تخريج الفروع على الأصول

مسَائِل التَّيَمُّم
مَسْأَلَة 1
كلمة من للتَّبْعِيض عِنْد الشَّافِعِي رض
كَقَوْل الْقَائِل أكلت من الطَّعَام وَأخذت من المَال وَيُرِيد بِهِ الْبَعْض
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض هِيَ لابتداء الْغَايَة كَقَوْلِك سرت من الْكُوفَة إِلَى الْبَصْرَة أَي كَانَ ابْتِدَاء مسيري من الْكُوفَة
والمعنيان أصليان فِيهَا إِلَّا إِن اسْتِعْمَالهَا للتَّبْعِيض أشهر وَأكْثر وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ
أَن الْمُتَيَمم يجب عَلَيْهِ نقل الصَّعِيد إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن كلمة من اقْتَضَت التَّبْعِيض عِنْده فِي قَوْله

(1/71)


تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَالظَّاهِر فِي مَظَنَّة التَّعَبُّد نَص فلابد وان ينْقل بعض أَجزَاء الصَّعِيد إِلَى وَجهه وَيَديه
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لايجب النَّقْل بل الْوَاجِب أَن يَبْتَدِئ الْمسْح من الأَرْض حَتَّى لَو مسح بيدَيْهِ على صَخْرَة صماء أَو حجر صلد لَا غُبَار عَلَيْهِمَا كَفاهُ لِأَنَّهُ قد بدا من الأَرْض وَلَو مسح على الْحَيَوَان والنبات لَا يَكْفِيهِ

(1/72)


مَسْأَلَة 2

اسْتِصْحَاب الْحَال فِي الْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم بعد وُقُوع الْخلاف حجَّة عِنْد الشَّافِعِي رض
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْإِجْمَاع يجْزم الْخلاف فيستحيل أَن يَقع الْخلاف
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا حجَّة فِيهِ
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن مَوضِع الْخلاف غير مَوضِع الْوِفَاق لِاسْتِحَالَة أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْموضع الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة فِي الْمَوْضُوع الَّذِي لَا إِجْمَاع فِيهِ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الْمُتَيَمم إِذا رأى المَاء فِي أثْنَاء صلَاته لَا تبطل صلَاته

(1/73)


عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على صلَاته حَالَة الشُّرُوع وَالدَّلِيل الدَّال على صِحَة الشُّرُوع دَال على دَوَامه إِلَّا أَن يقوم دَلِيل الإنقطاع
وَتبطل عِنْد أبي حنيفَة رض وَلَا اعْتِبَار بِالْإِجْمَاع على صِحَة صلَاته قبل رُؤْيَة المَاء فان الْإِجْمَاع انْعَقَد حَالَة الْعَدَم لَا حَالَة الْوُجُود وَمن أَرَادَ إِلْحَاق الْعَدَم بالوجود فَعَلَيهِ الدَّلِيل

(1/74)


مَسْأَلَة 3

ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار واليه ذهب طَائِفَة من الْعلمَاء

(1/75)


وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَول الْقَائِل افْعَل أَمر بإيجاد جنس الْفِعْل فانه لَو صرح بذلك وَقَالَ أوجد الضَّرْب كَانَ ذَلِك صَحِيحا وَاسم الْجِنْس يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق وَهَذَا الْمَعْنى لَا يثنى وَلَا يجمع فَيتَنَاوَل أعدادا من الْفِعْل لَا نِهَايَة لَهَا فان الْجِنْس متناول للوجود الْكَائِن وَالَّذِي يكَاد إِن سَيكون إِلَى قيام السَّاعَة فَلَا جرم نقُول يجب عَلَيْهِ إتْيَان مَا قدر عَلَيْهِ فان عجز سقط لَا لِأَنَّهُ من مُقْتَضى الصِّيغَة بل لعَجزه
وَذهب الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن التّكْرَار معنى زَائِد على الْفِعْل لِأَن مُقْتَضى قَوْله

(1/76)


افْعَل أَن يفعل مَا يصير بِهِ فَاعِلا وَهُوَ بالمرة الْوَاحِدَة يصير فَاعِلا على الْحَقِيقَة فمدعي للزِّيَادَة يحْتَاج إِلَى دَلِيل
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَنه لَا يجمع بَين فريضتين بِتَيَمُّم وَاحِد عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن مُقْتَضى قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} إِن كل قَائِم إِلَى الصَّلَاة يُؤمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ إِن قدر وبالمسح بِالتُّرَابِ إِن عجز والمتيمم فِي الْمَكْتُوبَة الثَّانِيَة قَائِم إِلَى الصَّلَاة مَأْمُور بِالْغسْلِ إِن قدر فَلْيَكُن مَأْمُورا بِالْمَسْحِ إِن عجز هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ إِلَى إِن يسْتَثْنى مِنْهُ مَا يقوم الدَّلِيل عَلَيْهِ
وعَلى هَذَا لَا يجوز فعل النَّوَافِل إِن تعيّنت على وَجه

(1/77)


وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم لفريضة قبل دُخُول وَقتهَا عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَنَّهُ أَمر بِالْغسْلِ وَالْمسح عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَالْأَمر عَام غير أَنه ترك الْعَمَل بِهِ فِي الْوضُوء لدَلِيل وَهُوَ انه صَار مَقْصُودا فِي نَفسه حَتَّى تعبدنا فِيهِ بالتكرار والتجديد بِخِلَاف التَّيَمُّم فَيبقى على مُقْتَضى الصِّيغَة
وَعِنْده يجوز لما ذَكرْنَاهُ
وَمِنْهَا أَن السَّارِق يُؤْتى على أَطْرَافه الْأَرْبَعَة عندنَا عملا بقوله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فانه أَمر مُقْتَضَاهُ التّكْرَار بِتَكَرُّر السّرقَة
وَعِنْدهم لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَلَا يقطع فِي الْمرة الثَّانِيَة وَهَكَذَا إِذا تَكَرَّرت السّرقَة فِي الْعين الْوَاحِدَة يتَكَرَّر الْقطع عندنَا وَعِنْدهم لَا يتَكَرَّر

(1/78)


= كتاب الصَّلَاة =
مَسْأَلَة 1

ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن الْمُصِيب وَاحِد فِي المجتهدات الفروعية وَالْحق فِيهَا مُتَعَيّن غير أَن الْإِثْم محطوط عَن الْمُخطئ لغموض الدَّلِيل وخفائه
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْجمع بَين النقيضين المتنافيين وهما الْحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة وَالْفساد فِي حق شخص وَاحِد فِي مَحل وَاحِد فِي زمن وَاحِد من بَاب التَّنَاقُض وَنسبَة التَّنَاقُض إِلَى الشَّرْع محَال وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْحق فِي قَوَاعِد العقائد وَاحِد هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي رض وَقد خَالفه فِيهِ مُعظم أَصْحَابه
وَذهب الْحَنَفِيَّة والمعتزلة وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب

(1/79)


وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَهُوَ مَا نقل عَنْهُم نقلا متواترا أَنهم كَانُوا يَجْتَمعُونَ ويشتورون فِي أَحْكَام الوقائع الْوَاقِعَة وَيُرَاجع بَعضهم بَعْضًا وَيُصلي بَعضهم خلف بعض فِي مُخَالفَته إِيَّاه فِي الْمذَاهب
وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة يرد السَّائِل إِلَى غَيره ويرشده إِلَيْهِ وَذَلِكَ يدل على أَنهم كَانُوا متوافقين على تعدد المطالب وَأَن كل مُجْتَهد مُصِيب
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَن من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة واجتهد وَصلى إِلَى جِهَة غلب على ظَنّه أَنَّهَا جِهَة الْقبْلَة ثمَّ بِأَن لَهُ يَقِين الْخَطَأ يلْزمه الْقَضَاء عِنْد الشَّافِعِي رض لفَوَات الْحق الْمُتَعَيّن الْخَطَأ يَنْفِي الْإِثْم دون الْقَضَاء كَمَا يَنْفِي التأثيم دون التَّضْمِين فِي بَاب الغرامات
وَعِنْدهم لَا يلْزمه الْقَضَاء لتصويبه فِيمَا مضى وَأَن بِأَن أَنه خطأ

(1/80)


مَسْأَلَة 2

اتّفق الْفَرِيقَانِ على أَن الْحق فِي المجتهدات الفروعية وَاحِد معِين عِنْد الله تَعَالَى وَإِنَّمَا مجَال اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فِي طلب الْأَشْبَه بِالْحَقِّ عِنْد كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ عِنْد الله أشبه لِأَن الْأَشْبَه إِنَّمَا يكون فِي حق الْجَاهِل ببواطن الْأُمُور بل إِذا تجاذبت الْوَاقِعَة بَين أصلين تلْحق بأقربهما شبها وَإِنَّمَا يَقع النزاع بعده فِي تعْيين الْأَقْرَب وَالْأَشْبَه إِلَى الأَصْل الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي كل وَاحِدَة من الْجِهَتَيْنِ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا التَّحْقِيق مسَائِل
مِنْهَا أَن تَارِك الصَّلَاة مُتَعَمدا إِذا امْتنع عَن قَضَائهَا قتل عِنْد الشَّافِعِي رض
وَعِنْده لَا يقتل بل يحبس وَيضْرب

