تقويم الأدلة في أصول الفقه القول في تحديد
المتواتر وكونه حجة موجبة
اختلفت العبارات في حد المتواتر، والمختار عندنا؛ ما تواتر
نقله أي: اتصل بك من النبي صلى الله عليه وسلم بتتابع النقل.
يقال: تواترت الكتب أي: اتصل بعضها ببعض بتتابع الورود.
ولا تثبت حقيقة الاتصال إلا بعد ارتفاع شبهة الانفصال ومتى
ارتفعت الشبهة ضاهى المتصل منه بك بحاسة سمعك.
فطريق هذا الاتصال أن ينقله إليك قوم لا يتوهم في العادات
تواطؤهم على الكذب لكثرتهم، لأن الناس على همم شتى تبعثهم على
العمل بموافقتها ما يرجعون عنها إلى سنن واحد، إلا عن أصل آخر
جامع مانع وذلك سماع اتبعوه أو اتفاق صنعوه، فمتى بطل وهم
الاجتماع تعين لهم السماع.
ألا ترى أنك علمت بكون السماء فوقنا، كذلك قبلنا بالسماع كما
علمتها للحال بالرؤية.
وعلمت أباك سماعاً حسب ما علمك أبوك عياناً.
ثم إنه حجة بمنزلة آية من كتاب الله تعالى لأنه قد ثبت
بالدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكذب والكلام
بالباطل، ولأن كتاب الله تعالى ما ثبت إلا بخبره، وعلى هذا
أسئلة ذكرناها في باب "مراتب الأخبار" من بعد.
(1/22)
القول في بيان أن
الإجماع من هذه الأمة حجة
إجماع هذه الأمة حجة موجبة للعلم شرعاً، كرامة لهذا الدين،
لدلالة أن المجوس اجتمعت على أشياء كانت باطلة، وكذلك النصارى
واليهود وسائر الكفرة، وهم أكثر منا عدداً.
ولأن الإجماع جائز من الخلق اتباعاً للآباء من غير حجة بطباعهم
كما فعلت الكفرة، فلا يصير عينه حجة فثبت أن إجماعنا جعل حجة
شرعاً وذلك بقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور}.
أخبر أنه يخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والباطل إلى نور
الإيمان والحق، ولو جاز إجماعهم على الباطل لكانوا في ظلمة
فكيف يكون خلاف ما أخبر الله تعالى وأنه لا يجوز.
وقال الله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من
الظلمات إلى النور}.
وقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وكلمة خير بمعنى أفعل فيدل
على نهاية الخيرية ونفس الخيرية في كينونة العبد مع الحق،
والنهاية في كينونته مع الحق على الحقيقة، فدل صفة الخير وهو
بمعنى أفعل على أنهم مصيبون لا محالة الحق الذي هو حق عند الله
تعالى إذا أجمعوا على شيء، وإن ذلك الحق لا يعدوهم إذا
اختلفوا.
وكذلك قال الله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}
والمعروف والمنكر على الإطلاق ما كان معروفاً ومنكراً عند
الله.
فأما الذي يؤدي إليه رأي المجتهد من غير إصابة ما عند الله
تعالى فمعروف ومنكر في حقه ورأيه لا أن يكون معروفاً ومنكراً
مطلقاً، فكان هذا بياناً لصدر الآية في أن كانوا خير أمة بهذا
السبب وهو إصابة المعروف المطلق.
فإن قيل: معنى قوله "تأمرون" أي: يأمر كل واحد منكم كقولك: لبس
القوم ثيابهم، وقول كل واحد ليس بحجة.
قلنا: نعم، فيجب إذا أمر كل واحد منهم بمعروف أن يكون المعروف
المطلق في جملة ما أمروا.
وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} والوسط في اللغة: من
يرتضى قوله.
وقال الله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم} أي أرضاهم قولاً،
ومطلق
(1/23)
الارتضاء في إصابة الحق عند الله تعالى لأن
الخطأ في الأصل مردود ومنهي عنه، إلا أن المخطئ ربما يعذر بسبب
عجزه ويؤجر على قدر طلبه للحق بطريقه لا أن يكون الخطأ بعينه
مرضياً عند الله تعالى.
