تقويم الأدلة في أصول الفقه

القول في أنواع التكلم وضعاً وتفسيرها حقاً
انواع التكلم أربعة:
أخبار، واستخبار، وأمر، ونهي.
لأن الكلام إما شرعه القديم عز ذكره، أو وضعه حكيم فلم يجز خلوه عن فائدة حميدة وما هي إلا إفادة العلم لما يحتاج إليه، والفائدة منه تحصل بالتكلم وتنتهي بهذه الأنواع.
الإخبار بما عندك لتفيد غيرك العلم بما كان أو يكون أو بما توجبه إن جعلته إنشاء كقولك: بعت عبدي أو أعتقته ونحوهما.
والاستخبار: لتستفيد من غيرك ذلك العلم بما كان.
والأمر: بفعل لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد.
والنهي: لبيان أنه مما ينبغي أن لا يكون وأن يعدم.
ولأن أقسام صرف الفعل تنتهي بأربعة أقسام لأنك تقول: فعل يفعل، وتقول افعل ولا تفعل فإذا دخلها حرف الاستفهام صارا للاستخبار وتقول: افعل ولا تفعل وما لها خامس، ثم كل قسم منها ينقسم إلى أقسام قد ذكرنا منه قدر الحاجة إليه لأحكام الشرع. وأما تفسيرها:
فالإخبار: تكلم بكلام يسمى خبراً.
والخبر: الكلام الدال على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر كقولك: "جاء زيد" أو "يجيء عمرو" ونحوه.
والإخبار: تكلمك به.
وأنه ينقسم إلى قسمين في الماضي: صدق، وكذب.
وقسمين في المستقبل: جد، وهزل.
لأن الإخبار نكلم.
والتكلم فعلك باللسان التفعيل منها.
والانفعال في الحروف التي تنتظم حتى يصير مفهوم المعنى والانفعال على هذا متحقق، كذباً كان الإخبار أو صدقاً، جداً أو هزلاً.
نحو "الكتابة" تكون كتابة للكلام كتب باطلاً أم حقاً لأنها فعلك بالقلم.
والانفعال في حرف تنتظم صورة حتى يكون مفهوم المعنى.

(1/34)


قال علماؤنا- فيمن حلف لا يخبر أن فلاناً قدم فأخبر كذباً: حنث ولم يفد علماً.
وكذلك إذا حلف لا يكتب أن فلاناً قدم فكتب باطلاً؛ حنث وإن لم يفد علماً بما قال.
لأن العلم فيه ثمرته المطلوبة منه بحكمة الوضع لا أنه من نفسه وأنه لا يتم بدونه كما في الكتابة.
بخلاف الإعلام فإنه فعل لا ينفعل إلا بوجود العلم.
وبخلاف ما إذا حلف لا يبيع فباع حراً لم يحنث لأن البيع ليس من أقسام التكلم إنما هو اسم لسبب تمليك بالمال، وانه عبارة عن قوله: لا يملك مالاً بمال فلا ينفعل تمليك المال في غير المال، كما لا ينفعل التكلم في غير الحروف التي يدور عليها الكلام غير أن هذا السبب مما ينفعل بالكلام فيكون آلة في نفسه بفوات ثمرته فإنه يحنث بالبيع الخاسر، فكذلك التكلم بالإخبار لا ينعدم بفوات ثمرته من الإعلام.
وأما الأمر: فتكلم بقولك: افعل وانفعاله بحروفه.
وأما بيان أنه مما ينبغي أن يوجد بحكمه الأمر كالصدق من الأخبار الذي فيه وجود المخبر عنه لأن الأمر أحد أقسام تصاريف الفعل على ما ذكرنا فتكون الفائدة منه على مثال سائره.
وقولك "قدم زيد" لفائدة بيان وجود قدومه، ويقدم لبيان أنه سيوجد فكذا أقدم لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد منه حتى لا يستقيم في الحكمة أن نقول للعمى: أبصر لأنه لا يتصور وجوده منه.
ولما كان وجود فائدة الحكمة صح وضع الأمر لغة لكل فعل يتصور وجوده منه في نفسه، وإن وجب أن يعدم في الحكمة كالسفه والعبث وإذا كان الأمر لهذا الضرب من البيان كان النهي الذي هو خلاف الأمر لبيان ضده، وهو: بيان أنه مما ينبغي أن لا يكون وأن يعدم إلا أن حقيقة إعدام الفعل لا يتصور لأن الموجود منه عرض انقضى، فلا يتصور إعدامه.
وما لم يوجد كذلك لا يمكن أن يعدم ولكن يعدمه بالامتناع عن إيجاده فصار الامتناع حكمه وكان النهي للمنع عن الفعل لغة فيلزمه بالنهي ما يتعلق بعده انعدام ذلك الفعل منه، كما يلزمه بالأمر ما يوجد منه ذلك الفعل.
وأقسام النهي من التصرف: ما علم زيد، ولا يعلم زيد.
والنهي: لا تعلم، على خلاف؛ علم يعلم واعلم.