(1/81)


ومثار هَذَا الاخلاف تردد الصَّلَاة بَين مشابهة الْإِيمَان وَسَائِر الْأَركان
فَوجه شبهها بِالْإِيمَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرنها بِهِ فَقَالَ الصَّلَاة عماد الدّين فَمن تَركهَا فقد هدم الدّين وَقَالَ من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا فقد كفر وامتازت عَن سَائِر الْأَركان بِأَن

(1/82)


لَا تدْخلهَا النِّيَابَة كأصل الْإِيمَان وَالزَّكَاة أَدَاؤُهَا قهرا وَالْحج لَا يجب على الْفَوْر عندنَا وَالصَّوْم تدخله النِّيَابَة فِي الْجُمْلَة
وَوجه شبهها بِسَائِر الْأَركان أَن الْإِسْلَام يتم بِدُونِهَا إِجْمَاعًا
وَمِنْهَا أَن تعْيين النِّيَّة مُعْتَبر فِي صَوْم رَمَضَان عندنَا
وَعِنْدهم لَا يعْتَبر لتردد الصَّوْم بَين الصَّلَاة وَالْحج

(1/83)


وَالشَّافِعِيّ رض يَقُول هُوَ بِالصَّلَاةِ أشبه لِأَنَّهُ عبَادَة بدنية لَا تدْخلهَا النِّيَابَة
وَأَبُو حنيفَة رض يَقُول هُوَ بِالْحَجِّ أشبه لاشْتِرَاكهمَا فِي وجوب الْكَفَّارَة بالإفساد
وَمِنْهَا أَن لعان العَبْد وَالذِّمِّيّ صَحِيح عِنْد الشَّافِعِي تَغْلِيبًا لمشابهة اللّعان بِالْإِيمَان
وَلَا يَصح عِنْدهم تَغْلِيبًا لمشابهته بالشهادات وَصِيغَة اللّعان تشْتَمل على اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا
وَمِنْهَا أَن حد الْقَذْف يُورث عندنَا وَيسْقط بِإِسْقَاط الْمُسْتَحق لِأَن الْمُغَلب فِيهِ شَائِبَة حق الْآدَمِيّ بِدَلِيل توقف الِاسْتِيفَاء على مُطَالبَة الْمُسْتَحق وَكَونه لَا يسْقط بِالرُّجُوعِ عَن الْإِقْرَار وَلَا يسْقط عِنْد الْخصم بتقادم الْعَهْد وَيَقْضِي فِيهِ القَاضِي بِعِلْمِهِ وَيثبت بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة وَكتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي بِخِلَاف حُقُوق الله تَعَالَى

(1/84)


وَعِنْدهم لَا يُورث وَلَا يسْقط بِإِسْقَاط الْمَقْذُوف لِأَن الْمُغَلب فِيهِ حق الله تَعَالَى بِدَلِيل أَنه ينشطر بِالرّقِّ وَالْحريَّة وَلَا يَقع موقعه إِذا اسْتَوْفَاهُ الْمَقْذُوف
وَمِنْهَا أَن الْمولي يُوقف بعد أَرْبَعَة أشهر فَإِن فَاء وَإِلَّا كلف بِالطَّلَاق أَو طلق عَلَيْهِ القَاضِي عندنَا لِأَن الْإِيلَاء بِيَمِين على منع حق عندنَا فَأشبه الْيَمين على منع النَّفَقَة
وَعِنْدهم إِذا انْقَضتْ الْمدَّة بَانَتْ بِطَلْقَة وَاحِدَة لِأَنَّهُ يشبه يَمِين الطَّلَاق من حَيْثُ أَن الطَّلَاق يزِيل الْملك فَيحرم الْوَطْء وَالْيَمِين يحرم الْفِعْل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَجَاز أَن يقوم مقَامه

(1/85)


وَيدل عَلَيْهِ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ الايلاء طَلَاق الْقَوْم فِي الْجَاهِلِيَّة فَزَاد الشَّرْع فِيهِ آجلا
وَمِنْهَا إِن العدتين من رجلَيْنِ لَا تتداخلان عندنَا
لِأَن الْمُغَلب فِي الْعدة معنى الْعِبَادَة بِدَلِيل وُجُوبهَا مَعَ تقين بَرَاءَة الرَّحِم وَهُوَ مَا إِذا علق طَلاقهَا بِالْولادَةِ وَبِاعْتِبَار الإقراء الثَّلَاثَة مَعَ حُصُول الِاسْتِبْرَاء بِوَاحِد
وَلذَا لَو طلق إِحْدَى امرأتيه وَمَات قبل الْبَيَان فانه يجب الْعدة على كل وَاحِدَة مِنْهُمَا والعبادات لَا تتداخل كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة
وَعِنْدهم تتداخلان لِأَن الْمُغَلب فِيهَا معنى الإستبراء وَذَلِكَ حَاصِل بِوَاحِدَة مِنْهُمَا
وَمِنْهَا أَن قيمَة العَبْد تجب بَالِغَة مَا بلغت عندنَا

(1/86)


وَعِنْده ترد إِلَى الْألف وَينْقص لتردد العَبْد بَين النُّفُوس وَالْأَمْوَال وازدحام الْمَعْنيين عَلَيْهِ
فالشافعي رض يَقُول هُوَ بِالْمَالِ أشبه من حَيْثُ إِنَّه يُبَاع ويشترى ويرهن
وَأَبُو حنيفَة رض يَقُول هُوَ بِالْحرِّ أشبه من حَيْثُ إِنَّه يجب الْقصاص على من قَتله إِن كَانَ عبدا وَتجب الْكَفَّارَة بقتْله وتتوجه نَحوه التكاليف وَالْحُدُود وَهُوَ آدَمِيّ فَكَانَ بالآدمي أشبه
وَمِنْهَا أَن جَنِين الْأمة يعْتَبر فِي تقويمه بِأُمِّهِ عندنَا فَيجب فِيهِ عشر قيمَة أمه

(1/87)


وَعِنْدهم يعْتَبر بِنَفسِهِ فَيجب فِيهِ نصف عشر قِيمَته إِن كَانَ ذكرا أَو عشر قِيمَته إِن كَانَ أُنْثَى لإستواء النسبتين إِلَى مَحل النَّص وَهُوَ جَنِين الْحرَّة
ومثار هَذَا التَّرَدُّد تعَارض الإشتباه وَهُوَ أَن الْجَنِين فِي حكم عُضْو من أَعْضَاء الْأُم من حَيْثُ إِنَّه يتبعهَا فِي البيع وَالْهِبَة وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَالْوَصِيَّة وَهُوَ مُنْفَرد بِنَفسِهِ من حَيْثُ إِنَّه يَرث وَيُورث وَتصرف غرته إِلَى ورثته وَلَا تخْتَص باستحقاقها الْأُم بِخِلَاف سَائِر أَجْزَائِهَا
فالشافعي رض يرجح إِلْحَاقه بالأجزاء لعسر اعْتِبَاره بِنَفسِهِ وَأَبُو حنيفَة رض يرجح إِفْرَاده بِنَفسِهِ لإعتضاده بالحس والمشاهدة قبل الِاسْتِيفَاء

(1/88)


وَمِنْهَا أَن الْجِزْيَة لَا تسْقط بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْت وَلَا بتداخل السنين عندنَا
وَعِنْدهم تسْقط
ومثار هَذَا النزاع أَن الْجِزْيَة عندنَا وَجَبت عوضا لسكناهم فِي دَارنَا وعصمتنا إيَّاهُم وذبنا عَنْهُم
وَعِنْدهم وَجَبت عُقُوبَة على الْكَافِر بِسَبَب الْكفْر وشأن الْعُقُوبَات التَّدَاخُل والسقوط بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَام

(1/89)


مَسْأَلَة 3

الْوَاجِب يَنْقَسِم إِلَى مضيق وموسع عِنْد الشَّافِعِي رض
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْوُجُوب مُسْتَفَاد من الْأَمر وَالْأَمر يتَنَاوَل الْوَقْت وَلم يتَعَرَّض لجزء من أَجْزَائِهِ إِذْ لَو دلّ الْأَمر تَخْصِيصه بِبَعْض أَجزَاء الْوَقْت لَكَانَ ذَلِك غير الْمَسْأَلَة الْمُتَنَازع فِيهَا وَإِذ لم يكن فِي الْأَمر دلَالَة على تَخْصِيص الْفِعْل بِجُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ كل جُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت قَابلا لَهُ وَجب أَن يكون ذَلِك الْأَمر هُوَ إِيجَاب إِيقَاع ذَلِك الْفِعْل فِي أَي جُزْء كَانَ من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت
وَأنكر أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله التَّوَسُّع فِي الْوُجُوب

