تخريج الفروع على الأصول

مسَائِل الرِّبَا
مَسْأَلَة 1

حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي رض إِخْرَاج بعض الْجُمْلَة عَن الْجُمْلَة بِحرف إِلَّا أَو مَا يقوم مقَامه فَلفظ الِاسْتِثْنَاء يُوجب انعدام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فِي الْقدر الْمُسْتَثْنى مَعَ بَقَاء الْعُمُوم بطرِيق الْمُعَارضَة كالتخصيص إِلَّا أَن الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل بالْكلَام والتخصيص مُنْفَصِل
احْتج فِي ذَلِك بأمرين
أَحدهمَا إِجْمَاع أهل اللُّغَة أَن كلمة التَّوْحِيد وَهِي قَوْلنَا لَا اله إِلَّا الله مَوْضُوعَة لنفي الإلهية عَن غير الله تَعَالَى وَإِثْبَات إلهيته فَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء يُفِيد حكم النَّفْي الْمعَارض للإثبات الأول لما كَانَ قَوْلنَا لَا اله إِلَّا الله مُوجبا ثُبُوت الإلهية لله عز وَجل بل كَانَ مَعْنَاهُ نفي الإلهية عَن غير الله تَعَالَى دون إِثْبَات الإلهية لَهُ وَلَو كَانَ كَذَلِك لما تمّ الْإِسْلَام فَلَمَّا تمّ الْإِسْلَام دلّ أَنه يُفِيد الْإِثْبَات الْمعَارض للنَّفْي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ

(1/152)


الثَّانِي إِن قَول الْقَائِل لفُلَان عَليّ ألف يَقْتَضِي وجوب الْألف عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَو سكت عَلَيْهِ اسْتمرّ وُجُوبهَا فَإِذا قَالَ إِلَّا مائَة صَار ذَلِك مُعَارضا بِحمْلِهِ مخرجا من اللَّفْظ بعض مَا تنَاوله فَيُوجب الثَّانِي النَّفْي كَمَا يُوجب الأول الْإِثْبَات وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رض إِن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي حَتَّى لَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة إِلَّا سِتَّة إِلَّا خَمْسَة إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الْوَاحِد يلْزمه خَمْسَة لِأَنَّك إِذا جمعت عدد الْإِثْبَات مِنْهَا كَانَت ثَلَاثِينَ وَإِذا جمعت عدد النَّفْي مِنْهَا كَانَت خَمْسَة وَعشْرين فَتسقط الْمَنْفِيّ من الْمُثبت فَتبقى خَمْسَة وعَلى هَذَا فقس
وَزعم أَبُو حنيفَة رض وَأَصْحَابه أَن الِاسْتِثْنَاء لفظ يدْخل على الْكَلَام الْعَام فيمنعه من اقْتِضَاء الْعُمُوم والاستغراق حَتَّى يصير كَأَنَّهُ لم يتَكَلَّم إِلَّا بِالْقدرِ الْبَاقِي بعد الِاسْتِثْنَاء
وَزَعَمُوا أَن الْعَرَب وضعت للتعبير عَن تِسْعمائَة عبارتين إِحْدَاهمَا موجزة وَالْأُخْرَى مُطَوَّلَة وَهِي قَوْله ألف إِلَّا مائَة فتقدير قَول

(1/153)


الْقَائِل لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة عندنَا أَن لَهُ عَليّ ألفا إِلَّا مائَة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ إِلَّا أَنه اختصر فِي الْكَلَام وَترك صَرِيح النَّفْي لدلَالَة الْمَنْطُوق على الْمَسْكُوت قَالَ الله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما}
وَتَقْدِيره عِنْدهم أَن لَهُ عَليّ تِسْعمائَة وَلم يسلمُوا أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات بل أَدْعُو أَن بَين الحكم بِالنَّفْيِ وَالْحكم بالإثبات وَاسِطَة وَهِي عدل الحكم فَمُقْتَضى الِاسْتِثْنَاء بَقَاء الْمُسْتَثْنى غير مَحْكُوم عَلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بالإثبات كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي فَإِنَّهُمَا يدلان على الْعَدَم لَا على الْوُجُود عِنْد الْوُجُود
وَلِهَذَا الْمَعْنى أبطلوا الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس كَمَا إِذْ قَالَ لَهُ عَليّ

(1/154)


ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُم قَالُوا يلْزمه كل الْألف لِأَن الْمُسْتَثْنى لم يَشْمَلهُ عُمُوم الِاسْتِثْنَاء
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا مَا يمْنَع الحكم بطرِيق الْمُعَارضَة أدنى درجاته أَن يسْتَقلّ بِنَفسِهِ مثل دَلِيل الْخُصُوص والإستثناء مِمَّا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يتم بِمَا يذكر قبله فَلَمَّا لم يصلح مُعَارضا لَهُ دلّ على أَنه بَيَان لمراد الْمُتَكَلّم بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الأَصْل فِي الْأَمْوَال الربوية عِنْد الشَّافِعِي رض تَحْرِيم بيع بَعْضهَا بِبَعْض وَالْجَوَاز يثبت مُسْتَثْنى عَن قَاعِدَة التَّحْرِيم مُقَيّدا بِشَرْط الْمُسَاوَاة والحلول والتقابض عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس وبشرط الْحُلُول والتقابض عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْوَرق بالورق وَالْبر بِالْبرِّ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء يدا بيد عينا بِعَين فَإِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم يدا بيد فَإِنَّهُ

(1/155)


نهي عَن بيع الْأَشْيَاء بَعْضهَا بِبَعْض عَاما ثمَّ اسْتثْنى حَالَة الْمُسَاوَاة فالنهي الأول يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير بِعُمُومِهِ وَالِاسْتِثْنَاء يتَنَاوَل مَا يدْخل تَحت الْكَيْل وَهُوَ مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْمُسَاوَاة
وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يجوز بيع حفْنَة بحفنتين وَلَا بطيخة ببطيختين ونظائرها وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الأَصْل فِيهَا الْإِبَاحَة لقَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} ولقيام الْملك فِيهَا وَادّعى أَن الْمَقْصُود من الحَدِيث آخِره وَإِن كَانَ مصدرا بِالنَّهْي وَهُوَ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور إِذْ الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات

(1/156)


