تقويم الأدلة في أصول الفقه القول في النهي ماذا
حكمه؟
قال العبد- رحمه الله-: إني لم أقف على الأقوال في حكمه على
الاستقصاء من السلف، كما وقفت على حكم الأمر. ولكنه ضد المر
لغة فيحتمل أن يكون للناس فيه أقوال أربعة على حسب أقوالهم في
الأمر.
فمن وقف في الأمر فليجب مثله في النهي.
ومن قال بالندب في الأمر فكذا يجب في النهي أن يقول بندب على
ضده.
ومن قال بالإباحة فيه قال بإباحة الانتهاء هنا.
ومن قال بالوجوب، ثم قال بوجوب الانتهاء هنا وعليه جمهور
العلماء.
ويحتمل ان لا يكون على الاختلاف لأن القول به يؤدي إلى أن يصير
موجب الأمر
(1/49)
والنهي واحداً وهو الوقف، وهذا لا سبيل
إليه لأن الضدين يختلف أثرهما كالإحياء والإماتة والتحريك
والتسكين والله أعلم.
فصل: الأقوال في تكرار الانتهاء
وأما الأقوال في تكرار الانتهاء فلا يتصور لأن الانتهاء بالنهي
مما يستغرق العمر إن كان مطلقاً لأنه لا انتهاء إلا بانعدام
المنهي عنه من قبله، ولا يتم الانعدام من قبله إلا بالموت عليه
قبل الفعل، فلا يتصوره تكراره، بخلاف الأمر بالفعل لأن الأمر
بالفعل المسمى له حد يعرف وجوده بحده ثم يتصور التكرار بعده،
إلا ترى ان من حلف لا يدخل الدار لم يبر إلا بالموت قبل
الدخول، ولو حلف ليدخلن الدار فدخل ساعتئذ بر في يمينه وإن ترك
بعد ذلك وتصور منه بعده دخول آخر.
فصل في بيان علة وجوب الانتهاء:
اعلم بأن الشرع لا ينهى عن فعل غلا لقبحه كما لا يأمر به حقاً
لله تعالى إلا لحسنه، فالقبيح: اسم لما ينبغي أن يعدم في
الحكمة بخلاف الحسن، وقد ذكرنا ان النهي لغة لبيان أنه مما
ينبغي ان يعدم على خلاف الأمر، فدل النهي على قبح المنهي عنه
كما دل الأمر على حسن المأمور به تحقيقاً للمخالفة.
فإن قال قائل: فهلا قيل إن النهي ورد لحسن الانتهاء كما قيل في
الأمر أنه ورد لحسن الائتمار؟
قلنا: لأن المطلوب بالأمر فعل، والفعل حادث يكون من العبد،
فالصفة التي لأجلها صح الأمر لا بد أن تثبت لذلك الحادث.
فأما المطلوب من النهي أن لا يوجد المنهي عنه من قبل العبد
ويبقى عدماً كذلك، والعدم الأصلي لا يكون بعلة ولا مضافاً غلى
العبد حقيقة فلا يصح النهي لحسن الانتهاء فإنه ضرب فعل من
العبد، وفعل العبد غير مطلوب بالنهي، بل المطلوب أن لا يوجد من
قبله ذلك الفعل، وأن لا يوجد المعدوم ولا يتعلق بسبب موجب
للعدم بل بانعدام أسباب الوجود فوجب ضرورة أن يقال: إن النهي
صح لقبح الفعل المنهي عنه على خلاف الأمر، فإنه لحسن الفعل
المأمور به يصير الفعل المسمى بالأمر مما ينبغي أن يوجد،
وبالنهي مما ينبغي أن يعدم، ولهذا يصير العبد منتهياً بالنهي
أولى إذا لم يوجد منه فعل المنهي عنه، ولو كان الانتهاء
مطلوباً به حقاً لله تعالى لما أمرنا بالصوم وتأدية بالترك لم
يكن الترك صوماً لله تعالى إلا على وجه يضاف وجوده إلى العبد
بحق الأمر من الله تعالى من قصد لما فيه من منع نفسه عن اقتضاء
الشهوات، وغنه ضرب فعل لأنه يثبت بالأمر ولا
(1/50)
يتصور إلا بفعل يوجده وهذا كما قالوا- فيمن
حلف وقال لامرأته: إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق، ثم قال: لا أشأ-
لم تطلق حتى يموت لأنه علق بعدم المشيئة لا بفعل سماه والعدم
لا يتحقق إلا بالموت.
