تقويم الأدلة في أصول الفقه

القول في صفة حسن المأمور به
قد ذكرنا أن الأمر لغة لبيان أنه مما ينبغي أن يوجد، ومطلقه على الوجوب، فإذا كان الأمر من الله تعالى صار وجود المأمور به منا واجباً علينا لله تعالى، ولا يجوز في الحكمة أن يجب علينا إيجاده لله تعالى إلا لحسنه عند الله تعالى على الحقيقة، فغن القبيح في الحكمة: اسم لما ينبغي أن يعدم، والله تعالى هو الحكيم الذي لا سفه له فلا يأمرنا به فلا نجد بداً من معرفة صفة الحسن فيما أمرنا به، فنقول:
- إن هذه الأفعال في صفة الحسن على أقسام أربعة:
أ- ما حسن لمعنى في غيره.
ب- وما حسن لمعنى في غيره.
والذي حسن لمعنى في عينه على نوعين:
أ- ما كان المعنى في وضعه.
ب- وما كان اتصل المعنى بوضعه بواسطة حتى التحق بالواسطة القسم الأول، والذي حسن لمعنى في غيره على نوعين:
أ- ما يحصل المعنى بفعل العبادة.
ب- وما يحصل بعده بفعل مقصود له.
فصارت الأقسام أربعة:
- فأما الأول: فنحو الصلاة لأنها تتأدى بأفعال وأقوال وضعت للتعظيم في الشاهد، والتعظيم حسن في نفسه في حق المعظم إلا أن يكون في غير حينه أو حاله فيشوبه القبح لذلك المعارض، ولهذا كانت الصلاة حسنة دائمة، واستقبحت لأوقات مخصوصة وأحوال فنهينا عنها.
- وأما الثاني: فنحو الزكاة والصوم والحج، لأن الزكاة تمليك المال للفقير على سبيل الكفاية بأمر الله تعالى، ولا يتم هذا العمل عملاً لله تعالى إلا بواسطة الفقير المحتاج.
والصوم: كف النفس الشهوانية عن اقتضاء شهوة البطن والفرج بأمر الله تعالى ما يتم عملاً لله تعالى إلا بالنفس الشهوانية.
والحج: زيارة البقعة المعظمة على سبيل التعظيم بأمر الله تعالى، ما يتم عملاً لله تعالى إلا بواسطة البقعة المعظمة، غير أن احتياج الفقير إل الكفاية كان بخلق الله تعالى

(1/44)


إياه على صفة لا يبقى إلا بالكفاية، واشتهاء النفس كذلك بخلق الله تعالى.
وكذلك شرف المكان وفضله كان بخلق الله تعالى.
ولما حسنت هذه الأفعال من حيث أن في الزكاة إغناء عباد الله تعالى المحتاجين.
وفي الصوم قهر النفس التي هي عدو الله تعالى.
وفي الحج تعظيم شعائر الله تعالى وهذه الأفعال بهذه الوسائط حسنة في الشاهد لمن وقعت له، والوسائط تثبت وسائط بخلق الله تعالى فصارت حسنة من العبد للرب عزت قدرته بلا ثالث معنى.
فالوسائط لما ثبتت لله تعالى كانت مضافة إليه، ولم يبق للواسطة عبرة حكماً فصارت كأفعال الصلاة التي حسنت لأنها في نفسها تعظيم للمفعول له.
وأما الوجه الثالث: فنحو قتال الكفرة والصلاة على الميت وإقامة الحدود.
فالقتال فساد وما حسن إلا لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى وكبت أعدائه ودفع قتالهم، فحسن بواسطة العدو وإن كان عدواً بمعصية كانت منه باختياره فصارت الواسطة واسطة بسبب مضاف إلى الكافر فصار حسناً لمعنى في غير العبادة.
فالعبادة تتم بالعبد للرب تعالى فتكون الواسطة المضافة إلى غير الله تعالى غير فعل العبادة صورة ومعنى.
وكذلك إقامة الحدود إضرار وإفساد وإنما حسنت لأنها زاجر عن المعاصي فحسن بواسطة المعاصي، وإنما كان عاصياً لمعنى مضاف إليه.
والصلاة على الميت حسن عبادة شرعية بالميت فأما بدون الميت فعبث وإنما صلح بواسطة الميت لا بموته الثابت بالله تعالى. ولكن بإسلامه المضاف إلى المسلم كالكفر في الفصل الأول.
وأما الوجه الرابع: فنحو الوضوء والسعي إلى الجمعة والغسل تبرد وتطهر عادة، وإنما انقلب عبادة شرعية وعملاً لله من حيث أنه مفتاح الصلاة المشروعة لله تعالى ألا ترى أن الوضوء لا يلزم من لا صلاة عليه، وإن كان محدثاً وكذلك لا يجب قبل مجيء وقت الصلاة.
وكذلك السعي إلى الجمعة حسن لأنه سبب لإمكان إقامة الجمعة، فأما هو في نفسه فعمل مباح.
والجمعة التي هي الحسنة لا تحصل بالسعي ولا بالوضوء بل بعدهما بفعل مقصود لها، وفي الفصل الأول يحسن ما فيه الحسن من قضاء حق الميت وكبت أعداء الله تعالى وزجر العاصي بنفس الفعل.