(1/35)


القول في حكم الأوامر المطلقة في حق المأمورين شرعاً
اختلف العلماء في حكم الأمر على أربعة أقوال:
فقال بعضهم: حكمه الوقف حتى يأتي البيان.
وقال بعضهم: الإباحة إلا بدليل زائد عليها.
وقال بعضهم: الندب إلا بدليل مغير.
وقال جمهور العلماء: حكمه الوجوب إلا بدليل مسقط.
أما الواقفون: فذهبوا إلى أنا وجدنا موجب الأمر مختلفاً لغة أريد به الإيجاب وأريد به السؤال كقول العبد: اللهم اغفر لي.
وأريد به الإفحام كقول الله تعالى: {فأت بها من المغرب}، وقوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله}.
وأريد به التوبيخ كقول الله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك}.
وأريد به الإباحة كقول الله تعالى: {فانتشروا في الأرض}.
وأريد به الندب كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} ولهذا كان الأمر موضوعاً لغة لما يجب فعله، ولما يباح، ولما يقبح نحو السفه والعبث، فثبت أن الأمر محتمل وجوهاً شتى والمحتمل لا يكون حجة حتى يتعين أحد وجوهه بدليل.
وأما المبيحون: فذهبوا إلى أن الأمر لطلب وجود المأمور به من المأمور، ولا وجود إلا بالائتمار، فدل ضرورة على انفتاح طريق الائتمار عليه وأدناه الإباحة.
فأما الإفحام والتوبيخ ونحوهما فما فهمت مراده للأوامر إلا بدلالة من النص دلت عليه فكانت مجازاً لما لم تفهم إلا بقرينة أخرى على ما قال الله تعالى: {وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} فتبين أنه وبخهم بما أمره، فالغرور حرام والله تعالى لا يوجب الحرام.
وأما أمر الإفحام فمذكور في باب المناظرة فدل سياق الخطاب أنه للإفحام لأن الحجة إنما تقوم لعجزهم عن المأمور به.
والحكيم عند المناظرة لا ينطق إلا بما تقوم به حجته وهذا كما أن لفظة "المشيئة" للتخيير عن تمليك والله تعالى قال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ثم كان للردع بدلالة السياق: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} النار لا تستقيم جزاء

(1/36)