ولو قال: إن أبيت طلاقك فأنت طالق حنث إذا قال أبيت طلاقك لأن
الإباء اسم لضرب فعل كالصوم وله حد يعقل فثبت ان الواجب بالنهي
أن لا يوجد الفعل المنهي عنه من قبله، فغن دعته نفسه إلى فعل
المنهي عنه فعليه الآن أن يمنع نفسه عن ذلك بالرد عليه وينتهي
عنه ولا يطيعه ضرورة أنه إن لم ينته وجد منه ما نهي عنه فصار
مرتكباً للنهي فيصير الانتهاء حسناً الآن مقتضى الفرار عن
ارتكاب النهي لا لنفسه فيصير من قبيل الأمر الذي حسن لغير
المأمور به، فلا يلزمه غلا بقدر ما يتعلق به حصول المقصود
وبقدر ما يتعلق به المقصود يلزمه لله تعالى فيكون عبادة فإنها
اسم لفعل يأتي به العبد تعظيماً لربه.
(1/51)
القول في صفة قبح
المنهي عنه وحكمه
النهي على أربعة أقسام في هذا الباب، كالأمر في حق الحسن.
- منه ما ورد لقبح الفعل المنهي عنه في عينه.
- ومنه ما ورد لقبح في غيره.
- والذي قبح في عينه نوعان:
- ما قبح وضعاً.
- وما التحق به شرعاً.
والذي قبح لغيره نوعان:
- ما صار القبح مهم وصفاً.
- وما جاوره جمعاً.
- أما الأول: فكالسفه والعبث، فواضع اللغة وضع الاسمين لفعلين
عرفهما قبيح في ذاتهما عقلاً.
- وأما الثاني: فكالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين، والصلاة
بغير وضوء، فالبيع في نفسه مما يتعلق به المصالح ولكن الشرع
لما قصر محله على مال متقوم حال العقد، والماء قبل أن يخلق منه
الحيوان ليس بمال صار بيعه عبثاً لحلوله في غير محله كضرب
الميت وقتل الموات وأكل ما لا يتغذى به.
وكذلك الشرع قصر اهلية العبد لأداء الصلاة على حال طهارته عن
الحدث فصار فعل صلاته مع الحدث عبثاً لخروجه من غير أهله، نحو
كلام المجنون والطائر فالتحقا بالقبيح وضعاً بواسطة عدم
الأهلية والمحلية شرعاً.
- وأما الثالث: فنحو البيع بشرط فاسد، وبيع الدرهم بالدرهمين
فالنهي ورد بمعنى الشرط والشرط غير البيع، وبيع الربا منهي عنه
لعدم شرط المماثلة الذي علق الجواز به فالمماثلة شرط زائد على
البيع فتمامه بوجوده من أهله في محله والمحل قائم شرعاً مع
المفاضلة فإنهما مالان متقومان.
وأما الرابع: فنحو البيع وقت النداء يوم الجمعة، والصلاة في
أرض مغصوبة، والنهي ورد لمعنى الاشتغال بالبيع عن السعي إلى
الجمعة، وبين الاشتغال والبيع مجاورة فما هو من البيع في شيء،
والنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة جاء لمعنى الغصب، وما هو من
الصلاة في شيء فغصب الأرض في شغلها بنفسه لا بصلاته.
(1/52)
وحكم القسمين الولين أنهما حرامان غير
مشروعين أصلاً لأن القبح صار صفة لعينه، والقبيح لعينه لا يجوز
أن يكون مشروعاً، فالشرع ما جاء إلا لشرع ما هو حسن ورفع ما هو
قبيح.
وحكم القسمين الآخرين: أنهما دليلان على كون المنهي عنهما
مشروعين لأن القبح ثابت في غير المنهي عنه فلم يوجب دفع المنهي
عنه بسبب القبح والقبح في غيره.
وهذا مذهب علمائنا رحمهم الله تعالى على ما نبينه في الباب
الذي يليه.
قال الشافعي رحمه الله: النهي على أقسام ثلاثة، فالقسم الثالث
الذي ذكرناه من جملة ما قبح لمعنى في عينه شرعاً، والله أعلم.