الطّهُور شرطا للإنعقاد لَا نفي الصَّلَاة بِدُونِ طهُور لَكِن انْتِفَاء الصَّلَاة عِنْد انْتِفَاء الطّهُور حَاصِل لضَرُورَة فَوَات شَرط الصِّحَّة فَكَذَلِك الْفضل يحرم لضَرُورَة فَوَات الشَّرْط الَّذِي نيطت بِهِ الْإِبَاحَة وَهُوَ الْمُسَاوَاة بِالْكَيْلِ والحفنة غير مكيلة فَتبقى على أصل الْجَوَاز
وَمِنْهَا أَن التَّقَابُض فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ شَرط عِنْد الشَّافِعِي رض سَوَاء أتحد الْجِنْس أَو اخْتلف بِنَاء على أَن الْجَوَاز ثَبت مُسْتَثْنى من قَاعِدَة التَّحْرِيم وفيهَا التَّقَابُض الْمُسْتَفَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدا بيد فانه صَرِيح ثمَّ هُوَ منزل على الْعَادة والتقابض فِي الْمجْلس
وَحمل أَبُو حنيفَة رض قَوْله يدا بيد على الْحُلُول الْمنَافِي للنِّسَاء وَقَوله عينا بِعَين على التَّأْكِيد والتكرير وَزعم أَنه مؤيد بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ من حَيْثُ أَن الأَصْل فِي البيع الْجَوَاز والموجب للْفَسَاد الْفضل والتفاوت هَهُنَا لِأَن الْمَقْبُوض فِي مجْلِس العقد كالمقبوض

(1/157)


فِي غير مجْلِس العقد
وَمِنْهَا إِن بيع الرطب بِالتَّمْرِ بَاطِل عِنْد الشَّافِعِي رض وَلَا يسْتَثْنى من قَاعِدَة التَّحْرِيم لِأَن التَّحْرِيم الثَّابِت بِالْحَدِيثِ إِنَّمَا يرْتَفع عِنْد تَحْقِيق شَرط الْإِبَاحَة فمهما علمنَا انْتِفَاء الشَّرْط أَو لم نعلم وجوده حكمنَا بِالْبُطْلَانِ وَلَا فرق فِيهِ بَين مَا يفقد الشَّرْط لنعذره وَبَين مَا يفقد للإمتناع من إجرائه مَعَ تيسيره
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَصح لتحق الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل وَهُوَ بَاطِل بِبيع الْحِنْطَة بالدقيق والسويق وَبيع الْحِنْطَة النيئة بالمقلية
وَمِنْهَا إِذا بَاعَ مد عَجْوَة ودرهما بمدي عَجْوَة ونظائرهما لَا يَصح عندنَا

(1/158)


لِأَن تَحْرِيم رَبًّا الْفضل مَعْلُوم والمماثلة الَّتِي هِيَ طَرِيق الْخَلَاص غير مَعْلُومَة وَالْجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة وَمَا يقدره الْخصم من صرف الْجِنْس إِلَى خِلَافه تحكم لَا يقْضِي الْعقل بِهِ وَلَا تنبىء الصِّيغَة عَنهُ
وَمِنْهَا أَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ بَاطِل عندنَا للْجَهْل بالمماثلة فِيمَا اعْتبرت فِيهِ الْمُمَاثلَة على مَا ذَكرْنَاهُ ورزانه بيع السمسم بالدهن
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَصح لِأَن تَحْرِيم البيع عندنَا بِانْتِفَاء الشُّرُوط الْمَذْكُورَة ثَبت مُسْتَثْنى من قَاعِدَة الْإِبَاحَة وَالْجَوَاز الثَّابِت بِحكم الأَصْل إِلَّا عِنْد يَقِين انْتِفَاء الشَّرْط فِي المعيار الشَّرْعِيّ حَالَة العقد

(1/159)


مَسْأَلَة 2

الْعلَّة الْمُوجبَة لاشْتِرَاط الْقُيُود الْمَذْكُورَة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا عندنَا هِيَ الطّعْم لَا غير والجنسية مَحل التَّحْرِيم رَبًّا الْفضل
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الْعلَّة فِي الْكَيْل تبع الجنسية فالجنسية عِنْده أحد وصفي الْعلَّة وَالْفرق بَين الْعلَّة وَمحل الْعلَّة أَن مَحل الْعلَّة مَا يُؤثر فِي نفس الْعلَّة ويقربها وَيظْهر أَثَرهَا فِيهِ كالإحصان فِي بَاب الزِّنَى فان الْعلَّة الْمُوجبَة للرجم هِيَ الزِّنَا نَفسه لكنه فِي اقْتِضَاء الرَّجْم يَسْتَدْعِي محلا وَهُوَ الْإِحْصَان وَلَيْسَ الْإِحْصَان أحد وصفي عِلّة الرَّجْم فان الْإِحْصَان مَنَاقِب وخصال محمودة ومعظمها لَا يحصل بِاخْتِيَارِهِ كالبلوغ وَالْحريَّة وَالْعقل والكمال لَا يُنَاسب الْعقُوبَة فَلَا يشْعر بهَا أصلا

(1/160)


وَكَذَلِكَ تَعْلِيق الْعتْق عِلّة وَوُجُود الصّفة مَحل لنفوذ التَّعْلِيق فَإِذا قَالَ السَّيِّد لعَبْدِهِ إِن دخلت الدَّار فَأَنت حر فَدَخلَهَا عتق وَعلة الْعتْق وَمحل نُفُوذ الصّفة إِذا تحققت حَتَّى قَالَ أَبُو حنيفَة رض لَو شهد شُهُود على الزِّنَا وشهود على الْإِحْصَان وَشهد شُهُود على الْعتْق وَآخَرُونَ على الصّفة وَنفذ الْحَاكِم حكمه بِالْعِتْقِ وَالتَّعْلِيق ثمَّ رَجَعَ الشُّهُود فان الْغرم يجب على شُهُود الزِّنَا دون شُهُود الْإِحْصَان وَالصّفة وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رض
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَة
وَهِي أَن الْجِنْس بِانْفِرَادِهِ لَا يحرم النِّسَاء عِنْد الشَّافِعِي رض حَتَّى يجوز إِسْلَام الثَّوْب فِي جنسه من حَيْثُ إِنَّه لَا تحرم إِلَّا الْعلَّة وَلَا عِلّة للْأَحْكَام الثَّلَاثَة إِلَّا الطّعْم نعم كَانَت الجنسية مُعْتَبرَة محلا لِلْعِلَّةِ فِي رَبًّا الْفضل وَالْمحل بِانْفِرَادِهِ لَا يُؤثر
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الجنسية تحرم رَبًّا النِّسَاء لِأَنَّهُ أحد وصفي الْعلَّة كَمَا أَن الْكَيْل أحد وصفي الْعلَّة ثمَّ الْكَيْل يَقْتَضِي تَحْرِيم رَبًّا النِّسَاء فَكَذَلِك الجنسية

(1/161)