على اختيار العبد ما خيره الله فيه وملكه.
ولأن الأمر لو وجب به الوقف لوجب بالنهي مثله فحينئذ يصير الأمر والنهي واحداً، وأنه قول محال، وإذا لم يجب الوقف بالنهي ووجبت الحرمة به والأمر ضده وجب أن يثبت به الإباحة.
وأما النادبون: فذهبوا إلى أن الإباحة لا ترجح جهة الفعل على جهة الترك، وفي الأمر طلب الفعل فإن الوجود متعلق بالفعل فلا بد من إثبات ما يترجح به الفعل على الترك وهو في أن يجعل الفعل أحين من الترك وأدنى صفة جهة الحسن في الندب. قالوا: ولا يلزمنا قول الله تعال: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} ولا تنقطع الخيرة إلا بعد الوجوب، لأن الخلاف في مطلق الأمر والله تعالى علق انقطاع الخيرة بأمر مقضي به، وفي القضاء دلالة الإلزام من حيث الحقيقة وإن كان يقام مقام الأمر مجازاً.
ثم دل تعليق الله تعالى انتفاء الخيرة بالقضاء بالأمر، على أن الخيرة غير منتفية ما لم يتصف الأمر بالقضاء.
ولا يلزمنا كفر إبليس- عليه اللعنة- لمخالفته أمر ربه بالسجود لآدم عليه السلام لأنه إنما كفر لاستكباره على ما نص الله تعالى عليه، حتى قال الله تعالى: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج} فأخبر أنه أخرجه لتكبره.
ولنه قال: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت} وقوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه} فبين أنه تركه له لرؤيته الفضل لنفسه بغير حق وهو الكبر، وقال الله تعالى: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} أخبر أنه كفر باستكباره، ولأن الأمر بالسجود لآدم عليه السلام نص على أن الفضل لآدم فصار كافراً برده حكم الله تعالى في تفضيل آدم.
وأما الشرائع التي افترض أداؤها بالأوامر فعرفت فرائض الله بقرائن؛ إما إلحاق وعيد، أو إيجاب صريح، أو بأسباب أخر غير الأوامر على ما بينا.
والحجة لعلمائنا- رحمهم الله- ما ذكرنا أن الأمر لبيان أن المأمور به مما ينبغي أن يوجد من قبل المأمور، وهي صفة لازمة بالأمر، كما كانت صفة الوجود لازمة من سائر أقسام التصريف، فإن قولك: "دخل فلان الدار" على ما عليه حق الكلام وهو الصدق يقتضي وجود الدخول لا محالة.
وكذلك يدخل على ما عليه الحد مقتضى وجود الدخول في الثاني، فكذلك أدخل على ما عليه الحد.
وإذا صار صفة الأمر أن يوجد صفة لازمة للفعل المأمور به من قبل المأمور بحكم

(1/37)


اللغة على ما عليه حق الكلام، ولا وجود إلا بفعله صار طلباً للفعل على وجه لا بد من وجوده، وهذا معنى الإيجاب والفرض، ولهذا فرق لغة بين الآمر والمأمور في رتبة الولاية، فكان الآمر والياً والمأمور مولياً عليه حتى يسمى السلطان الذي له ولاية الإلزام أميراً.
ولن موجب الأمر الائتمار لغة. يقال: أمرته فأتمر، ونهيته فانتهى، كما تقول: كسرته فانكسر وهدمته فانهدم، وعلمته فتعلم.
وإذا كان حكماً له لم يتصور إلا واجباً به كأحكام سائر العلل لا يتصور حكم العلة إلا واجباً بالعلة وقد تراخى عناه بمانع أو اتصل بها.
وكان ينبغي أن يحصل الائتمار مقروناً بالأمر حكماً له واجباً به إلا أنه تراخى لأن حصوله من مختار فيتراخى إلى حين اختياره، وانعدم الفعل إلى حين اختياره، وبقي الوجوب حكماً له لأنه مما يثبت بالآمر الذي إليه الولاية حتى لما أنبأنا الله تعالى عما لا اختيار له في الإجابة أنبأ عن الائتمار مقروناً به فقال: {كن فيكون} فلولا أن الأمر لإيجاد المأمور به، لما استقامت الكناية عن الإيجاد بالأمر.
وكذلك قال الله تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} فجعل القيامة بحيث لا يجوز غيره موجب الأمر فيما لا اختيار له.
فإن قيل: أليس العبد فيما يتطوع عاملاً لله تعالى بأمره، ولم يدل على الوجوب؟
قلنا: إنه عامل لله تعالى لا بأمره بل بإذنه بأن يجعل لله تعالى ما جعله الله تعالى له من عمل تلك المدة.
والمفترض عامل لله تعالى بالأمر من حيث يوفيه ماله عليه بالأمر، كالأجير يعمل للمستأجر من حيث يوفيه ما له عليه من عمل في تلك المدة.
والمعين يعمل له من حيث يجعل له عمله بلا وجوب له عليه.
والبائع يسلم المبيع موفياً ما عليه.
والواهب يسلم الموهوب جاعلاً للموهوب له ماله لا موفياً ما عليه.
ولهذا سمى الله تعالى نفل الصدقة قرضاً، لأن المقرض لا يسلم ما عليه ولكن يجعل ما له للمستقرض.
ولهذا سمي خلاف الأمر فسقاً قال الله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}، وسمي عصياناً قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} قال دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا .... فلم يتبينوا الرشد إلا ضحى الغد