(1/53)
القول في النهي
المطلق ماذا حكمه؟ وإلى أي قسم ينصرف؟
قال علماؤنا: مطلق النهي عن الأفعال التي تتحقق حساً ينصرف إلى
القسم الأول.
وعن التصرفات والأفعال التي تتحقق شرعاً نحو العقود والعبادات
ينصرف القسم الثالث إلا بدليل.
وقال الشافعي رحمه الله: النهي في البابين يدل على قبحه لمعنى
في عينه، ويكون نسخاً لما كان مشروعاً إلا بدليل.
ويحتمل أن يقال ينصرف إلى القسم الرابع بلا تفصيل.
ويحتمل الانصراف إلى القسم الأول غير أني لم أقف على هذين
القولين الاخرين من السلف.
وإنما قلنا يحتمل لأن النهي للمنع عن الفعل والقبح يثبت ضرورة
ومقتضى فيثبت الأدنى وذلك في القسم الرابع كما قلنا مثله في
المر في صفة الحسن.
ويحتمل أن يقال: إن النهي عن الفعل تقبيح كالأمر تحسين فيثبت
الأكمل كما في الأمر.
والحجة للشافعي أن النهي ضد الأمر فلما كان الأمر شرعاً
للمأمور به كان النهي رفعاً للمنهي عنه إلا بدليل.
ولن الأمر شرعاً لتحسين المأمور به في نفسه إلا بدليل فكذلك
النهي يكون لتقبيحه في نفسه.
وكذلك التحريم والإحلال متضادان فيرتفع بأحدهما الآخر.
ولأن الشرع ابتلاء من الله إيانا بما أمر ونهى وأحل وحرم بأصل
الحكم، ثم الفعل بناء عليه فيتعين بهما أصل الحكم ثم الأداء
ألا ترى أن الشرع نهانا عن الصلاة محدثاً، وعن نكاح المعتدة
وبغير شهود، فلم يبق المنهي عنه مشروعاً، وغن كان النهي ورد
لدخول زيادة أو لفقد شرط زائد على أصل الاسم.
ولأن أدنى درجات المشروع ان يكون مباحاً في نفسه، ثم مندوباً
إلى فعله، ثم واجباً، ثم فرضاً.
والربا حرام في نفسه فلم يجز أن يكون مشروعاً لأن الله تعالى
كما قال: {وحرم عليكم الربا} قال: {حرمت عليكم أمهاتكم} ثم لم
يبق نكاح الأم مشروعاً بتحريم مضاف إلى الأم فلأن لا يبقى
الربا مشروعاً والتحريم مضافاً إليه أولى.
(1/54)
ولا يلزمنا قولنا: أن الظهار حرام وأنه سبب
مشروع لإيجاب الكفارة، لأن الكفارة تجب جزاء على ارتكاب حرام
في الأصل زجراً كالحدود فلا تكون أسبابها مشروعة، ولا حسنة،
فأسبابها في الحقيقة المعاصي التي هي غير مشروعة.
ولا يلزمنا قولنا: إن طلاق الحائض مشروع وقد نهينا عنه لأن
الطلاق مشروع بسبب ملك النكاح، والحيض صفة المرأة غير موجب
خللاً في ملك النكاح، والنهي جاء لأجلها فكان لمعنى في غير
المنهي عنه غير متصل به إلا على سبيل الوجود معه فكان من القسم
الرابع.
ولا يلزم استيلاد الرجل امة بينه وبين شريكه فإنه سبب مشروع
للنسب وتملك نصيب الشريك وأنه حرام، لأن سبب النسب وطؤه ملك
نفسه والحرمة لملك الشريك وانه مجاور لملكه لا أن يكون وصفاً
له، وإنما تملك نصيب الآخر لصحة النسب ولا حرمة فيه، وإنما
الحرمة في وطئه نصيب الشريك.
ولا يلزم الإحرام مجامعاً لأهله فإنه مشروع وفاسد وحرام ومنهي
عنه، لأن الفساد او النهي جاء لمعنى الجماع، وأنه غير الإحرام
فلا يصير وصفاً له ولا لما لا يتعلق به صحة الإحرام.