مَسْأَلَة 3

ذهب الْجُمْهُور من أَصْحَاب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن تَخْصِيص الحكم بِصفة من أَوْصَاف الشَّيْء يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا مَحل الصّفة وَهُوَ الملقب بِالْمَفْهُومِ
مِثَاله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة فَدلَّ على نفي الحكم عَمَّا عَداهَا وتنزل الصّفة منزلَة الْعلَّة
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن عدُول صَاحب الشَّرْع عَن اللَّفْظ الْعَام وَهُوَ قَوْله فِي الْغنم زَكَاة إِلَى اللَّفْظ الْخَاص وَهُوَ قَوْله فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة لَا بُد وَأَن يكون لفائدة وَلَا فَائِدَة إِلَّا نفي الحكم عَمَّا عدا مَحل

(1/162)


الصّفة
وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض وَطَائِفَة من أَصْحَابنَا إِلَى منع ذَلِك
وَاحْتَجُّوا بَان الصّفة تجْرِي مجْرى الْعلم إِذْ الْمَقْصُود من الصّفة الْإِبَانَة عَن الْمَوْصُوف والتمييز بَينه وَبَين غَيره كَمَا أَن الْمَقْصُود من الِاسْم هُوَ الْإِبَانَة عَن الْمُسَمّى وتمييزه عَن غَيره ثمَّ تَعْلِيق الحكم فَكَذَا تَعْلِيق الحكم بِالصّفةِ

(1/163)


وَيتَفَرَّع من هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِذا بَاعَ نَخْلَة قبل أَن تؤبر فثمرتها تندرج تَحت البيع عندنَا وَلَا تندرج بعد التَّأْبِير لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من بَاعَ نَخْلَة بعد إِن تؤبر فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشترطها الْمُبْتَاع // الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ دلّ مَفْهُومه على أَنَّهَا

(1/164)


إِذا كَانَت غير مؤبرة لَا تكون لبائع ليَكُون التَّخْصِيص مُفِيدا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا تندرج فِي الْحَالين لِأَن تَخْصِيص أحد الْقسمَيْنِ سكُوت عَن الْقسم الآخر وَالسُّكُوت لَا دلَالَة لَهُ
وَمِنْهَا أَن الْوَاجِد لطول الْحرَّة لَا يجوز لَهُ نِكَاح الْأمة عندنَا لمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات}
وَمِنْهَا أَن نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة غير جَائِز عندنَا لمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} خص الْأمة المؤمنة بِالذكر

(1/165)


وَعِنْده جَائِز لما ذَكرْنَاهُ
وَمِنْهَا أَن المبتوتة لَا نَفَقَة لَهَا إِذا كَانَت حَائِلا لِأَن الله تَعَالَى خص الْحَامِل بِالذكر فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} وَهَذَا وصف لَهَا فَانْتفى الحكم عَن غَيرهَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى حَامِلا كَانَت أَو حَائِلا
وَمِنْهَا أَن أَخذ الْجِزْيَة من غير أهل الْكتاب لَا يجوز عندنَا لمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب}

(1/166)


خص أهل الْكتاب
وَعِنْده يجوز أَخذهَا من عَبدة الْأَوْثَان من غير أهل الْكتاب

(1/167)


مسالة 4

زعم أَصْحَاب أبي حنيفَة رض أَن التَّصَرُّفَات الحسية تَنْقَسِم إِلَى صَحِيحَة ومشروعة وباطلة وممنوعة وفاسدة ومشروعة بأصلها مَمْنُوعَة بوصفها وعنوا بِالصَّحِيحِ مَا يُفِيد حكمه الْمَوْضُوع لَهُ وبالباطل مَا لَا يُفِيد حكمه الْمَوْضُوع لَهُ وبالفاسد مَا يُفِيد حكمه من وَجه دون وَجه
وَذهب أَصْحَاب الشَّافِعِي رض إِلَى إِنْكَار الْقسم الثَّالِث وَلم يفرقُوا بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل
وَأعلم أَن هَذَا أصل عظم اخْتِلَاف الفئتين وَطَالَ فِيهِ نظر الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ على التَّحْقِيق نزاع لَفْظِي ومراء جدلي فان مُرَاد الْقَوْم من هَذَا التَّقْسِيم أَن التَّصَرُّفَات تَنْقَسِم إِلَى مَا نهى الشَّرْع عَنْهَا لِمَعْنى يرجع إِلَى ذَاتهَا بِسَبَب اخْتِلَاف ركن من أَرْكَانهَا كَبيع الْحر

(1/168)


وَالْميتَة وَالدَّم إِلَى مَا نهي عَنهُ لَا لذاته بل لأمر يرجع إِلَى شُرُوطهَا وتوابعها وأوصافها وَأُمُور تقارنها كَالْبيع إِلَى أجل مَجْهُول وَالْبيع بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير ونظائرها فَإِن الأول مَعْلُوم الْبطلَان بِدلَالَة قَاطِعَة وَالثَّانِي مظنون الْبطلَان بِدلَالَة ظنية اجتهادية وَلِهَذَا أختلف الصَّحَابَة رض الله عَنْهُم فِيهِ وَبدل على الْفرق بَينهمَا أَن الأول لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد لَو حكم الْحَاكِم بنفاذه لم ينفذ حكمه وَالثَّانِي يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد حَتَّى لَو قضى قَاض بِجَوَازِهِ نفذ حكمه وَصَحَّ وَإِن لم يكن صَحِيحا من قبل الْحَاكِم فَخص أَبُو حنيفَة رض أسم الْبَاطِل بِمَا ثَبت إلغائه شرعا بِدلَالَة قَاطِعَة وَاسم الْفَاسِد بِمَا ثَبت إلغاؤه بِدلَالَة ظنية وَهَذَا كمصيرهم إِلَى الْفرق بَين الْوَاجِب وَالْفَرْض وَقَوْلهمْ أَن الْفَرْض مَا ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة وَالْوَاجِب مَا ثَبت بِدلَالَة ظنية فَإنَّا نساعدهم على الانقسام الْمَعْنَوِيّ وَأَن نازعناهم فِي الْعبارَة وَقد نَص الشَّافِعِي رض على جنس هَذَا التَّصَرُّف فانه قَالَ فِي غير مَوضِع إِن كَانَ النَّهْي لأمر يرجع إِلَى عين الْمنْهِي عَنهُ دلّ على فَسَاده وان كَانَ لأمر يرجع إِلَى غَيره لَا يدل على فَسَاده فالتفرقة بَين الْقسمَيْنِ مُتَّفق عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يرجع النزاع إِلَى أَن فَسَاد الْوَصْف الْمُقَارن هَل يلْحق

(1/169)