وقال تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} والشاهد: اسم لمن ينطق
عن علم ولمن قوله حجة.
فدل النص على أن لهم علماً بما على الناس من الأحكام، وأن
أقوالهم حجة على الناس في حق الله تعالى.
والله تعالى عالم بحقائق الأمور فلا تثبت الحجة حجة في حقه على
حكمه إلا ما أوجب العلم يقيناً قطعاً.
بخلاف حجج العباد لأنا لا نقف على حقوقنا إلا من طريق الظاهر
فكانت حجتنا ثابتة وفاق حقوقنا.
وكذلك خبر الله تعالى عن علمهم لا يقع إلا حقيقة. ألا ترى أن
الله تعالى شبه شهادتنا على الناس بشهادة الرسول علينا فقال
الله تعالى: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} وشهادة الرسول موجبة
للعلم قطعاً فكذلك شهادتنا.
ولأن شهادة جماعتنا لو لم تكن موجبة علماً كالوحي لصارت معارضة
بشهادة غيرنا بآرائهم فلا تبقى حجة.
فإن قيل إن الآية وردت في أمور الآخرة!.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأن شهادة أداء في مجلس القضاء بما
علمنا في الدنيا.
فلو لم تكن شهادتنا حجة موجبة للعلم قطعاً لما طلب أداؤها في
مجلس الحكم للقضاء بها، والقاضي علام الغيوب لا يقضي إلا
بالثابت حقاً على الحقيقة.
ومتى احتمل علمنا للحال الخطأ لم تكن شهادتنا موجبة علماً لا
يحتمل الخطأ.
ولن الله تعالى حيث نص على الآخرة خص الرسول عليه السلام
بالشهادة فقال: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} وقال: {ويوم نبعث
في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم} ولم يقل شهيداً من أمتك فلت
هاتان الآيتان على أن المراد بشهادة الأمة الشهادة في الدنيا.
فإن قيل: إن المراد بها في نقل القرآن والأخبار.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأنه لا ذكر للمشهود به فتعين
المشهود به لتعليق الحكم به زيادة على كتاب الله تعالى وذلك
يجري مجرى النسخ على ما يأتيك بيانه فلا يكون تأويلاً.
(1/24)
ولأن نقل المتواتر لا يثبت إلا بقوم لا
يجوز تواطؤهم على الكذب في العادات لكثرتهم، والإجماع من علماء
الأمة حجة وإن كانوا ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وجاز تواطؤهم على
الكذب عادة.
فإن قيل: إن جعلهم الله تعالى وسطاً ليكونوا حجة لا يدل على
امتناع إجماعهم على الضلالة كما قال الله تعالى: {وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون} أخبر أنه خلقهم ليعبدوه ثم لم يمتنع
إجماعهم على ترك العبادة.
قلنا: لأن معنى قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} بجعل
الله تعالى وإكرامه إياهم بأن جعلهم وسطاً، واصطفاهم حتى كانوا
وسطاً فصاروا شهداء عن علم بإصابتهم الحق بهذه الصفة، كما
خلقهم الله أحراراً ليكونوا من أهل ملك ما سواهم، فكانت اللام
لبيان حكم صفة الوساطة التي من الله تعالى بها عليهم فحقيقتها
تقتضي ثبوت الحكم إذا ثبتت العلة كما تثبت أهلية الملك إذا
ثبتت الحرية، على هذا موجب اللغة.
وكما خلق الله الأنبياء عليهم السلام معصومين عن الكذب
والباطل، وكذلك الملائكة حتى كان قولهم موجباً علم اليقين إلا
أن الحقيقة تركت في قوله: {ليعبدون} إذ لو عمل بها لاقتضت وقوع
العبادة على سبيل الجبر حكاً للتخليق.