(1/90)


وَزَعَمُوا أَن الْوُجُوب يخْتَص بآخر الْوَقْت وَلَو أَتَى بِهِ فِي أول الْوَقْت كَانَ جَارِيا مجْرى تَعْجِيل الزَّكَاة قبل وَقتهَا
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْوَاجِب مَا انحتم فعله وَتعين أَدَاؤُهُ ويلام تَاركه وَهَذَا مَفْقُود فِي مَسْأَلَتنَا فانه فِي الزَّمَان الأول بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ لم يفعل فَلَو كَانَ وَاجِبا فِي هَذِه الْحَالة لما تصور أَن يتَخَيَّر لِأَن التخير يُوجب النفلية دون الْوُجُوب والفرضية
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الصَّلَاة تحب بِأول الْوَقْت عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله

(1/91)


عَنهُ وجوبا موسعا ممتدا من أول الْوَقْت إِلَى آخِره
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا تجب إِلَّا فِي آخر الْوَقْت وَالْأَدَاء فِيهِ يَقع تعجيلا أَو نقلا ثمَّ يَنْقَلِب فرضا
وَأَن الصَّبِي إِذا صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ بلغ فِي آخِره لم يلْزمه إِعَادَة الصَّلَاة عندنَا
وَعِنْده يلْزمه لِأَن الْوُجُوب يثبت فِي آخر الْوَقْت وَقد صَار فِيهِ أَهلا للْوُجُوب فَبَان أَن مَا أَدَّاهُ لم يكن وَظِيفَة وقته بِخِلَاف الْبَالِغ إِذا صلى فِي أول الْوَقْت فَإِنَّهُ كَانَ أَهلا للْوُجُوب
وَمِنْهَا أَن تَعْجِيل الصَّلَوَات فِي أَوَائِل الْأَوْقَات عِنْد الشَّافِعِي رض أفضل لِئَلَّا يتَعَرَّض لخطر الْعقَاب فقد ذهب بعض

(1/92)


أَصْحَابنَا رَحِمهم الله إِلَى من أخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت مِقْدَارًا يسع الْفَرْض وَمَات لَقِي الله عَاصِيا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض تَأْخِيرهَا إِلَى آخر الْوَقْت أفضل إِذْ لَا وجوب فِي أول الْوَقْت وَإِنَّمَا شرع الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت رخصَة من الشَّارِع للْحَاجة وَلَيْسَ الْإِتْيَان بالرخص أفضل من غَيره بل الْأَفْضَل مُرَاعَاة وَقت الْوُجُوب
وَمِنْهَا إِن الْمُسَافِر إِذا سَافر فِي أول الْوَقْت أَو حَاضَت الْمَرْأَة بعد دُخُول الْوَقْت وَمضى مِقْدَار الْفِعْل من الزَّمَان يجب الْإِتْمَام على الْمُسَافِر وَالْقَضَاء على الْحَائِض عندنَا لِأَنَّهُمَا أدْركَا وَقت الْوُجُوب
وَعِنْده لَا يجب بِنَاء على أَن الْوُجُوب لم يتَحَقَّق فِي أول الْوَقْت
وَمِنْهَا إِن قَضَاء الصَّلَوَات والصيامات وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَالْكَفَّارَات تجب وجوبا موسعا عندنَا

(1/93)


وَعِنْده تجب مضيقا على الْفَوْر
وَمِنْهَا أَن الْحَج يجب عندنَا وجوبا موسعا يسوغ تَأْخِيره مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ
وَعِنْده يجب مضيقا على الْفَوْر وَالله أعلم

(1/94)


مَسْأَلَة 4

فعل النَّاسِي والغافل لَا يدْخل تَحت التَّكْلِيف عِنْد الشَّافِعِي رض وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن التَّكَلُّف للْفِعْل إِنَّمَا يُكَلف إِيقَاعه أَو اجتنابه على وَجه التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى بِهِ وَالْقَصْد إِلَى التَّقَرُّب بِفعل بِعَيْنِه أَو اجتنابه مُتَضَمّن للْعلم بِهِ حَتَّى يَصح الْقَصْد إِلَيْهِ دون غَيره وموقع الشَّيْء مَعَ السَّهْو وَعدم الْقَصْد لَا يَصح أَن يكون فِي سَهْوه ونسيانه عَالما وقاصدا إِلَيْهِ بِعَيْنِه فضلا عَن قصد التَّقَرُّب بِهِ
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى إِن على النَّاسِي والغافل تكليفا فِي أَفعاله وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك باستقرار الْعِبَادَات فِي ذمَّته حَال ذُهُوله وغفلته وَكَذَا لُزُوم الغرامات وَأرش الْجِنَايَات
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن كَلَام النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة عندنَا لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا كَانَ مُفْسِدا للصَّلَاة كَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَالنَّاسِي لَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ

(1/95)


لتعذر تَكْلِيفه فَلَا تفْسد الصَّلَاة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض تبطل لِأَن الْكَلَام إِثْمًا كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ لكَونه مُفْسِدا والمفسد مُفسد بصورته فَلَا يخْتَلف بالسهو وَالنِّسْيَان إِذْ الْإِفْسَاد فِي الْعِبَادَات كالإتلاف فِي المحسوسات وَاعْتَذَرُوا عَن الْأكل نَاسِيا فِي الصَّوْم بِأَنَّهُ خُولِفَ فِيهِ الْقيَاس اسْتِحْسَانًا
وَمِنْهَا انه إِذا تمضمض فَسبق المَاء إِلَى حلقه من غير قصد وَهُوَ ذَاكر للصَّوْم لَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَا
وَعِنْدهم يجب الْقَضَاء

(1/96)


وَمِنْهَا إِن النَّائِم إِذا صب المَاء فِي حلقه لَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَا
وَعِنْدهم يلْزمه الْقَضَاء
وَمِنْهَا إِن الْمحرم إِذا تطيب أَو لبس نَاسِيا لم تلْزمهُ الْفِدْيَة عندنَا خلافًا لَهُ وَكَذَا إِذا تطيب أَو لبس ذَاكِرًا للْإِحْرَام جَاهِلا للتَّحْرِيم لَا فديَة عَلَيْهِ عندنَا
وَتلْزَمهُ عِنْدهم

(1/97)


مَسْأَلَة 5

الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الْإِسْلَام عِنْد الشَّافِعِي رض وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الْمُعْتَزلَة
وأحتج فِي ذَلِك بعمومات من الْقُرْآن كَقَوْلِه تَعَالَى {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} فَهَذَا يدل على أَنهم معاقبون

(1/98)


بترك الصَّلَاة وَكَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} إِلَى قَوْله {يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} وَقَوله تَعَالَى {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة}
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض وجماهير أَصْحَابه انهم غير مخاطبين وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا لَو وَجَبت الصَّلَاة على الْكَافِر مثلا لَوَجَبَتْ أما فِي حَال كفره أَو بعده وَالْأول بَاطِل لإمتناع الصَّلَاة من الْكَافِر حَال كفره وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لاتفاقنا على أَن الْكَافِر إِذا أسلم لايؤمر بِقَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي أَيَّام الْكفْر
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن الْمُرْتَد إِذا أسلم لزمَه قَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي أَيَّام

(1/99)


الرِّدَّة وَكَذَا أَيَّام الصّيام الْفَائِت فِي أَيَّام الرِّدَّة عندنَا خلافًا لَهُ فَإِنَّهُ الْحق الْمُرْتَد بالكافر الْأَصْلِيّ فِي أَنه لَا يُخَاطب بِفُرُوع الشَّرْع
وَمِنْهَا إِن الْمُسلم إِذا اجْتمع عَلَيْهِ صلوَات وزكوات فَارْتَد ثمَّ أسلم لم تسْقط عَنهُ عندنَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يسْقط الْجَمِيع بردته وبرئت ذمَّته
وَمِنْهَا إِن ظِهَار الذِّمِّيّ الصَّحِيح عندنَا كطلاقه
وَعِنْدهم لَا يَصح لِأَنَّهُ يعقب كَفَّارَة لَيْسَ هُوَ من أَهلهَا
وَمِنْهَا أَن الْكفَّار إِذا استولوا على أَمْوَال الْمُسلمين وأحرزوها بدارهم لَا يملكونها عندنَا لِأَنَّهَا معصومة مُحرمَة التَّنَاوُل

(1/100)


