تقويم الأدلة في أصول الفقه القول في بيان أسباب
الشرائع
قال العبد رضي الله عنه: إن أصل الدين وفروعه من العبادات
والكفارات والحدود والمعاملات مشروعة بأسباب عرفت أسباباً لها
بدليلها سوى الأمر، وإنما الأمر لإلزام أداء ما وجب علينا
بسببه، كما يقول البائع للمشتري: اشتريت فأد الثمن كان الأمر
طلباً للأداء لا سبباً للوجوب في الذمة.
وقد بينا في آخر الكتاب في فصل أهلية الآدمي لوجوب حقوق الله
تعالى عليه أن أداء الواجب في الذمة لا يجب بحق الوجوب بل
بالطلب من مستحقه، وذلك بالخطاب، والوجوب بأسباب شرعية غير
الخطاب عرفنا شرع الله تعالى على هذا بدليله مع استقامة
الإيجاب بمجرد الأمر وذلك لما ذكرنا في ذلك الباب أنا نجد وجوب
حقوق الله تعالى على من لا يصح خطابه، نحو النائم والمغمى عليه
والمجنون إذا قصر جنونه، وإن استغرق وقت العبادة، وكذلك الصبي
على أصل الشافعي يلزمه الزكاة وكفارات الإحرام والقتل وإن كان
طفلاً لا يصح خطابه، فعلمنا بذلك أن الوجوب بأسباب غير الخطاب
حتى صحت في حقهم كما في حق غيرهم، وإنه كان لزمهم حقوق العباد
بمداينة الولي عليهم ويعتق عليه أبوه إذا ورثه لأن السبب هو
الملك، وقد صح في حقه.
ألا يرى أن وجوب الأداء لما كان بالخطاب لم يلزم واحداً من
هؤلاء أداء حقوق الناس كما لم يجب أداء حقوق الله تعالى
والدليل عليه أن الصلاة تجب مكررة، وكذلك سائر الحقوق، إن كان
الأمر بالفعل لا يوجب تكراراً بحال أطلق أو علق بوقت.
فإن من قال لآخر: تصدق بدرهم من مالي لم يملك إلا مرة واحدة،
وكذلك إذا قال: حين تصبح أو تمسي، أو قال: لمجيء غد كمال قال
الله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وقال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك
الشمس} ونحوها، وكما لم يجب التكرار بهذه النصوص علم أن
التكرار بسبب موجب يتكرر كل حين الوجوب.
فنقول وبالله التوفيق:
إن سبب وجوب أصل الدين وهو معرفة الله تعالى، كما هو الآيات
الدالة في العالم على حدوث العالم، وهي دائمة أبداً لا يحتمل
زوالها عنه، فدام وجوب أصل الدين كذلك بحيث لا يحتمل النسخ
والزوال والتبدل، وإنما يسقط الأداء في بعض الأحوال للعجز كما
يسقط أداء الصلاة عن النائم مع الوجوب عليه لعجزه، وقد شرحناه
في باب أهلية الآدمي لوجوب حقوق الله تعالى عليه.
وسبب وجوب الصلاة أوقاتها بدليل تكرار الوجوب بتكرار الأوقات
فإنها لو كانت
(1/61)
شروطاً لما تكرر الوجوب بتكررها بدون
أسبابها.
ولم يعقل غير الخطاب سبباً آخر للوجوب مع الوقت فلما بطل أن
يكون الخطاب موجباً للتكرار فكان سبباً لوجوب أداء ما لزمه في
ذمته بسبب آخر بقي الوقت مناسباً بنفسه، وكذلك يضاف إليه
فيقال؛ صلاة الظهر والعصر ومطلق إضافة الحادث إلى شيء يدل على
حدوثه به كقولك: عبد الله وكفارة القتل، وهذا كسب فلان وتركته
وقتله، والوجوب هو الحادث فدل أنه كان بالوقت، وقد يضاف إلى
الشروط لكنه مجاز لما أن الحكم وجد عنده فأشبه العلة التي يوجد
الحكم عندها بها ولكن الكلام لحقيقته حتى يقوم الدليل على
مجازه.
وكذلك الله تعالى قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} واللام تذكر
للتعليل في مثلها كما تقول تطهر للصلاة وتأهب للشتاء، فثبت أن
الوقت هو السبب، وكل جزء من الوقت سبب تام، فإنه لو كانت
السببية تتعلق بالجميع لوجبت الصلاة بعد الوقت كالزكاة بعد
الحول.
وكذلك تجب على الصبي إذا بلغ لآخر الوقت، ولو كان السبب أول
الوقت لما وجب كما لو بلغ بعد الوقت.
وكالصبي المسافر في رمضان إذا بلغ بعد رمضان ثم أقام لا يلزمه
شيء، وإن كان البالغ في مثله يلزمه حين الإقامة لأن السبب في
حق المسافر البالغ هو رمضان لا حين الإقامة فلا يلزم لحين
الإقامة إلا من كان أهلاً للوجوب عليه في الشهر لولا السفر.
وأما الصوم فسببه الشهر لأنه يضاف إليه فيقال: صوم رمضان
ويتكرر بتكرره كالصلاة مع الوقت، وقال صلى الله عليه وسلم
"صوموا لرؤيته" كما قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}
وقال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} علق إيجاب الأداء
بشهادة الشهر فعلم أنها سبب الوجوب حتى استقام طلب الأداء بعده
كالرجل يقول: من اشترى شيئاً فليؤد ثمنه، أي الواجب بالشراء
إلا أن الدليل قام لنا بإباحة الله تعالى الأكل في ليالي الشهر
كلها، وبأن لا يجوز فيها صوم إذ المراد بالشهر أيامه، وكذلك
الصبي إذا بلغ لأول الصبح لزمه الصوم وإن لم يشهد الليل.
فإن قيل: انتفاء جواز الأداء ليلاً لم يدل على خروجه عن كونه
سبباً للوجوب!
قلنا: إن المطلوب من الإيجاب الأداء، وفي جعل الله تعالى وقتاً
سبباً لوجوب عبادة بيان شرف ذلك الوقت لحق العبادة، والعبادة
في الأداء دون الإيجاب فإنه صنع الله تعالى
(1/62)
فلم يستقم الوقت المنافي للأداء شرعاً
سبباً لوجوبه فعلمنا أن الأيام هي الأسباب، وكل يوم سبب لصومه
على حدة، حتى إذا بلغ الصبي في أثناء الشهر لم يلزمه ما مضى،
وإنما يلزمه ما بقي ولأن الصيام متفرق في الأيام تفرق الصلوات
في اليوم والليلة بل أشد فإن أوقات الصلاة كانت متفرقة بأن لم
يجز أداء الظهر في وقت الفجر وفات بمجيء وقت العصر قبل أداء
الظهر وهذا المعنى فيما نحن فيه موجود وزيادة وهو أن بين كل
يومين ليلاً لا يصلح لأداء الصوم لا أداء لما يجب ولا قضاء لما
مضى ولا نفلاً.
فصل
وسبب وجوب الزكاة: النصاب من المال الذي عرف في الزكاة، بدليل
تضاعف الوجوب بتضاعف النصب في وقت واحد، وبدليل الإضافة إليه
فيقال: زكاة مال السائمة، وزكاة مال التجارة وقال صلى الله
عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، وقال لمعاذ: "ثم أعلمهم
أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في
فقرائهم" والغنى يكون بالمال.
فإن قيل: إن الزكاة في مال واحد تتكرر بتكرار الحول فعلم أنه
سبب؟
قلنا: نعم لأن المال إنما يصير سبباً ونصاباً إذا أعد للنمو
بسببه من تجارة أو سائمة، فبهذا الوصف يصير مال الزكاة فيصير
السبب هو الوصف في الحقيقة فإنه الجاعل للمال سبباً، والنمو لا
يكون إلا بمدة فقدر الشرع بالحول تيسيراً علينا فقام الحول
مقام النمو الذي به يصير المال سبباً، ولما قام مقام السبب
تكرر بتكرره وفي الحقيقة التكرار بتكرار النمو فإن الذي يوجد
في حول يجيء غير الذي مضى في الحول الأول.
وسبب وجوب العشر الأراضي النامية ونموها بما نستنبتها، وكذلك
الخراج بدلالة أنه يقال: عشر الأرض وخراج الأرض ولا يجبان إذا
اصطلم الزرع آفة قبل حين الوجوب لذهاب النماء، ثم تكرر الوجوب
بتكرر الحول في الخراج وفي العشر بتكرر الخارج على مثال تكرر
الزكاة بتكرر الحول لا فرق بينهما.
وسبب وجوب الجزية الرؤوس بأوصاف معلومة لأنه يقال: خراج الرأس،
ويتضاعف بعدد الرؤوس وتكرارها بالحول على نحو تكرار الزكاة.
وبيانها أن أهل الذمة يصيرون من أهل الإسلام بالذمة كالمسلمين،
والله تعالى فرض على المسلمين نصرة الدار بقتال أهل الحرب كما
ينصر كل قوم دورهم إذا قصدهم عدو، وأهل الذمة لم يصلحوا لذلك
فإن القتال نصرة لدار الإسلام ودين الله تعالى عبادة، وليسوا
(1/63)
هم بأهل لها فضرب الشرع على الرؤوس
الصالحين للقتال لو كانوا مسلمين مالاً للمقاتلة من المسلمين
ليكون المال عوناً لهم فيحصل بأموالهم بعض النصرة، ثم النصرة
بالقتال كان يجب متكرراً غير دائم فكذلك المال الذي هو بدله
إلا أن الشرع قدره بالحول تيسيراً للعمل به وتشبيهاً بالمؤن
الشرعية.
أما الحج فسبب وجوبه: البيت دون الوقت، بدليل أنه لا يتكرر
بتكرر الوقت، وإنما يجب مرة لأن السبب هو البيت وإنه لا يتجدد
بتجدد الوقت، وكذلك يضاف إلى البيت فيقال: حج البيت قال الله
تعالى: {ولله على الناس حج البيت} إنما الوقت شرط عنده يجب
كحين الإقامة في صوم المسافر، وفيه يؤدى كوقت الصلاة واليوم في
حق الصوم والأداء.