والحج من وقت أو مكان أو فعل، وإنما يوجد معه على سبيل
المجاورة فلا يرفع أصل صحة الإحرام وكان من القسم الرابع ألا
ترى ان القضاء لازم والشروع في الفساد لا يوجب القضاء بحال،
وإنما الجماع منه محظور فيه غير مشروع مفسد للحج كالكلام
للصلاة والحدث للطهارة، غير أن الحج لا يحتمل النقض بالأسباب
الناقضة من الجماع، بخلاف الصلاة والصيام فلا يخرج من الحج
لعجزه، وإذا لم يخرج منه وقد تحقق المفسر من قبله لزمه المضي
ضرورة ليخرج عنه بالداء لما شرع، ويلزمه القضاء بإفساد الأول
وباب الضرورة مستثنى عن أصل القياس ولذلك أبقينا طوافه مشروعاً
مع فساده.
وكلامنا أن النهي لرفع المشروع في وضعه لا أنه لا يجوز
الامتناع عن عمله بمانع بل جائز ذلك بدليله كما يجوز مثله في
العلل كلها.
ولأن الكلام وقع في تحريم الله تعالى ونهيه عما كان شرع، لا في
تصرف جاء من العبد ومفسد تحقق من قبله فما إلى العبد تغيير
المشروعات في أنفسها، ولكنه إذا لم يؤدها بشرائط صحتها بقي تحت
الوجوب، وإذا ارتكب ما يفسدها أفسد بقدر ما تحتمله العبادة
شرعاً.
والحج شرعاً يحتمل الفساد من حيث يجب القضاء ولا يحتمل
الارتفاع أصلاً فلم يقدر عليه لعجزه، وإذا كان الرافع من الله
تعالى عمل لأنه لا يوصف بالحجة عليه.
ولهذا قلنا: الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة علقت بسبب
مشروع لها وهو
(1/55)
النكاح أو الوطء الحلال فلم يكن الحرام
المحض سبباً لها.
وكذلك الملك لا يثبت بالغصب وإن ضمن الغاصب لأن الملك نعمة
علقت بأسباب مشروعة فلم يكن الحرام المحض سبباً للملك، والزنا
حرام محض، وكذلك الغصب، وكذلك رخص السفر لا تثبت للعبد الآبق
لأن الرخصة نعمة علقت بالسير المديد لغرض مباح او مندوب إليه
فلا يثبت بالإباق عن المولى فإنه حرام محض.
وكذلك قال: الدهن النجس لا يجوز بيعه لأن النجاسة بعد إخراج
الفأرة منه صفة لازمة للدهن فصارت بمنزلة نجاسة ودك الميتة.
واحتج محمد بن الحسن لتصور صوم يوم النحر مشروعاً بما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم النحر وقال: "إنها
أيام أكل وشرب" ويقال إنما نهانا عن فعل يتكون أو لا يتكون؟.
فغن النهي عما لا يتكون لغو، فإنه لا يقال للأعمى لا تبصر ولا
للآدمي لا تطر.
فلما نهى عن الصوم، والمراد به صوم شرعي فنفس الإمساك للحمية
او المرض غير حرام علم به أنه متصور منا شرعاً، ولأن الصوم اسم
شرعي لعبادة خاصة كالحج فمطلقه ينصرف إلى حقيقته بتسمية الشرع
دون اللغة لأن مطلق الاسم لحقيقته المتعارفة إلا بدليل، ولهذا
لما قلنا: أن النهي طلب إعدام المنهي عنه من قبل العبد
بامتناعه عن فعله، وإنما ينعدم بامتناعه إذا كان بحيث يتصور
منه موجوداً بفعله بخلاف النسخ لأنه تبديل لما كان فكان تصرفاً
من الله تعالى في المشروع بتبديل، وهذا تصرف في منع العبد عن
الأداء، وكذلك الأمر تصرف في إيجاب الفعل فلا يرتفع بالنهي أصل
الحكم، ولكن يرتفع ما لزمنا من الأداء بالأمر فيحرم فعله.
وإذا ثبت هذا علم أن المنهي عن فعله من المشروع مما لا ينعدم
بالنهي فبقي مشروعاً لكن حرم الفعل الذي هو سبب لوجوده مؤدى.
ولأنا ذكرنا ان الأمر لبيان أن المأمور به مما ينبغي أن يوجد
من المأمور، والنهي لبيان أن المنهي عنه مما ينبغي أن يعدم من
قبله فيرتفع بالنهي عن المأمور به قدر هذا الوصف، ودل وجوب
الانعدام بتركه على بقائه مشروعاً بحيث يوجد لو فعله.