وَعِنْدهم يملكونها لِأَن تَحْرِيم التَّنَاوُل من فروع الْإِسْلَام وهم غير مخاطبين بهَا وَلِهَذَا لم يجب عَلَيْهِم الْقصاص بقتل الْمُسلمين وَلَا ضَمَان مَا أتلفوه من أَمْوَالهم

(1/101)


مَسْأَلَة 6

مُعْتَقد الشَّافِعِي رض أَن كل مصل يُصَلِّي لنَفسِهِ وَلَا شركَة بَين الإِمَام وَالْمَأْمُوم بل كل فِي صَلَاة نَفسه أداءا وَحكما وَإِنَّمَا معنى الْقدْوَة الْمُتَابَعَة فِي أَفعاله الظَّاهِرَة ليَكُون أحوط فِي إبعاد الصَّلَاة عَن السَّهْو والغفلة وَلَا يتَغَيَّر من أَحْكَام الصَّلَاة شَيْء إِلَّا مَا يرجع إِلَى الْمُتَابَعَة فانه الْتزم بنية الإقتداء مُتَابعَة الإِمَام فَلَو أَرَادَ التَّقَدُّم أَو التَّخَلُّف لم يجز لِأَنَّهُ يُخَالف الْوَفَاء بِمَا الْتزم
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض صَلَاة الْمَأْمُوم تَابِعَة لصَلَاة الإِمَام صِحَة وَفَسَادًا لَا أداءا وَعَملا وَهِي كالمندرجة فِي ضمن صَلَاة الإِمَام لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الإِمَام ضَامِن والمؤذن مؤتمن
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل

(1/102)


مِنْهَا أَن الْقدْوَة لَا تسْقط قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب عَن الْمَأْمُوم عندنَا
وَعِنْده تسْقط
وَمِنْهَا أَن إختلاف نِيَّة الإِمَام وَالْمَأْمُوم لَا يمْنَع الْقدْوَة مَعَ التَّسَاوِي فِي الْأَفْعَال عندنَا حَتَّى يجوز إقتداء المفترض بالمتنفل وَالْقَاضِي بالمؤدي والمؤدي بِالْقَاضِي والمتم بالقاصر
وَمِنْهَا إِذا بِأَن كَون الإِمَام جنبا أَو مُحدثا بعد الصَّلَاة لم تجب الْإِعَادَة على الْمَأْمُوم عندنَا
وَعِنْده تجب بِنَاء على قَاعِدَة الإندراج وتنزيل حدث الإِمَام منزلَة حدث الْمَأْمُوم
وَمِنْهَا أَن الْمَرْأَة إِذا وقفت بِجنب الإِمَام انْعَقَدت صلَاتهَا

(1/103)


وَعِنْده تَنْعَقِد صلَاتهَا ثمَّ تفْسد صَلَاة الإِمَام ثمَّ تفْسد صلَاتهَا وَصَلَاة المقتدين

(1/104)


مَسْأَلَة 7

النِّكَاح يتَنَاوَل الزَّوْج كَمَا يتَنَاوَل الزَّوْجَة وَحكمه مُشْتَرك بَينهمَا وَلذَلِك اشْتَركَا فِي التَّسْمِيَة والحل والإنتهاء بِمَوْت كل وَاحِد مِنْهُمَا
وَحكمه عِنْد الشَّافِعِي رض الزَّوْجِيَّة الْمقدرَة بَين الزَّوْجَيْنِ أَو الْحل اللَّازِم من الْجِهَتَيْنِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض النِّكَاح يتَنَاوَل الزَّوْجَة دون الزَّوْج وَحكمه حُدُوث الْملك للزَّوْج على الزَّوْجَة والمالكية مُخْتَصَّة بِهِ دونهَا وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِإِطْلَاق الْآيَة القَوْل بِأَن الْوَطْء لَا يستباح إِلَّا بِملك نِكَاح أَو ملك يَمِين وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام النِّكَاح رق فَلْينْظر أحدكُم أَيْن يضع كريمته قَالَ وَالرّق فِي بني آدم عبارَة

(1/105)


عَمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْملك وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَنه يجوز للزَّوْج غسل زَوجته عندنَا كَمَا يجوز لَهَا غسله لاشْتِرَاكهمَا فِي حل الْمس وَالنَّظَر
وَعِنْدهم لَا يجوز لإنقطاع الْمَالِكِيَّة بِفَوَات مَحل الْملك
وَمِنْهَا أَن النِّكَاح لَا ينْعَقد عندنَا إِلَّا بِلَفْظ التَّزْوِيج والإنكاح الدالين على حكمه

(1/106)


وَعِنْدهم ينْعَقد بِلَفْظ البيع وَالْهِبَة وَالتَّمْلِيك
وَمِنْهَا أَنه إِذا أضَاف الطَّلَاق إِلَى نَفسه فَقَالَ أَنا مِنْك طَالِق وَنوى الطَّلَاق يَقع وَكَذَا إِذا قَالَ طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت أَنْت مني طَالِق يَقع
وَعِنْدهم لَا يَقع وساعدونا فِيمَا إِذا أضَاف إِلَى نَفسه لفظ الْبَيْنُونَة وَالله أعلم

(1/107)


= كتاب الزَّكَاة =
مَسْأَلَة 1

مَذْهَب الشَّافِعِي رض أَن الْأَمر الْمُطلق الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يَقْتَضِي الْفَوْر وأحتج فِي ذَلِك بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّأْخِير لجَاز إِمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة أَو لَا إِلَى غَايَة مُعينَة وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ خرق الْإِجْمَاع وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لِأَن التَّأْخِير لَا إِلَى غَايَة مُعينَة يتَضَمَّن جَوَاز التّرْك لَا إِلَى غَايَة وَذَلِكَ يُنَافِي القَوْل بِوُجُوبِهِ
وَذهب كثير من أَصْحَاب أبي حنيفَة رض وَطَائِفَة من عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى أَنه على التَّرَاخِي وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْأَمر لَهُ دلَالَة على استدعاء الْفِعْل وَلَا دلَالَة لَهُ على الزَّمَان بل الْأَزْمِنَة كلهَا بِالْإِضَافَة

(1/108)


إِلَيْهِ سَوَاء فَتعين الزَّمَان بعد ذَلِك اعْتِبَارا وَلَا دلَالَة عَلَيْهِ بل حَظّ الْفِعْل من الْوَقْت الثَّانِي كحظه من الْوَقْت الأول فَكَمَا جَازَ فِي الأول جَازَ فِي الثَّانِي وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل

(1/109)


مِنْهَا أَن الزَّكَاة تجب على الْفَوْر عِنْد الشَّافِعِي رض وَعِنْدهم على التَّرَاخِي
وَمِنْهَا أَن المَال إِذا حَال عَلَيْهِ الْحول وَوَجَبَت الزَّكَاة وَتمكن من أَدَائِهَا ثمَّ تلف لم تسْقط الزَّكَاة عندنَا لِأَنَّهُ عصى بِالْمَنْعِ فتنزل منزلَة مَا لَو تلف أَو الْمُودع إِذا أمتنع من ردهَا ثمَّ تلف
وَعِنْدهم تسْقط إِذْ لَا عصيان مَعَ جَوَاز التَّأْخِير مَسْأَلَة 2 مُعْتَقد الشَّافِعِي رض أَن الزَّكَاة مؤونة مَالِيَّة وَجَبت للْفُقَرَاء على الْأَغْنِيَاء بِقرَابَة الْإِسْلَام على سَبِيل الْمُوَاسَاة

(1/110)


وَمعنى الْعِبَادَة تبع فِيهَا وَإِنَّمَا أثْبته الشَّرْع ترغيبا فِي أَدَائِهَا حَيْثُ كَانَت النُّفُوس مجبولة على الضنة وَالْبخل فَأمر بالتقرب إِلَى الله تَعَالَى بهَا ليطمع فِي الثَّوَاب ويبادر إِلَى تَحْقِيق الْمَقْصُود
وأحتج فِي ذَلِك بِحُصُول مقصودها مَعَ الإمتناع قهرا وَجَوَاز التَّوْكِيل فِي أَدَائِهَا وَتحمل الزَّوْج عَن زَوجته وَالسَّيِّد عَن عَبده
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الزَّكَاة وَجَبت عبَادَة لله تَعَالَى ابْتِدَاء وشرعت ارتياضا للنَّفس بتنقيص المَال من حَيْثُ إِن الِاسْتِغْنَاء بِالْمَالِ سَبَب للطغيان ووقوعه فِي الْفساد قَالَ الله تَعَالَى {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} والطغيان أثر فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب فِي الْآخِرَة وبالزكاة يحصل الإرتياض والامتناع من الطغيان قَالَ وَلَا يلْزم وُجُوبهَا على الْأَنْبِيَاء مَعَ إنتفاء اسْتِحْقَاق الْعقَاب فِي حَقهم لكَوْنهم معصومين فَإنَّا لَا نعتبر الْعقَاب بِاعْتِبَار