(1/45)


ثم حكم وجوب القسمين الأولين واحد وهو أن الوجوب متى ثبت لم يسقط إلا بفعل الواجب أو اعتراض ما يسقط لعينه ولا يسقط بغيره، لأنه وجب لعينه لا لغيره فلا يسقط بغيره.
وحكم وجوب القسمين الآخرين واحد أيضاً وهو بقاء الوجوب ببقاء وجوب الغير، والسقوط بسقوط الغير حتى إذا سقطت الجمعة بسبب سقط السعي.
وكذلك الطهارة.
وكذلك حق الميت مت سقط ببغيه أو بكفره سقطت الصلاة.
وكذلك لو سقطت بقضاء الولي حقه بالصلاة عليه سقطت الصلاة عن الباقين، والناس لو أسلموا حتى علت كلمة الله تعالى وذهب القتال سقط الجهاد ما لم يحدث قتال مثله من البغاة.
ومتى لم يقض حق الميت بالصلاة بأن صلى عليه غير وليه كانت الصلاة باقية على الولي.
وكذلك شوكة الكفار متى لم تنكسر بالقتال مرة لم يسقط الفرض ووجب ثانياً لأن المعنى الذي له وجبت العبادة في ذلك الغير بمنزلة السبب الموجب فلا يبقى الحكم بدون السبب.

(1/46)


القول في مطلق الأمر ماذا موجبه في حسن المأمور به من الفعل
قال العبد رحمه الله تعالى: إني لم أقف على أقوال الناس في هذا الفصل كما وقفت على أقوالهم في حكم الأمر، فما أحد استقصى كل هذا، والذي مال إليه رأيي أن ينصرف مطلق الأمر إلى القسم الأول دون الثاني، ويحتمل القسم الثاني لأن الحسن إنما يثبت صفة للفعل المأمور به مقتضى حكمة الأمر لا موجباً للأمر لغة، لما ذكرنا إن اللغة لا تفصل بين الحسن والقبيح من الأفعال بل لكل فعل أمر موضوع منه لغة، ولما كان طريق ثبوته مقتضى الحكمة ثبت أدنى ما يرتفع به الضرورة على ما يأتيك البيان في باب المقتضى. والأدنى يتأدى بحسن في غيره، فلا يثبت الحسن في نفسه إلا بدلالة زائدة.
ولكن القول الأول أصوب لأن الكلام في الأوامر بأفعال هي لله تعالى عبادة، وإذا كان المر استعباداً في نفسه صار صفة العبادة للفعل ثابتة لغة لا اقتضاءً، فقول الله تعالى: {أقيموا الصلاة} واعبدوني بها واحد فهو اسم وضع للعبادة، وكذلك الصوم إلا أنها عرفت لغة باستعارة لسان الشرع، ولسان الشرع لسان العرب، ولما وجب إثبات صفة العبادة للفعل لغة لا اقتضاء وجب إثبات صفة العبادة للفعل نفسه لا لغيره، حتى لا يصير مجازاً، ولما وجب هذا تبع صفة الحسن صفة العبادة، وكذلك شرع الله تعالى بيان للأحسن.

