ الساحةِ التي أمرَ بالتوبةِ منْ أصلِ
الفعلِ، يكونُ كوناً وشغلاً صورَةً، ويسقطُ المأثمُ حكماً، كما
كانتْ تلكَ الاَثارُ باقيةً صورةً، وتَنْمَحى بالتوبةِ حكماً،
والعلةُ تجَمعهما (3)، وهيَ عدمُ القدرةِ على إزالةِ ما وقعَ
إلا بما أتى بهِ منَ الندمِ والعزمِ استدراكاً، كذلكَ ها هنا،
فلا فرقَ بينَهما، فصارَ الكونُ والشغلُ الحاصلُ في الحالِ
كالفعلِ الماضي؛ حيث لا تدخلُ تحتَ القدرةِ إزالتُه، وصارتِ
التوبةُ ماحيةً لمأثمِ الأثرِ الماضي، وهذا الأثرِ الباقي.
فصل
في متعلقِهم وشبههم في ذلكَ
فمنها: أنْ قالوا: إنَّ الأفعالَ مبتدأ" ومستدامةٌ، ثمَّ إنه
لا توبةَ معَ المبتدأَةِ من الأفعالِ؛ كالقتلِ، والشربِ،
والزِّنى، كذلكَ لا توبةَ معَ
__________
(1) في الأصل: "وآثام".
(2) أي السباع الطالبة للطعام.
(3) في الأصل: "تجمعها".
(5/436)
استدامةِ ذلكَ، وهل الاستدامةُ إلاَّ
الفعلَ بعينه (1)، لكنَّه امتدَّ بمعنى مضى عليه زمان بعدَ
زمانِ، وهوَ في سعيِه في الدارِ الغَصْبِ خارجاً، كسعيِهِ فيها
داخلاً صورة، وهوَ فَعل بنِيَ على التَّغَلُّبِ والتعدي، فلا
وجهَ لصحَّةِ التوبةِ معَ بقائِهِ ودوامِهِ.
فيقالُ: نحنُ قائلونَ بموجب هذا الدليلِ، وأنَّ الدوامَ
كالابتداءِ، لكنْ مَنْ يُسلِّمُ لكمْ أنَّ السَّاعيَ للخروج
والتركِ، والخالعَ للثوبِ الغصبِ للتعرِّي عنْهُ وترك اللبسِ،
معَ ندمِهِ على ما ابتدأَ، وعزمِه على أَنْ لا يعودَ إليهِ
أبداً، يكونُ مستديماً؟! بلْ يجبُ أن نحقِّقَ ما الذي كانَ به
آثماً وعاصياً في الابتداءِ، وهلْ كانَ إلاَّ الدخولَ بقصدِ
الاستعلاءِ، ورفع اليدِ المُحِقَّةِ، وإثباتِ اليدِ
المبُطِلَةِ؟ فلو لم يكنْ بهذه النيةِ، بل كانَ غيرَ عالمٍ،
أوْ كانَ مغروراً به (2)، أو (3) كان مأذوناً لَهُ في ذلكَ، لم
يكنْ عاصياً ولا آثماً، فإذا زالَ ذلكَ في الدوام، عُدِمَ
الغَصْبُ بعدمِ القصدِ، وهل هوَ مأمورٌ بالتركِ والنّزوع، أم
لا؟ فمن قولكم: بل هوَ مأمورٌ بالخروج، منهيٌّ عَنِ المقامِ،
فيقالُ: فإذا امتثلَ الأمرَ، ونزعَ عَنِ الغَصْبِ بغايةِ
الإمكانِ، كيفَ يقالُ: إنَّه مستديمٌ للغصبِ؟! وهل بقيَ بعدَ
الندمِ والعزمِ إلاَّ صورةُ الفِعلِ؟! وهي صورةُ التركِ.
__________
(1) في الأصل: "لعينه".
(2) في الأصل: "بها".
(3) في الأصل: "و".
(5/437)
ومنها؛ أنْ قالوا: إنَّ غصبَ الملكِ حقٌّ
لآدمي، والتصرُّفَ فيهِ حقٌّ لَهُ، فإذا تابَ، فقدِ اعتذرَ إلى
غيرِ مالكِ المجنيِّ عليهِ، فلا تسقطُ المعتبة واللائمةُ مِنْ
جهةِ صاحبِ الحقِّ، كما لو جنى على شخصٍ، ثُمَّ اعتذَر إلى
غيرِهِ، فإنَّه لا يؤتر في حقهِ، كذلكَ هاهنا.