(1/111)


ذَاته بل بِاعْتِبَار سَببه وَسبب الْعقَاب يَصح مِنْهُم وَلَكِن لَا يُوجد مِنْهُم بِاعْتِبَار الْعِصْمَة وَلِهَذَا صَحَّ نهيهم عَن اسْتِحْقَاق الْعُقُوبَات وَالنَّهْي إِنَّمَا يَصح تعلقه بالممكن دون الْمُمْتَنع
وأحتج فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس وَزعم إِن الْإِسْلَام عبَادَة مَحْضَة وَكَذَا سَائِر أَرْكَانه وَالزَّكَاة من جُمْلَتهَا فَيجب إِن تكون كَذَلِك وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الزَّكَاة تجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون عندنَا كَمَا تجب عَلَيْهِمَا سَائِر الْمُؤَن الْمَالِيَّة
وَعِنْدهم لَا تجب إِذْ لَا عِقَاب وَلَا طغيان فِي حَقّهمَا فتتمحض الزَّكَاة إِضْرَارًا
وَمِنْهَا أَن الزَّكَاة لَا تسْقط بِمَوْت من هِيَ عَلَيْهِ عندنَا بل تخرج

(1/112)


من رَأس المَال
وَعِنْدهم لَا تُؤْخَذ من تركته لإمتناع حُصُول الِابْتِلَاء فِي حَقه وَوُقُوع الْعقَاب
وَمِنْهَا إِن الزَّكَاة تجب على الْمَدْيُون عندنَا لاستغنائه بِمَا فِي يَده وَتعلق الدّين بِذِمَّتِهِ
وَعِنْدهم لَا تجب لِامْتِنَاع الارتياض فِي حَقه لكَونه مقهورا بِالدّينِ مُمْتَنعا عَن الطغيان
وَمِنْهَا إِن الزَّكَاة تجب فِي مَال الضَّمَان والإخراج بعد عود المَال
وَعِنْدهم لَا تجب لِأَن هَذَا المَال لَيْسَ سَببا لوُقُوعه فِي الطغيان
وَمِنْهَا إِن الزَّكَاة لَا تجب فِي الْحلِيّ الْمُبَاح عندنَا لِأَنَّهُ مُتَعَلق

(1/113)


حَاجَة الْمَالِك وَفِي ايجابها إبِْطَال لِمَعْنى الْمُوَاسَاة
وَعِنْدهم تجب لِأَن حَاجَة التحلي لَا تمنع من الْوُقُوع فِي الطغيان فَتجب الزَّكَاة ليحصل الارتياض
وَمِنْهَا أَن الْمُسْتَفَاد فِي أثْنَاء الْحول لَا يضم مَا عِنْده بل يسْتَأْنف لَهُ حول عندنَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يضم إِلَى مَا عِنْده وَصُورَة الْمَسْأَلَة مَا إِذا ملك نِصَابا وَفِي ملكه نِصَاب قد مَضَت عَلَيْهِ سِتَّة أشهر مثلا فعندنا يفرد مَا يملكهُ ثَانِيًا بحول مُسْتَأْنف تَحْقِيقا لِمَعْنى الرِّفْق بالمالك فِي الْمُؤَن الْمَالِيَّة إِذْ الْوُجُوب فِي بَاب الْمُؤَن والنفقات إِنَّمَا يتَعَلَّق بالفاضل من أَصْنَاف الْحَاجَات وأنواع الْمُهِمَّات على سَبِيل الْيُسْر والسهولة مُقَدرا بِقدر الضَّرُورَة وَفِي تَكْلِيف الْأَدَاء قبل مَظَنَّة الإستنماء عسر وحرج

(1/114)


وَعِنْدهم إِذا تمّ حول الأَصْل زكى الْجَمِيع تَحْقِيقا لِمَعْنى الْعِبَادَة بالابتلاء والامتحان
وَمِنْهَا أَن أحد النَّقْدَيْنِ لَا يضم إِلَى الآخر فِي كَمَال النّصاب عندنَا إتباعا لقاعدة الْيُسْر لِأَن الضَّم بِالْقيمَةِ يتَضَمَّن عسرا وحرجا
وَعِنْدهم يضم أَحدهمَا للْآخر لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب مِنْهُمَا وَهُوَ الإعداد للنماء
وَمِنْهَا أَن الْخلطَة مُؤثرَة فِي الزَّكَاة فتجعل الْمَالَيْنِ كَمَال وَاحِد والمالكين كمالك وَاحِد حَتَّى لَو كَانَ لأَحَدهمَا عشرُون من الْغنم وَللْآخر عشرُون وخلطاهما وَاجْتمعت شرائطهما وَجَبت عَلَيْهِمَا الزَّكَاة بعد الْحول فيخرجان شَاة من الْأَرْبَعين بِنَاء على مَا ذكرنَا من كَونهَا مؤونة مَالِيَّة والركن فِيهَا المَال وَلَا نظر إِلَى الْمَالِك بل إِلَى المَال

(1/115)


وَعِنْدهم لَا تجب لِأَنَّهَا عبَادَة والركن فِيهَا الشَّخْص المتعبد فَإِذا لم يكن غَنِيا يملك النّصاب لم يكن من أهل هَذِه الْعِبَادَة
وَمِنْهَا أَن الْعشْر لَا يجب فِيمَا عدا الأقوات عندنَا لِأَن شرع الزَّكَاة لدفع الضرورات وسد الجوعات والضرورات تتَعَلَّق بالأقوات دون الْبُقُول والخضروات
وَعِنْدهم يجب فِي كل مَا ينبته الآدميون وكل مَا يُؤْكَل قوتا وتحليا وتفكها سوى الْحَشِيش والقصب الْفَارِسِي مُرَاعَاة لِمَعْنى الِابْتِلَاء والامتحان وَالله تَعَالَى أعلم

(1/116)


= كتاب الصَّوْم =
مسالة 1

النَّفْي الْمُضَاف إِلَى جنس الْفِعْل كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صِيَام لمن لم يجمع الصّيام من اللَّيْل يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يعد من المجملات

(1/117)


عندنَا لِأَن الْمُجْمل هُوَ اللَّفْظ الَّذِي يتَنَاوَل مسميات كل وَاحِد مِنْهَا يجوز أَن يكون مرَادا للمتكلم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَأَنَّهُ يَشْمَل الْعشْر وَنصف الْعشْر وَربع الْعشْر فَكل وَاحِد مِنْهَا يجوز أَن يكون مرَادا وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي الْمِثَال فَإِن الْإِمْسَاك اللّغَوِيّ الْحَقِيقِيّ لَا يجوز أَن يكون مرَادا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا لم يكن مرَادا بَطل أحد الْقسمَيْنِ وَإِذا بَطل أحد الْقسمَيْنِ

(1/118)


تعين الآخر وَهُوَ نفي الصَّوْم الشَّرْعِيّ وَذهب الْحَنَفِيَّة والقدرية إِلَى امْتنَاع الْعَمَل بِهِ وَدَعوى الْإِجْمَال لتردده بَين نفي الصَّوْم الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْإِمْسَاك وَبَين نفي الصَّوْم الشَّرْعِيّ
ويتفرغ عَن هَذَا الأَصْل
اعْتِبَار التبييت فِي الصَّوْم الْمَفْرُوض عندنَا عملا بِالْحَدِيثِ
وَعدم الإعتبار عِنْدهم
وَمن هَذَا القَوْل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور

(1/119)


لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا نِكَاح إِلَّا بولِي

(1/121)


مرشد // أخرج الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي لَا صَلَاة إِلَّا لفرد خلف الصَّفّ

(1/122)


وَالْقَوْل الْجَامِع فِي هَذَا الْجِنْس أَن اللَّفْظ الْوَاحِد إِذا كَانَ لَهُ عرف فِي اللُّغَة وَثَبت لَهُ عرف فِي الشَّرْع فَعِنْدَ إِطْلَاق الشَّرْع ينْصَرف إِلَى عرف الشَّرْع الَّذِي ثَبت لَهُ وَلَا يحمل على الْحَقِيقِيَّة اللُّغَوِيَّة إِلَّا بِدَلِيل وَتصير الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعرف الشَّرْعِيّ لِأَن الشَّرْع وعرفه مقدم فِي مَقْصُود خطاب الله تَعَالَى كَمَا أَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة مُقَدّمَة على الْمجَاز فِي مَقْصُود الْمُتَكَلّم وَهَكَذَا كل لفظ لَهُ حَقِيقَة فِي اللُّغَة وَثَبت لَهُ عرف غَالب فِي الإستعمال كَلَفْظِ الْفَقِيه والمتكلم وَلَفظ الدَّابَّة ينْصَرف إِلَى عرف الِاسْتِعْمَال وَتصير الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَيخرج عَن حد الْإِجْمَال فان الْمُجْمل هُوَ اللَّفْظ الَّذِي لَا تعين لأحد معنييه فَصَاعِدا لَا بِوَضْع اللُّغَة وَلَا يعرف الِاسْتِعْمَال وَلَا يعرف الشَّرْع