بِفساد الأَصْل فِي سَائِر أَحْكَامه وآثاره أم لَا
فالشافعي رض ألحق فَسَاد الْوَصْف بِفساد الأَصْل وَأَبُو حنيفَة رض فرق بَينهمَا
وَعند هَذَا لَا بُد من التَّنْبِيه لدقيقة وَهِي أَن الْوَصْف الْمُقَارن للتَّصَرُّف قد يكون مجاورا لَهُ غير لَازم لذات كَالْبيع فِي وَقت النداء وَحَيْثُ الْحق الشَّافِعِي رض فَسَاد الْوَصْف بِفساد الأَصْل إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقسم الأول دون الثَّانِي
ويفرع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل مِنْهَا أَن البيع الْفَاسِد لَا ينْعَقد عندنَا وَلَا يُفِيد الْملك أصلا
وَعِنْدهم ينْعَقد ويفيد الْملك إِذْ أتصل بِهِ الْقَبْض وَصورته مَا إِذا بَاعَ درهما بِدِرْهَمَيْنِ أَو شَرط أَََجَلًا مَجْهُولا أَو خيارا زَائِدا أَو الشَّرْط أَن لَا يسلم أَو بَاعَ بِخَمْر أَو خِنْزِير وَإِن كل ذَلِك فَاسد لَيْسَ

(1/170)


بباطل حَتَّى يَتَرَتَّب الْملك عَلَيْهِ عِنْد جَوَاز الْقَبْض
وَمِنْهَا أَن الْإِجَارَة الْفَاسِدَة لَا تفِيد ملك الْمَنَافِع عندنَا
وَعِنْدهم تَنْعَقِد وتملك الْمَنَافِع بِحكم العقد
وَمِنْهَا أَن بيع الْمُكْره وإجارته لَا ينعقدان عندنَا
وَعِنْدهم ينْعَقد ويتوقف نُفُوذه على الرضى
وَيلْحق هَذَا الأَصْل قَوْلنَا إِن العَاصِي بسفر لَا يترخص ترخص الْمُسَافِرين عندنَا لكَون السّفر مَمْنُوعًا عَنهُ
وَعِنْدهم يترخص لِأَن الْمَمْنُوع وَصفه دون أَصله

(1/171)


مسالة 5

الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الدَّلِيل على نفي الحكم أَو بَقَاء مَا هُوَ ثَابت بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الملقب بالاستصحاب حجَّة على الْخصم عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي رض
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بَان جاحدي الرُّسُل ونفاة النبوات لَا يكلفون دَلِيلا على النَّفْي بل إِقَامَة الدَّلِيل على صِحَة النُّبُوَّة على الْأَنْبِيَاء وَلَو لم يكن عدم الدَّلِيل حجَّة للنافي لطولبوا بِالدَّلِيلِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} فَإِنَّهُ احتجاج بِعَدَمِ الدَّلِيل وَلِأَن النَّافِي متمسك بِالْعدمِ والعدم غير مُحْتَاج إِلَى الدَّلِيل فينعدم الحكم لعدم دَلِيله

(1/172)


وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لَيْسَ بِحجَّة على الْخصم مُطلقًا
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن حَاصِل الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الدَّلِيل آيل إِلَى الْجَهْل بِالدَّلِيلِ إِذْ لَا سَبِيل لأحد من الْبشر على حصر الدَّلَائِل أجمع بل يجوز أَن يعلم انسان دَلِيلا يجهله غَيره لتَفَاوت النَّاس فِي الْعلم فَكَانَ الْمُتَعَلّق بِعَدَمِ الدَّلِيل مُتَعَلقا بِالْجَهْلِ وَالْجهل لَا يكون حجَّة على أحد بل يكون عذرا لَهُ فِي الِامْتِنَاع عَن الحكم
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الصُّلْح على الْإِنْكَار بَاطِل عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن الله تَعَالَى خلق الذمم بَريَّة عَن الْحُقُوق فَثَبت بَرَاءَة ذمَّة الْمُنكر بِخلق الله عز وَجل وَلم يقم الدَّلِيل على شغل ذمَّته فَلَا يجوز شغلها بِالدّينِ فَلَا يَصح الصُّلْح

(1/173)


وَعِنْدهم يَصح لِأَن عدم الدَّلِيل لَيْسَ بِحجَّة لإبقاء مَا ثَبت بِالدَّلِيلِ فَيجوز شغل ذمَّته بِالدّينِ فَيصح الصُّلْح
وَمِنْهَا أَن الْكَلْب الْمعلم إِذا أكل من فريسته مرّة وَاحِدَة لم تحرم تِلْكَ الفريسة على أحد الْقَوْلَيْنِ عندنَا وَلم يحرم مَا مضى من فريسته قولا وَاحِدًا استصحابا للْحلّ الثَّابِت قبل الْأكل فَإِنَّهُ ثَابت يَقِينا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يحرم الْجَمِيع فَإِن علمه أَمر خَفِي لَا يطلع عَلَيْهِ فَيعْتَبر السَّبَب الظَّاهِر الْمظهر لَهُ وَهُوَ الإمتناع عَن الْأكل إِذْ بِهِ ظهر الْعلم فالإقدام على الْأكل يظْهر ضِدّه وَهُوَ الْجَهْل فَأَنَّهُ السَّبَب الظَّاهِر الْمظهر لَهُ
وَمِنْهَا أَنه لَا يقْضى على الناكل بِمُجَرَّد نُكُوله بل يعرض الْيَمين

(1/174)


على الْمُدَّعِي عندنَا لِأَن الأَصْل أَن لَا يحكم إِلَّا بِمَا يعلم أَو يظنّ ظنا يُقَارب الْعلم فَإِذا أعوز بَقينَا على النَّفْي استصحابا للبراءة الْأَصْلِيَّة
وَعِنْدهم يقْضى بِهِ تَنْزِيلا للامتناع عَن الْحجَّة مقَام نفس الْحجَّة بِنَاء على الْقَرَائِن المطرحة شرعا فِي إِثْبَات الْحُقُوق ونفيها
وَمِنْهَا إِذا تداعى رجلَانِ دَارا فِي يَد ثَالِث وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة على أَن الْملك فِي جَمِيع الدَّار لَهُ تَعَارَضَت الْبَيِّنَتَانِ وتساقطتا وَصَارَ كَانَ لَا بَيِّنَة عندنَا وتقر الدَّار بيد الثَّالِث تمسكا بالاستصحاب
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض تسْتَعْمل الْبَيِّنَتَانِ وتقسم بَينهمَا
وَمِنْهَا أَن التَّدْبِير الْمُطلق لَا يمْنَع البيع عندنَا لِأَن البيع

(1/175)