فيقالُ: الله سبحانَة لَمَّا (1) أذنَ للغيرِ في أكل مالِ
الغيرِ عندَ الضَّرورةِ، سقطَ حكمُ المأثمِ بالإذنِ من جهةِ
اللهِ، وبقىَ الضَّمانُ للآدمي، فحسُنَ أَنْ تكونَ التوبةُ
تلافياً يرجعُ إلى اللهِ سبحانَهُ، فتزيل مأثمَ التعدي،
والبارئ هو المالك في الحقيقة، والآدمىُّ مستخلفٌ في المال،
قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ} [الحديد: 7]، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}
[الأعراف: 129]، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ
الْأَرْضِ} [الأنعام: 165] فلا يُجعلُ الاعتذارُ للهِ (2)
سبحانَهُ كالاعتذارِ إلى بعضِ الخلقِ عن جنايةٍ أوقَعها
بغيرِه، ولهذا أعنا على أنَّه إن لم يَتُبْ ويَنْدَمْ ويَعمَلْ
على تركِ المعاودةِ، كان عاصياً، ووقعَ الخلافُ على صورةِ
الفعلِ بعدَ التوبةِ، وأَجْمَعْنا على أنَّه لا يجبُ التنصلُ
والاعتذارُ إلى غيرِ المالكِ مِنْ آحادِ الآدميينَ.
ومنها: أنْ قالوا: اليدُ ثابتةٌ، والتصرُّفُ حاصلٌ، والضَّررُ
بتأَخّرِ تسليمِهِ، وتَمْكينِ المالكِ منْهُ، واقع، فلا معنى
لإزالةِ المأثمِ معَ وجودِ سببِهِ ودوامِهِ.
__________
(1) في الأصل: "لو".
(2) في الأصل: "الله".
(5/438)
فيقالُ: صورةُ الفعلِ قدْ قابَلَها بقاءُ
الضمان الذي هو غرضُ المالكِ، وبه تحصلُ إزَالةُ (1) الضررِ
عنْهُ، فأمَّا المأثمُ فهوَ مقابِلٌ للعصيانِ، والعصيانُ
يُزِيلُه (2) الاستغفارُ والندمُ والعزمُ المأمورُ بهِ منْ
جهةِ اللهِ، ولو وُجِدَ مثلُه في حقِّ الآدميِّ، سقطَ الضمانُ،
وهوَ الأمرُ منَ المغصوبِ مِنْهُ إذا صدرَ إلى الغاصبِ: أمسكِ
العينَ لي واحْفَظْها، أو احْمِلْها إلى موضع كذا، أو
اجْعَلْها في موضعٍ كذا، أو سلِّمْها إلى فلانٍ -شخصٍ
عيَّنهُ-، فإنَّ حقَّه منَ الضمانِ يسقطُ؛ لأَنه يصيرُ لأجلِ
ذلكَ ممتثلاً، فحقُّ اللهِ يسقط؛ إذْ صارَ بالتوبةِ ممتثلاً.
فصل
لا يجبُ شكرُ النعمِ بالعقلِ، بلْ لا يجبُ إلا بالسمع، خلافاً
لكثيرٍ منَ المتكلمينَ المعتزلةِ (3) في قولِهمْ: يجبُ عقلاً
(4).
والفائدةُ في ذلكَ: أَنَّه إذا لم يَشكر، حَسُنَ تعنيفُه
وتأنيبُه، وهوَ نوعُ عقوبةٍ.
فصل
في الدلائلِ على ذلكَ
فمنها: أن المحسنَ لا يخلو: إما أنْ يكونَ بإحسانه متبرعاً، أو
كانَ
__________
(1) في الأصل: "ازلة".
(2) في الأصل: "مزيله".
(3) في الأصل: "للمعتزلة".
(4) انظر "البرهان" 1/ 94 وما بعدها، و "المنخول" 14.