وأما الاستطاعة فصفة للعبد عندها يحل الوجوب به تيسيراً علينا
لما في السفر بلا زاد ولا راحلة من المشقة، كالإقامة في باب
الصوم وليس بصفة لما هو سبب من البيت فلا يجعل من السبب
كالطهارة تجب للصلاة، ولا تجب إلا على المحدث فلم يكن الحدث
سبباً للوجوب ولهذا قيل: إذا عجل العبد الحج قبل الاستطاعة
أجزأه، فتفسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة، والأداء قبل
ملكهما جائز لأن السبب قد وجد كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل
الإقامة لأن السبب وهو الشهر قد وجد، ولذلك لا يتجدد الوجوب
بتجدد ملك الزاد والراحلة، ولا يضاف إليهما فصار تأويل الآية-
والله أعلم-: ولله على الناس المستطيعين حج البيت حقاً للبيت،
واجباً بسببه إذا جاء وقت الأداء.
فإن قيل: إن وقت الحج أشهر الحج وهي شوال إلى العاشر من ذي
الحجة، والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال إنه شرط الأداء،
وعلم أنه سبب الوجوب؟
قلنا: قد ذكرنا أن امتناع جواز الأداء شرعاً في وقت يدل على
أنه ليس بسبب للوجوب، ثم الجواب أن الأداء جائز في الوقت كله
فإن من أحرم بالحج في رمضان وطاف بالبيت وسعى فيه ثم طاف طواف
الزيارة فعلية أن يعيد السعي لأنه كان قبل الوقت، ولو طاف وسعى
في شوال لم يكن عليه الإعادة لأنه كان في وقته إلا أن للحج
أركاناً أخر ولكل ركن وقت على حدة، فلم يجز قبل وقته الخاص،
كما لا يجوز طواف الزيارة قبل يوم عرفة وهو وقت أداء الركن
الأعظم، ولا يجوز رمي اليوم الثاني في اليوم الأول ولا قبل
الزوال، والسعي واجب غير مؤقت بوقت خاص فيؤدى في جميع وقت
الحج.
وأما سبب وجوب صدقة الفطر على المسلم: فرأس يلزمه مؤنته
بولايته عليه، ووقت الفطر شرط عمل السبب في الإيجاب عنده بدليل
تضاعف الوجوب بتضاعف هذه الرؤوس أحراراً كانوا كالأولاد الصغار
أو مماليك، وإن كان يوم الفطر واحداً.
وكذلك يجب على من أسلم ليلة الفطر أو بلغ ولم يكن عليه صوم
فعلم أن الصوم
(1/64)
ليس بسبب إلا أنها لما ألحقت بمؤنة اليوم
كفاية للفقراء تكررت بتكرر اليوم، كما تكررت المؤنة على مثال
تكرار الجزية بتكرر الحول لقيامها مقام النصرة وهي متكررة.
فإن قيل: أليس أنه لا يجب على من أسلم بعد الصبح بمضي السبب
على المفر؟
قلنا: نعم فإن الرأس ليس بسبب للوجوب في وقت خاص وهو انفجار
الصبح يوم الفطر فإذا لم يكن أهلاً للوجوب فيه لم يجب كما لا
يجب الحج على المستطيع إذا كان كافراً أو صبياً في أشهر الحج
كله لا فرق بينهما إلا أن ذلك وقت ممدود، وهذا وقت مقصور وإنما
تضاف الصدقة إلى الفطر مجازاً لأنها تجب فيه لا لأنه سبب فطر
بدليل ما ذكرنا، ولأن صدقة الفطر لا تجب بيوم الفطر عن رأس آخر
غير رأسه ما لم يكن بالوصف الذي قلناه، وذلك الرأس لو جعل
شرطاً والوقت سبباً لكان شرطاً من حيث يجب عليه وكان محل
الوجوب، وقد قام لنا الدليل أنه لا يجب عليه فإنه يجب عندنا عن
عبده الكافر والكافر لا يجب عليه عبادة، ولا صدقة، وإذا لم يكن
الرأس شرطاً كان سبباً لا محالة لصفة غير الكفر، فإن الزكاة
تجب عن عبده الكافر إذا كان للتجارة والوقت صالح للشرط كوقت
الحج فجعل الوقت شرطاً والرأس سبباً.
فأما الكفارات: فأسبابها ما أضيفت إليه كالقتل خطأ واليمين
والظهار والإفطار عن صوم رمضان، وكذلك الحدود كالزنا والسرقة
والقذف وشرب الخمر والسكر.
وسبب وجوب الوضوء الصلاة: يقال إنه طهارة الصلاة ويسقط في نفسه
متى سقطت الصلاة، ولكنه لا يجب إلا على المحدث كما لا يجب الحج
إلا على المستطيع، والصوم إلا على المقيم، ولأن الوضوء شرط
لإقامة الصلاة، والشروط لا تجب إلا لما علق صحته بها كالشهادة
في النكاح واستقبال القبلة في الصلاة.
وقد ذكرنا سبب وجوب أصل الدين وسبب العبادات، وسبب العقوبات
وهي الحدود وسبب الكفارات المترددة بين العبادة والعقوبة.
فأما سبب المعاملات وهو رابع الأسباب: فتعلق البقاء المقدور
بتعاطيها.
وبيانه أن الله تعالى خلق هذا العالم وقدر بقاء جنسه إلى حين
القيامة من طريق التناسل، ولا تناسل إلا بإتيان الذكور النساء
في موضع الحرث فشرع الله تعالى له طريقاً يتأدى به ما قدر الله
تعالى من غير أن يتصل به فساد وضياع، وهو طريق الازدواج بلا
شركة في الوطء.
ففي الوطء على التغالب فساد.
وفي الشركة ضياع النسل فإن الأب متى اشتبه عليه الولد بقي على
الأم وما بها قوة كسب الكفايات في أصل الجلبة.
(1/65)
وكذلك خلق النفوس وقدر بقاءها إلى آجالها
ولا طريق للبقاء غير إصابة المال بعضهم من بعض فقدر المحتاج
إليه لكل شخص لن يتهيأ له إلا بأناس آخرين وبما في أيديهم،
فشرع الله لذلك أسباباً للإصابة على تراض ليكون طريقاً لبقاء
ما قدره الله تعالى من غير فساد ففي الأخذ بالتغالب فساد.
ويدل عليه أن الله تعالى خلق الدنيا دار محنة وابتلاء بخلاف
هوى النفس على ما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
والعبادة أعمال بخلاف هوى النفوس، وما خلقها دار نعمة واقتضاء
شهوة، وإنما هي دار الآخرة للمؤمنين فعلمنا أنه ما شرع لنا
طريق الأكل والوطء وما يقضى من الشهوات بالأموال لأنفسها بل
لحكم تحتها ابتلانا بإقامته.
وفي الناس مطيع يعمل لله تعالى بلا شهوة له، وعاص لا يعمل فخلق
الله الشهوات مقرونة بها ليأتيها المطيع لحق الأمر، والعاص لحق
الشهوة فيتأدى بالفريقين جميعاً حكم قدرة الله تعالى فيكونوا
جميعاً في ما فعلوا مبتلين بها من الله تعالى بخلاف هوى
نفوسهم، فإن الله تعالى قدر أن يكون للنار خلق استوجبوها بما
كان منهم، وكذلك قدر أن يكون للجنة خلق استحقوها بما كان منهم
جزاء وفاقاً فحفت النار بالشهوات والجنة بالمكاره، فصار مرتكب
الشهوة مع الصابر على المكروه مبتلين بإقامة ما حكم الله تعالى
على ما قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس}
الآية وإنما كانوا لجهنم بما كان منهم من خلاف الأمر على سبيل
الاختيار وقال: {فسنيسره لليسرى} {فسنيسره للعسرى} وقال صلى
الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له" فصار كل منا مبتلى بعمل
خلق له في عامة أمره تقديراً أطاع الأمر أو ارتكب النهي
اثباتاً لقهر العبودية عليهم، وعظمة الألوهية تبارك الله
الواحد القهار.
فالمطيع في طاعة ربه لأول أمره مبتلى بخلاف هوى نفسه.
والكافر مبتلى في طاعة نفسه لإقامة حكم الله في عاقبة أمره،
بخلاف هوى نفسه إلا أن ابتلاء المطيع بالأمر وابتلاء الكافر
بالقدر والحكم لله الأكبر.
(1/66)
القول في العبادات
العبادات مؤقتة وغير مؤقتة.
فالمؤقتة: ما اختص جوازها بوقت عين، تفوت العبادة بفوته.
وغير المؤقتة: ما لم يذكر لها وقت وكان اعتباره لغواً في حق
جواز أدائها.
ثم المؤقتة على ضربين: ما كان الوقت شرطاً لجواز الأداء فيه،
دون أن يكون معياراً للفعل المأمور به.
وهو نوعان: وقت عين متوسع.
ووقت عين مشكل توسعه وتضيقه، والضرب الآخر ما يكون معياراً
للفعل المأمور به، وهو نوع لا يتصور أن يكون متوسعاً فصارت
أقسام المؤقتة ثلاثاً.
- وما ليست بمؤقتة: قسماً رابعاً.
أما الأول فنحو وقت الصلاة كالظهر والعصر ونحوهما.
فالظهر اسم معرفة لسعة من النهار ولا يشاركها سائر الطاعات فيه
فكانت معرفة وعيناً لا جهالة فيه بوجه، ولا جواز للأداء إلا
فيه، وهو متوسع لأنه يفضل عن أدائها إذا أداها بقدر المفروض
وليس بمعيار للفعل المأمور به.
والمعنى بالمعيار الوقت المثبت لقدر الفعل كالكيل في المكيلات،
وقدر فعل الصلاة لا يثبت بالوقت بل بأفعال معلومة مما يشاهد من
الفاعل من نحو القيام والركوع والسجود فيتم بها قدر ما أمره به
من الفعل لا أثر لقدر الوقت في إثبات قدرها بوجه، فإن العبد
متى قصر الأفعال تأدت بجزء قليل منه وإذا أطال ركناً منه مضى
الوقت قبل أداء ما بقي.
فصل
وأما المشكل فوقت الحج، فالوقت أشهر الحج وهو: شوال وذو القعدة
وعشر من ذي الحجة وهذه أسماء معرفة لشهورها تصير بها عيناً
كزيد وأحمد، والسبت والأحد للأيام، والظهر والعصر للساعات،
وهذا الوقت من سنته تلك لا يفضل عن حجة لأخرى لكن الحج يجب في
العمر مرة واحدة، والله تعالى ما عين أول السنة للأداء فيها
حتى يكون الوقت متضيقاً لا يفضل عن الأداء، ولا يعلم يقيناً
بالعشر سنين حتى يكون متوسعاً يفضل بعض الوقت عن الأداء
فسميناه مشكلاً إن مات فهو متضيق وإن عاش فهو متوسع.