كَانَ جَائِزا قبل التَّدْبِير وَلَا معنى للتدبير إِلَّا تعلق عتق بِالْمَوْتِ فَهُوَ كَقَوْلِه إِن مت فِي مرضِي هَذَا فَأَنت حر
وَعِنْدهم يمْنَع لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاق عتق بعد الْمَوْت فَأشبه الِاسْتِيلَاء
وَمِنْهَا إِن أحد الشَّرِيكَيْنِ إِذا أعتق نصِيبه من العَبْد الْمُشْتَرك وَكَانَ الْمُعْتق مُعسرا عتق نصِيبه وَبَقِي الْبَاقِي على ملك مَالِكه كَمَا كَانَ وَلَا يستسعى العَبْد فِي أَدَاء قيمَة بَاقِيَة عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق مِنْهُ صَنِيع يَسْتَدْعِي وجوب الضَّمَان عَلَيْهِ وَوُجُوب الْقيمَة فَمَا إِذا كَانَ الشَّرِيك الْمُعْتق مُوسِرًا ثَبت نصا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يستسعى العَبْد فِي أَدَاء قيمَة بَاقِيَة لِأَن الْإِعْتَاق لَا يتَجَزَّأ وَقد احْتبسَ حق الشَّرِيك عِنْده فَتجب عَلَيْهِ السّعَايَة وَإِن لم يُوجد مِنْهُ صَنِيع كَالثَّوْبِ إِذا وَقع فِي صبغ

(1/176)


إِنْسَان فانصبغ بِهِ فانه يجب على رب الثَّوْب ضَمَان الصَّبْغ لاحتباس ملكه عِنْده وان لم يُوجد مِنْهُ جِنَايَة
وَمِنْهَا أَن الدِّيَة لَا تكمل فِي الشُّعُور الْخمس عندنَا وَهِي شعر الرَّأْس واللحية والحاجبين والأهداب والشاربين بل حُكُومَة عدل لن الأَصْل أَن لَا يجب كَمَال الدِّيَة بِإِتْلَاف الْبَعْض غير أَن الشَّرْع علق كل الدِّيَة بِإِتْلَاف الطّرف لِأَنَّهُ تَفْوِيت مَنْفَعَة الْجِنْس فَيصير الشَّخْص كالهالك فِي حق ملك الْمَنْفَعَة والشعور لَيست من هَذَا الْقَبِيل فَبَقيَ على الأَصْل وَهُوَ امْتنَاع كَمَال الدِّيَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض فِي كل وَاحِد مِنْهَا دِيَة كَامِلَة

(1/177)


إِذا فسد المنبت لِأَنَّهُ فَاتَ بِهِ الْجمال على الْكَمَال فَيجب فِيهِ دِيَة كَامِلَة كَمَا فِي الْأذن ومارن الْأنف

(1/178)


مَسْأَلَة 6

لَا حجَّة فِي قَول الصَّحَابِيّ على انْفِرَاده عِنْد الشَّافِعِي رض وَلَا يجب على من بعد تَقْلِيده
وَاحْتج فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} أَمر بِالِاعْتِبَارِ دون التَّقْلِيد وَلِأَن الصَّحَابِيّ لم تثبت عصمته والسهو والغلط جائزان عَلَيْهِ فَكيف يكون قَوْله حجَّة فِي دين الله تَعَالَى
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض هُوَ حجَّة تقدم على الْقيَاس إِذا لم يُخَالِفهُ أحد من نظرائه

(1/179)


وَاحْتج فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ أهدتيتم // ذكره ابْن عبد الْبر بِإِسْنَاد فِيهِ الْحَارِث بن غصين

بَين أَن فِي الإقتداء بهم اهتداء وَلِأَن اجْتِهَاد الصَّحَابِيّ أقرب إِلَى الصَّوَاب من اجْتِهَاد غَيره لما خصوا بِهِ من الدرجَة الزَّائِدَة لمشاهدة الْوَحْي وقربهم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيف وَأَن الظَّاهِر من حَاله أَن لَا يَقُول مَا قَالَه إِلَّا سَمَاعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سِيمَا فِي مَا يُخَالف الْقيَاس
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسالة الْعينَة وَهِي السّلف وَصورتهَا مَا إِذا اشْترى مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن فانه صَحِيح عِنْد الشَّافِعِي رض طردا للْقِيَاس الْجَلِيّ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يفْسد العقد الْأَخير لقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا حَيْثُ أخْبرت أَن زيد بن أَرقم أبتاع عبدا من

(1/180)


امْرَأَة بِأَلف دِرْهَم إِلَى أجل ثمَّ ابتاعته مِنْهُ بِخَمْسِمِائَة حَالَة بئْسَمَا بِعْت وبئسما اشْتريت أَخْبرنِي زيد أَنه أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن يَتُوب فَأخذ بِهِ أَبُو حنيفَة رض وَترك

(1/181)


الْقيَاس

(1/182)


مسالة 7

المعدول عَن الْقيَاس يجوز أَن يُقَاس عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِي رض وَاحْتج فِي ذَلِك أَن الْقيَاس يعْتَمد فهم الْمَعْنى وَقد تحقق ذَلِك هُنَا فَإنَّا لَا نجوز التَّعْلِيل والتعدية إِلَّا عِنْد ظُهُور الْمَعْنى فِي الأَصْل الْمُسْتَثْنى عَن الْقيَاس الْعَام فِي الْفَرْع الملحق بِهِ أقْصَى مَا فِي الْبَاب أَن الأَصْل الْمُسْتَثْنى مُخَالف لأصل آخر فَأن خَالف أصلا آخر لَا يمْتَنع تَعْلِيله والحاق غَيره بِهِ
والسر فِيهِ هُوَ أَن قَوَاعِد الشَّرْع بأسرها تتلاقى فِي قضايا عَامَّة لَكِن كل قَاعِدَة انْفَرَدت بخاصية تخَالف خاصية الْقَاعِدَة الْأُخْرَى وَتلك الخصائص مبناها على التغاير وَالِاخْتِلَاف إِذْ لَو قُلْنَا إِن الخصائص بأسرها شَيْء وَاحِد لجعلنا الْمُبَاحَات مُبَاحا وَاحِدًا
وَذهب الْحَنَفِيَّة إِلَى منع الْقيَاس على الْخَارِج عَن الْقيَاس
وَاحْتَجُّوا بِأَن ركن الْقيَاس فهم الْمَعْنى فِي الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ والمعدول عَن الْقيَاس لَيْسَ كَذَلِك وَهَذَا فَاسد لما ذكرنَا

(1/183)


وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة هالكة فِي يَد المُشْتَرِي أَو خرجت من ملكه أَو صَارَت بِحَال لَا يقدر على ردهَا بِالْعَيْبِ يَتَحَالَفَانِ عِنْد الشَّافِعِي رض ويترادان الْقيمَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَدعِي عقدا غير العقد الَّذِي يَدعِيهِ صَاحبه فَيحلف كل وَاحِد على نفي دَعْوَى صَاحبه كَمَا فِي حَال قيام السّلْعَة
وَعِنْدهم لَا يَتَحَالَفَانِ لِأَن التَّحَالُف على الْقَبْض على وفَاق من حَيْثُ إِن البَائِع يَدعِي زِيَادَة على ألف وَالْمُشْتَرِي ينكرها وَالْمُشْتَرِي يَدعِي وجوب التَّسْلِيم عِنْد أَدَاء الْألف وَالْبَائِع يُنكره فيتحالفان
أما بعد الْقَبْض فالتحالف على خلاف الْقيَاس فَلَا يلْتَحق بِهِ حَال هَلَاك السّلْعَة
وَمِنْهَا أَن مَا دون أرش الْمُوَضّحَة تتحمله الْعَاقِلَة عِنْد الشَّافِعِي