(5/439)
إحسانه واجباً؛ فإنْ كانَ واجباً، لم
يَجِبْ شكرُهُ؛ لأَنَّ الواجبَ، كقضاء الدَّينِ، ورفع
المضرَّةِ عنِ الغيرِ، وكفّ الأذى عنْهُ، والعقلاءُ يقبِّحونَ
شكرً الإنسانِ على أَنه لم يؤْذِهم في مالٍ ولا نفسٍ، فلو قالَ
قائل: قوموا بنا نَشْكر فلاناً؛ كيفَ لم يَنهَبْ أموالَنا، ولم
يَحرِق منازلَنا، ولم يحرقْ ثيابَنا، لاستُهجِنَ ذلكَ، [و]
حيثُ كانَ كفُّ الأَذى واجباً، قَبُحَ الشُّكر عليهِ، كذلكَ
قضاءُ الدَّينِ لمَّا كانَ واجباً، لمْ يجبِ الشُّكرُ عليهِ،
بلِ استُهجنَ الشُّكرُ عليهِ. وإنْ كانَ بإحسانِهِ متبرِّعاً
فإيجابُ (1) الشكرِ كإيجابِ دفع العوضِ، فإنَّ الشُّكرَ يقعُ
عوضاً، كما أنَّ ذمَّ المسيءِ يقعُ عقوبةً، ولهذا جعلَهُ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالاستيفاءِ لبعض الحقِّ،
والتخفيفِ عن المُجرِمِ، فقالَ لعائشةَ لما ذَمت، ودَعَتْ على
سارقِ غزلِها: "لا تُسَبِّخِي عنه" (2)، قال أبو عبيد (3):
يعني تُخففي عنه. ومتى وجبَ الشكرُ على إحسانِ المتبرع بهِ،
خرج عن كونِهِ إحساناً، وصارَ عوضاً وتجارةً، ومَنْ ندبَ
نفسَهُ لبيع الأموالِ طلباً للأثمانِ، ومَنْ تَنوَّقَ في
المأكولاتِ لبيعها كالهراسِ والمراقِ والحلاوي، لمْ يُعَدَّ
محسناً، بل تاجراً وطالباً للأثمانِ، كذلك من أَحْسَنَ وأَوْجب
(4) أن يُقابل، صارَ بالإيجابِ لمقابلتِه تاجراً، وخرجَ عنْ
تَمحُّضِ
__________
(1) في الأصل: "فانجاف".
(2) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 348، وأبو داود (1497) و (4909)،
والبغوي في "شرخ السنة" 5/ 154.
(3) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي 1/
33.
(4) في الأصل: "تجب".
(5/440)
الإحسانِ، فهذا بحَسَبِ (1) هذا القبيل،
ولهذا قالَ العلماءُ منْ أهلِ السنةِ: لا يجبُ على اللهِ شيء
لخلقِهِ، إذْ لو وجب عليهِ، لما وجبَ شكرُه؛ كقاضي الدَّيْن،
فعلى هذا الأصلِ نبني، وإليهِ نذهبُ، وقالَ الحسنُ بنُ علي وقد
سئل: لمَ تُحرِّمُ الزيادةَ في قضاءِ القَرْضِ؟ قالَ: لئلا
يصيرَ الإنفاقُ والمكارِمُ تجارةً. فبقصدِ هذا النحوِ فإنه
يستحيلُ العنى.
ومنها: أنَّه لو وجبَ الشكرُ على الإحسانِ عقلاً، لوجبتِ
العقوبةُ على الإساءةِ عقلاً، ولو وجبَ ذلكَ، لكانَ العفوُ
قبيحاً، وفي إجماعِنا على أن العفوَ حَسَن عن المسيءِ، فيجبُ
(2) أنْ لا يكون تركُ الشكرِ قبيحاً، ولو كانَ الشكرُ واجباً،
لكانَ تركُه قبيحاً.
فصل
في شُبهِهم
فمنها: أنَّ العقلاَء أجمعوا على إيجابِ برِّ الوالدينِ، وشكرِ
الخالقِ، معَ كونِهِ عنِ الشكرِ غنياً، والوالدان أحسنا
إشفاقاً وطبعاً، ومداواةً لقلوبِهما منْ ألمِ الرِّقةِ على
الأولادِ، والحنوِّ الذي طُبعا عليهِ في أصلِ الإيجادِ.
فيقالُ: إنَّ شكرَ اللهِ وجبَ شرعاً، وإلأَ فما كُنَّا نهتدي
إلى أصلِ شكرِهِ، فضلاً عن إيجابِهِ؛ لأنَّنا غاية ما أعطانا
العقل منه: أَنه ثابتٌ بحكمِ صناعتِهِ لهذهِ المصنوعاتِ،
والعقلُ الذي دلَّنا على أَنْه صانع، أرشدَنا منْهُ
__________
(1) في الأصل: "تحتل".