والمطلوب منا عبادة يوصف العبد بالاختيار في فعلها فبهذه
الدلالة علمنا ان المراد بها: وما خلقت الجن والإنس إلا وعليهم
عبادتي، وما منا أحد غلا وعليه أمانة الله تعالى التي حملها
الإنسان على ما يأتيك سلاحه على التفصيل.
ونظير قوله: {لتكونوا شهداء على الناس} قوله: {ويكون الرسول
عليكم شهيداً} فإن قيل: خبر الواحد حجة في حق الله تعالى وكذا
القياس ولا يوجبان العلم قطعاً!.
قلنا: أصل الحجة خبر الرسول، وخبره يوجب العلم قطعاً، والشبهة
وقعت في النقل وتحمل ذلك لضرورة.
وأما القياس فليس بحجة لنصب الحكم ولكن لتعديه حكم ثبت بنص
أصله موجب للعلم إلى محل لم يتناوله النص.
والكلام في الأصل والإجماع من قبلهم حجة لحكم لا نص فيه كرامة
لهم على ما قال: {كنتم خير امة اخرجت للناس}، وقال: {لتكونوا
شهداء} أثبت تلك الصفة لهم من قبله لا من قبلهم على ما مر.
على أنا لم نجعلهما حجة في حق العلم بما عند الله تعالى بل في
حق العمل الذي يلزمنا بهما.
(1/25)
ويجوز ذلك في حق ما عندنا لأنا لم نؤت في
كل شيء علم الحقيقة كما نعمل بالشهادات، وهي لا توجب العلم
قطعاً وقال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية ولو جاز إجماعهم على
الضلالة لما كان مخالفتهم نظيراً لمشاقة الرسول.
فلما جعل مخالفتهم أحد شطري استيجاب النار علم أنها مثل الشطر
الآخر.
وقال: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} والذي ارتضاه الله
تعالى لنا هو الذي هو حق عنده دون الخطأ، وإن عذر الله المجتهد
على خطئه وأثابه على قدر طلبه فإن الثواب قابل الطلب لكونه
مصيباً فيه.
والدين اسم للمطلوب وقد جاء عن الرسول عليه السلام من غير
واحد: "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على الضلالة" وقد جاء
الوعيد بمخالفة الجماعة وهو قوله عليه السلام: "من خالف
الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقد صنف الناس
في هذا الباب، وأوردوا من المشاهير ما يوجب العلم وكتابنا هذا
كان يضيق عن ذكرها على الاستقصاء فاكتفينا بالكتاب وبالإشارة
إلى السنة.
فإن قال قائل: إن الاختلاف وقع من إجماع انعقد عن رأي او خبر
واحد وإنهما لا يوجبان العلم فكيف أوجب العلم إجماع تفرع
عنهما؟
قلنا: اتصالهما بالإجماع وقد ثبت بالأدلة أن الكل عصموا عن
الباطل كان بمنزلة الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم
وتقريره على ذلك، او الاتصال بآية من كتاب الله تعالى وغير
مستنكر أن لا يصيب الواحد الحق برأيه، ويصيب إذا قوي بآراء
مثله، كما يجوز ضعفه عن حمل شيء ثقيل وقدرته عليه مع غيره.
فإن قيل: قال الله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل
الله} إلى قوله: {وأنتم شهداء}.
قلنا: يحتمل أن يقال؛ أن إجماعهم كان حجة ما داموا متمسكين
بالكتاب، وإنما لم نجعل اليوم إجماعهم حجة لأنهم كفروا به
وإنما ينسبون إلى الكتاب بدعواهم لأن تأويل الآية: {وأنتم
شهداء} بما فيه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم لا تشهدون
بالحق، ألا ترى أنه قال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتبيننه للناس} يعني الكتاب وهو الذي سبق ذكره، وابتدأ
الآية بقوله: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن
تبغونها عوجاً وأنتم شهداء} فثبت أنهم شهداء بنبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وبنقل ما في الكتاب لا غير.
