تخريج الفروع على الأصول مسالة فِي بَيَان حَقِيقَة السَّبَب
إعلم إِن السَّبَب فِي وضع اللِّسَان عبارَة عَمَّا يتَوَصَّل
بِهِ إِلَى مَقْصُود كالطريق الْموصل إِلَى الْمَكَان
الْمَقْصُود وَالْحَبل الَّذِي بِهِ ينْزح المَاء فَإِن
الْوُصُول إِلَى الْمَكَان الْمَقْصُود بالسير لَا
بِالطَّرِيقِ لَكِن لَا بُد من الطَّرِيق ونزح المَاء
بالاستقاء لَا بالحبل لَكِن لَا بُد من الاحبل وَأَسْبَاب
السَّمَوَات طراقئها
قَالَ الشَّاعِر ... وَمن هاب أَسبَاب المنايا ينلنه ... وَلَو
نَالَ أَسبَاب السَّمَاء بسلم ...
وَحده مَا يحصل الشَّيْء عِنْده لَا بِهِ وَبِه يُفَارق
الْعلَّة فَإِن الْعلَّة مَا يحصل الشَّيْء بهَا
وهما فِي أيجاب الحكم سَوَاء غير أَن الْعلَّة مَا اقْتَضَت
الحكم من
(1/351)
غير وَاسِطَة وَلَا شَرط يتَوَقَّف الحكم
على وجوده كَقَوْل الْقَائِل أَنْت طَالِق فَإِنَّهُ يستعقب
الطَّلَاق من غير توقف على شَرط فَسمى عِلّة
وَأما السَّبَب فَمَا أفْضى إِلَى الحكم بِوَاسِطَة أَو وسائط
كَقَوْلِه إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق سمي سَببا لتوقف
الحكم على وَاسِطَة دُخُول الدَّار
وَإِذا عرفت ذَلِك فَأعْلم أَن الوسائط بَين الْأَسْبَاب
وَالْأَحْكَام منقسمة إِلَى مُسْتَقلَّة والى غير مُسْتَقلَّة
فمهما كَانَت الْوَاسِطَة مُسْتَقلَّة أضيف الحكم أليها دون
السَّبَب لكَونهَا أقرب السببين
مِثَاله البيع وَالْهِبَة وَالْإِرْث وَالْوَصِيَّة فَإِنَّهَا
أَسبَاب مَوْضُوعَة للْملك
ثمَّ التَّصَرُّفَات الْمَقْصُودَة من الْأَعْيَان تستفاد
بِالْملكِ لَا بِهَذِهِ الْأَسْبَاب لِأَن الْملك وَاسِطَة
مُسْتَقلَّة تصلح لإضافة الحكم إِلَيْهَا
فَأَما إِذا كَانَت الْوَاسِطَة غير مُسْتَقلَّة أما لعدم
مناسبتها أَو لخفائها فَإِن الحكم يُضَاف إِلَى السَّبَب الأول
دون الْوَاسِطَة كمن رمى
(1/352)
إِلَى إِنْسَان فَأَصَابَهُ فَقتله فان
الْقَتْل يُحَال على السَّبَب الأول وَهُوَ الرَّمْي وَلَا
يُحَال على الوسائط من خُرُوج السّلم وَقطع الْهَوَاء لِأَن
هَذِه الوسائط غير صَالِحَة فَلَا يُضَاف الحكم إِلَيْهَا
وَلذَا إِذا كَانَ الْوَصْف الْقَرِيب خفِيا والبعيد جليا
كالحدث مَعَ النّوم وَالْمَشَقَّة مَعَ السّفر فَإِن الحكم
مُضَاف إِلَى الْبعيد الَّذِي لَيْسَ بمقصود لعسر الْوُقُوف
على الْقَرِيب الْمَقْصُود
وَالْقَوْل الْجَامِع من هَذَا الْجِنْس أَنه مهما اجْتمع فِي
مَحل الحكم وصفان ظاهران متعاقبان يصلح كل وَاحِد مِنْهُمَا
لإضافة الحكم إِلَيْهِ على تَقْدِير الِانْفِرَاد فَإِن الحكم
أبدا يُضَاف إِلَى الْوَصْف الْقَرِيب دون الْبعيد فَإِن
الْوَصْف الْقَرِيب حِينَئِذٍ يكون هُوَ عِلّة الحكم
وَالْوَصْف الْبعيد هُوَ عِلّة الْعلَّة وَالْحكم يُضَاف إِلَى
الْعلَّة دون عِلّة الْعلَّة
ومثاله حفر الْبِئْر مَعَ التردية والتلقي بِالسَّيْفِ مَعَ
الرَّمْي من شَاهِق وَالْقطع مَعَ الحز وَنصب حجر فِي مَحل