(2) في الأصل: "يجب".
(5/441)
على أَنهُ فائضُ الجود بعدَ الإيجادِ، لا
ليقابلَ بالشكرِ، ولا نعلمُ أنَّه بالعقلِ على صفةٍ يُؤثِّرُ
عندَهُ الشكرُ منا؛ لِما دلَّ عليهِ العقلُ منْ أنَّه غنيٌّ
أفاضَ لا ليعتاضَ، وأعطى لا ليأخذَ، ونَفَعَ لا ليُقابلَ،
فلمَّا جاءَ الشرعُ بإيجابِ (1) الشكر انسَبَكَ منَ الشكرِ
أنَّه نفع لنا، لِمَا يعوضُنا عليهِ منَ النفع الدائمِ،
فصارَتْ تجارةً لنا، فأكسبناها غنى الأبد للعمرِ السَّرمدِ
الخالص منْ كلِّ كَدَرٍ، ولا أنَّ إحسانه -إنْ أوجب العقلُ، أو
جوَّزَ إعادةَ الخلقِ- موقوفٌ على الشكرِ منا، ولا عندَ العقل
خبرٌ عَنْ شكرِهِ، ولا كيفيةِ شكره، بل ليسَ عندَ العقلِ سوى
العلم بأنهُ لا نعمةَ إلا منْهُ، إذْ لا فعلَ صدرَ إلاّ عنْه
من ضرٍّ ونفع، وما صدرَ عنْهُ سبحانه منَ المَضارِّ وسلبِ
المنافع بأوجع سلب يَمْنعُ العقلَ مِنْ أنْ يحكمَ على أفعالِهِ
بأنّها لعنى استدعاءِ الشكرِ، فغايَةُ ما في قوى العقلِ: أنْ
يعلمَ أنَّه الفاعلُ للمنافع لا لمعنى (2) يعودُ إليهِ نفعُه،
ولا لاستدعاء شكرٍ، لأنَّ الشكرَ مِن قبيلِ الجدوى والفائدةِ،
والله سبحانَهُ بالعقلِ منزهٌ عن ذلكَ، وإنما تلقينا ذلكَ مِنْ
قِبَلِ الشَّرع، حيثُ قالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومنْ حيثُ
استدعى منا على ألسنةِ الرُّسلِ صلواتُ اللهِ عليهم أعمالاً
مخصوصةً، وصرَّحَ بأنَّها قرباتٌ إليهِ، وطاعاتٌ لَهُ.
وكذلك بِرُّ الوالدينِ علمْناهُ شرعاً، ثمَّ لو فرقَ بينَ برِّ
الوالدينِ وشكرِ اللهِ سبحانَهُ، لَساغَ، وذلكَ أنَّ الشُّكرَ
وُضِعَ تقرباً إلى المنعِمِ، ومقابلةً على
__________
(1) زاد في الأصل هنا بعد قوله: "بإيجاب": "شرع بإيجاب".
(2) في الأصل: "معنى".