(1/184)


رَضِي الله عَنهُ لبدل النَّفس وَبدل الْجِنَايَة على الْأَطْرَاف لِأَن الْمَقَادِير مُتَسَاوِيَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِنَايَة وَالنِّسْبَة إِلَى الْعَاقِلَة فَالْحكم بالتخصيص محَال
وَعِنْدهم لَا يضْرب على الْعَاقِلَة لِأَن أصل الضَّرْب على الْعَاقِلَة خَارج عَن الْقيَاس إِذْ الأَصْل أَن كل جَان يخْتَص بِمُوجب جِنَايَته وَأَن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى فتحميل أرش الْمُوَضّحَة على الْعَاقِلَة خَارج عَن هَذَا الْقيَاس فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا دونه

(1/185)


مسالة 8

ذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى إِن الْإِيجَاب وَالْقَبُول لَهُ حكمان
أَحدهمَا الِانْعِقَاد وَهُوَ مقترن بهما وَمَعْنَاهُ الارتباط الْحَاصِل من الْخطاب وَالْجَوَاب
وَالثَّانِي زَوَال الْملك وَهُوَ حكم مُنْفَصِل عَن الِانْعِقَاد
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بَان الِانْعِقَاد على تجرده مَعْقُول فِي نَفسه مُحَقّق فِي مسَائِل كالعقد فِي مُدَّة الْخِيَار وَالْهِبَة قبل الْقَبْض فَإِنَّهَا منعقدة وَلم يتأثر الْمحل بهَا وَلَا معنى لانعقادهما إِلَّا تعلق الْإِيجَاب وَالْقَبُول على نهج الْخطاب وَالْجَوَاب وإنتهاض ذَلِك سَببا للْملك إِذا وجد شَرطه وَهُوَ الْقَبْض
قَالُوا وَإِذا ثَبت انهما حكمان منفصلان فَلَا يعْتَبر فِي الِانْعِقَاد إِلَّا أَهْلِيَّة الْخطاب وَالْجَوَاب فمهما صدر الْإِيجَاب وَالْقَبُول من أهلهما

(1/186)


وصادفا محلا قَابلا لحكمهما ثَبت الِانْعِقَاد أما زَوَال الْملك فينبني على الْولَايَة على الْمحل
وَالشَّافِعِيّ رض أنكر هَذَا الانقسام وَلم يثبت للانعقاد معنى سوى كَون العقد مُفِيد الحكم الَّذِي وضع لَهُ وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَالَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول وضعا سَببا لزوَال الْملك فِي الْمحل الْمَمْلُوك إِذا صدر من الْمَالِك الْوَالِي على الْمحل فَلَا معنى للانعقاد بِدُونِهِ لتوزيع الْأَسْبَاب على الْأَحْكَام وَهَذَا بِخِلَاف الْهِبَة وَالرَّهْن فَإِنَّهَا شرعت على تِلْكَ الْوُجُوه فتلقيت كَمَا شرعت وَوضعت
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الْفُضُولِيّ إِذا بَاعَ مَال الْغَيْر لَغَا بَيْعه وَلم ينفذ

(1/187)


بِالْإِجَازَةِ عندنَا
وَعِنْدهم ينفذ وَكَذَا إِذا أجر ملك الْغَيْر أَو وهبه أَو زوج موليه الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه لَا ينْعَقد عندنَا وَينْعَقد عِنْده وَينفذ بِالْإِجَازَةِ
وَمِنْهَا إِن تَصَرُّفَات الصَّبِي بَاطِلَة عندنَا وَعبارَته لاغية فِيهَا
وَعِنْدهم يَصح نفوذها على إجَازَة الْوَلِيّ

(1/188)


مَسْأَلَة 9

ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن جَوَاز بيع الْأَعْيَان يتبع الطَّهَارَة أَي تكون الطَّهَارَة فِيهِ شرطا من جملَة الشُّرُوط
فَمَا كَانَ طَاهِرا جَازَ بَيْعه عِنْد وجود الشَّرَائِط وَمَا لَا فَلَا وَاحْتج فِي ذَلِك بَان النَّجس وَاجِب الاجتناب مَنْهِيّ الاقتراب وَالْبيع وَسِيلَة إِلَى الاقتراب
وَقَالَ أَبُو حنيفَة جَوَاز البيع يتبع الِانْتِفَاع فَكل مَا كَانَ مُنْتَفعا بِهِ جَازَ بَيْعه وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْأَعْيَان خلقت لمنافع الْآدَمِيّ قَالَ الله تَعَالَى {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} فَكل مَا كَانَ مُتَعَلق مَنْفَعَة الْآدَمِيّ كَانَ محلا للْبيع قَالَ وَلَا يلْزم على هَذَا الْخمر وَالْخِنْزِير وعذرة الْآدَمِيّ وَالْجَلد قبل

(1/189)


الدّباغ والودك النَّجس فَإِن عندنَا لَا يجوز الِانْتِفَاع بِشَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء فلأجله أمتنع بيعهَا
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن الْكَلْب الْمعلم لَا يجوز بَيْعه عندنَا وَلَا يضمن بِالْإِتْلَافِ كَسَائِر الْأَمْوَال لِأَنَّهُ نجس
وَعِنْدهم يجوز بَيْعه وَيضمن بِالْإِتْلَافِ كَسَائِر الْأَمْوَال
وَمِنْهَا أَن بيع لبن الآدميات جَائِز عندنَا لطهارته
وَعِنْدهم لَا يجوز لِأَن الِانْتِفَاع بِهِ ضَرُورَة فيتقدر بِقدر الضَّرُورَة وَلَا يقبل نقل الِاخْتِصَاص إِلَى غير مَحَله وَلِهَذَا لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ
وَمِنْهَا أَن بيع السرقين لَا يجوز عندنَا لنجاسته

(1/190)


وَيجوز عِنْدهم لِأَنَّهُ منتفع بِهِ فِي تسميد الأَرْض وَغَيره
وَمِنْهَا أَن بيع خمور أهل الذِّمَّة فِيمَا بَينهم بَاطِل عندنَا لنجاستها
وَيصِح عِنْدهم لجَوَاز الِانْتِفَاع بهَا فِيمَا بَينهم وَلذَلِك يضمن بِالْإِتْلَافِ

(1/191)