(1/38)


فلما عصوني كنت منهم وقد .... أرى غوايتهم وأني غير مهتد
وهل أنا إلا من غزية: إن غوت .... غويت، وإن ترشد غزية أرشد.
والفسق في عرف اللسان: اسم لفعل حرام شرعاً، وكذلك المعصية، ولو لم يجب الائتمار لم يكن خلافه حراماً، ولن النهي خلاف الأمر لغة، وبالنهي يجب أن يعدم المنهي عنه فيجب بالأمر أن يوجد المأمور به، وبالله التوفيق.

(1/39)


القول في الأمر بالفعل ماذا حكمه في التكرار؟
قال بعض العلماء: الأمر بالفعل يقتضي التكرار إلا بدليل.
وقال بعضهم: يحتمله ولا يثبت التكرار إلا بدليل.
وقال بعضهم: المطلق لا يقتضي تكراراً، ولكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره.
والصحيح: أنه لا يقتضي التكرار ولا يحتمله ولكنه يحتمل كل الفعل المأمور به وبعضه، غير ان الكل لا يثبت إلا بدليل وعليه دلت مسائل علمائنا.
فأما الذين قالوا بالتكرار؛ فإنهم احتجوا بما روي أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الحج في كل عام أو مرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل مرة، ولو قلت في كل عام لوجب، ولو وجب ثم تركتموه لضللتم" ولو لم يكن الأمر يحتمل الوجهين لما سأله الأقرع ولما احتملهما.
والتكرار من المرة يجري مجرى العموم من الخصوص فوجب القول بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص.
ولأن للفعل بعضاً وكلاً من جنسه كما للمفعول، فمطلقه يتناول كله كما في الاسم.
ثم كل الفعل لا يتأدى إلا بالتكرار فيصير التكرار مقتضاه. ولهذا قالوا- فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك! ونوى الثلاث: أن النية تصح لأنه نوى ما يحتمله لفظه من حيث العموم وبالكلية، ولو نوى ثنتين لم يصح عندنا لأنه نوى العدد ولفظه لا يحتمل عدداً، إلا أن تكون المرأة أمة فيصح لأن الثنيتين كل فعل تطليقها.
وكذلك فيمن قال لعبده: تزوج فتزوج امرأتين ونوى المولى ذلك صح. لأن ذلك كل تزوجه.
وكذلك أمر الله تعالى بالصلاة مطلقاً وتكرر به الوجوب علينا، وكذلك سائر العبادات.
فأما الحج فإنما سقط تكراره بدلالة السنة، ولن النهي عن فعل يقتضي النفي عاماً فكذا الأمر بالفعل الذي هو ضد النهي يقتضي الوجود عاماً.

(1/40)