(5/442)
إحسانِهِ المُبتدأ بالإحسانِ إليهِ
بشكرِهِ، والأصلُ فيهِ مقابلة نفعٍ بنفعٍ وإحسانٍ بإحسانٍ،
وهذا لا يقعَ إلاَّ من اثنين، يلحقُ بكلِّ واحدٍ منهما
الانتفاعُ، ألا ترى أنَّ كلَّ نفع صدرَ عمّا لا يَنْفعُ (1) لم
يَحْسُنْ صرفُ الشكرِ إليهِ؛ كالمطرِ في إنباتِ العشْبِ،
والقمرِ في الكشفِ عَنِ الجادة في حقِّ السَّيارةِ، وهبوبِ
الريح المُسيِّرةِ للفُلْكِ في البحرِ، يُتلقى منها الانتفاعُ
عندَ مَنْ لم يُثبِت ذلكَ بقصدِ قاصدٍ، وهُمْ أهلُ الطبع، أوْ
أثبتها بقصدِ قاصدٍ، لكن لم يَجْعَلْ ضياءَ القمرِ، وهطلَ
المطرِ، وهبوبَ الريح من جهةِ هذهِ الأشياءِ المنتفعَ بها بل
جَعَلَ النَّافعَ بها هوَ الله، فعلى كلا المذهبينِ
والاعتقاديْنِ لا يَحسُنُ صرفُ الشُّكرِ إلى واحدٍ منْها فيما
صدرَ مِنَ النَّفع، بلْ لا شكر (2) رأساً مصروفٌ نحوَ واحدٍ
منْ هذه المنتفع بها، حيثُ ثبتَ أنها لا تنتفعُ بالشكرِ، ولا
أنّها بذلت ذلكَ وقصدتهُ طالبةً لمقابلتِها بالشكرِ، فقبحُ
الشكرُ، فالثابتُ بأصلِ الدليلِ العقليِّ أنَّ الله سبحانَهُ
لا يلحقُهُ نفعٌ، وأنهُ مفيضٌ للجود، معطٍ أبداً، غير (3)
طالبٍ منْ غيرِهِ شيئاً، فلذلكَ لم يوجب العقلُ، ولم يَتَهدَّ
إلى مقابلةِ إنعامهِ (4) بشيءٍ، بلْ غايةُ ما يوجبه: العلمُ
بأنَّ النعمَ منْهُ، وعنْهُ صَدَرَتْ.
وأمّا الوالدانِ، فدلائلُ أحوالِهما بوضعهما على الحاجةِ
أنَّهما
__________
(1) في الأصل: "ينتعع".
(2) في الأصل: "لسكر".
(3) في الأصل: "عن".
(4) في الأصل: "العامه".
(5/443)
بالترْبيةِ (1) والإكرام مدَّخرانِ
ومُقْتنيانِ عندَ الولدِ ما يرجوان ويأملانِ عائدَته عليهما
عندَ حاجتِهما الي الأولادِ، كما يَعتدَّانِ التربيةَ
والإشفاقَ (2 على الحيوانات بغية النفع بلحمانها وألبانها،
ويعتدانِ 2) التزيينَ واللِّقاحَ للشجرِ والنخِيلِ طلباً
لعائدةِ النفع بثمارِها، وكما يَعتدَّانِ التداويَ وشربَ
الشرباتِ في الفصولِ لصحَّةِ الأجسادِ، والاستعانة بأعمالِها
على تحصيلِ النَّفقاتِ والموادِّ بأعمالِها وتصرفاتِها.
والذي يوضحُ أنَّ شكرَ اللهِ سبحانَهُ ليسَ منْ هذا القبيل لا
عقلاً ولا شرعاً: أنَّ المضارَّ الصَّادرةَ عن (3) القاصدِ
بها، يحسُنُ الذم [عليها]، وأنها إذا صَدَرَتْ عنْ غيرِ قاصدٍ،
قَبُحَ صرفُ الذمِّ إليه، كالحجرِ يَنكُتُ، والريحُ تغرقُ،
والنارُ تحرقُ، وحرُّ الشمسِ يؤذي، وصوبُ المطَرِ في البدوِ
يؤذي المسافرَ في نفسِهِ ورحلِهِ، وفي حضرِهِ في كِنِّهِ
وبيته، وإلى أمثالِ ذلكَ، ولو ذمَّ ذامٌّ شيئاً لأجلِ الضَّررِ
اللاّحقِ بهِ، لقَبَّح ذلكَ العقلاءُ، كما قبَّحوا شكرَهُ لما
يحصلُ منَ الانتفاع بذلكَ، وعلةُ تقبيحِهم لذلكَ؛ لأحدِ
أمرينِ، أَوْ لَهُمَا جميعاً: إمَّا لأنَّ هذهِ الأشياءَ لم
تَقْصِدْ نفعاً ولا ضراً، على قولِ مَنْ نسبَ الفعلَ إليها
مِنْ أهلِ الطبع، ومَنْ نسبَ الفعلَ إلى اللهِ سبحانَهُ مِنْ
أهلِ التوحيدِ والشرع، أوْ لأنَّ الشَّكرَ لا (4) ينتفعُ بهِ،
والذم لايستضر بهِ، والشكرُ إنَّما يقعُ مقابلةً للمنافع،
لأحدِ أمرينِ: إمَّا ليَقَعَ موقع التعويضِ،
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "بأكثر منه".
(2 - 2) ليس في الأصل.
(3) في الأصل: "عند".
(4) في الأصل: "ما لا".