(1/123)


مَسْأَلَة 2

إِذا سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَضِيَّة تَتَضَمَّن أحكاما فَبين بَعْضهَا وَسكت عَن الْبَعْض وَكَانَ الْبَعْض الْمَسْكُوت عَنهُ مِمَّا يحْتَاج إِلَى بَيَان من الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ سُكُوته وإعراضه عَنهُ مَعَ الْمعرفَة دَلِيلا على انْتِفَاء وُجُوبه عندنَا إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا لبينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان الْحَاجة ماسة إِلَى الْبَيَان وَتَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت حَاجَة مُمْتَنع وفَاقا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يدل على انْتِفَاء الْوُجُوب فان السُّكُوت لَا دلَالَة لَهُ على الْأَحْكَام
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَن المطاوعة فِي نَهَار رَمَضَان لَا يلْزمهَا الْكَفَّارَة عندنَا لما رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكت وأهلكت فَقَالَ

(1/124)


مَاذَا صنعت فَقَالَ واقعت أَهلِي فِي نَهَار رَمَضَان فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أعتق رَقَبَة وَسكت عَن إِيجَابهَا على امْرَأَته الْمَوْطُوءَة مَعَ أَن

(1/125)


الْأَعرَابِي لَا يحسن الِاسْتِدْلَال فَدلَّ على أَنَّهَا لَا تجب عَلَيْهَا وَعِنْده تجب عَلَيْهَا الْكَفَّارَة

(1/126)


مَسْأَلَة 3

حَقِيقَة خطاب التَّكْلِيف عندنَا الْمُطَالبَة بِالْفِعْلِ أَو الاجتناب لَهُ لِأَنَّهُ فِي وضع اللِّسَان تحميل لما فِيهِ كلفة ومشقة إِمَّا فِي فعله أَو تَركه وَهُوَ من قَوْلهم كلفتك عَظِيما أَي أمرا شاقا
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى أَن التَّكْلِيف يَنْقَسِم إِلَى وجوب أَدَاء وَهُوَ الْمُطَالبَة بِالْفِعْلِ أَو الاجتناب لَهُ
والى وجوب فِي الذِّمَّة سَابق عَلَيْهِ
وعنوا بِهَذَا الْقسم من الْوُجُوب اشْتِغَال الذِّمَّة بِالْوَاجِبِ كَالصَّبِيِّ إِذا اتلف مَال إِنْسَان فان ذمَّته تشغل بِالْقيمَةِ اعني قيمَة الْمُتْلف وَلَا يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء بل يجب على وليه
وَزَعَمُوا إِن الأول يَسْتَدْعِي عقلا وفهما للخطاب وَالْوُجُوب فِي الذِّمَّة لَا يَسْتَدْعِي ذَلِك وان الأول يتلَقَّى من الْخطاب وَالثَّانِي من الْأَسْبَاب
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوب الصَّلَاة على النَّائِم فِي وَقت الصَّلَاة مَعَ إِن الْخطاب مَوْضُوع عَنهُ وَكَذَلِكَ النّوم الْمُسْتَغْرق لشهر رَمَضَان

(1/127)


وَالْإِغْمَاء الْمُسْتَغْرق فَإِنَّهُ لَا يمْنَع بهما وجوب الصَّوْم وَلَا خطاب عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاع وَقد قَالَ الشَّافِعِي رض بِوُجُوب الزَّكَاة على الصَّبِي وَهُوَ غير مُخَاطب وَيجب عَلَيْهِ الْعشْر وَصدقَة الْفطر إِجْمَاعًا
وَكَذَا الثّمن يجب فِي ذمَّة المُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَالْأَدَاء لَا يجب إِلَّا بعد الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وَالدّين مُؤَجل يجب فِي ذمَّة من عَلَيْهِ وَالْأَدَاء لَا يجب إِلَّا بعد الْمُطَالبَة
فَعلم بِهَذِهِ الْجُمْلَة أَن الْوُجُوب فِي حَقنا مُضَاف إِلَى أَسبَاب شَرْعِيَّة غير الْخطاب وطردوا ذَلِك فِي جَمِيع الْوَاجِبَات من الْعِبَادَات والعقوبات
وَزَعَمُوا أَن سَبَب وجوب الصَّلَوَات الْأَوْقَات لإضافتها إِلَيْهَا بلام التَّعْلِيل
وَسبب وجوب الصَّوْم أَيَّام شهر رَمَضَان قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} أَي فليصم فِي أَيَّامه فَإِن تَعْلِيق الحكم بالشَّيْء شرعا يدل على أَنه سَببه

(1/128)


وَسبب وجوب الْحَج الْبَيْت وَالْوَقْت شَرط لأدائه وَلِهَذَا لم يتَكَرَّر ويتكرر الْوَقْت فَلم يصلح أَن يكون الْوَقْت فِيهِ سَببا بل الْوَقْت مَحل
وَسبب وجوب الزَّكَاة ملك النّصاب النامي فِي نَفسه وَلِهَذَا تزداد بِزِيَادَة النصب
ثمَّ زَعَمُوا أَن هَذِه الْأَوْقَات لَيست سَببا لوُجُوب الْعِبَادَات حَقِيقَة نظرا إِلَى ذواتها بل سَبَب الْوُجُوب فِي الْجَمِيع نعم الله تَعَالَى على عباده وَالنعَم تصلح أَن تكون سَببا لوُجُوب الشُّكْر شرعا غير أَن النعم مترادفة فِي جَمِيع الْأَوْقَات فَجعل الْوَقْت الَّذِي هُوَ مَحل لحدوث النعم فِيهِ سَببا للْوُجُوب وأقيم مقَام النعم
قَالُوا وَإِذا ثَبت الْوُجُوب بِالسَّبَبِ فالأداء بعده يكون بخطاب الشَّرْع وَأمره
وَعِنْدنَا الْكل يتلَقَّى من الْخطاب والأسباب غير مُؤثرَة فِي

(1/129)


الْإِيجَاب بِدَلِيل أَنَّهَا كَانَت مَوْجُودَة قبل وَضعهَا شرعا وَلم توجب شَيْئا
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي أثْنَاء الشَّهْر لَا يلْزمه قَضَاء مَا مضى من أَيَّام الْجُنُون إِذْ الْوُجُوب بِالْخِطَابِ وَلَا خطاب
وَعِنْدهم يلْزمه لِأَن الْوُجُوب بِالسَّبَبِ وَقد وجد
وَكَذَا أَفَاق فِي أثْنَاء النَّهَار لَا يلْزم قَضَاء ذَلِك الْيَوْم عندنَا
وَعِنْدهم يلْزمه
وَمِنْهَا أَن الصَّوْم غير وَاجِب على الْمَرِيض وَالْمُسَافر وَالْحَائِض عندنَا لِأَن الْوُجُوب يتلَقَّى من الْخطاب وَلَا خطاب
وَعِنْدهم يتلَقَّى من السَّبَب وَقد وجد

(1/130)


وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِوُجُوب الْقَضَاء عِنْد زَوَال هَذِه الْأَعْذَار وَهَذَا على الْحَقِيقَة خلاف اللَّفْظ فانهم يعنون بِالْوُجُوب اسْتِحْقَاق هَذِه الْأَفْعَال فِي ذمم الْمَذْكُورين شرعا بِمَعْنى وجوب الْقَضَاء عِنْد زَوَال الْعذر الْمَائِع من التَّكْلِيف وَهُوَ مُسلم عندنَا وَنحن نعني بِانْتِفَاء الْوُجُوب انْتِفَاء تَكْلِيف الْفِعْل حَال قيام الْعذر وَهُوَ مُسلم عِنْدهم

(1/131)


مَسْأَلَة 4

كل حكم شَرْعِي أمكن تَعْلِيله فَالْقِيَاس جَائِز فِيهِ عِنْد الشَّافِعِي رض
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَن الْقيَاس لَا يجْرِي فِي الْكَفَّارَات
وَهَذَا فَاسد فان مُسْتَند القَوْل بِالْقِيَاسِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَلم يفرقُوا بَين حكم وَحكم فِيمَا يُمكن تَعْلِيله ولأنا نسائلهم ونقول لَا يجوز إِجْرَاء الْقيَاس فِيهَا مَعَ ظُهُور الْمَعْنى وتجليه أم مَعَ عدم ظُهُوره إِن قُلْتُمْ مَعَ ظُهُوره وتجليه فَهُوَ تحكم وَصَارَ بِمَثَابَة قَول الْقَائِل أَنا أجري الْقيَاس فِي مَسْأَلَة وَلَا أجريه فِي مَسْأَلَة مَعَ ظُهُور الْمَعْنى فيهمَا وتجليه وَإِن قُلْتُمْ مَعَ عدم ظُهُور الْمَعْنى فَنحْن وَإِيَّاكُم فِي ذَلِك على وتيرة وَاحِدَة
وَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا إِنَّمَا منعنَا من إِجْرَاء الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات

(1/132)


لأَنا رَأينَا الشَّرْع قد أوجب الْكَفَّارَة على الْمظَاهر وَعلل وَقَالَ أَنهم ليقولون قولا مُنْكرا من القَوْل وزورا
ثمَّ أَن الْمُرْتَد قَالَ أعظم مِمَّا قَالَ الْمظَاهر وأفحش وَلم يُوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَلذَلِك وَجب إبدالها على وَجه لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الرَّأْي وَالْقِيَاس فانه أوجب على الْحَالِف عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن أَو إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وَأوجب على الْمظَاهر عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا فَإِن قُلْنَا الْعتْق بدله ثَلَاثَة أَيَّام فَأَي حَاجَة بِنَا إِلَى صِيَام شَهْرَيْن وَإِن قُلْنَا شَهْرَان فَلم نوجب ثَلَاثَة أَيَّام وَكَيف يَتَعَدَّد الْبَدَل والمبدل وَاحِد
وَهَذَا ضَعِيف فان امْتنَاع الْقيَاس فِي الْإِبْدَال لَا يمْنَع الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب بَعْضهَا على بعض
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَنه إِذا جَامع فِي يَوْمَيْنِ من رَمَضَان وَاحِد يلْزمه

(1/133)


كفارتان عندنَا لتماثل السببين
وَعِنْدهم لَا يلْزمه سوى كَفَّارَة وَاحِدَة لتعذر الْإِلْحَاق على مَا سبق
وَمِنْهَا أَن الْمُنْفَرد بِرُؤْيَة الْهلَال إِذا رد الْحَاكِم شَهَادَته يلْزمه الْكَفَّارَة إِذا جَامع فِي ذَلِك الْيَوْم عندنَا كَمَا إِذا قبل القَاضِي شَهَادَته
وَعِنْدهم لَا يلْزمه لما ذكرنَا من سد بَاب الْإِلْحَاق
وَمِنْهَا أَن من تعمد اسْتِدَامَة الْجِمَاع حَتَّى طلع عَلَيْهِ الْفجْر وَلم ينْزع الْتزم الْكَفَّارَة عندنَا قِيَاسا لدفع الِانْعِقَاد على قطع العقد
وَعِنْدهم لَا يلْزمه لاعتقادهم أَن لَا مجَال للْقِيَاس فِيهَا

(1/134)


وَمِنْهَا أَن الْقَتْل الْعمد يُوجب الْكَفَّارَة عندنَا قِيَاسا على الْخَطَأ قَالَ الشَّافِعِي رض إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْخَطَأ فَفِي الْعمد أوجب
وَعِنْدهم لَا تجب لما ذَكرْنَاهُ

(1/135)


مَسْأَلَة 5

الْمَأْمُور بالشَّيْء يعلم كَونه مَأْمُورا وان لم يمض زمَان الْإِمْكَان عندنَا لانعقاد الْإِجْمَاع على أَن الْوَاحِد منا يجب عَلَيْهِ الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا إِذْ لَو لم يعلم كَونه مَأْمُورا لما وَجب عَلَيْهِ ذَلِك فِي سَائِر الْأَفْعَال فِي الْأكل وَالشرب والذهاب والإياب
وَذَهَبت طَائِفَة من الْقَدَرِيَّة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لَا يعلم كَونه مَأْمُورا فِي أول توجه الْخطاب مَا لم يمض زمَان يسع فعل الْمَأْمُور بِهِ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْإِمْكَان شَرط التَّكْلِيف وَهُوَ غير عَالم بِبَقَاء الْإِمْكَان إِلَى وَقت انْقِرَاض زمَان يسع الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وَالْجَاهِل بِوُقُوع الشَّرْط جَاهِل بالمشروط لَا محَالة
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَنه إِذا أفطر بِالْجِمَاعِ ثمَّ مرض فِي آخر النَّهَار أَو جن أَو حَاضَت الْمَرْأَة أَو مَاتَ لم تسْقط الْكَفَّارَة عندنَا

(1/136)


وَعِنْدهم تسْقط

(1/137)


مَسْأَلَة 6

كَمَا أَن الْمُبَاح لَا يصير وَاجِبا بالتلبس بِهِ خلافًا للكعبي وَأَتْبَاعه كَذَلِك الْمَنْدُوب لَا يصير وَاجِبا بالتلبس لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز تَركه وَالْوَاجِب لَا يجوز تَركه فالجمع بَينه وَبَين جَوَاز التّرْك متناقض
وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَن الْفِعْل يُوجب اسْتِيعَاب الْأَزْمَان كلهَا بفنون الطَّاعَات وصنوف الْعِبَادَات إِلَّا مَا خص بذلك
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن سَبَب وجوب الْعِبَادَات كَون العَبْد مخلوقا لله قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليوحدون ويأتون الْعِبَادَات هَكَذَا قَالَ أهل التَّفْسِير غير أَن

(1/138)


الشَّارِع رحم عباده وَعين لبَعض الْعِبَادَات أوقاتا مُعينَة كَالصَّلَاةِ الْمَعْهُودَة وَالزَّكَاة وَالْحج وفوض تعْيين مَا عَداهَا إِلَى الْعباد تفضلا إِذْ لَو عين الْأَوْقَات كلهَا للعبادات الْوَاجِبَة وكلفهم على التَّضْيِيق لتقاعد النَّاس عَن معاشهم فَرُبمَا أدّى إِلَى التقاعد عَن الْجَمِيع فَإِذا عين العَبْد وقتا لِلْعِبَادَةِ إِمَّا بِالنذرِ أَو بِالشُّرُوعِ عمل الدَّلِيل الْمُوجب عمله إِذْ ذَلِك يدل على فَرَاغه لهَذِهِ الْعِبَادَة
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا أَنه إِذا شرع فِي صَوْم التَّطَوُّع أَو صَلَاة التَّطَوُّع لَا يصير وَاجِبا عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ عندنَا
وَعِنْدهم يصير وَاجِبا وَيلْزمهُ الْمُضِيّ بِالشُّرُوعِ
وَالثَّانيَِة إِن الْمَعْذُور فِي حج النَّفْل يتَحَلَّل وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَا
وَعِنْدهم يلْزمه الْقَضَاء

(1/139)


= كتاب الْحَج =
مَسْأَلَة 1

لَا يمْنَع دُخُول النِّيَابَة فِي التكاليف والعبادات الْبَدَنِيَّة عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن فعل الْعِبَادَة عِنْده علم أَي عَلامَة على الثَّوَاب وَالثَّوَاب منحة من الله تَعَالَى وَفضل وَالْعِقَاب عدل فَجَاز أَن ينصب فعل غَيره علما عَلَيْهِ
وَعِنْدهم لَا تدْخلهَا النِّيَابَة لِأَن الثَّوَاب عِنْدهم مَعْلُول الطَّاعَة

(1/140)


وَالْعِقَاب مَعْلُول الْمعْصِيَة فَلَا يتَعَدَّى فاعليهما استمدادا من رِعَايَة الْأَصْلَح
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن من المستطاع الْحَج بِبدنِهِ فَأخر حَتَّى أصبح زَمنا معضوبا اسْتَأْجر أَجِيرا يحجّ عَنهُ عندنَا وَيَقَع الْحَج عَن المستنيب
وَعِنْدهم يَقع عَن الْأَجِير وللمستنيب أجر نَفَقَة توصله إِلَى الْحَج مسهلة طَرِيقه

(1/141)


وَمِنْهَا أَن من اسْتَقر وجوب الْحَج فِي ذمَّته إِذا عجز وَلم يملك مَالا فبذل ابْنه الطَّاعَة لِلْحَجِّ عَنهُ وَجب قبُوله عندنَا
وَعِنْده لَا يجب
وَمِنْهَا أَن إِحْرَام الْوَلِيّ عَن الصَّبِي صَحِيح عندنَا وَيَقَع الْحَج عَن الصَّبِي
وَعِنْدهم لَا يَصح
وَمِنْهَا أَن من بلغ معضوبا يلْزمه الْحَج بطرِيق الإستنابة
وَعِنْدهم لَا يلْزمه
وَمِنْهَا أَن المستطيع إِذا مَاتَ أخرج من مَاله مَا يحجّ بِهِ عَنهُ غَيره واستؤجر عَنهُ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يفعل ذَلِك إِلَّا إِذا أوصى

(1/142)