فإن قيل: إذا عاش لم يكن الوقت عيناً والوقت أشهر الحج من سنة
من جملة سني عمره.
(1/67)
قلنا: إنما سميناه عيناً لأن الاسم في
الأصل اسم معرفة على ما قلنا، وإنما تحصل الجهالة بحكم
المعارضة كقولنا: زيد اسم معرفة، وإذا اجتمع رجال تسموا بزيد
صار المسمى به مجهولاً بحكم المعارضة، لا لأن الاسم في نفسه
نكرة فكذلك هذا وليس بمعيار على ما قلناه في الصلاة.
وأما المعيار فوقت الصوم فإن الصوم الشرعي لا يثبت قدره الذي
يتم عنده عبادة إلا بوقته وهو اليوم يتم بتمامه، وينتقص
بانتقاصه لا بفعل يشاهد من الصائم يعرف قدره بنفسه فإنه ترك ما
يتصور تقديره إلا بزمان يذكر.
ونظيره من المعاملات ذكر اليوم في إجارة الرجل نفسه يوماً بعمل
ما فإن اليوم معيار، لأن العقد وقع على منافع يومه، والمنافع
لا يمكن معرفة قدر لها بالإشارة إليها بل بزمان يذكر وإنما
تكون بذكر المدة، ونظير الأول رجل آجر نفسه ليخيط هذا الثوب
قميصاً بدرهم اليوم فإن اليوم لا يكون معياراً، لأن العمل الذي
يجعل الثوب مخيطاً قميصاً مما يعلم قدره بتغيير صفة الثوب
وتمامه بصيرورة الثوب قميصاً، وذلك معلوم من الثوب لا بالوقت
فلم يصر الوقت معياراً بل بياناً لطلب الأداء فيه.
ثم العين منه كرمضان فإنه اسم معرفة لذلك الشهر لا يشاركه سائر
الشهور من السنة فيه، فيكون عيناً معرفة لا جهالة فيه بوجه
والنكرة كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام} فالصوم مؤقت باليوم
لا يجوز تأديته بالليل، وقولنا يوم لتمييز جنس النهار عن
الليالي، وهذا الجنس يشتمل على أعداد كثيرة كل فرد منها يسمى
يوماً فكان كقولك: رجل ودرهم وكقوله تعالى: {فتحرير رقبة}
وكذلك قوله تعالى: {فصيام شهرين}، ولأن الشهر اسم لزمان أمد من
اليوم كاليوم من الساعة ثم هو في نفسه يشتمل على أعداد كثيرة
كل فرد يسمى شهراً.
فصل
ثم إن لكل وقت أحكاماً عرفت منه.
أما الوقت المعين المتوسع الذي ليس بمعيار كوقت الصلاة فمن
حكمه أن الواجب فيه يجب وجوباً متوسعاً لا يتضيق إلا لآخره، أو
دليل آخر كما ذكرنا في باب أهلية الآدمي لوجوب حقوق الله تعالى
عليه أن الوجوب في الذمة لا يوجب المبادرة إلى الأداء، لأن
الواجب للغير في الذمة لا يكون فوق الواجب له عيناً في بيته أو
في يده، ومتى وقع حق الغير في يد إنسان بغير صنعة لم يجب
التسليم إلى صاحبه إلا بعد الطلب، وكذلك إذا وجب بصنعه وهو غير
متعدي كالمشتري فإنه لا يلزمه أداء الثمن إلا بعد الطلب، ولكن
يحرم عليه الإفاتة لأن الحق للغير والإفاتة في خروج الوقت.
فمتى توسع الوقت لم يكن في التأخير إفاتة فلا يتضيق عليه
الأداء.
(1/68)
ومن الناس من ظن أنه لم يلزمه الأداء لأول
الوقت لم يكن الوجوب متعلقاً بأوله، وإنه غلط، لما ذكرنا أن
الثبوت في ذمته حقاً للغير غير لزوم الأداء، كما في الدين
المؤجل الحق ثابت لصاحبه عليه ولا أداء عليه كذا هذا ثبوت فعل
يسمى صلاة في ذمته حق لله تعالى غير الأداء الذي هو تسليم إلى
الله تعالى.
وكمن آجر لخياطة هذا الثوب قميصاً في هذا الشهر، صحت الإجارة
وصار العمل حقاً عليه لصاحب الثوب والعمل متوسع عليه في الشهر،
ولأن الوقت لما توسع وقد شرع للأداء فيه، ولا يقع إلا في بعضه
وذلك غير معلوم بالشرع، كان العبد بالخيار في الإيقاع في أي
جزء شاء، كما ان الله تعالى لما أمر بتحرير رقبة ولم يعين
واحدة يخير العبد في الإيقاع في أي رقبة شاء.
وكمن يقول لعبده: تصدق بدرهم اليوم يخير في ساعات اليوم إلا
بدليل آخر يعين عليه البعض دون البعض.
ومن حكمه: أن الخيار لا ينقطع بقول العبد: عينت هذا الجزء، لن
الله تعالى لم يفوض إليه ذلك، إنما له الخيار في التعيين
بالداء كالمكفر إذا عين رقبة للتكفير لم يتعين ما لم يعين
بالإعتاق.
وأما الإفاتة عن الوقت فحرام لأنه بمنزلة الإهلاك لعين مشار
إليها، وكان القضاء بعد الوقت غير ما وجب عليه يضمنه من عنده
بدل ما أفاته، وهذا حرام في كل حقوق الغير عنده إلا بإذن
صاحبه، وهذا التفويت بفوت الوقت حكم كل مؤقت لا حكم الوقت
المتوسع.
ومن حكمه: أن الوقت ما بقي بحيث يسع للأداء كان في حكم أول
الوقت في حق أن الوجوب على العبد للوقت القائم لا لما مضى، كأن
ما مضى لم يكن وقتاً لأن الوجوب لو كان لما مضى، ووقت الوجوب
شرط للأداء على ما مر فصارت الصلاة فائتة بمضي وقت الوجوب،
فلما لم تصر فائتة علم أنه يؤدي ما لزمه لوقته القائم حتى سقطت
الصلاة بكل عذر لو كان قائماً لأول الوقت، أسقطها إذا اعترض
بعد التمكن منها من حيض أو سفر او جنون أو موت.
ومن حكمه: أن فرضه لا ينفي صلاة أخرى من نفل او فرض لأن
الإيجاب يختص بالذمة حكمة بلا اتصال بشيء آخر سواها وفي الذمة
متسع فلم يجز أن ينتفي عن الوقت بسبب الإيجاب عبادة كانت فيها
مشروعة قبل الإيجاب، ولا اتصال لحكم الإيجاب به بوجه، ونظيره
رجل آجر نفسه من رجل ليخيط له هذا الثوب قميصاً بدرهم اليوم،
ثم آجر من غيره، صحا جميعاً لأن العمل استحق عليه في الذمة لا
اتصال له بالوقت فلم يضق الوقت عن أخر، وفي الذمة متسع.
(1/69)
فإن قيل: لو كان وقت الصلاة كيوم الإجارة
لما فاتت الصلاة بفوت الوقت كما لا تبطل الإجارة بمضي اليوم.
قلنا: إنما فاتت الصلاة لأن الوقت صار شرطًا للأداء كالطهارة
عرف ذلك شرعًا، والصلاة عبادة شرعية لا حسية، واليوم لا يكون
شرطًا للخياطة فإنها صفة حسية توجد بدون اليوم وليست بشرعية
ومن حكمه أن فرضه لم يتأدى بنية مطلق الصلاة لأن الصلوات
المشروعة فيه أنواع، فلا يتعين الواحد من الجملة إلا بدليل
معين.
ومن حكمه: أن الصبي إذا بلغ لآخر الوقت بحيث لا يمكنه الأداء
فيه لزمه الفرض، لما ذكرنا أن السبب جزء من الوقت وقد أدركه،
وبضيق الوقت عجز عن الأداء، والقدرة على الأداء ليس بشرط
للوجوب لا محالة على ما مر، وهذا كالمغمى عليه تلزمه الصلاة
بالوقت وهو عاجز.
فصل
وأما المشكل، وهو وقت الحج: فمن حكمه أنه إذا وجب مضيقًا لا
يحل له التأخير عن السنة الأولى عند أبي يوسف، وعند محمد يحل،
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان.
لمحمد رحمه الله: أن الحج فرض العمر، والعمر يشتمل على سنين
فيها أشهر الحج ما لم يقطع بالموت، والعمر ثابت والموت فيه شك
فلا يرتفع الثابت بالشك فيبقى حكمه على الحياة فيصير الوقت
متسعًا كوقت الصلاة، وهذا كما قلنا في صيام قضاء رمضان، وصيام
الكفارة أن للعبد التأخير لأن قضاء ذلك القدر يجب في العمر
كله، والعمر مشتمل على أيام وشهور كثيرة ما لم يقطع بالموت
وفيه شك فلم يثبت وبقيت الحياة حكمًا.
ولأبي يوسف رحمه الله: أن الأداء يفوت بفوت وقت الحج لا محالة
من تلك السنة، وإنما يرتفع الفوت بإدراكه سنة أخرى، وفي
الإدراك شك لأن حال عيشه سنة ليست بالأرجح من موته فيها فلا
يثبت الإدراك فيبقى على الفوت حكمًا فيحرم التفويت.
بخلاف ما لا وقت له من العبادات لأن الفوت بموته، ولا فوت
للحال لأنه حي، وقد وقع الشك في موته إن أخر لأنه ربما يموت
وربما لا يموت فلا يثبت بالشك فيبقى على أن لا فوت.
وبخلاف الصوم لأن الوقت وإن فات بمجيء الليل فلا يعود إلا
بالحياة إلى اليوم، وربما يموت فجهة الحياة أرجح لأن الفجاءة
نادرة في باب المنايا، وموت الإنسان في قدر ليلة أو يومين أو
ثلاثة من الفجاءة ولا يقع إلا نادرًا، ولما ترجح جهة الحياة
بقي عليها
(1/70)
كالمفقود بحكم موته إذا انقضت مدة يموت
فيها أقرانه لأن الحياة بعدها نادر فيترجح الموت.