(1/26)
وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور}
إلى قوله: {وكانوا عليه شهداء} وشهادتهم بما أثبت الله تعالى
لهم كانت حجة موجبة قطعاً وصاروا كفاراً بمنعها ولم يجز خلوهم
عن ذلك العلم.
وقال في شان هذه الأمة: {لتكونوا شهداء على الناس} ولم يقل على
الكتاب، فدل على علمهم قطعاً بما على الناس من أحكام الله
تعالى وأنهم بالإعراض عن ذلك قصداً يكفرون ولم يجز أن يعدوهم
علم الحق.
(1/27)
القول في تحديد
الإجماع
حد الإجماع الذي هو حجة؛ إجماع علماء العصر من أهل العدالة
والاجتهاد على حكم.
وثبوت الإجماع منهم قد يكون بنصهم عليه، وبنص بعضهم وسكوت
الباقين على الرد.
والسكوت الذي هو حجة: السكوت عند عرض الفتوى عليهم أو اشتهار
الفتوى في الناس من غير ظهور رد من أحد، وذلك لأنه إذا كان
الحكم عنده بخلاف ما سمع لم يسعه السكوت عن ذكره فيدل حاله على
سكوت يحل، وذلك إذا كان عنده الحكم كذلك، هذا إذا دام على
السكوت إلى مدة تنقضي في مثلها الحاجة غلى النظر لإصابة الحق.
فنفس السكوت قد يكون لطلب الصواب ولا عبرة لقلة العلماء
وكثرتهم.
ولا عبرة بالثبات على ذلك حتى يموتوا.
ولا عبرة لمخالفة العامة الذين لا رأي لهم في الباب.
ولا بالمتهمين بالهوى فيما خالفونا فيما نسبوا به إلى الهوى.
فأما خلافهم فيما عدا ذلك فمعتبر ما لم يغلو في هواهم حتى
كفروا أو تسفهوا حتى صاروا ماجنين لا تقبل شهادتهم.
أما الإجماع نصاً فما فيه إشكال وأما سكوتاً فلأن السامع ما
يحل له السكوت عن بيان الحق إذا كان علمه بخلافه فتدل عدالته
على أن سكوته على سبيل يحل له، وهو في كون المسموع حقاً إلا
أنا شرطنا مدة التأمل لدرك الحق لأن الحق لا ينال بالاجتهاد
إلا بعد نظر في أشباه المحادث، وتمييز الأشبه من بين الجملة
ولا بد لهذا من مدة.
ثم المدة لمثله في العادات لا يمتد إلى الموت بل إلى حين يتبين
له الوجه فيه إما على الموافقة فلا يلزمه النطق به فسكوته عن
الرد دليل عليه، أو على المخالفة فيرده، أو يتعارض عليه
الأشباه فيلزمه الفتوى بأي الأشباه كان فيصير سكوته فتوى بما
ظهر من فتوى الأول.
فإن قيل: وقد يبدو للمجتهد في عمره ما يرجع به عن الأول، فهلا
شرط لصحة الإجماع الثبات على الفتوى منهم ما لم يموتوا؟
قلنا: لما ثبت أن الحق لا يعدو إجماعهم علم يقيناً بعد الإجماع
إصابتهم الحق
(1/28)
بعينه، فلا يجوز بعد ذلك من واحد منهم ولا
جماعتهم خلافه كما لا يسعهم خلاف كتاب الله تعالى.
فإن قيل: إن السكوت قد يكون مهابة، فقد سئل ابن عباس رضي الله
عنهما عن حجته على رد العول في الفرائض فذكرها، فقيل له: هلا
ذكرتها لعمر رضي الله عنه؟ فقال: مهابة له.
قلنا: ما هذا بصحيح عندنا فعمر رضي الله عنه كان يقدمه على
الكثير من الصحابة ويسأله ويمدحه ويستحسن اجتهاده، وقد ظهر رده
عليه في مسائل.
ولئن ثبت فتأويله أن مهابته لسبقه عليه في الدين والفقه
والرأي، منعته عن المبالغة في المناظرة لا أنه سكت عن نفس الرد
فعمر رضي الله عنه كان ألين للحق من غيره.