عدوان مَعَ حفر الْبِئْر إِذا تعثر بِالْحجرِ فَوَقع فِي
الْبِئْر
وَهَذِه الْجُمْلَة لَا نزاع فِيهَا وَإِنَّمَا يَقع النزاع
بعْدهَا فِي تَحْقِيق
(1/353)
الْوَاسِطَة المستقلة وَعدمهَا فِي
الْمسَائِل إِمَّا فِي مناسبتها أَو فِي ظُهُورهَا وصلا حيتها
لإضافة الحكم إِلَيْهَا
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا إِذا أشترى أَبَاهُ بنيه بالتكفير لَا يَقع عتقه
عَن كَفَّارَته عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ
التَّحْرِير والتحرير هُوَ إِيجَاد سَبَب الْحُرِّيَّة
وَالْحريَّة هَهُنَا تحصل قهرا وسببها الْقَرَابَة السَّابِقَة
الْوَاسِطَة المتحللة وَهِي الشِّرَاء لَا تصلح سَببا بل هُوَ
شَرط ممهد لمحل الْمُعْتق وَهُوَ الْملك والمحال من قبيل
الشَّرْط كالجنسية مَعَ الطّعْم والإحصان مَعَ الزِّنَا
فاقترنت نِيَّة الْكَفَّارَة بِشَرْط التَّحْرِير دون سَببه
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَقع عَن كَفَّارَته لِأَن الشِّرَاء
سَبَب للْملك وَالْملك سَببا لِلْعِتْقِ بِوَاسِطَة الْملك
مُضَافا إِلَى الشِّرَاء فَكَانَ الشِّرَاء هُوَ السَّبَب
الْمُوجب لِلْعِتْقِ لحدوث الْعتْق عَقِيبه والقرابة شرطا
(1/354)
الثَّانِيَة أَن الْبَهِيمَة إِذا صالت على
إِنْسَان فَقَتلهَا دفعا عَن نَفسه لم يضمنهَا عِنْد
الشَّافِعِي رض لِأَن السَّبَب الدَّاعِي إِلَى قَتلهَا صيالها
فَهِيَ قتيلة نَفسهَا فَلَا يجب الدَّافِع ضَمَانهَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يجب ضَمَانهَا لِأَن الدَّاعِي إِلَى
قَتلهَا خَوفه على نَفسه ووجوده وَإِن كُنَّا نعلم أَن
السَّبَب المولد لذَلِك الْخَوْف هُوَ الصيال غير أَن الْخَوْف
لما كَانَ وَاسِطَة مُسْتَقلَّة بِإِيجَاب الضَّمَان كَمَا فِي
حق الْمُضْطَر أضيف الحكم إِلَيْهِ دون السَّبَب الأول وَالله
أعلم
(1/355)
= كتاب السّير =
وَقد خرجنَا مُعظم مسَائِله على أُصُولهَا فِي موَاضعهَا فنأتي
على تَمامهَا
مَسْأَلَة 1
ملك الْغَنَائِم لَا يتَوَقَّف على الْإِحْرَاز بدار
الْإِسْلَام بل يحصل بِمُجَرَّد الِاسْتِيلَاء عِنْد
الشَّافِعِي رض
وَاحْتج فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنما
غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} وَيكون المَال غنيمَة اسْما
وكوننا غَانِمِينَ لَا يقف على دَار الْإِسْلَام فَيُوجب مُطلق
الْكَلَام إِثْبَات حق الْخمس لله تَعَالَى وَثُبُوت الْخمس
لله يدل على ثُبُوت الْملك فِي الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة
لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَته
(1/356)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الْحق فِي
الْغَنِيمَة يتَعَلَّق بِالْأَخْذِ وَيملك بالإحراز
وَاحْتج فِي ذَلِك بِجَوَاز الْبسط فِي الطَّعَام من غير
ضَمَان وَلَا ضَرُورَة وبعدم نُفُوذ الْعتْق والاستيلاء من
الْآحَاد
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل
مِنْهَا أَن قسْمَة الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب جَائِزَة
عندنَا
وَعِنْدهم لَا يجوز مَا لم تحرز بِدَارِنَا
وَمِنْهَا إِن المدد إِذا لحق الْغَانِمين قبل إِحْرَاز
الْغَنِيمَة بدار الْإِسْلَام لَا يشاركونها عندنَا
(1/357)
وَعِنْدهم يشاركون
وَمِنْهَا إِن الْغَازِي إِذا جَاوز الدَّرْب فَارِسًا وَكَانَ
وَقت الْقِتَال رَاجِلا فَلهُ سهم راجل عندنَا وَهَكَذَا
بِالْعَكْسِ لَان الْملك يحصل عندنَا بِالْأَخْذِ فَيعْتَبر
وَقت الْأَخْذ
وَعِنْدهم إِذا جَاوز الدَّرْب فَارِسًا فَلهُ سهم فَارس وان
كَانَ رَاجِلا فَلهُ سهم راجل
وَمِنْهَا إِن الجندي إِذا مَاتَ قبل الْقِسْمَة يُورث نصِيبه
عندنَا
وَعِنْدهم لَا يُورث
وَمِنْهَا إِن الإِمَام إِذا فتح مَدِينَة لم يجز لَهُ إِن يمن
عَلَيْهِم لِأَن الْغَانِمين ملكوا بِنَفس الْأَخْذ فَلَيْسَ
لَهُ أَن يبطل عَلَيْهِم ملكهم
وَعِنْدهم يجوز لَهُ ذَلِك لأَنهم لم يملكوها بعد
(1/358)
مَسْأَلَة 2
اللَّفْظ الْعَام إِذا ورد على سَبَب خَاص يخْتَص بِهِ عِنْد
الشَّافِعِي رض
واليه ذهب مَالك وَأَبُو ثَوْر والمزني والقفال الشَّاشِي
(1/359)
وَأَبُو بكر الدقاق من أَصْحَابنَا رَضِي
الله عَنْهُم
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا اللَّفْظ نَص فِي حق
السَّبَب إِجْمَاعًا حَتَّى لَا يجوز تَخْصِيصه بِدَلِيل
وَكَون اللَّفْظ نصا فِي مَحل السَّبَب دَلِيل على أَنه لم
يتَنَاوَل غَيره إِذْ لَو تنَاول غَيره لتنَاوله على وَجه
الظُّهُور حَتَّى يجوز تَخْصِيصه وإخراجه بِالدَّلِيلِ
الْمُخَصّص وَلَو تنَاول غَيره على وَجه الظُّهُور وَجب أَن
لَا يتَنَاوَل مَحل السَّبَب على وَجه النَّص لِأَن اللَّفْظ
الْعَام إِذا كَانَ مُسْتَغْرقا متناولا مسميات لَا يكون
متناولا للْبَعْض على سَبِيل الظُّهُور وَالْبَعْض على وَجه
النَّص لِأَن نِسْبَة اللَّفْظ الْعَام إِلَى جَمِيع المسميات
نِسْبَة وَاحِدَة
وَلما اتفقنا على تنَاوله لمحل السَّبَب على وَجه كَانَ نصا
فِيهِ وَلم يجز تَخْصِيصه دلّ ذَلِك على أَنه اخْتصَّ بِهِ
وَاقْتصر عَلَيْهِ وَصَارَ ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو سُئِلَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء فَأجَاب ب لَا أَو
نعم فَإِنَّهُ يخْتَص
(1/360)
بالسائل وفَاقا
وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة فِي طوائف من عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى
إِن ذَلِك لَا يمْنَع التَّعْلِيق بِعُمُوم اللَّفْظ
وَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا الدَّلِيل الْمُخَصّص مَا يمْنَع
الْجمع بَين مُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضى اللَّفْظ الْعَام وَذَلِكَ
مَقْصُود فِيمَا نَحن فِيهِ إِذْ لَيْسَ فِي خُصُوص السَّبَب
مَا يمْنَع التَّعْلِيق بِعُمُوم اللَّفْظ وَلَا تنَاقض فِي
الْجمع بَينهمَا فَيحمل على كل مَا يتَنَاوَلهُ ويقتضيه بفحواه