فأما الموت على سنة أو شهر فلن يكون نادرًا للحي الصحيح، وإذا
لم يكن نادرًا لم تترجح جهة الحياة على جهة الممات، والفوت
ثابت للحال فلا يرتفع بالشك على أن الصيام التي تجب مطلقة غير
مؤقتة فذكر شهرين أو ثلاثة أيام لتقدير الواجب لا لتوقيته،
وإنما لا يجوز الأداء ليلًا لعدم العبد ما يؤدي به، فالصيام لم
يشرع ليلًا لعدم وقت أداء الكفارة، ألا ترى أنه لو أدى
بالإطعام يجوز وهذا كما يعجز عن الأداء إذا لم يملك الرقبة
ووجد ثمنها، وإن كان وقت الأداء قائمًا.
ومن حكمه: أن فرضه لا ينفي حجًا آخر لأنه لا فرق بين الحج
والصلاة على ما مر بيانه، إلا أن وقت الحج متضيق على أصل أبي
يوسف- رحمه الله- فيعتبر بوقت الصلاة إذا ضاق وإنه لا ينفي
صلاة أخرى.
فإن قيل: لو لم ينتف النفل بالفرض لما تأدى الفرض بنية مطلق
الحج كالصلاة.
قلنا: إنما لم تتأد الصلاة بمطلق النية لأن فيه صلوات مشروعة
ولم يكن بعضها بأولى من بعض شرعًا ولا عرفًا، فالشرع قدم
القضاء على الأداء وقدم السنن، وكذلك يفعل العرف.
فأما الفرض في باب الحج فمتعين أداء بالعرف والعادة، لأنا لا
نجد في العرف من يتكلف لحج بيت الله تعالى وعليه الفرض إلا
للفرض، فلما ترجح الفرض بالعرف انصرف مطلق تسمية الحج إليه كما
إذا باع شيئًا بدراهم، انصرف المطلق إلى نقد البلد مع بقاء
سائر النقود دراهم حتى إذا سماها ثبتت.
ولأنا لم نجد في العادات السليمة خروج أحد حاجًا وعليه حجة
الإسلام إلا لها فتثبت النية متعينة كذلك بالخروج نفسه، وتبقى
على ذلك ما لم يوجد منه ما ينافيها، والمطلق لا ينافيها فبقيت
الأولى وهي متعينة فصح الأداء بنية التعيين، وهذا كما تقول
فيمن أغمي عليه في رمضان ليلًا ولم يفق إلى يومين: أن صوم
اليوم الأول تام وإن لم يشعر بحاله، لأنا لا نجد في العادات
السليمة من أهل الإسلام إلا وأن يكون على نية الصوم أيام
الشهر، كما دخل الشهر، إلا أنها لا تصح قبل الليل فحكمنا بصحة
صومه بدخول الليل وإن لم يعلم بنيته لأن النية ثابتة بالعادة،
لا لأن الصوم يجوز بغير النية.
ومن حكمه: أنه إذا أحرم بعد سنين كان مؤديًا لا قاضيًا لأن
التضييق كان بحكم الإشكال على ما مر، فلما عاش ارتفع الإشكال
وصار بمنزلة وقت الصلاة.
فإن قيل: لو كان الوقت على حكم التضييق لما حل له تأخير
الإحرام عن أول أشهر الحج، كما لا يحل التأخير عن آخر وقت
الصلاة.
(1/71)
قلنا: لا تضيق في حق تلك السنة، فإن الوقت
لا يفوته إلا يوم عرفة بمنزلة وقت الصلاة.
ومن حكمه: أنه لا يسقط عن العبد إذا مات بعد التمكن من الأداء
بعد الوجوب، لأن الفوت ثابت بمضي الوقت من أول السنة الأولى،
وإنما يرتفع بإدراك وقت آخر من سنة أخرى فإذا مات ولم يدركه
تحقق الفوت بما أخر عن السنة الأولى، والتفويت موجب ضمان
القضاء لا السقوط، كما في الكفارات لا يبرأ عنها بالموت بعد
المكنة، لما في الموت من التفويت.
ومن حكمه أيضًا: الإثم إذا مات، أما على قول أبي يوسف فلأن
التأخير كان حرامًا.
وعلى قول محمد رحمه الله حل له بشرط ألا يصير مفوتًا وذلك
برجاء الحياة وإدراك وقت آخر، وإذا مات صار مفوتًا فذهب شرط
الإباحة فبقي حرامًا، والإباحات جائزة بشروط فيها حظر لأن
العبد إن شاء لم يستبح بالحظر كما أبيح للرامي رمي الصيد بشرط
أن لا يصيب مسلمًا أو مالًا محترمًا، وكان كمن أخر الصلاة بلا
عذر على تأويل أن في باقي الوقت سعة حتى ذهب الوقت فإنه يأثم.
وأما حكم الوقت الذي هو معيار، وهو وقت الصوم على ما مر فحكمه
أن لا يحل التأخير عن أوله لأنه لا يتأدى إلا في جميعه.
ومن حكمه: أن فرضه ينفي سائر الصيام عنه شرعًا، لأن الشرع إنما
يشرع من العبادات ما يتصور منا فعلها، لأنها أسماء لأفعالنا
تعظيمًا لله تعالى واليوم الواحد لا يتصور منا فيه إلا فعل صوم
يوم واحد لأنه مقدر به ومعيار لوجوده لا يوجد ببعضه ولا في
غيره، وإذا صار الذي يتصور شرعه فيه فعل صوم واحد وجعل بالشرع
فرضًا لم يبق فيه غيره، وإن كان فعل الأداء في الذمة كأن الله
تعالى يقول: جعلت ما يتصور من الصوم غدًا فرضًا لي بحق الوقت
عليكم.
وكمن استأجر رجلًا ليخيط له هذا الثوب قميصًا بدرهم فخاطه
الرجل يريد الإعانة كانت على الإجارة، وإن كان الإيجاب تناول
فعلًا في الذمة لا منفعة وقت الأداء إلا أنه أوجب في ذمته
خياطة ذلك الثوب قميصًا، وإنه لا يتصور فيه إلا خياطة واحدة،
وإذا صارت واجبة بالإجارة لم يبق غيرها فيه خياطة أخرى منه.
بخلاف وقت الصلاة لأن الوقت ليس بمعيار لفعل الصلاة على ما مر
بل هو شرط للأداء أو سبب، والشرط الواحد يصلح لصلوات وكذلك
العلة ولهذا يجتمع فيه صلوات يؤديها جملة فانقلاب إحداها فرضًا
لم ينف الأخرى كالرجل يؤاجر نفسه للخياطة قميصًا في يوم عيّنه
يمكنه أن يخيط لغيره فيه بإجارة، وكذلك له في ثوب آخر لأن
الوقت ليس بمعيار لعمله الذي سماه، إنما المعيار لعمله الذي
سماه هو الثوب فلا ينفي فيه منه
(1/72)
خياطة أخرى وتبقى في الوقت إذا كان المعيار
هو الوقت.
ومن حكمه: التأدي فيه بنية مطلق الصوم، لأن نية صفة الصوم
لتعيين الصوم بوصفه الخاص عن سائر العبادات والأعمال، وإذا لم
يكن في رمضان غير الفرض أصابه بمطلق الاسم الذي يعينه عن سائر
العبادات والأعمال، ولهذا قال زفر رحمه الله: إنه يؤدي بغير
نية لأنه متعين إلا أنا شرطنا النية لأن المتعين مشروع لله
تعالى من فعل الصوم علينا، لا ما يؤدي العبد الواجب عليه به،
فالواجب في الذمة، والعبد يؤديه بفعل مملوك له بجعله عمله لله
تعالى، فيتأدى به الواجب كدراهم في الذمة يؤدي من عليه بدراهم
له، فيتأدى به الواجب بعمله.
ولما لم يتناول الإيجاب عمله بقي له ولم يصر لله تعالى ما لم
يجعله العبد له بخلاف من آجر نفسه لخياطة ثوب قميصًا فخاطه لا
ينويها لصاحبه لأنه لما سلم إليه الثوب الذي أمره بتسليم العمل
إليه بجعله صفة له، والصفة تابعة للموصوف تعين العمل للأمر
بتعيين الموصوف له من غير قصد تعيين كمن آجر داره بدهم ثم قال
للمستأجر: رم ما استرمت من الأجر الذي لي عليك، فرمها تعين ما
أنفق فيها للآمر، لصيرورة المرمة صفة للدار المتعينة للآمر حسب
التعين بالصرف إلى الآمر.
فأما هنا فالوقت معيار لأداء الصوم من غير أن يصير الصوم صفة
له، فلا يتعين لله تعالى بتعين الوقت لله تعالى كرجل عليه
دراهم فدفع صاحب المال إليه ميزانًا ليزنها فوزن به لم يتعين
لصاحب الدين بتعين المعيار له، والوقت معيار يعرف به قدره لا
غير، ولكنه إذا فعله لله تعالى كانت عبادة، وذلك بقصده كفعل
الصلاة.
ومن حكمه: جواز الأداء بوجود النية في أكثر النهار، لأن الوقت
لما صار معيارًا للمشروع وللأداء أيضًا، فلا يتصور إلا بالوقت
كله لم يجز الأداء إلا من أول النهار إلى آخره، وأول النهار
وقت لا يوقف عليه أصلًا، ولا يوقف عليه إلا بحرج عظيم، والله
تعالى ما جعل في الدين من حرج فسقط اعتبار أوله وجعل مطلق
الإمساك موقوفًا على أن ينقلب صومًا إذا وجدت النية بعده بحيث
لا حرج فيه فمعنى الحرج يزول ببعض اليوم فصار عفوًا، وجوزنا
بالنية بعد البعض والباقي بعد البعض الأكثر من النهار، كما
قالوا جميعًا في النفل إلا أن الإمساك يقف على الصوم الذي هو
أصل في الوقت شرعًا، فلا ينفذ بالنية إلا عليه فإن كان الوقت
عينًا لفرض كرمضان ينافيه صوم غير الفرض فكان الوقت عليه. فنفذ
عليه.
وإن كان غير رمضان فالأصل فيه النفل فوقف المطلق عليه فلا ينفذ
على غيره.
ومن حكمه: أنه إذا نوى صومًا آخر كان عن الفرض لأن كونه صوماً
بصفة أخرى غير مشروع فيلغو نية الوصف كما يلغو ليلًا أصل
النية، وكما يلغو نية صفة الفرض في غير رمضان ولا فرض عليه
فتبقى نية مطلق الصوم لأنه مشروع فيقع عن الفرض كما لو أطلق
النية ابتداء.
(1/73)
ومن حكمه: أن الصوم لا يتأدى إلا في الوقت
كله لأنه معيار لقدره فلا يتم بدونه، كما لا تتأدى الصلاة ما
لم يتم بالأفعال التي نعقلها صلاة.