مَسْأَلَة 10

اخْتلف الْعلمَاء فِي مورد عقد النِّكَاح مَا هُوَ فَذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن مورده الْمَنَافِع أَعنِي مَنَافِع الْبضْع وَاحْتج فِي ذَلِك بأمرين
أَحدهمَا أَنَّهَا المستوفاة بِحكم العقد والاستحقاق إِنَّمَا يُرَاد للاستيفاء والمستوفى هُوَ الْمَنَافِع فَكَانَ الْمُسْتَحق هُوَ الْمُسْتَوْفى
وَالثَّانِي إِن الله تَعَالَى سمى الْعِوَض أجرا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} وَالْأَجْر إِنَّمَا يسْتَحق فِي مُقَابلَة الْمَنْفَعَة كَمَا أَن الثّمن إِنَّمَا يسْتَحق فِي مُقَابلَة الْعين
وَذهب أَبُو حنيفَة رض إِلَى أَن مورده الْعين الموصوفة بِالْحلِّ وَحكمه ملك الْعين وَاحْتج فِي ذَلِك بِأُمُور أَرْبَعَة
أَحدهَا إِضَافَة الْحل إِلَى ذَات الْمَنْكُوحَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم}

(1/192)


وَثَانِيها أَنه لَو كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْمَنَافِع لما صَحَّ نِكَاح الطفلة الرضيعة كَمَا لَا يَصح عقد الْإِجَارَة على نهر صَغِير وَلَا جحش وَلَا أَرض سبخَة
وَثَالِثهَا أَن عقد النِّكَاح على التَّأْبِيد وَالْعقد على الْمَنَافِع لايتأبد
وَرَابِعهَا أَن الْمهْر يسْتَقرّ بوطأة وَاحِدَة وَلَو كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْمَنَافِع لكَانَتْ الْوَطْأَة الْوَاحِدَة بِمَثَابَة سُكْنى لَحْظَة وَاحِدَة فِي عقد الْإِجَارَة فَإِنَّهُ لايستحق بِهِ من الْأُجْرَة إِلَّا بِقدر مَا يَخُصُّهُ
وَمِنْهُم من قَالَ مورده الْمَنْفَعَة لَكِن مَنْفَعَة الْبضْع أخذت حكم الْأَجْزَاء والأعيان فَصَارَ حكمهَا حكم أَجزَاء الْآدَمِيّ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن وَطْء السَّيِّد لَا يمْنَع الرَّد بِالْعَيْبِ عندنَا لِأَنَّهُ اسْتِيفَاء مَنْفَعَة
وَيمْنَع عِنْدهم لِأَنَّهُ فِي حكم جُزْء حَبسه عِنْده وَامْتنع عَلَيْهِ رد الأَصْل

(1/193)


وَمِنْهَا أَن النِّكَاح لَا ينْعَقد عندنَا إِلَّا بِلَفْظ التَّزْوِيج والإنكاح وَهُوَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع شرعا لتمليك هَذَا الْجِنْس من الْمَنْفَعَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض ينْعَقد بِلَفْظ البيع وَالْهِبَة وكل لفظ يدل على ملك الذَّات وَقد تقدم ذكرهَا فِي مسَائِل الْعِبَادَات
وَمِنْهَا أَن الْخلْوَة الصَّحِيحَة لَا تقرر الْمهْر عندنَا لِأَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْمَنْفَعَة وَضَمان الْمَنَافِع يعْتَمد تلفهَا تَحت يَد من عَلَيْهِ الْبَدَل وَمَنَافع الْبضْع لَا تدخل تَحت الْيَد لِأَنَّهَا لَيست بِمَال وَلَا تقبل وَيَد الْغَاصِب لَا تمنع من التَّزْوِيج وَمَا لَا يدْخل تَحت الْيَد يكون ضَمَانه بِالْإِتْلَافِ كبدل الْحر حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا إِن الْبَدَل لَا يَتَقَرَّر باستئجار الْحر بالتمكين وَإِنَّمَا يَتَقَرَّر بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ الَّذِي أختاره الْقفال
وَعِنْدهم يَتَقَرَّر لِأَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ عين الْمَرْأَة وَقد سلمت نَفسهَا

(1/194)


وَمِنْهَا أَن النِّكَاح يَنْفَسِخ بالعيوب الْخَمْسَة عندنَا لِأَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْمَنْفَعَة فيدخلها الْفَسْخ كَمَا فِي الْإِجَارَة
وَعِنْدهم لَا يَنْفَسِخ لِأَن إِثْبَات الْملك فِي الْعين كَانَ ضَرُورِيًّا إِذْ الْحُرِّيَّة تنَافِي المملوكية فَيقدر بِقدر الضَّرُورَة والضرورة قد اندفعت بِإِثْبَات الطَّلَاق وَالْفَسْخ توسع فِي مَحل الضَّرُورَة فَيمْتَنع
وَمِنْهَا أَن الْخلْع فسخ عندنَا على القَوْل الْمَنْصُور فِي الْخلاف وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه طَلَاق وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رض لِأَن مورد عقد النِّكَاح فِي حكم أَجْزَائِهَا وَهِي حرَّة وَملك الْجُزْء الضَّرُورِيّ لَيْسَ بِأَصْل وَالْفَسْخ توسع

(1/195)


وَمِنْهَا أَن السَّيِّد لَا يجْبر عَبده على النِّكَاح عندنَا لِأَن مورد عقد النِّكَاح مَنْفَعَة الْبضْع وَهِي مَمْلُوكَة من الْأمة دون العَبْد
وَعِنْدهم يجْبر لِأَن مورد عقد النِّكَاح فِي إِجْبَار أمته ملك الْعين وَهُوَ مَوْجُود فِي العَبْد
وَمِنْهَا إِن الْوَطْء فِي الْعتْق الْمُبْهم لَا يكون تعيينا عندنَا لِأَنَّهُ اسْتِيفَاء مَنْفَعَة كالاستخدام
وَعِنْدهم يكون تعيينا لِأَنَّهُ فِي حكم اسْتِيفَاء جُزْء على مَا سبق فِي مسَائِل السّلم

(1/196)


مَسْأَلَة 11

مُعْتَقد الشَّافِعِي رض أَن مُوجب عُقُود الْمُعَاوَضَات التَّسْوِيَة بَين الْعِوَض والمعوض ذاتا ووصفا وَحكما
أما ذاتا فبأن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مَالا وَأما وَصفا فبأن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا جَائِز أَن يكون حَالا ومؤجلا ودينا وعينا
وَأما حكما فبأن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا ركنا مَقْصُودا بِالْعقدِ
وَاحْتج فِي ذَلِك باستواء الْعَاقِدين فِي منَاط اسْتِحْقَاق النّظر لَهما وَوُجُوب رفع الضَّرَر عَنْهُمَا وَكَون العقد مَشْرُوعا لمصلحتهما
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض إِن الْمَبِيع ركن العقد وَالثمن