(5/444)
فيزيدُ منَ الإحسانِ إلى الشاكرِ، أوْ
يستديمُ إحسانَهُ إليهِ لموقع الشكرِ منْهُ، أوْ ليحصلَ لَهُ
النفعُ، والله سبحانَهُ لَيْسَ منْ هذا القبيلِ، فما حصلَ لنا
الطريقُ إلى شكرِهِ على فائض إِحسانِهِ إلاَّ بما جاءَتْ بهِ
رسلهُ صلواتُ اللهِ عليهمْ، وأمَّا شكرُ بعضِنا لبعضٍ،
فلدلائلَ قامت، وعاداتٍ دلتْ علي المقابلةِ، فأمَّا العقلُ،
فإنَّه لا يوجبُ ذلكَ، لما بينَّا منْ أنهُ يخرجُ إلى حَيِّزِ
المعاوضةِ لا الإحسانِ؛ ولهذا لم يوجب الشرعُ على مَنْ قُدِّمَ
بينَ يديه طعامٌ شهيٌّ، أو أُفيضَ على ثوبِهِ طِيبٌ ذكيٌّ، أو
سُقيَ شربةً منْ ماءٍ على ظمأٍ، أو حُمِلَ على ظهرٍ بعدَ
التعبِ والإعياءِ، عوضاً عنْ جميع ذلكَ، وإذا لم يوجبِ
الشَّرعُ عوضاً، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لعلَّةٍ، ولا يظهرُ أنْ
تكونَ العلَّةُ إلاَّ إخراجَهُ مخرجَ الجودِ، لا المعاوضةِ
والبدلِ، مِنْ غيرِ شرطِ مقابلةٍ، ولا دلالةِ حالٍ تدلُّ على
العوضِ، بخلافِ ما استقرَّ مِنْ أجرِ الحماماتِ، والسَّفرِ،
وأُجرة الحجامِ المتهدِّفِ، وإلى ذلكَ، وكذلكَ الشكرُ هوَ نوعُ
عوضٍ، فلا وجهَ لإيجابِهِ على المُحسَنِ إليهِ مِنْ غيرِ عقدٍ
ولا شرطٍ.
فإنْ قيلَ: العرفُ الوضعيُّ يوجبُ، وهوَ أنَّ كلَّ محسنٍ يقتضي
الشكرَ على إحسانِهِ.
قيلَ: إذا كُشِفَتْ هذهِ اللَّطيفةُ، علمَ أنَّ اقتضاءَ
المحسنِ للشكرِ (1) كالمستقبحِ المستهجنِ، وجَعلُ الشكرِ
واجباً يُخرجُ الإحسانَ عنْ وصفِهِ، فإنَّ إضافة الإنعامِ
إنَّما حَسُن ابتداءً، وبهذا وصفَهُ الله سبحانَهُ: {لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، وما
كان واجباً، حسُنَ الاقتضاءُ
__________
(1) في الأصل: "بالشكر".
(5/445)
بهِ؛ كالديون، وسائرِ الحقوق، ومعلوم أنَّ
المحسنَ لوْ صرَّحَ عقيبَ إحسانِهِ بالمطالبةِ بشكَر (1)
إحسانِهِ، لتَكدَّرَ إحسانة بمطالبتِهِ.
وقد احتجَّ بعضُهم فيها بقولِهِ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
[النساء: 86]، وهذا أمر مطلق، فاقتضى الوجوبَ.
فيقالُ: هذا مصروف عن الإيجابِ إلى الندبِ بأدلتِنا، ولأنَّا
لا نمنعُ إيجابَ الشَّرع لأمورٍ (2) لا يوجبُها العقلُ،
وكلامُنا هلْ يجبُ في العقلِ؛ على أنّكم لا تقولونَ بِهِ، وهوَ
أَنّه لا يجبُ إلا الشكرُ، فأمّا المقابلةُ بالأحسنِ وما
يُرْبي على الإحسانِ، فلا يجب.