وَمَعْنَاهُ
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
إِن قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم
الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} وَلَا يمْنَع حل مَتْرُوك
التَّسْمِيَة عِنْد الشَّافِعِي رض سَوَاء تَركهَا عَامِدًا
أَو نَاسِيا تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِمحل السَّبَب وَهُوَ
الْميتَة فان الْعَرَب كَانُوا يأكلونها ويجادلون بهَا
الْمُسلم بأكلهم مِمَّا أماتوه
(1/361)
وامتناعهم مِمَّا أَمَاتَهُ الله تَعَالَى
فَسمى الذّبْح باسم الله إِذْ الْعَرَب كَانَت تسمي الذّبْح
بَسْمَلَة
وَيدل على ذَلِك سِيَاق الْآيَة وَمَا بعْدهَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يحل إِذا تَركهَا عَامِدًا إتباعا
لظَاهِر الْعُمُوم وَإِخْرَاج النَّاسِي مِنْهُ كَانَ لدَلِيل
مُخَصص كَمَا فِي سَائِر العمومات
(1/362)
مَسْأَلَة 3
خبر الْوَاحِد إِذا خَالف قِيَاس الْأُصُول يقدم على الْقيَاس
عِنْد الشَّافِعِي رض
وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْخَبَر أقوى من الْقيَاس فَوَجَبَ
أَن يقدم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الْخَبَر
قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقِيَاس قَول
القائس الْمُجْتَهد وَقَول النَّبِي مَعْصُوم عَن الْخَطَأ
وَقَول الْقيَاس لَيْسَ بمعصوم عَن الْخَطَأ وَلَا يخفى أَن
قَول الْمَعْصُوم أقوى من قَول غير الْمَعْصُوم
وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة إِلَى تَقْدِيم الْقيَاس عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا الْقيَاس أقوى من
الْخَبَر فَوَجَبَ أَن يقدم عَلَيْهِ قَالُوا وَإِنَّمَا
قُلْنَا ذَلِك لِأَن القائس الْمُجْتَهد على يَقِين
(1/363)
من اجْتِهَاد نَفسه وَلَيْسَ على يَقِين من
الْخَبَر لأَنا لَا نقطع بِصِحَّة خبر الْوَاحِد وَلِهَذَا لَا
يُوجب الْعلم وَإِنَّمَا نظن كَونه حَدِيثا ويستحيل أَن يقدم
مَا ثَبت ظنا على مَا علم يَقِينا
وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل
أَن الْجَنِين يتذكى بِذَكَاة أمه عِنْد الشَّافِعِي رض
لحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رض إِن جمَاعَة أَتَوا الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالُوا إِنَّا نَنْحَر الْإِبِل
ونذبح الشَّاة ونجد فِي بَطنهَا جَنِينا مَيتا أفنلقيه أَو
نأكله فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كلوه فَإِن
ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه
وَعِنْدهم لَا يتذكى بِذَكَاة أمه تَقْدِيمًا لقياس الْأُصُول
على الْخَبَر
(1/364)
الْمَذْكُور
وَوجه كَونه فِي مُعَارضَة قِيَاس الْأُصُول إِن الأَصْل فِي
الشَّرْع إِن كَانَ مستخبثا كَانَ حَرَامًا وكل مَا يحتقن
فِيهِ الدَّم المستخبث يكون حَرَامًا والجنين فِي بطن الْأُم
كَذَلِك
(1/365)
|