- وأما الذين قالوا: إنه لا يقتضي التكرار إلا بدلالة فذهبوا إلى أن الأمر بالفعل لا يصح إلا بمفعول هو اسم على سبيل النكرة كقولك: صل، لا يستقيم إلا بمفعول هو صلاة، ولكنه ثبت على سبيل التنكير لأنه يثبت مقتضى بالنص لا منصوصاً عليه، والمقتضى لا يثبت إلا ضرورة، والضرورة ترتفع بالنكرة فيصير في التقدير كأنك قلت: صل صلاة، فتكون الصلاة نكرة في الإثبات فتخص كقول الله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} إلا ان يزيد القائل زيادة فتثبت لأنه يحتمل ذلك فإن المقتضى يجوز أن تكون صلاة، وكل الصلوات، ألا ترى أنه لو صرح به فقال: صل الصلوات استقام وكان بياناً.
بخلاف النهي فإنه للنفي، فإذا قلت: لا تصل فكأنك قلت: لا تصل صلاة، فتكون نكرة في النفي فيعم كقول الله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} فثبت أن التكرار لا يثبت إلا بدلالة أخرى ولهذا قلنا- فيمن قال لآخر: تصدق من مالي بدرهم-: لم يملك إلا مرة واحدة، ولأن الأمر أحد أقسام التصريف.
ومن قال دخل فلان الدار لم يفهم منه التكرار ولكن يحتمل أنه دخل مراراً، وكذلك إذا قيل: يدخل فكذلك إذا قيل له: ادخل.
فأما الذين قالوا بالتكرار في المعلق بالشرط فإنهم تمسكوا بالأوامر الشرعية المتعلقة بأوقات أو أموال في باب الزكاة، والعقوبات المتعلقة بالمعاصي فإنها متكررة بتكرر شروطها.
وأما الدليل لما قلنا، وهو أن الأمر بالفعل لا يقتضي تكراراً ولا يحتمله: فإن التكرار في اللغة: العود مرة بعد أخرى والفعل لا يحتمل العود لأنه حركات تنقضي فيكون الثاني غير الأول لا محالة، وإنما يسمى تكراراً مجازاً لعود مثل الأول، وهو في الحقيقة إعداد يحتمل كما في الأعيان، وليس في النص ما يحتمل العدد لأن قول القائل: ادخل الدار، أمر بحركات معلومة في تمامها دخول، لا عدد دخول ولهذا قلنا- فيمن قال لامرأته؛ طلقي نفسك ونوى به ثنتين-: لم يصح، لأنه نوى زيادة عن عدد التطليق. وما في نصه ما يحتمل التعدد لأن التطليق اسم للقول لا للحساب كما لو قال: اشتر لي عبداً لم يحتمل عبيداً ولا شراء بعد شراء.
وكذلك لو قال: تزوج امرأة ونوى به مرة بعد أخرى لم يصح.
وكذلك لو قال لامرأته: طلقتك، ونوى به ثنتين لم يصح لأنه نوى ما لا يحتمل لفظة.
فأما عبادات الله تعالى فإنما لزمتنا على سبيل التكرار لا بالأوامر، ولكن بتكرر علل الوجوب على ما نذكرها، وهي أسباب أخرى غير الأمر، فالأمر كان طلباً لأداء الواجب

(1/41)


بسببه كقولك لآخر: أد الثمن للشراء والنفقة للنكاح.
فإن قيل: كيف يقال أن الأمر لا يحتمل التكرار، ولو قرن به التكرار تفسيراً له لاستقام كقول القائل لآخر: طلق امرأتي! مرتين أو ثلاث مرات فكانت المرة نصباً على التفسير، ولو لم يحتمله مطلق الأمر كان الذكر تفسيراً له، وكذلك تقول: صم أبداً، أو أياماً كثيرة.
قلنا: هذا القرآن لم يصح لغة على سبيل التفسير لما يحتمله، ولكن على سبيل التغيير إلى معنى آخر ما كان يحتمل مطلقه بل يحتمل التغيير إليه، كما يصح قران الشرط بالطلاق والاستثناء بالجملة على سبيل تغيير موجبه إلى وجه آخر لا على سبيل بيان موجب المطلق منه.
فإن قول القائل: أنت طالق ثلاثاً ما كان يحتمل التأخير ولا ثنتين، ولو قال: إلى شهر إلا واحدة تأخر إلى شهر ولم يقع إلا ثنتان.
وأما النصب فليس على معنى التفسير ولكنه لقيامه مقام المصدر، وقوله: طلق امرأته ثلاث مرات أي؛ تطليقات ثلاثاً على أن النصب وإن جاز على سبيل التفسير فيجوز على بيان تغيير موجبه مطلقاً إلى موجب آخر باقتران زيادة به، ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته: أنت طالق وسكت؛ طلقت مع هذه اللفظة، ولو قال: ثلاثاً لم تطلق إلا مع قوله: ثلاثاً، فتأخر الوقوع إلى العدد، ولو كان هذا تفسيراً له لم يتغير به حكمه بل كان يتقرر، وكذلك المرات.
وأما قولنا: إنه يحتمل كل الفعل المأمور به، فلأن قول القائل لآخر: ادخل الدار! أمر بفعل الدخول وإنه يتناول كل ما يتصور منه دخولاً كما يتناول البعض.
والدخول اسم للفعل وللفعل كل وبعض من جنسه كما لغير الفعل من الأعيان وغيرها، فإنه اسم لجنس الفعل فيعتبر بأسماء أجناس الأشياء سوى الأفعال نحو الماء والطعام والناس.
ثم حكم المتعلق باسم الجنس يتعلق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم على احتمال العموم على ما نذكر في باب ألفاظ العموم، فكذلك هذا.
ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته؛ طلقي نفسك: أنها على واحدة فإن نوى ثلاثاً صح لأنه نهوى الكل وهو يحتمله وإن نوى ثنتين لم يصح لأنه نوى التكرار والعدد لا غير، إلا أن تكون المرأة أمة فيصح لأنهما كل طلاقها عندنا.
ولو قال لعبده: تزوج، لم يملك إلا امرأة ولو نوى ثنتين يصح لأنه نوى الكل لأنهما كل نكاحه، لا لأنه نوى التكرار.