وكان يقول: لا خير فيكم ما لم تقولوا ولا خير في ما لم أسمع.
وكان يقول: رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه وكان أكثر
الصحابة شورى.
وجائز عندنا ان يكون فقيهان مختلفان في مسألة، واحدهما أسبق
وأكثر فقهاً فيسلم الذي هو دونه للذي هو فوقه اتهاماً لرأي
نفسه، ولا يرد عليه رد منكر.
فإن قيل: أليس أن عمراً رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل
عنده للمسلمين، فأشاروا عليه بالإمساك إلى وقت الحاجة، وعلي
رضي الله عنه كان ساكتاً في القوم فسأله عمر رضي الله عنه
فقال: قد تكلم القوم. فقال: لتتكلمن، فأمر بالقسمة. وروى فيها
حديثاً عن النبي عليه السلام فقد استجاز علي رضي الله عنه
السكوت وعنده الحكم بخلاف ما أفتوا.
قلنا: إن علياً رضي الله عنه استجاز السكوت لأن ما أشار القوم
إليه من الإمساك إلى وقت نائبة أخرى كان حسناً جائزاً، ولكن
لما استنطق نطق بالقسمة ففيها الاحتياط للخروج عن الأمانة وهو
الأحسن والنطق بمثل هذا لا يجب، ولكن يحسن فيجوز السكوت عنه،
ويكون دلالة على حسن ما ظهر على أنا لم نجعل نفس السكوت دلالة
على التقرير فإنه جائز للتأمل فيما قال القوم، ولتجربة أفهامهم
إلى وقت الإمضاء.
ثم لا عبرة لمخالفة العامة لأنه لا بصر لهم في الباب، كما لا
عبرة بالمجانين في كل باب.
ولا عبرة بالذين لا تقبل شهادتهم في ابا الدنيا لتهمة الكذب
بسبب الفسق لأن أمر الدين فوق أمر الدنيا فكل تهمة أوجبت رد
شهادتهم في باب الدنيا أوجبت ردها في باب الدين، إلا أن ما
وراء تهمة الفسق من نحو الأبوة [من الإباء] والضغينة لا تتصور
تهمة في
(1/29)
باب الدين وإظهار أحكام الله تعالى فلم
تعتبر.
وأما صاحب الهوى فلا عبرة بخلافه في نفس ما نسب إلى الهوى لأنه
لا ينسب إلى الهوى إلا إذا خالف فيما يجب الفتوى به بدليل يوجب
العلم يقيناً، فيصير خلافه ذلك الدليل برأيه ساقطاً كخلافه
نصاً يروى له فيصير هوى.
وأما في غير ذلك من الأحكام فإن ظهرت منه مجانة في نحلته بخلاف
الحجج تعصباً لمذهبه بلا دليل أو قلة التأمل لا عن تأويل
لشبهته لم يعتبر خلافه، كما لم تقبل شهادته.
وكذلك إذا غلا في هواه حتى كفر لأن المعتبر إجماع المسلمين
ولهذا لم نبال بخلاف الروافض إيانا في إمامة أبي بكر الصديق
رضي الله عنه.
وبخلاف الخوارج إيانا في إمام علي رضي الله عنه لفساد تأويلهم
وإن لم نكفرهم للشبهة.
وإنما قلنا: إن السكوت الذي هو حجة مرة يثبت بالسكوت بعد عرض
الفتوى عليهم، وهو ظاهر ومرة يثبت بعدم الخلاف مع اشتهار
الفتوى لأن الفتوى من البعض إذا اشتهر في العامة لم يجز الخفاء
على الأقران في العادة فيصير الاشتهار كالعرض عليه.