ومن حكمه: أن كينونة الصائم من أهل الوجوب شرط في جميع اليوم
ليجب عليه الصوم لأنه لا يتصور شرعًا إلا في جميع اليوم
ككينونة المصلي من أهل الوجوب عليه شرط في جميع أفعال الصلاة
لكون صلاته واجبة، إلا أنا نأمره بالصوم لأول الوقت لأنه أهل
للحال، وشككنا في تبدله فتبقى العبرة للحال، ولأنا لو انتظرنا
آخر أمره لفاته الوقت، ولم يمكن الأداء، والله تعالى أمره
بالأداء.
وقد اختلف علماؤنا بالمسافر إذا نوى صومًا غير صوم رمضان؟
قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن نوى صومًا واجبًا بنذر أو
كفارة أو قضاء صحت نيته، وإن نوى نفلًا قال في رواية: يصح.
وقال في رواية: لا يصح.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: صومه عن الفرض لأن الله
تعالى رخص للمسافر الفطر في رمضان ولم يسقط عنه أصل الوجوب،
بدلالة أنه إذا صام جاز ولو سقط الأصل وصار رمضان كشعبان لم
يجز، وكذلك لو لم يكن أهلًا للوجوب في رمضان لم يلزمه بالإقامة
نحو إن كان صبيًا فيه أو كافرًا ثم أسلم أو بلغ ثم أقام لم
يلزمه شيء، فثبت أن رمضان بقي سببًا للوجوب ومحلًا للأداء،
ولكن رخص له الفطر فإذا لم يترخص وصام التحق بالمقيم.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه: أنه يصوم القضاء ما ترك الترخص
بالفطر عن رمضان لأنه صرف الوقت إلى صوم هو ألزم فالقضاء عليه
وإن لم يقم وصوم الشهر لا يلزمه ما لم يقم حتى إذا مات قبل
إدراك العدة لم يؤاخذ به ويؤاخذ بالآخر، وإذا بقي مترخصًا تأخر
الوجوب عن رمضان وبالوجوب انتفى سائره فلم ينتف وصح الأداء.
أو نقول: لما لم يبطل الترخص بقي لأدائه وقتان: رمضان وعدة من
أيام أخر، فلا ينفي الفرض في أحدهما صومًا آخر في الآخر، كمن
استأجر رجلًا ليخيط له هذا الثوب أو قميصًا بدرهم أمكن للخياط
أن يخيط أحدهما تبرعًا والآخر بإجارة لأن المحل قد اتسع.
وأما إذا نوى المسافر النفل؟
فقال أبو حنيفة رحمه الله في رواية: صومه عما نوى لأن المحل
متسع على ما قلنا بل الوجوب متأخر إلى حين الإقامة ما لم يجعله
بقصد الفرض.
وفي رواية: يكون عن الفرض لأن صوم الشهر أهم من النفل لأنه
يلزمه بعد الإقامة
(1/74)
والنفل لا يلزمه بحال، فلما صرف الوقت إلى
صوم النفل صار تاركًا لرخصة الفطر عن صوم الشهر من كل وجه
فالتحق بالمقيم، وأما التي ليست بمؤقتة فالكفارات وقضاء رمضان
والزكاة.
فإن قيل: الصوم لا يتأدى إلا بالوقت فكان مؤقتًا!
قلنا: من حيث إنه صوم ما شرع الوقت إلا في النهار فلم يجز
ليلًا لعدمه شرعًا لا لعدم وقت التكفير، كما إذا حرر رقبة
عمياء لم يجز لأن عتقه لا يصلح كفارة لا لعدم وقت التكفير.
ومن حكمها: أن الواجب يجب متوسعًا نص عليه محمد- رحمه الله- في
غير موضع كما نص على الحقوق التي ليست بمؤقتة، وذلك نحو الزكاة
والنذور والكفارات المالية.
وذكر الكرخي رحمه الله: أن هذه المسائل كلها على الخلاف.
فعلى قول أبي يوسف رحمه الله؛ تجب متضيفة لأنه ربما يموت عقيب
الإمكان بلا فعل، فيكون هذا آخر الوقت فلا يحل له التأخير إلى
وقت تشككه في الخروج عنه، لأن اللزوم ثابت يقينًا، وكان هذا
بمنزلة وقت الحج الذي مر ذكره.
والصحيح عندنا ما قاله محمد بن الحسن رحمه الله، لأن الوقت غير
مذكور شرطًا فيصير العبد مأمورًا بالأداء في عمره فلا يتعين
عليه جزء منه إلا بدلالة.
والجواب عما قاله الكرخي رحمه الله: أن الأيام كثيرة وقد أمر
بصوم يوم من الجملة فكان خيار التعيين إلى العبد على ما مر،
والوقت مذكور لتقدير الواجب لا لبيان وقت الأداء فيصير على هذا
من جملة الواجبات المطلقة عن الوقت، وهو الذي يجوز في كل وقت،
فالعبد مأمور بالأداء في عمره فلا يتعين جزء منه إلا بدلالة.
والجواب عما قاله الكرخي رحمه الله: أن الفوت في هذه المسائل
بالموت لا غير، والحياة ثابتة للحال وقد وقع الشك في المستقبل
من الوقت فلا يزال الثابت بالشك فيبقى على حكم الحياة بلا
إشكال على قدر ما يجوز العمل به، ألا ترى أن المفقود في حكم
الأحياء فيما كان ثابت له فيعمل بذلك لأنا علمنا بحياته وشككنا
بموته فيبقى الحكم على الحياة ما لم يبلغ مدة لا يعيش إليها
أقرانه فيترجح بالعادة جهة الممات.
وكذلك الصلاة له أن يؤخرها ما لم يغلب في رأيه أن الوقت يفوت
إن أخره فيحرم إذا ترجح جهة الفوات في رأيه، ولا يحرم بالشك
ولكن إذا شككت فصل للحال
(1/75)
احتياطًا، وكذلك نقول في مسألتنا هذه، وهذا
كما نقول في الصائم إذا شك في الفجر ترك السحور احتياطًا فإن
لم يترك فصومه تام ولا يأثم.
فإن قيل: الوقت مذكور في التكفير بصوم شهرين.
قلنا: إنه ذكر لبيان قدر الكفارة كما مر أن الصوم لا يقدر إلا
بالأيام، وما ذكر شرطًا للأداء فبقيت مطلقة عن الوقت في حق
الأداء.
ومن حكمه: أن الواجب لا يفوت بالتأخير عن أول أحوال الإمكان
لأن الحال لم يكن شرطًا لأدائه بل الشرط يوم من العمر، وقد بقي
فكان بمنزلة وقت الحج لا يفوت ما لم يمت كما في تحرير رقبة لا
يفوت بموت رقبة عينها لأن الرقاب كثيرة، والواجب عليه نكرة من
الجملة والواجب في المطلق عمل في عمره وعمره ثابت للحال، وإنما
يفوت بالموت وفيه شك فلا يثبت بالشك فتبقى العبرة لبقاء العمر.
وهذا كما قيل: إن المفقود لا يورث لأن ملكه ثابت له فلا ينقطع
بالشك ولا يرث لأن ملك غيره لم يكن له فلا يثبت له بالشك.
وكذلك صوم شهرين للكفارة لأن ذكر الشهرين لتقدير العمل على ما
مر، لا لبيان الوقت حتى قيل في الماليات نحو الزكاة إذا مات
وأوصى وصحت شرعًا لم تصر فائتة لأن الأداء يصح بنائب عنه بأمر
صح منه شرعًا فلم يفت بالموت على ما مر.
ومن حكمه: أن الواجب لا يصير فائتًا بالتأخير كالصلاة إذا أخرت
عن أول الوقت إلا أنا أبحنا له التأخير بناء على ظاهر الحال،
وهو البقاء فإذا مات تبدل ذلك الظاهر فصارت العبرة لما آلى
إليه فضمن الفائت والله أعلم.
(1/76)
القول في منازل المشروعات حقًا لله تعالى
وبيان أحكامها
المشروعات حقًا لله تعالى في منازل أربعة:
الفريضة، والواجب، والسنة، والنافلة.
أما الفريضة: فعبارة عن المقدّرة، قال الله تعالى: {فنصف ما
فرضتم} أي سميتم وقدرتم وأوجبتم، فكانت الفريضة ما أوجبها الله
تعالى علينا وقدرها وكتبها علينا في اللوح المحفوظ، ولهذا سميت
مكتوبة وإنما جعلها مقدرة لتكون متناهية فلا يصعب علينا الأمر
فيدل الاسم على نهاية الوجوب من الأصل فلا يسمى بها إلا ما ثبت
وجوبه بطريق لا شبهة فيه، نحو أصل الدين وفروعه من الصلاة
والزكاة والصوم والحج فهن المكتوبات المثبتات بالكتاب والسنة
المتواترة والإجماع وما سواها اتباع لها أو شروط.
وأما الواجب: فعبارة عن اللازم لغة، ويقال الساقط، من قوله
تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت، فكأن اللازم سمي به لسقوطه
على الإنسان حتى لزمه، والمراد به في باب الشرع ما ثبت لزومه
بخبر الواحد الذي يوجب العمل دون العلم فيكون كالمكتوبة في حق
لزوم العمل به، والنافلة في حق الاعتقاد، حتى لا يجب تكفير
جاحده ولا تضليله، فكأنه سمي به لأنه يسقط على العبد عمله، ولم
يثبت كتابة الله تعالى علينا إياه وهو نحو العمرة وصدقة الفطر
والأضحية وشبهها.
فأما ما يلتزم بالنذر فهو غير محدود ولا مقدر كالنوافل، ويدل
عليه أنه قد ثبت من أصلنا أن الزيادة على النص نسخ والمكتوبات
معلومة بكتاب الله تعالى معدودة فالزيادة عليها تكون بمنزلة
نسخها فلم يجز إثباتها بخبر الواحد، فلذلك لم نجعل رتبتها في
الوجوب رتبة الفريضة حتى لا تصير زيادة عليها.
وقد قال علماؤنا رحمهم الله: إن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة
وليست بفريضة كأصل القراءة، لأن أصل القراءة ثبت بالكتاب
والفاتحة بخبر الواحد، وكذلك تعديل أركان الصلاة، وكذلك الوقوف
بمزدلفة في الحج، وكذلك الطهارة للطواف.