ولما بقي مشروعاً بحيث يوجد بفعله لو فعله فلم يقبح الفعل في
نفسه لأنه لم يصر عبثاً لما تصور، ووجب إثبات القبح في غيره
ليمكن تحريم الفعل بذلك الغير، لكن نثبته على وجه يكون ألزم
فنجعله قبيحاً عند الإطلاق لوصف زائد متصل به ما أمكن كما نثبت
الحسن في الأمر صفة للمأمور به على وجه يكون ألزم وهو الإثبات
لعينه فإنه يوجب
(1/56)
الأداء لحسنه، وإثباته لعينه يحقق الوجوب
عليه والوجوب من قبله.
وفي النهي متى أثبت القبح لعينه انعدم المنهي مشروعاً في نفسه،
والنهي للانعدام بانتهاء العبد فلم نثبته لعينه ليبقى مشروعاً،
وأثبتناه وصفاً له ما أمكن لتكون حرمة الفعل لازمة أبداً لمعنى
راجع إلى المنهي عنه لأن الوصف منه، وإذا كان الفعل مما لا
يتصور حساً كشرب الخمر والزنا انصرف إلى قبح غي عينه، لأنه مع
قبح عينه مما يتصور وجوده منا فيتعلق العدم بامتناعنا عنه،
فلما تصور الانعدام بامتناعنا عنه أثبتنا القبح لعينه كما
أثبتنا بالأمر الحسن لعينه لما تصور الوجود بفعلنا معه هذا هو
الحقيقة من المر والنهي إلا بدليل.
وكذلك تحريم البيع والأفعال الشرعية دليل على بقائها مشروعة،
لأن الحرمة صفة لما سماه الشرع فينبغي أن يكون المسمى متصوراً
ليمكن إثبات الوصف له فإنه لا يثبت بدون الموصوف كتحريم العين
باسمه دليل على ثبوت المسمى ليثبت الوصف له.
وإذا وجب إثبات المسمى وجب إثباته على حقيقته حتى يقوم الدليل
على مجازه.
غير أن اسم العين لا يبطل بأن يحرم أصل الفعل فيه، ويصير غير
مشروع فيه فيثبت ومتى حرمنا أصل الفعل في الشرعيات وجعلناها
غير مشروعة بطل حقيقة الاسم للمسمى كتحريم الربى، فالربا: اسم
لضرب بيع، وأنه ما لم ينسخ لم يحرم أصل المعاقدة، ولم يخرج من
أن يكون مشروعاً ومتى انتسخ بقي الاسم له مجازاً فثبت أن
الحقيقة في الجمع بين صفة حرمة وبين المسمى إلا أن لا يمكن.
وفي باب ملك اليمين إثبات صفة الحرمة مع بقاء الملك مشروعاً
كالعصير يتخمر فأمكن ذلك فيما شرع سبباً لملك اليمين.
ولأن المشروع ثابت مشروعاً بشرع الله تعالى وتقديره كالمخلوق
حادث بخلق الله تعالى وتقديره، فلم يجز أن يوصف بأنه حرام
شرعاً أو قبيح شرعاً.
فالقبيح شرعاً ما كانت الحكمة في إعدامه، وهذه مما كانت الحكمة
في إيجادها، وإنما أضيفت الحرمة الشرعية إليها على معنى أنها
أسباب لحرمة أفعالنا فيها بخروجها من أن تكون محال لها شرعاً
بالأسباب التي ذكرت.
والعين باسمه يبقى على الحقيقة مع خروجه عن محلية الفعل
المشروع الذي نهينا عنه فجمع بين الأمرين.
وأما المشروع من العقد والعبادة فلا يبقى على الحقيقة متى لم
يبق بحيث يوجد بالمباشرة لأنه اسم لما يوجد بالمباشرة لا
لموجود للحال، ولا أيضاً يصير سبباً لحرمة الإيجاد متى لم
تتعلق الحرمة بوصف قائم به فإنه متى كان لمعنى في غيره مجاور
كان السبب ذلك المعنى لا هذا المسمى وحاصل الأمر أن النسخ رفع
للمشروع ثم ينعدم أداؤنا
(1/57)
بانعدام المشروع، والنهي تحريم للفعل ثم
ينعدم المشروع بامتناعنا عن الأداء فلم يجز أن يجعلا باباً
واحداً.