(1/42)


وذكر عيسى بن أبان: أن الأمر بالفعل إذا كان له نهاية معلومة يجوز أن يقال فيه بالعموم حتى يقوم الدليل على الخصوص اعتباراً بالنص العام فيما عدا الفعل، إلا أن الرواية تخالف هذا، فإن الأمر بالطلاق لامرأته أمر بفعل معلوم كله ولم ينصرف إليه إلا بينة، والجواب عن حجته ما ذكرنا أن هذا بمنزلة أسماء الأجناس، والفرق بين اسم الجنس وغيره من العام ما نذكره بعد هذا في موضعه.
وأما إذا كان الأمر بفعل لا نهاية له معلومة، كالأمر بالصلاة والصوم، فإن المأمور به، مما لا يتناهى في نفسه، وإنما نهايته بعجز الفاعل بموته، فهذا من جنس ما لا يمكن القول فيه بعمومه، وكل لأنه ليس في وسع العبد فعل كل الصيام التي هي قربة لله تعالى، ولا فعل كل الصلاة، وإذا لم يكن بوسعه ذلك لم يخاطب بتعمبم هذا الفعل بل يصير مخاطباً بالبعض، فيصير الأمر بهذا الفعل من قبيل ما لا يمكن القول بعمومه من النصوص فيما عدا الأفعال نحو قول الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} وقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} ولما انصرف إلى البعض لم يلزمنا منه إلا ما يتيقن به إلا بدليل زائد.
وأما حديث الأقرع بن حابس فالجواب عنه: أن الأقرع إنما أشكل عليه أمر تكرره، لاعتباره الحج بالصلاة والصيام، فإنه كان عرف الصلاة متكررة وقتها، وكذلك الصوم ثم وجد الحج متعلقاً بالوقت أيضاً، فأشكل عليه أمر تكرره بتكرر وقته فسأل عنه.
ولو أجيب بنعم لصار الوقت علته وتكرر بتكرره كالصلاة، فلما أجيب بالمرة في العمر تبين له أن الوقت شرط محض لجواز الأداء كالطهارة للصلاة وأن سبب الوجوب مما لا يتكرر وهو البيت على ما نبين في باب أسباب هذه العبادات.
ولأن كينونة البيت بيت الله تعالى يجوز أن يكون علة لوجوب الحج في العمر مرة، ويجوز أن يكون علة لوجوبه كل سنة أو كل شهر ككينونة النصاب في ملك الرجل يكون علة للزكاة كل سنة، فإن البقاء في زمن آخر غير الأول فإذا كان البقاء علة جاز تكرار الوجوب بتكرار البقاء، وجاز ان لا يتكرر ترفيهاً علينا ودفعاً للحرج.

(1/43)