وأما السنة: فعبارة عن طريقة معتادة، والسنن الطريق البين، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من
عمل بها إلى يوم القيامة" وكلمة "من" تعم الناس فثبت أن السنة
من
(1/77)
حيث اللغة لا تخص طرائق الرسول، ولكنها في
عرف الشرع يراد بها طرائق الدين إما للرسول صلى الله عليه وسلم
بقوله أو فعله، أو للصحابة على ما نبين بعد هذا أن الرسول صلى
الله عليه وسلم متبع قولًا وفعلًا، وكذا الصحابة.
وسنة العمرين ظاهر إطلاقها في السلف حتى كانوا يأخذون البيعة
من الخلفاء الراشدين على سنة الرسول وسنة العمرين.
فأما بعد الصحابة فما لأحد طريق في الدين يتبع، وإنما يتبع
حجته وإذا كان كذلك لم يدل إطلاق السنة على أنها طريق رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا أنها واجبة لأن طرائق الدين
متنوعة من واجب وغيره، وكذلك قول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن
كذا لا يدل على أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان
ظاهرًا بينهم أمر الخلفاء إياهم وانقيادهم لهم على ما قال الله
تعالى: {وأولي الأمر منكم} وسيأتيك تمام بيانه في باب أفعال
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما النافلة: فعبارة عن الزيادة، والنفل: الغنيمة لأنها زيادة
حصلت بلا عوض، وولد الولد نافلة لأنه ربح ولده المكسوب، وزيادة
بلا صنع كان له فيه، وسميت زوائد العبادات من جهة العبد
النوافل لهذا المعنى، وهي التي يتعبد بها العبد زيادة على
الفرائض والسنن المشهورة، والنافلة والتطوع نظيران في متعارف
اللسان ويراد بكل واحد منهما عبادة ليست على العبد، وهذا لأن
التطوع في اللغة: عبارة عن التبرع بما ليس على الفاعل، فكان
بمعنى الزيادة على ما عليه.
وأما أحكامها
فحكم الفريضة: لزومها إيانا في حق القلب اعتقادًا بلا شبهة،
حتى كان تركه كفرًا، وفي حق البدن عملًا بها حتى كان تركه
عصيانًا، لأن تصديق العبد ربه بما جاء منه بقلبه إيمان فكان
الترك كفرًا، وأما العمل بالبدن فطاعة وليس بإيمان لأن الإيمان
تصديق بعد المعرفة، ولا معرفة لما سوى القلب بل لها إسلام لما
عرفه القلب فكان ضد الطاعة عصيانًا وفسقًا.
والفسق في اللغة: الخروج، يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها،
وفسق العبد إذا خرج عن أمر ربه، والكافر على هذا رأس الفساق
إلا أنه اختص باسم الكفر الذي هو فوق الفسق فبقي الفسق المطلق
في العرف لما دون الكفر في الخروج.
وأما الواجب فحكمه: حكم الفريضة في حق العمل بدنًا، وحكمه حكم
السنة في حق القلب علمًا، لما ذكرنا أن سبب وجوبه مما لا يوجب
العلم به فلا نكفر المخالف بتكذيبه، ولا نفسقه بتركه عملًا،
إلا أن يكون استخفافًا بأخبار الآحاد فنفسقه لوجوب المصير إلى
خبر الواحد بالإجماع على ما نذكره، ونؤثمه بترك الواجب لتركه
ما عليه.
(1/78)
وأما السنة فحكمها: قبل تبين أمرها أن
العبد مطالب بإقامتها معاتب على تركها من غير وجوب ولا افتراض،
لأن أدنى منزلتها أنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو
الصحابة، وهذه طريقة أمرنا بإحيائها، ونهينا عن إماتتها،
والإحياء في الفعل ما يستحق التارك الملام إلا أن يتركها
استخفافًا بها فيكفر أو يفسق لأن ذلك ينصرف إلى واضعها.
وأما النافلة فحكمها: أن يثاب على فعلها، ولا يذم على تركها
لأنها جعلت زيادة له لا عليه، بخلاف السنة فإنها طريقة رسول
الله صلى الله عليه وسلم فمن حيث سبيلها الإحياء كان حقًا
علينا فعوتبنا على تركها، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله_في
صلاة السفر_: أنها ركعتان، لأن العبد لا يلام على ترك الأخريين
أصلاً ورأساً، ويثاب على فعلهما في الجملة، وهذا حد النوافل.
وذكر أصحاب الشافعي أن السنة المطلقة عند صاحبنا تنصرف إلى سنة
الرسول، وأنه على مذهبه صحيح لأنه لا يرى اتباع الصحابي إلا
بحجة كما لا يتبع من بعده إلا بحجة، ويحتمل أنه لم يبلغه
استعمال السلف إطلاق السنة على طرائق العمرين والصحابة، لأنه
كان بعد أبي حنيفة رضي الله عنه بقرنين أو بقرن واستعمال أهل
اللسان سنن المتقدمين مما يختلف ببعد المسافة وطول المدة.
وكذلك لا يفرقون بين الواجب والفريضة، فإنه لما قال بوجوب
قراءة الفاتحة أفسد الصلاة بتركها، كما لو ترك أصل القراءة،
وكذلك تعديل الأركان، وكذلك لما قال بوجوب الطهارة للطواف، قال
بفساده أصلاً إذا تركها، كما قال في باب الصلاة، ونحن شبهناه
بالصلاة عملاً فألزمناه القضاء ما دام بمكة ولم نشبهه بها
علماً حتى إذا لم يقض لم يحكم ببقاء الطواف عليه، وكذلك إذا
طاف منكوساً لأن أصل الطواف ثابت بكتاب الله تعالى والتيامن به
بالخبر فلم يبلغه رتبته.
وكذلك إذا لم يطف حول الحطيم لأنه لم يثبت من البيت إلا بخبر
الواحد فوجب الطواف به عملاً لا علماً.
وكذلك السعي عندنا واجب وليس بركن في الحج حتى لو تركه جبر
بالدم لأنه وجب بخبر الواحد.
وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد_رحمهما الله_ في الحج إذا صلى
المغرب ليلة الإفاضة من عرفة في الطريق: أنه يعيدها في
المزدلفة فإن لم يعدها حتى طلع الفجر سقطت الإعادة، لأن
التأخير إلى مزدلفة ثبت بخبر الواحد فظهر في حق العمل دون
العلم، والعمل من الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث فعل صلاة
المغرب كان ليلة النحر في وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب الوقت
لم يكن عملاً بالسنة بل كان قضاء محضاً لوقوع الأول فاسداً
ونحن لم نعمل بذلك.
(1/79)
وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله- فيمن ترك
الفجر ثم صلى الظهر وهو ذاكر لما عليه-: إن ظهره فاسد وعليه
القضاء، فإن لم يقض حتى كثرت الفوائت فلا قضاء عليه لأنا أمرنا
بقضاء الظهر بخبر الواحد، لأن الترتيب لم يجب بالكتاب فظهر في
حق العمل دون العلم، والعمل بالترتيب بخبر الواحد ثابت عندنا
ما دامت الصلوات الفوائت قليلة، وإذا كثرت الفوائت فلا ترتيب
فلا يحجب بعد الكثرة عملاً بالخبر وإنما يجب لوقوعها فاسدة كما
في مسألة المغرب، ونحن لم نعلم به فما قاله الخصم أظهر، وما
قلناه أحق وأدق.
(1/80)
القول في العزيمة
والرخصة
العزيمة في اللغة: عبارة عن الإرادة المؤكدة غاية حتى كان
العزم يميناً.
وهي في أسماء أحكام الشرع: عبارة عن ما لزمنا من حقوق الله
تعالى بأسبابها من العبادات والحل والحرمة أصلاً بحق أنه إلهنا
ونحن عبيده فابتلانا بما شاء.
والرخصة في اللغة: عبارة عن معنى الإطلاق والسهولة ونحوها،
ومنه رخص السعر إذا تراجع وخف على الناس واتسعت السلع وكثرت
وسهل وجودها.
والمراد بها في عرف اللسان: إطلاق بعد حظر لعذر تيسيراً، يقال:
رخصت لك كذا: أي أطلقتك تيسيراً عليك لعذر بك، وهو المراد منها
في ألفاظ الشرع.
ثم العزيمة في أحكام الشرع لا تختلف أنواعها في اللزوم، لأن
السبب واحد وهو النفاذ علينا على ما أمرنا الله تعالى ونهانا
بحق أنا عبيده.
وأما الرخصة فتختلف أحكامها في اللزوم لأنها ثبتت بسبب العذر،
وأعذارنا مما يختلف.
وهذا الباب لبيان أنواعها وهي أربعة:
نوعان منها حقيقة، وأحدهما أحق.
ونوعان منها مجاز، وأحدهما أتم مجازاً.
فأحق نوعي الحقيقة: ما أبيح للعبد لعذر به مع سبب الحرمة وثبوت
الحرمة تيسيراً ودفعاً للحرج فإن الله تعالى ما جعل في الدين
من حرج، كإجراء كلمة الكفر على اللسان حال الكره فإنه مباح
لدفع الكره مع قيام الحرمة، فإنه من قبيل ما لا يحل بحال حتى
لو صبر فقتل أجر عليه، وكان أفضل لطاعته ربه في اتقاء ما حرم
عليه.
وكذلك الفطر في رمضان مكرهاً على هذا.
وكذلك ترك الأمر بالمعروف مخافة على نفسه بدليل أنه لو أمر
فقتل أو صبر عن الفطر حتى قتل كان مأجوراً لطاعة ربه في اتقاء
ما حرم عليه، وكان ضده مباحاً له لإحياء نفسه فلم يكن طاعة بل
كان مباحاً له تيسيراً عليه.
وحكمها: أن الأخذ بالعزيمة أولى لما فيه من طاعة الله، والآخر
مباح له.
والنوع الثاني: ما أبيح للعبد فعله مع قيام السبب المحرم، ولكن
بعد سقوط الحرمة لمانع اتصل بالسبب فمنعه أن يعمل عمله كالأجل
يتصل بالثمن فلا تجب المطالبة.
وخيار الشرط يتصل بالبيع فلا يجب الملك فإنه في الشرع كالفطر
للمسافر في
(1/81)
رمضان فإنه مباح له مع وجود سبب الوجوب وهو
شهود الشهر على ما مر بيانه.
ولكن بعد سقوط حكم السبب بالأجل إلى عدة من أيام أخر حتى إذا
مات قبل إدراك العدة لم يكن عليه شيء كما لو مات قبل رمضان،
ولو لزمه حكم السبب لما سقط عنه القضاء بالفطر بعذر كما في
الفصل الأول، وكالحائض.