ثم الرد يجب على السامع إذا كان الحق عنده بخلاف ذلك على سبيل
الاشتهار كالأول ليصير معارضاً إياه أينما ثبت الأول، كالآية
إذا نسخت لزم الرسول أن يبلغ الناسخ أينما بلغ الأول، وإذا
لزمه رد شائع مثل الأول لم يجز ظهور أحدهما دون الآخر، وهذا
كما قيل: إن القرآن معجزة لعجز العرب عن المعارضة وهذا العجز
لا يمكن إثباته إلا من طريق عدم الظهور فكان حجة، لأنه ممتنع
في العادات اندراس أثر مثل القرآن بعد وجوده والمنكرون للقرآن
أكثر من المؤمنين به وكانوا محتاجين إلى رده بالمعارض ولا
يمكنهم إلا بالرواية كما احتاج المؤمنون إلى رواية القرآن
لإثباته.
فإن قيل: إن المزارعة اشتهرت في الناس بعد أبي حنيفة رضي الله
عنه من غير ظهور رد ثم لم يصر إجماعاً!.
قلنا: إن الرد شائع من شيعة أبي حنيفة رضي الله عنه فتوى
وناظرة إلا أن الناس عملوا بقول غيره.
وعند من لا يجوز المزارعة جائز اتباع الناس في هذا الباب من
خالف أبا حنيفة رضي الله عنه لضرب رجحان يبدو لهم، فلا يكون
سكوتمه عن تضليلهم عن الرد والتشنيع عليهم، تقريراً إياهم على
أنه هو الحق دون ما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه.
وهذا كما إذا بلغ المفتي قضاء القاضي بخلاف رأيه فسكت، لم يدل
سكوته على الرجوع إلى قول القاضي لأنه مع خلافه رأياً يعتقد
نفاذ قضائه بخلاف رأيه، والله أعلم.
(1/30)
القول في أقسام
الإجماع
أقسام الإجماع أربعة:
1 - إجماع الصحابة نصاً.
2 - وإجماعهم بنص البعض وسكوت الباقين.
3 - وإجماع أهل كل عصر بعدهم على حكم لم يسبقهم فيه قول.
4 - وإجماعهم على أحد أقوال اختلف فيها السلف.
ومن الناس من قال: إن إجماع أهل كل عصر حجة.
ومنهم من قال: لا إجماع لمن بعد الصحابة.
ومنهم من قال: لا إجماع إلا لأهل المدينة.
ومنهم من قال: لا إجماع إلا لعترة الرسول صلى الله عليه وسلم
لأن الإمام منهم والإمام معصوم عن الكذب.
ومنهم من قال: لا إجماع إذا كان في السلف من خالفهم.
والصحيح هو القول الأول، لأن الدلائل التي جعلت الإجماع حجة لم
تخص قوماً بنسب ولا مكان ولا قرن، والأقوال الأربعة الأخيرة
مهجورة.
وقد حكى مشايخنا عن محمد بن الحسن نصاً: أن إجماع أهل كل عصر
حجة إلا أنه على مراتب أربعة.
فالأقوى إجماع الصحابة نصاً لأنه لا خلاف فيه بين الأمة لأن
العترة يكونون فيهم، وكذلك أهل المدينة.
ثم الذي ثبت بنص بعضهم وسكوت الباقين، لأن السكوت في الدلالة
على التقرير دون النص.
ثم إجماع من بعد الصحابة على حكم لم يظهر فيه قول من سبقهم لأن
الصحابة كانوا خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم
كانوا خلفاء الصحابة فيقع بينهم وبين من خلفهم من التفاوت قريب
ما يقع بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم ثم الذين
يلونهم ثم يفشو الكذب".
(1/31)
فرتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
مراتب الخيرية.
فكذلك نحن نرتبهم في كونهم حجة أنه نهاية ما ينتهي إلى صفة
الخيرية.
ثم إجماعهم على حكم سبق فيه مخالف لأن هذا فصل اختلف فيه
العلماء والفقهاء.
فقال بعضهم: هذا لا يكون إجماعاً لأن الدلائل الموجبة عمت جميع
الأمة، والأم: اسم يعم الحي والميت، فلا ينعقد الإجماع ما وجد
في الأمة مخالف من حي أو ميت.