(1/197)


حكم العقد وعنوا بقَوْلهمْ ركن العقد أَن وجود العقد بِدُونِهِ لَا يتَصَوَّر لِأَنَّهُ مَحل إِضَافَة الصِّيغَة إِلَيْهِ بِخِلَاف الثّمن فانه غير دَاخل فِي حَقِيقَة العقد بل هُوَ حكم العقد وموجبه كَمَا أَن الْمَوْهُوب ركن الْهِبَة وَالثَّوَاب حكمهَا وموجبها وَإِنَّمَا يجب تَسْلِيمه تَحْقِيقا للمساواة بَين الْعِوَضَيْنِ فان ملك المُشْتَرِي مُتَعَيّن فِي البيع فَيجب أَن يتَعَيَّن ملك البَائِع بِالتَّسْلِيمِ
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَالَ تساعدنا على أَن الْعَجز عَن تَسْلِيم الثّمن لَا يمْنَع صِحَة العقد حَتَّى يَصح شري الْمُفلس وشري العَبْد الْمَأْذُون وَتَصِح الْكِتَابَة الْحَالة مَعَ تَيَقّن الْعَجز بِخِلَاف الْمَبِيع فَأَنَّهُ ركن العقد وَيشْتَرط الْقُدْرَة على تَسْلِيمه حَتَّى لَو بَاعَ أبقا لَا يَصح وَجوز الْكِتَابَة الْحَالة بِنَاء عَلَيْهِ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا إِن السّلم فِي الدّين الْحَال صَحِيح عندنَا تَسْوِيَة

(1/198)


بَين الْعِوَض والمعوض
وَلَا يَصح عِنْدهم تَفْرِقَة بَينهمَا
وَمِنْهَا أَن السّلم فِي الْحَيَوَان صَحِيح عندنَا لِأَنَّهُ جَازَ أَن يكون ثمنا فَجَاز أَن يكون مثمنا
وَعِنْدهم لَا يَصح تَفْرِقَة بَين الْمَبِيع وَالثمن
وَمِنْهَا أَن السّلم فِي الْمُنْقَطع جنسه لَدَى العقد الْمَعْلُوم وجوده لَدَى الْمحل صَحِيح عندنَا تَسْوِيَة بَين الثّمن والمثمن فَإِنَّهُم يسلمُونَ أَنه لَو بَاعَ بمكيل أَو مَوْزُون وَكَانَ مُنْقَطع الْجِنْس فِي الْحَال مَوْجُودا عِنْد الْمحل صَحَّ وَالسّلم بيع الْمكيل وَالْمَوْزُون إِلَى اجل وَلَا فرق بَين الْمَبِيع بالمكيل وَبَين بيع الْمكيل فَإِذا لم يمْنَع انْقِطَاع الْجِنْس أَحدهمَا لَا يمْنَع الثَّانِي
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يَصح بِنَاء على الْفرق الَّذِي

(1/199)


قدمْنَاهُ من أَن الثّمن حكم العقد وَالْعجز عَن تَسْلِيمه لَا يمْنَع صِحَة العقد
وَنحن نقُول هما ركنان فِي العقد كَمَا تقرر ونمنع شري العَبْد الْمَأْذُون وشري الْمُفلس للعجز عَن التَّسْلِيم وَكَذَلِكَ منعنَا الْكِتَابَة الْحَالة
وَمِنْهَا إفلاس المُشْتَرِي بِالثّمن يثبت للْبَائِع حق الْفَسْخ إِذا كَانَ الْمَبِيع قَائِما تَسْوِيَة بَين الْعِوَض والمعوض
وَعِنْدهم لَا يثبت لما ذَكرْنَاهُ ووافقوا فَمَا قبل الْقَبْض
وَمِنْهَا أَن النُّقُود تتَعَيَّن فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات عندنَا حَتَّى يمْتَنع إبدالها وينفسخ العقد بتلفها لِأَن حكم العقد تعين الثّمن لتعين الْمُثمن وَإِنَّمَا جوز كَون الثّمن فِي الذِّمَّة تيسيرا وتسهيلا
وَعِنْدهم لَا يتَعَيَّن الثّمن لِأَن حكم العقد ووجوده

(1/200)


بِوُجُوبِهِ فِي الذِّمَّة بِخِلَاف الْمَبِيع على مَا سبق نعم هَذِه الْمَالِيَّة لَا يُمكن إيصالها إِلَى الْمَالِك إِنَّمَا إيصالها بتعين أشكال الدَّرَاهِم فَكَانَ اشكال الدَّرَاهِم معيارا لماليتها ومكيالا لَهَا وَالْمَطْلُوب مِنْهَا معنى لَا يُنَاسب الِاخْتِصَاص وَكَانَت الْإِشَارَة إِلَيْهَا هِيَ الْإِشَارَة إِلَى المعيار وَالْمِيزَان فانه يجب إلغاؤه
وَمن فروع الْمَسْأَلَة
مَسْأَلَة وَهِي مَا إِذا تزوج امْرَأَة على دَرَاهِم أَو دَنَانِير وَدفعهَا إِلَيْهَا فوهبتها لَهُ ثمَّ طَلقهَا قبل الدُّخُول فَإِنَّهُ لَا يرجع عَلَيْهَا عندنَا لِأَنَّهَا تعيّنت بقبضها وَقد رجعت إِلَى الزَّوْج بِعَينهَا
وَعِنْدهم يرجع عَلَيْهَا بِنَاء على أَن الْأَثْمَان لَا تتَعَيَّن بِالْعقدِ فَلَا

(1/201)


تتَعَيَّن بِالْفَسْخِ فَكَانَ الَّذِي يسْتَحقّهُ الزَّوْج مَالا فِي ذمَّتهَا وَذَاكَ لم يرجع إِلَيْهِ إِنَّمَا رَجَعَ مثله فَصَارَ كَمَا لَو وهبت لَهُ دَرَاهِم غير الْمهْر
وَمِنْهَا أَن الصَّفْقَة تَتَعَدَّد بِتَعَدُّد المُشْتَرِي عندنَا كَمَا تَتَعَدَّد بِتَعَدُّد البَائِع تَسْوِيَة بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول حَتَّى لَو بَاعَ عينا من اثْنَيْنِ وَشرط لَهما الْخِيَار اسْتَقل كل وَاحِد مِنْهُمَا برد نصِيبه دون مُوَافقَة صَاحبه عندنَا
وَكَذَا لَو اطلعا على عيب قديم جَازَ لأَحَدهمَا أَن ينْفَرد برد نصِيبه لِأَنَّهُ انْفَرد بعقده فينفرد برده كَمَا لَو بَاعَ اثْنَان من وَاحِد
وَعِنْدهم لَا ينْفَرد لِاتِّحَاد الصَّفْقَة فِي صورتهَا وَالله أعلم

(1/202)