فأما قوله: إن أدنى درجات المشروع أن يكون مباحاً فعله، فكذلك
في أصله ولكنه جائز أن يحرم بعارض لا يرفع أصله ولا يفارقه
فيحرم بالعارض الذي هو غير مشروع لا بالمشروع، كالطواف مشروع
مباح صحيح مندوب إليه، وبعد الجماع يفسد ويبقى مشروعاً فاسداً،
فدلنا بقاء الطواف مع صفة الفساد مشروعاً، وهو عبادة بدنية بأي
سبب كان الفساد، على أنه ليس بوصف يرتفع به أصل المشروع بمنزلة
ملك اليمين حيث لم يرتفع بالحرمة.
ثم أثر الضرورة التي ذكرها الخصم ثابت في حقنا بأن عجزنا عن
نقض الحج ولزمنا المضي مع الفساد، وإن كان الفساد سبيله الترك،
فأما البقاء مشروعاً مع الفساد فبحكم الله وتقديره، والله
تعالى قادر على أن يرفعه به كما رفعه بالإحصار.
والخمر مملوك ملكاً شرعياً وأنه حرام لا يجوز الانتفاع به
بوجه.
والصيد المملوك بعد الإحرام ملك، والانتفاع به والتصرف حرام
لأن الحرمة تعلقت بوصف زائد عارض وهو الأمر الثابت له بإحرامه
أو بالحرم، وأمكن الجمع بينهما لأن ملك التصرف غير ملك الرقبة.
وكذلك الدهن إذا تنجس بمجاورة الفأرة حتى صارت النجاسة صفة
لازمة له فبقيت بعد إخراج الفأرة لا يحرم أصل الدهن ولا
الانتفاع به إلا ما لا يتأدى مع النجاسة، لأنه لم يغير أصله
كالنجاسة بالثوب، بخلاف ودك الميتة لأن النجاسة للعين بالشرع
ولا مجاورة بين العين والشرع، والشرع مبدل بأن كان ظاهراً
فجعله نجساً بالتحريم، وكذلك النهي عن بيع وشرط، فالنهي جاء
لمعنى الشرط وأنه شيء زائد جاوره وصفاً له لازماً لأن الشرط لو
كان يصح لصار من حقوقه لازماً إياه قل لزوم أصله فصار حرمتها
بسببه مثل حرمة الدهن بسبب النجاسة المجاورة فتغير الوصف إلى
حرمة وفساد ولم يتغير الأصل.
وكذلك النهي عن صوم يوم النحر فإنه جاء لوصف زائد في الوقت
الذي لا يتأدى إلا فيه وهو اليوم فإنه عين للصوم ضرعاً على
مخالفة الليل بأن عين للفطر، ثم عين يوماً للفطر بصفة زائدة
وهو العيد فبقي محلاً للصوم بأصل اليوم، ومحلاً للفطر بصفة أنه
عيد فبقي الصوم بأصله مشروعاً وبوصفه غير مشروع.
ولا يلزم النكاح بغير شهود فإنه غير موجب للملك لأن الأصل الذي
قلنا في النهي عن طلب العقد الذي هو طلب الإعدام من العبد
بالانتهاء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بشهود"
إخبار عن عدمه دونهم كقوله: لا زيد في الدار، وقوله صلى الله
عليه وسلم: "لا صلاة إلا
(1/58)
بوضوء". ولا يلزم نكاح المعتدة عن الغير
لأن الحرمة ثابتة بتحريمها لا بتحريم العقد عليها لأن قوله
تعالى: {والمحصنات من النساء} عطف على قوله تعالى: {حرمت عليكم
أمهاتكم} أي وحرمت المنكوحات، وإنما حرمت المنكوحة كالأم على
غير الزوج صيانة للأنساب، دلنا ذلك على حرمة المعتدات بلا نكاح
قائم لأنها لا تجب إلا لما صار معتبراً شرعاً من وجه.