ولأنَّ الآيةَ لوْ كانتْ على ظاهرِها، لصارتْ إيجاباً،
ولابتدأت (3) بالإحسانِ كلفاً على المُحسَنِ إليهِ، وتثقيلاً
بإيجابِ الشكرِ والزيادةِ على الإحسانِ، وذلكَ يثقلُ فعلاً،
وقولاً، وبذلاً للمالِ، ويصيرُ كطروح السَّلاطينِ على السُّوقة
لأموال لا يحتاجونَ إليها، وإيجابِ أوفى الأثمان عليهم في
مقابلتها، والبارئ سبحانه خَففَ ردَّ السلام، وجعلَه فرضاً على
الكفايةِ؛ حيثُ علمَ أَنّه يثقلُ الجوابُ لكلِّ مسلِّمٍ معَ
كثرةِ أشغالِ الناسِ المانعةِ منْ تتابع الرَّدِّ على المبتدئِ
بالسَّلامِ (4) , فوسعَ بالنيابةِ، واكتفى
__________
(1) في الأصل: "فيسكر".
(2) في الأصل: "بامور".
(3) في الأصل: "النحايا والابتدات".
(4) في الأصل: "السلم".
(5/446)
يحوابِ الواحدِ من الجماعةِ السلام
عَنْهُم.
وممَّا يوضح قبحَ ذلكَ: أَنه لو طلبَ المحسنُ شكرَ (1) إحسانِه
ممَّنْ أحسنَ إليه عندَ الحكامِ، وأعدىِ على مَنْ أحسنَ إليهِ
فلم يَشْكُره، كما يُعدى في الديون والحقوقِ، لا سْتُهجِنَ
ذلكَ (2) عندَ العقلاءِ بحكمِ العقلِ والشَّرع، ولوْ كانَ
واجباً، لما قبحتِ المطالبةُ بهِ، والإعداءُ عليه.
فصل
يجوزُ أن يرد العمومُ إلى بعضِ المكلفينَ، وترد دلالةُ
التخصيصِ السَّمعية، فَيُطوى عنهم؛ خلافاً لبعضِ المتكلِّمِينَ
منَ المعتزلةِ: لا يجوزُ ذلكَ في دلالةِ السَّمع، إذا لمْ يكنْ
في العقلِ ما يدلُّ على التخصيصِ، بلْ إنْ كان في العقلِ
دلالةٌ على التخصيصِ، وَكلَهُمْ إليها (3).
فصلٌ
في الدَّلائل على ذلكَ
فمنها: أنَّ مِنْ أصلِنا أنَّ تأخير البَيانِ عن وقتِ الخطابِ
جائزٌ، وقدْ دللْنا على ذلكَ الأصلِ، فإنَّه لا مانعَ في
العقلِ منْ أن يتعبدَ الله المكلفَ باعتقادِ وجوبِ الكلِّ،
وتحقيقِ العزمِ عليهِ، وكتمِ دلالةِ التخصيصِ؛ ليتحقَّقَ منْهُ
الاعتقادُ والعزمُ، وهما تعبُّدان يُثْمران الثوابَ عليهما،
وفيهما
__________
(1) في الأصل: "بسكر".
(2) في الأصل: "لا تسهجن وذلك".
(3) انظر "البرهان" 1/ 284، و"المسودة" (116).
(5/447)
أكبرُ المصالح؛ لتوطينِ النّفسِ على الأمرِ
بمقتضاهُ في الظاهرِ، ثُمَّ التزامِ التخصيصِ إذا ظهرتْ
دلالتُهُ، فيُعقِبُ ذلكَ ثواباً ثانياً عَنِ المسارعةِ إلى
اعتقادِ البعص بعدَ اعتقادِ الكلِّ متابعةً للأمرِ.
ومنها: أنَّ الله سبحانَهُ قدْ طوى النسخ عَن طائفةٍ، حتى
إِنها صَلَّت إلى بيتِ المقدسِ شطرَ الصَّلاةِ، ثمّ كاشفَ لها
عنْ دليلِ النسخ، فانتقلتْ، واعتدَّ لها بما كانَ مِنَ
الصلاةِ، ولوْ لم يكُ جائزاً عقلاً، لما ورد بهِ السمَّعُ،
لأَنَّ السَّمعَ لا يردُ بغير مُجوَّزاتِ العقولِ.
ومنها: أنَّ طيَّ الدليل الموجبِ للتخصيصِ قد يكونُ مصلحةً في
حقِّ بعض المكلفينَ، فلا يمنعُ منه مَنْ يعتبر المصالحَ، أو
يكونُ ذلكَ بمطلقِ المشيئةِ (1)، ولا يمنعُ منْهُ مَنْ يقولُ
بالمشيئة، ولا يَعْتبِرُ المصلحةَ، فلا وجهَ للمنع مِنْ ذلكَ.