وحكها: أن الصوم أفضل لأن السبب قائم وتأخر الحكم بالأجل لا
يمنع التعجيل لأنه حقها فيملك التعجيل معه إلا أن تلحقه المشقة
فيكون الفطر أفضل لأن الوجوب ساقط عنه شرعًا نفيًا للمشقة عنه
فيكون التعجيل مع المشقة ردًا لما أحسن الله تعالى إليه
بالإسقاط، فلم يكن حسنًا بخلاف الفصل الأول فإن حكم الله تعالى
عليه لازم وعليه القضاء، فلا يكون في الاشتغال في إقامته إيجاب
من قبله بل يكون فيه طاعة لله تعالى فما لزمه فكان حسنًا.
وأما المجاز: فأتم نوعيه ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي
كانت على من قبلنا على ما قال الله تعالى، فتكون فيه عند
المقابلة بمن قبلنا توسعة وترفيهًا وإنها معنى الرخصة، ولكن
لما لم يكن لعذر فينا بل لعدم الوجوب أصلًا لم يكن رخصة حقيقة
لانعدام معنى الموجب للتوسعة الذي يكون به رخصة وكان الاسم
مجازًا لوجود صورته.
وأما النوع الآخر: فما ثبت بشريعتنا ثم أسقط أصل الوجوب
تيسيرًا علينا بعذر، فمن حيث كان السقوط بعذر للتيسير بعذر كان
بمعنى الرخصة.
ومن حيث كان سقوط الحكم لسقوط الوجوب لا رفعًا للحكم بالعذر مع
قيام الوجوب لم يكن حقيقة، لأن حقيقته ما كان سقوط حكمه برفع
العذر لا لزوال سببه في نفسه.
وهذا مثل السلم فإنه جوز رخصة على ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم"
فهو رخصة تثبت للمحتاج إلى بيع ما ليس عنده لإعدامه ليدفع به
حاجته، فأبيح له وإن لم يكن المبيع عنده بعذر عدمه لكن على
طريق سقوط الحرمة عنه، حتى إذا لم يبع سلمًا وتلف جوعًا أثم
بربه لأنه لم يكن فيما أتلف نفسه مقيمًا حكمًا من أحكام الله
تعالى.
ومن نظيره المسح بالخف بعذر اللبس وزيادة مدة المسح للمسافر
بعذر السفر فإن الغسل ساقط لسقوط وجوبه، لأن الخف يمنع سريان
الحدث إلى القدمين حكمًا ولا وجوب غسل بلا حدث كما سقطت
الأغلال التي كانت على من قبلنا حكمًا بوضع الله تعالى عنا.
ومن هذا القبيل عندنا قصر الصلاة للمسافر، حتى إذا صلى الفجر
أربعًا كان كمن يصلي الفجر أربعًا، خلافًا للشافعي فإنه يقول؛
لا قصر إلا أن يختار العبد القصر كما خير
(1/82)
المسافر بين الصوم والفطر، قال: لأن وجوب
الأربع متعلق بالوقت إلا أن الشرع رخص لنا في القصر دفعًا
لمشقة السفر كما في الصوم.
بخلاف المسح على الخفين فإن الغسل للصلاة مقصور على محل الحدث
من العضو والخف منع الحلول.
قال: وغير مستنكر ثبوت الخيار للعبد بين الركعتين والأربع
كالذي حلف بصوم سنة فحنث، فإنه مخير بين صوم ثلاثة أيام، وبين
صوم سنة إذا كان معسرًا في قول الأكثرين.
وكذا أبو البنتين خير موسى صلى الله عليه وسلم بين الثمانية
والعشرة في مدة الإجارة وهذا لما فيه من فائدة التيسير على
المخير، إلا أنا نقول: هذه الرخصة من قبيل رخصة زيادة مدة
المسح بالسفر، ثم تلك الزيادة ثبتت شاء العبد أو أبى فإنه إن
لم يقبل لم ينتقض مسحه بمضي يوم وليلة فكذلك هذا.
وإنما قلنا أن هذه من قبيل تلك، لأن أصل الفرض هنا أربعة،
وبهذه الرخصة أسقط عنه ركعتان بلا بدل يلزمه، ولا إثم يلحقه
كما أن الفرض في باب المسح حال الإقامة أن ينزع خفيه ويغسل
قدميه بمضي يوم وليلة وبالسفر سقط عنه هذا النزع، وهذا الغسل
أصلًا بلا إثم يلحقه ولا بدل يلزمه، وتبين أنهما من جملة
الإسقاطات المحضة بحكم سقوط الوجوب نحو إسقاط الإصر والأغلال
التي كانت على من قبلنا فكانت رخصة مجازًا، وهو إسقاط حقيقة
الواجب لما لم يبق له حكم بوجه فلا يبقى الأصل عزيمة بعد سقوط
الواجب أصلًا.
ولأن الرخصة للترفيه على ما بينا ومعنى الترفيه فيما نحن فيه
متعين في القصر كما تعين معنى الترفيه في زيادة المدة في باب
المسح متى قوبل بحال الإقامة.
ولما أثبت الله تعالى هذا الحكم رخصة وقد تعين معناه في الثبوت
كما أثبت لم يبق للعبد خيار التعيين بخلاف رخصة الإفطار، لأن
الله تعالى أسقط عنه صوم الشهر بعدة من أيام أخر فعلم أنه ليس
بإسقاط محض، وأن أصل الواجب لم يسقط ولكن تأخر فبقي العمل بأصل
الواجب عزيمة وبالثاني رخصة.
ولأن الرخصة في رمضان لما كان بتأخير العمل لم يتعين معنى
الرفاهية في التأخير بل تردد لأن الصوم في الشهر مع الناس أيسر
في العادات، ولكن في السفر أشق والتأخير في السفر أوسع ولكن
الصوم بعده وحده أشق فثبت أن في الترخيص ضرب رفاهية فخير
تحقيقًا لمعنى الرخصة، وفيما نحن فيه ضرب من الرفاهية واحد
فتعين ثبوت الرخصة فيما فيه الرفاهية بلا خيار.
فإن قيل: إن الله تعالى رخص في أن تصدق علينا بشرط الصلاة وقد
ثبت ما أوجبه الله تعالى بلا تخيير لأحد وإنما الخيار في
القبول.
(1/83)
كما تصدق الله تعالى برخصة المسح بشرط
اللبس وللعبد خيار في اللبس.
وكما رخص في أيام الرمي في الحج بقوله: {فمن تعجل في يومين فلا
إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} فخير العبد بين
القليل والكثير.
وكما أن الله تعالى رخص لنا في أحكام علقها بسفر نختاره، كذلك
هنا رخص بصدقة علقها بقبولنا فكان الخيار ثابت فيما فوض إلينا
مباشرته ولم يلزمناه في ما شرع من تعليق الرخصة بالقبول فإنه
ماض ثابت.
قلنا: إن الرخصة في قصر الظهر لا في شيء آخر، وقد ثبت بقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها صدقة تصدق الله بها عليكم
فاقبلوا صدقته" والصدقة بالواجب في الذمة إسقاط كصدقة الدين
على الغريم وهبة الدين له فيتم بغير قبول، وكذلك سائر
الإسقاطات تتم بغير قبول، إلا أن ما فيه تمليك مال من وجه قبل
الارتداد بالرد، وما ليس فيه تمليك مال لم يقبل كإبطال حق
الشفعة والطلاق، وفيما نحن فيه ليس بمال، ولأنا لم نجد في أصول
الشرع سبب شريعة شرعها الله تعالى وعلق تمام ذلك السبب لما شرع
بنا حتى يصير ثبوت الشرع بسبب شرعه الله تعالى ونحن جميعًا
فيكون بالشركة فإن ثبوت الشرائع بالله تعالى وبرسوله.
والمشروعات ضربان: علل للأحكام مفوضة مباشرة العلل إلينا، كما
شرع الشراء علة للملك ومباشرته إلينا، والسفر سببًا للرخص
ومباشرته إلينا فكان المشروع علة وتمت العلة علة بشرع الله
تعالى لا بنا، وإنما يكون بنا أداؤها وقد يكون أحكامًا تتم
بالشرع وإلينا إقامتها.
والمشروع هنا سبب وهو السفر وإلينا تحصيل السفر، ثم حكمه وهو
القصر فعلينا العمل به.
فإما أن يكون لنا شركة في نصب الشرع بمشيئتنا فهذا لا نظير له
لأنه يخرج عن حد الابتلاء بالتعليق بمشيئتنا والله تعالى
ابتلانا بما شرع من الشرائع على حدودها، والابتلاء فيما يلزمنا
بلا مشيئة منا ألا ترى أنا لا نقول: أن الله تعالى ابتلانا
بالشراء والهبة لأن لا لزوم، ولكن نقول: ابتلانا بعقد أنه مباح
لأنه يلزمنا ذلك، وابتلانا بأحكامها إذا باشرناها لأنها
تلزمنا، وابتلانا بأنا لا نملك إلا بسبب لأنه حكم يلزمنا ويصير
هذا كقوله: اقصروا الصلاة إذا شئتم، وما ورد به أمر في شيء من
الشرائع فكان التعليق بالمشيئة تمليكًا لأن المالك هو الذي
يتصرف عن مشيئته، ولم يكن أمرًا واستعبادًا ولا ابتلاء ويكون
تفويضًا إلينا نصب الشريعة.
(1/84)
فإن قيل: هذا يعم في الإجابات، أما
الإسقاطات فلا ابتلاء فيها فيجوز التعليق.
قلنا: في الإسقاط ابتلاء بالاعتقاد فإنه لا يتصور الفرض أربعًا
وإن صلى، والابتلاء قد يكون بالفعل، وقد يكون بالعقد ولا بد من
ثبوته مع أوامر الله تعالى.
فإن قيل: هذا من الله إباحة للقصر، وما في الإباحة ابتلاء إلا
من حيث اعتقاد أنه غير لازم وهذا الاعتقاد عندنا لازم ما بقيت
الإباحة، وقد وقتت بوقت الأداء باختيار العبد القصر مؤديًا
الذي هو سبب سقوط الزيادة.
قلنا: اختيار العبد القصر مؤديًا اختيارًا لسقوط الزيادة، فما
القصر إلا عبارة عن إسقاط البعض وقد ذكرنا أن الشريعة لم تبن
على ثبوت الأحكام المشروعة باختيارنا، ألا ترى أنا لا نجد
فرضًا يسقط باستباحة العبد تركه قصدًا، وإنما يستبيح بمباشرة
سبب شرع بسبب إسقاط.