ولا يلزم قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} فإنه إخبار عن
تحريم العقد والوطء جميعاً، ولم يبق مشروعاً لأن معناه: وحرمت
الأختان جمعاً بعقد أو وطء لأنهما عطفتا على الأمهات ولا يعطف
الفعل على الاسم، والاسم على الفعل، وإنما يعطف الاسم على
الاسم والفعل على الفعل فلذلك وجب الحمل على المعنى الذي قلناه
ليكون عطف اسم على اسم ولا يلزم {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم}
لأن الدليل قام على أنا نهينا عنه لحرمة المحل علينا شرعاً
كالأم لقيام الصهرية مقام النسب في هذا الباب شرعاً حتى كانت
حليلة الولد بمنزلة البنت وذكرت في المحرمات.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تنكح الأمة على
الحرة" إخبار وليس بنهي ولأن العقد حرم على الأمة لكونها محرمة
في هذه الحالة- على ما بينا في النكاح- لأن الحل الذي ثبت به
محلية النكاح يتصف بالرق فبقي محللة مع الحرة قبلها لا بعدها
لتكون على النصف بقدر ما يمكنه إثبات التصنيف في قبول النكاح
مقابلة للحرة، كما لم يحل للعبد إلا امرأتين وحل للحر أربع،
ولأن ملك النكاح متى وصف بالحرمة لم يبق كما إذا اعترض رضاع
فكذلك سببه إذا وصف بالحرمة لا يبقى لأنه مشروع لملكه، فلما لم
يمكن الجمع بينهما تركت الحقيقة.
وأما سفر الآبق فمشروع بسبب رخصة من حيث أنه سير مديد،
والمعصية ثابتة صفة للعبد لا للسير بامتناعه على مولاه حتى إذا
جاء الإذن ذهبت المعصية، وإن سار وبقيت المعصية مع الامتناع
عليه وإن ترك السير.
والغصب سبب ملك من حيث أن المشرع جعله سبب ملك للمغصوب منه بدل
ماله كالبيع لا من حيث أنه أخذ بغير حق.
والزنا سبب للمصاهرة من حيث أنه حرث للولد وأنه ثابت بخلق الله
تعالى لا بمعصيته.
والظهر يوم الجمعة مشروع لأنه معلق بزوال الشمس من اليوم
ونهينا فيه عنه لأن الشرع أمرنا بأداء الجمعة مقامه فصار نهياً
لمعنى في غيره كالبيع وقت النداء في هذا اليوم.
(1/59)
وكذلك إذا صلى النفل وقت الطلوع كان نفلاً
مشروعاً، وقد نهينا عنه لأن أصل الصلاة مشروع بأصل الوقت
والنهي جاء لوصف زائد وهو أنه وقت مقارنة الشمس قرن الشيطان
فبقي الأصل مشروعاً ولم ينعدم وإن لزمه الترك بوصفه.
وقلنا إذا أدى في ذلك الوقت فرضاً لزمه بوقت آخر مطلق عن النهي
لم يجز لأن الوقت لما لم يبق وقت صلاة بوصفه لم يوجد بالوصف
فلا تتأدى بها صلاة مشروعة عليه بأصلها ووصفها كما لا يتأدى
بصوم يوم النحر صوم واجب مطلقاً.
وإذا نذر صوم يوم النحر أو صلاة وقت الطلوع لزمه لأنه لما بقي
مشروعاً نفلاً صح الإيجاب بالنذر لأن الشرع شرع النذر لإيجاب
ما هو نفل من الصيام والصلاة، ولكن لا يؤدي فيهما لأن الأداء
فيهما صار حراماً لوصفه فلا يلزمه ما حرم، وانعدم ولزمه ما
بقي، وإذا أدى خرج عن النذر لأن الوصف لم يلزمه لما لم يبق
الوقت محلاً له فيؤدي كما وجب وإنما لا يلزمه الأداء فيه لأنه
معصية فلم يجب بالنذر، لأن الواجب عليه صوم مطلق وقد أضافه إلى
محل لم يبق فيه صوم مطلق، وها كما يجوز أداء العصر وقت الغروب
لأنه وجب لوقته كما يحتمله الوقت وقد أدى كذلك ولو أدى فيه
الظهر لم يجز لأنه وجب مطلقاً، ونظيره أنه لا يتأدى عتق وجب في
كفارة يمين بتحرير رقبة مطلقة بالعمياء فإنها مستهلكة من وجه،
ولو نذر أن يعتقها صح النذر لبقاء أصل التحرير ويتأدى الواجب
بإعتاقها وكذلك أم الولد.
(1/60)
|