ولأن ذلك المخالف لو كان حياً للحال لم ينعقد إجماع من سواه
إجماعاً فكذلك وإن مات، لأنا لا نعتبر خلافة خلافاً لحياته بل
لحجيته وبالموت لا تتبدل الحجة.
ولأنا متى جعلنا إجماع المتأخرين حجة موجبة وجب تضليل المخالف
ولا يجوز تضليله.
أيجوز تضليل ابن عباس رضي الله عنهما في مسألة العول؟ ومسألة
توريث الأم مع الزوج والأب ثلث المال كاملاً؟ وقد أجمعوا على
خلافه.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى فيمن قال لامرأته: أنت
خلية، ونوى به ثلاثاً ثم جامعها في العدة وقال: علمت أنها علي
حرام: لم يحد، لأن عمر رضي الله عنه كان يراها واحدة رجعية،
وقد أجمعنا بخلافه فنية الثلاث صحيحة بلا خلاف بين الأمة
اليوم.
ولو سقط قول السابق لانقطعت الشبهة كالآية المنسوخة لا تبقى
شبهة في استباحة المنسوخ، ولكن الذي ثبت عندنا أنه إجماع.
وقد روى محمد بن الحسن عنهم جميعاً أن القاضي إذا قضى ببيع أم
الولد لم يجز وقد اختلف فيها الصدر الأول لأن الخلف بعدهم
أجمعوا على أنه لا يجوز، ولو بقي قول القاضي معتبراً كأنه حي
لنفذ قضاء القاضي بما اختلف فيه الفقهاء.
والحجة فيه ان إجماع الصحابة إنما كان حجة لامتناع ان يعدو
الحق جماعتهم بالدلائل التي أوجبت الكرامة لهم لكونهم امة محمد
صلى الله عليه وسلم، فلم يجز كذلك: أن يعدو الحق جماعة
التابعين أو من بعدهم.
ولأن الله تعالى جعلهم خير امة يأمرون بالمعروف وجعل إجماعهم
حجة، وصفة الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتصور
إثباتها إلا مع الحياة فإن الميت لا يتصور منه الأمر بالمعروف
فثبت أنه لم يرد بهذه الكلمة جماعة الأمة من حين رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولكن أمته الأحياء في كل عصر.
(1/32)
وإذا كان كذلك فتبين بإجماع الخلف على قول
واحد من الجملة أن ما سواه خطأ يقيناً، كما لو عرض على الرسول
صلى الله عليه وسلم فصوب ذلك الواحد ولا يصير من خالفه ضالاً
لأنه خالف حين لا إجماع، فكان كخلاف وجد من الصحابة فعرض على
الرسول صلى الله عليه وسلم فبين خطا بعضهم فإنه لا يصير ضالاً
بما قاله قبل بلوغه نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما كان أهل قباء يصلون إلى بيت المقدس بعد نزول التوجه إلى
الكعبة فأتاهم آتٍ وهم في الصلاة فأخبرهم بذلك فاستداروا
كهيئتهم إلى الكعبة في صلاتهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلم ينكر عليهم.
وهذا لأن الإجماع هو الحجة التي يضل الإنسان بمخالفتها ولم يكن
حين ما قاله هذا القائل يخالفه إجماع.
أليس أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يجوز بيع الدرهم
بالدرهمين؟ وكان يبيح المتعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم ثم رجع لما بلغه النص؟ ولسنا نسميه ضالاً فيما كان يقوله
أولاً قبل بلوغه النص فهذا مثله.
وإنما أسقط محمد بن الحسن رحمه الله الحد عن الذي جامع امرأته
في العدة وقد قال لها: أنت خلية، ونوى بها ثلاث؛ لأن الحد لا
يجب مع الشبهة، وقد اختلف الناس في هذا الإجماع أهو حجة أم لا؟
فلا يصير موجباً علماً بلا شبهة ولهذا كان هذا الإجماع حجة على
أدنى المراتب.
(1/33)
|