فصل
في شبههم
فمنها: أَنَّ في ذلكَ تعريضاً بالجهلِ، والجهلُ قبيحٌ،
فالتعريضُ بالقبيح قبيحٌ.
ومنها: أَنَّ نفسَ الخطابِ بالعمومِ معَ طَيِّ المخصصِ له
خطابٌ بما المرادُ ضِدُّه، والخطابُ بما يرادُ ضدُّه، كالخطابِ
بالنهي والرادُ بهِ الأمرُ، والزجرِ والمرادُ بهِ الندبُ
والحثُّ، وهذا قبيحٌ في الخطابِ، واستدعاء ضدِّ المرادِ.
__________
(1) في الأصل: "الشبه".
(5/448)
فصل
في الأجوبة عما ذكروه
فأمّا دعواهمُ التعريضَ بالجهلِ، فما اتيَ المكلَّفُ إلاَّ من
قِبَلِ نفسِهِ، وإلا فمَنْ عَلِمَ أَنَّ دأبَ الشرع تخصيصُ
العمومِ، كما أنَّ دأبَه نسخُ الأحكامِ، وتأخيرُ البيان، لا
يبادرُ باعتقادِ العمومِ، بلْ يعتقدُه مشروطاً بأنْ لا يتراخى
(1) عنْهُ دليلُ تَخصيصٍ.
ولأنه باطلٌ بالنًسخ، فإنهُ بِبَادِرَةِ الأمر يعتقدُ الدوامَ،
ثم يَاتي النسخُ قاطعاً ورافعاً، فالذي يعتذرُ بهِ عنْ ذلكَ:
أنَّه يجبُ أنْ يعتقدَ الدوامَ ما لم تَرِدْ دلالةُ النسخ،
كذلك عذرُنا في أَنَّه يعتقدُ العمومَ ما لم تردْ دلالةُ
التخصيصِ، وهما سواءٌ في أنَّهما تخصيصانِ، وإنَّما يفترقان في
المُخصَّصِ، فهذا تخصيصُ أعيانٍ، والنسخُ تخصيصُ أوقاتٍ
وأزمانٍ.
وأمّا قولُهم: إنَّه يكونُ أمراً بضدِّ مرادِهِ، فلا يلزمُ
ذلكَ، بلْ يبينُ بدلالةِ التخصيصِ: أنّه أرادَ حصولَ الاعتقادِ
بأنّه يعملُ بالجميع ما لم يُخَصَّ، ويَعْزِمُ على ذلكَ، وهما
تكليفانِ مقصودانِ، ولأنَّ شبهتهما جميعاً يلزمُ عليها: إيرادُ
لفظِ العمومِ، وقدْ كانَ يمكنُ أنْ يقعَ الخطابُ بالأعيانِ
المرادةِ فقط، منْ غير إيرادِ عمومٍ، ثمَّ إيرادِ خصوصٍ،
ولمَّا لم يمنعْ منْ ذلكَ لمعنىً وحكمةٍ في ذلكَ، لا يمنعُ منْ
طَيِّ المخصص عَن المكلف، ثمَّ إظهارِهِ بعدَ ذلكَ، وهذا
مستحسنٌ شرعاً وعقلاً وعرفاً، فإنَّ مَنْ أمكنَهُ أنْ يقول:
إنَّما
__________
(1) في الأصل: "يترافا".
(5/449)
سلطانك على مَنْ يتبعُك من الغاوينَ؛ فقالَ: {إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ}
[الحجر: 42] وأمكنَ أنْ يقولَ: فاسلك فيها مَن آمَنَ مِنْ
أهلِكَ، فأسر بمنْ آمن بكَ مِنْ أهلكَ، ثُمَّ إنه لم يقلْ
ذلكَ، وقالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ} وقالَ: {فَاسْلُكْ فِيهَا
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ
سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27]،
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. . . . . . . . . . إِلَّا امْرَأَتَكَ
إِ} [هود: 81]، وإذا لم يُستقبَحْ هذا قولاً بعدَ قول، وإنْ
تتابعَ وتعقبَ، كذلكَ لا يقبحُ وإنْ تأخرَ، لا بينّا من
الحكمةِ والصلحةِ، أوِ المشيئةِ المطلقةِ. |