(1/47)


القول في الأمر بفعل واجب، ماذا حكمه في ضده؟
قال بعضهم: الأمر بفعل واجب لا حكم له في ضده.
وقال بعضهم: يقتضي نهياً في ضده، وإليه ذهب أبو بكر الجصاص.
وقال بعضهم: يدل على كراهة ضده.
وقال بعضهم: يقتضي كراهة ضده، وهو المختار عندنا.
فأما الأولون: فذهبوا إلى أن ضده مسكوت عنه فيبقى على ما كان عليه قبل الأمر، كالمعلق بشرط لا يقتضي نفياً عند عدم الشرط لأنه مسكوت عنه فيبقى على ما كان عليه قبل التعليق. قالوا: والعبد يأثم إذا لم يأتمر بترك الواجب لا بارتكاب الضد.
وأما أبو بكر الجصاص فقد ذكر في "أصوله" أن الأمر المطلق على الفور، لأن الأمر اقتضى نهياً عن ضده، والنهي عن مطلق الفعل يوجب موجبه على الفور، فكأنه ذهب إلى أن الفعل إذا وجب الإتيان به حرم تركه ضرورة واقتضاء، والحرمة حكم النهي فيثبت النهي عن ضده اقتضاء.
وأما الثالث فوجهه: أن وجوب الفعل يدل على حرمة الترك ضرورة، كما قاله أبو بكر إلا أن الحرمة التي تثبت ضرورة لا تكون كالتي تثبت بالنص عليها بالتحريم او النهي.
لأن الثابت بالنص يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة.
والثابت بالضرورة يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة.
والضرورة ترتفع بكون ضده مكروهاً لقبح في غيره، وإن كان في نفسه حسناً كالصلاة في أرض مغصوبة، إلا أنا نقول ان الثابت بهذا الطريق يكون بالاقتضاء دون الدلالة.
فإن النص يدل على مثل المنصوص عليه كتحريم التأفيف يدل على تحريم الشتم لوجود ذلك الأذى فيه وزيادة.
فالدلالة أخت الإيجاب، فكما لا يوجب النص ضد الحكم المنصوص عليه لا يدل عليه، ولكن ثبوت الضد يقتضي نفي ضده كالليل مع النهار، وكذلك في الحكام إذا

(1/48)


وجب فعل في وقت لا بد أن يحرم تركه اقتضاءً فيحرم ضده لما فيه من ترك المأمور به الواجب، فكان لمعنى في غيره فلا يوجب الفساد بخلاف النهي.
فأما الجواب عن القول الأول: ما ذكرنا ان الكراهة تثبت بمقتضى النص لا بالنص، والمقتضى أبداً إنما يثبت حيث لا نص ما له حد غير هذا، وليس هذا كالمعلق بالشرط فإن تعليق الحكم بالشرط لإيجاد الحكم ابتداء عند الشرط، ولما كان ابتداء الوجود عنده لم يقتض هذا نفياً قبله لأن النفي لا يتصور ابتداء الوجود عند الشرط أن يكون عدماً قبل الشرط، ولما لم يكن موجوداً من الأصل لا يتعلق عدمه بمعدم فلذلك قلنا غنه يقتضي عدماً من حيث عدم دليل الوجود، لا عدماً بدليل نافٍ.
وأما الإيجاب فيقتضي حرمة ترك الواجب ضرورة، وكان حلالاً قبل الإيجاب فلذلك أضفنا ثبوتها إلى الأمر.
ثم قول أبي بكر أن الأمر المطلق على الفور لأنه نهي عن ضده دعوى، والرواية في الأصول في الأمر المطلق بخلاف ما قاله أبو بكر الجصاص على ما نذكره.
وكذلك النهي فإن النهي إنما يكون على الفور إذا كان مما يستغرق انتهاء العمر، فأما ما لا يستغرق انتهاء العمر فلا، فإنا نهينا عن ترك فرض الصلاة وقت الظهر ويباح الترك لأول الوقت لأن فعل الصلاة مما لا يعم ولا يستغرق الوقت فالانتهاء عن النهي بفعل الصلاة مما لا يستغرق الوقت فلا يجب البدار إلى الانتهاء على الفور، والذي يدل عليه أنا متى جعلناه نهياً عن ضده نصاً أو دلالة فقد جعلنا ضده حراماً لمعنى يرجع إليه كما في مطلق النهي، وإنه ما حرم إلا لمعنى في غيره وهو من حيث المأمور به وبينهما فرق على ما مر، والله أعلم.