= كتاب الْبيُوع =
مَسْأَلَة 1

الأَصْل الَّذِي تبنى عَلَيْهِ الْعُقُود الْمَالِيَّة من الْمُعَامَلَات الْجَارِيَة بَين الْعباد إتباع التَّرَاضِي الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقول الله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم}
غير أَن حَقِيقَة الرِّضَا لما كَانَت أمرا خفِيا وضميرا قلبيا اقْتَضَت الْحِكْمَة رد الْخلق إِلَى مرد كلي وَضَابِط جلي يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول الدالان على رضَا الْعَاقِدين ثمَّ طرد الشَّافِعِي رض قَاعِدَته فِي الْمُحَافظَة على حُدُود الشَّرْع وضوابطه وَلم يجوز إِلْحَاق غَيرهمَا بهما
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ ألحق بهما المعاطاة وَزعم أَنَّهَا بيع

(1/143)


لِأَنَّهَا تدل على التَّرَاضِي وَالله يَقُول {أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء}
وَهَذَا ضَعِيف فان الْمصير إِلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى انحلال الْقَوَاعِد بأجمعها وأبطال الضوابط بأسرها فَأَنَّهَا وَإِن دلّت على الرِّضَا لَكِن الشَّرْع أعتبر رضَا خَاصّا وَهُوَ الرِّضَا الَّذِي يتضمنه الْإِيجَاب وَالْقَبُول

(1/144)


مَسْأَلَة 2

لما كَانَ شرع الْبياعَات من ضرورات الْخلق من حَيْثُ أَن الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يقْتَصر على مَا فِي يَده بل لَا بُد أَن ينْتَفع كل وَاحِد من الْخلق بِمَا فِي يَد صَاحبه اقْتَضَت عاطفة الشَّرْع تَحْقِيق هَذَا الْمَقْصُود بِنَفْي الأغرار والأخطار المؤذنة بالجهالات عَن مصَادر الْعُقُود ومواردها من حَيْثُ أَن فرط الشره إِلَى السَّعْي قد يحمل الْمَرْء على الرضى بِالْعُقُودِ الْمُشْتَملَة على الأغرار الْخفية وإهمال الشُّرُوط المرعية وَكَانَت حريَّة لَهُم بِالْمَنْعِ لتهذب لَهُم تجائرهم وليكونوا على بَصِيرَة من أَمرهم ولأجله حجر على الصّبيان ولقلة بصائرهم إِلَّا أَن ذَلِك حجر عَام وَهَذَا حجر خَاص
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا بطلَان البيع وَالشِّرَاء فِي الْأَعْيَان الغائبة ودفعا للغرر النَّافِي للشره
وَاكْتفى أَبُو حنيفَة رض فِي دفع الْغرَر وَتَحْقِيق الرضى

(1/145)


الْمُعْتَبر بشرع الْخِيَار عِنْد الرُّؤْيَة
وَلَا يخفى رُجْحَان نظر الشَّافِعِي رض فِي اسْتِقْبَال الْمَحْذُور بِالدفع
الثَّانِيَة شرع خِيَار الْمجْلس عِنْد الشَّافِعِي رض فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات
ومستنده قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا فَأَنَّهُ من الْأَعْمَال المنصوبة على كَمَال الرضى بِالْعقدِ الْمُبَاشر

(1/146)


على مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تعليقنا الموسوم ب دُرَر الْغرَر ونتائج الْفِكر
وَاكْتفى أَبُو حنيفَة رض بِأَصْل الْإِقْدَام الصَّادِر من الْأَهْل فِي الْمحل

(1/147)


مَسْأَلَة 3

الشَّرْط إِذا دخل على السَّبَب وَلم يكن مُبْطلًا كَانَ تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب إِلَى حِين وجوده لَا فِي منع السَّبَبِيَّة عِنْد الشَّافِعِي رض
وَمِثَال الْمَسْأَلَة قَوْله أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار فالسبب قَوْله أَنْت طَالِق وَالشّرط الدَّاخِل عَلَيْهِ قَوْله إِن دخلت الدَّار
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَوْله إِن دخلت الدَّار لَا يُؤثر فِي قَوْله أَنْت طَالِق فانه ثَبت مَعَ الشَّرْط كَمَا كَانَ ثَابتا بِدُونِ الشَّرْط وَإِنَّمَا يمْنَع ثُبُوت حكمه فَكَانَ تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب لَا فِي منع انْعِقَاده سَببا وَلِهَذَا لَو لم يقْتَرن بِهِ الشَّرْط ثَبت حكمه
وَذهب أَصْحَاب أَبُو حنيفَة رض إِلَى أَن الشَّرْط إِذا دخل على السَّبَب يمْنَع انْعِقَاده سَببا فِي الْحَال
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بأمرين
أَولهمَا أَن الشَّرْط دخل على ذَات السَّبَب لَا على حكمه فان السَّبَب قَوْله أَنْت طَالِق مثلا وَالشّرط دَاخل عَلَيْهِ
الثَّانِي أَنه جعل التَّطْلِيق جَزَاء لدُخُول الدَّار وَالشّرط إِذا دخل على الْجَزَاء علقه وَإِذا علقه يمْنَع وُصُوله إِلَى مَحَله وَالْعلَّة

(1/148)


الشَّرْعِيَّة لَا تصير عِلّة إِلَّا بوصولها إِلَى محلهَا فَلَا تصير عِلّة إِذا قصرت عَن محلهَا
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن البيع بِشَرْط الْخِيَار ينْعَقد سَببا لنقل الْمَالِك فِي الْحَال عِنْد الشَّافِعِي رض وَإِنَّمَا يظْهر تَأْثِير الشَّرْط فِي تَأْخِير حكم السَّبَب وَهُوَ اللَّازِم الَّذِي لَوْلَا دُخُول الشَّرْط لثبت
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا ينْعَقد سَببا لنقل الْملك بل دُخُول الشَّرْط منح سببيته فِي مُدَّة الْخِيَار فَإِذا سقط الْخِيَار وَزَالَ الشَّرْط انْعَقَد حِينَئِذٍ سَببا
وَمِنْهَا إِن خِيَار الشَّرْط يُورث عِنْد الشَّافِعِي رض بِنَاء على اعْتِقَاده أَن الْملك انْتقل إِلَى الْوَارِث وَأَن الثَّابِت بِالْخِيَارِ حق الْفَسْخ والإمضاء الراجعين إِلَى نفس العقد وَذَلِكَ حق شَرْعِي أمكن انْتِقَاله إِلَى الْوَارِث كَمَا فِي الرَّد بِالْعَيْبِ

(1/149)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا ينْتَقل لِأَن الثَّابِت لَهُ بِالْخِيَارِ مَشِيئَة نقل الْملك واستبقاؤه ومشيئته صفة من صِفَاته فتفوت بفواته كَسَائِر صِفَاته
وَمِنْهَا أَن تَعْلِيق الطَّلَاق بِالْملكِ لَا يَصح عِنْد الشَّافِعِي رض وَكَذَلِكَ تَعْلِيق الْعتاق بِالْملكِ لِأَن التَّطْلِيق الْمُعَلق سَبَب لوُقُوع الطَّلَاق وَدخُول الشَّرْط على السَّبَب تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب لَا فِي انْعِقَاده سَببا وَإِذا كَانَ سَببا كَانَ اتِّصَاله بِالْمحل الْمَمْلُوك شرطا لانعقاده ليَكُون السَّبَب مفضيا إِلَى الحكم عِنْد وجود الشَّرْط وَلِهَذَا لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن السَّبَب لَا يُفْضِي إِلَى حكمه وَإِن وجد الشَّرْط
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَصح لِأَن التَّطْلِيق مُعَلّق بِالشّرطِ فَلم يكن سَببا لوُقُوع الطَّلَاق فَلَا يشْتَرط لَهُ ملك الْمحل بل ينْعَقد التَّطْلِيق يَمِينا لِأَنَّهُ

(1/150)


إِن قصد بِهِ الْمَنْع يتَحَقَّق الْمَنْع فَإِن الْمَانِع مَوْجُود وَهُوَ وُقُوع الطَّلَاق عِنْد وجود الشَّرْط
وَإِن قصد بِهِ الطَّلَاق يَقع أَيْضا فَإِنَّهُ أضَاف الطَّلَاق إِلَى الْملك وَكَانَ كَلَامه مُفِيدا فأنعقد صَحِيحا
قَالُوا وَلِهَذَا قُلْنَا إِن التَّكْفِير قبل الْحِنْث لَا يجوز بِالْمَالِ وَلَا بِالصَّوْمِ لِأَن الْيَمين الْمُعَلق بِالشّرطِ وَهُوَ الْحِنْث لَا ينْعَقد سَببا فِي حق الْكَفَّارَة
وَعند الشَّافِعِي رض ينْعَقد سَببا وَإِن كَانَت معلقَة على مَا سَيَأْتِي فِي مسَائِل الْأَيْمَان

(1/151)