وعلى هذا باب الرمي في الحج فإن الله تعالى شرع الإقامة سببًا
لوجوب الرمي عليه.
وتعجل النفر سببًا للسقوط فكان لنا الخيار في مباشرة السبب لا
في نفس الإسقاط، وليس هذا كالعبد إذا أذن له مولاه في الجمعة
إن شاء صلى الجمعة، وإن شاء ترك لأن الجمعة غير الظهر لا يصح
أداء إحداهما بنية الأخرى، وتعتبر للجمعة شروطًا لا تعتبر
للظهر فجاز أن يشرع له الخيار في تعيين إحداهما فإن الله تعالى
نص على مثله في كفارة اليمين.
فأما هنا فالصلاة واحدة، بدليل اتفاق الاسم والشروط إلا أن
صلاة الظهر في السفر أقصر وإذا كان واحدًا وقصر في السفر لم
يبق له الخيار فإن الخيار لا يتصور إلا بين الشيئين، ولا يشتغل
به وإن تصور بين شيئين متماثلين لأنه لا فائدة فيه.
واعتبره بمعاملات الناس، فإن المشتري إذا وجد بالسلعة عيبًا
خير بين رده بالثمن وبين إمساكه لأنهما شيئان.
ولو اشترى عيبًا لم يره خير بين رده بالثمن وإمساكه لأنهما
شيئان، ولو كان سلمًا وقبض لم يكن له الخيار لعدم الرؤية لأنه
لو رده لعاد في مثله لا في رأس المال والعبد إذا جنى خير
المولى بين دفعه والفداء بالأرش لأنهما مختلفان، ولو كان
مدبرًا لا يحتمل الدفع لزمه الأقل من قيمته ومن الأرش، ولم
يخير لأنهما مثلان، وإن كانا غيرين فصار الضمان واحدًا بعضه
أقل وبعضه أكثر فلم يستقم إثبات الخيار بين الأقل وبين الأكثر
لأنه لا يفيد إذ لا فائدة في نفس اللزوم تحسن في الحكمة، وما
في الأكثر إلا زيادة لزوم.
وليس هذا كاليمين بالصوم سنة فإنه يخير بين صوم سنة نذرًا وصوم
ثلاثة أيام كفارة يمين فإنهما مختلفان حكمًا ففي الكفارة معنى
الزجر والعقوبة، وما في النذر ذلك.
(1/85)
فأما قصة موسى فإنه خير في فعل ما جعل الله
إليه إيجابه وإنما أنكرنا نحن فيما هو مشروع الله تعالى ولم
يجعل للعبد ولأنه خير في فعل ما ليس عليه من معنى زائد، والعبد
أبدًا مخير في فعل ما ليس عليه، وإنما أنكرنا إثبات الخيار بين
الأقل والأكثر فيما عليه لسقوط الفائدة.
فإن قيل: في العبادات فائدة لأنه في الأكثر زيادة ثواب، وفي
الأقل زيادة سعة ورفاهية بخسران ثواب فيختار إما السعة وإما
الثواب.
قلنا: أحكام الدنيا لا تبنى على الثواب فإنها من أحكام الآخرة
بل على ما نفعله في الدنيا من لزوم ونراه في الأداء كما في
حقوق العباد.
ولأن صلاة السفر في إيجاب ثواب الظهر مثل الأربع لأنه كل فرض
الوقت والشأن في أداء الكل لا في زيادة العدد، ألا ترى أن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة؟ فقال: "جهد
المقل" لأنه أدى كل ماله.
وقد ذكر محمد بن الحسن في كتاب الإكراه: إن من أكره على أكل
ميتة فصبر حتى قتل؛ أثم، ولو كان مكرهًا على أكل طعام الغير
فصر حتى قتل لم يأثم، لأن رخصة الميتة عند الضرورة رخصة سقوط
التحريم لأن الله تعالى استثناها من التحريم فلا يصير مطيعًا
ربه على إقامة حكمه بالصبر، ورخصة أكل مال الغير عند الضرورة
رخصة ترفيه مع قيام الحظر لحق المالك فيصير بالصبر مقيمًا حكم
الله تعالى فلا يأثم. فمحمد- رحمه الله- سمى النوع الثاني رخصة
دون الأول على اعتبار الحقيقة.
(1/86)
القول في الأداء
والقضاء
إن الأداء: اسم لفعل تسليم ما طلب من العمل بعينه.
والقضاء: بمثل ذلك العمل من عند المطلوب منه.
قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}
وإنه في تسليم أعيانها إلى أربابها، ويقال للغاصب_ إذا رد
المغصوب بعينه_ أدى إلى صاحبه حقه.
وإذا استهلكه وسلم المثل يقال: قضاه حقه.
ويقال: أدى الصلاة لوقتها لأنه أتى بعين الواجب من العمل
المطلوب منه، وقضاء الفائتة لأن العين فائتة بفوات الوقت،
وإنما جعل العبد صلاة من عنده قائمة مقام ما ضمن بالفوات.
ثم الأداء نوعان:
واجب: كالفرض في وقته.
وغير واجب: كالنفل، والقضاء على ما فسرنا لا يتصور إلا واجباً،
لأن النفل لا يضمن بالترك غير أنه نوعان:
أ- مثل مشروع معقول.
ب- ومثل مشروع غير معقول.
فتصير الأنواع أربعة.
وقد يستعار القضاء لأداء الواجب لما فيه من إسقاط الحق كما في
القضاء.
ويستعار الأداء للقضاء لما فيه من التسليم، ولهذا اختلف
المشايخ المتأخرون في قضاء العبادات؟
فقال بعضهم: لا يجب إلا بالنص لأن الفائتة عبادة فلا تقضى إلا
بمثل هو عبادة، ولا يصير المثل عبادة إلا بالنص.
والجواب عنه: أن مثل الواجب لا يصير عبادة إلا بالنص ولا كلام
فيه، وإنما الكلام في عبادة شرعت عبادة بوقت علم إنها شرعت
عبادة لذلك الوقت أو لسبب آخر وقد وجد السبب: أيجب بتفويت
الواجب مثله قياساً من غير نص؟.
فنقول بأنه يجب لأن الله تعالى قد أوجب في باب الصيام والصلاة
القضاء بالمثل في الوقت الذي علم سبباً لشرع مطلق الصوم،
والصلاة عبادة فيقاس عليهما غيرهما.
(1/87)
وكذلك الله تعالى جعل لمن عليه حق العباد
أن يخرج عنه بعين الواجب وبمثله حتى يجب على صاحبه الحق أخذ
المثل كما يجب أخذ العين نظراً لمن عليه الحق ليخرج عن عهدة
الواجب، فلما كان كذلك في حقوق العباد ففي حقوق الله تعالى
أولى لأنه أكرم.
ثم الشرع فرق بين وجوب القضاء والأداء حكماً فجعل من شرط وجوب
الأداء مكنة الصبر منه حكمة وعدلاً فقال: {لا يكلف الله نفساً
إلا وسعها} ولأن المطلوب بالأمر فعل مختار على ما عرف، ولا
اختيار بدون القدرة والمكنة، ومكنة المال بملك المال لأنه لا
يتأدى ما هو عبادة بمال غيره، وإن أذن صاحبه، وغير العبادة وإن
كان يتأدى بمال الغير فلا يقدر عليه من عليه الحق بدون الإذن
من صاحبه، ويتأدى بدون قدرة بدنه فإنه يأمر غيره بالأداء من
ملكه فيصح، وإن عجز هو في نفسه ومكنه البدني بقدرة بدنه لأنه
لا يتأدى ببدن غيره بحال.
ثم المكنة التي هي شرط وجوب الأداء حكمة وعدلاً ما لابد لأداء
الواجب منه وهي بوجودها بالعمر بقدر ما يتمكن من الأداء بها
لجواز الإيجاب على أن يكون الأداء متأخراً عنه إلى حين، فإن
كانت المكنة قائمة عند الوجوب ثم زالت بعد التمكن من الأداء لم
يسقط الواجب بزوالها، لأن العجز جاء من قبل العبد بالتأخير مع
الإمكان فاعتبر في حق الوقت الذي هو ظرف الفعل قدر الإمكان،
كما اعتبر في حق الآلة التي يؤدى بها بقدر الإمكان فإن مات بعد
أن تعذر أن يقدر، أثم لما فيه الفوت بتأخيره مختاراً ولم تكن
الإباحة عذراً له، لما ذكرنا في تأخير الحج على أصل محمد رحمه
الله، ولم يأثم قبله لأنه تأخير وإنه مباح له ما لم يصر
تفويتاً على ما مر أن نفس الوجوب لا يوجب البدار إلى الأداء
لازماً إلا بطلب صاحبه، وإن لم تكن المكنة قائمة عند الإيجاب
ولم يقدر حتى مات لم يؤاخذ به لأنه لم يصيب المكنة وإنها شرط
ليجب الأداء، وما لم يجب لم يأثم بتفويته.
ومن الأداء ما لا يجب إلا بقدرة زائدة على المكنة ميسرة للأداء
رحمة من الله تعالى وفضلاً على ما قال الله تعالى: {وما جعل
عليكم في الدين من حرج} وقال: {ويضع عنهم إصرهم}.
ومن حكم هذه القدرة: أن دوامها شرط لبقاء أداء الواجب كما
يشترط للابتداء بخلاف الأولى لأنها شرطت بقدر المكنة، وإنها
تحصل بالتمكن من الأداء فلم تشترط أمد منه، وهذه شرطت ميسرة
وهي في الزيادة على قدر المكنة فلم يتقدر الوجوب بقدر المكنة
من الفعل في حق الوقت الذي هو ظرف كما لم يجب بقدر الممكن من
حيث الآلة التي بها يتأدى فبقي متعلقاً بالزيادة عليه، وهي في
الدوام، ولأن القدرة الميسرة متي شرطت للوجوب كانت مغيرة لصفة
الوجوب بأن تجعله خفيفاً سهلاً بالحال التي تعلق الوجوب بها
(1/88)
التي تثبت له بها زيادة القدرة، وإذا وجب
خفيفاً لا يبقى إلا كذلك، كما إذا وجب بقدر ناقص لا يبقى إلا
كذلك وبيانه فيما قال علماؤنا: أن العشر يسقط بهلاك الخارج بعد
التمكن من الأداء، لأن الوجوب متعلق بسلامة الخارج وبه إثبات
تيسير الأداء لا الإمكان فإن الإمكان ثابت بمال آخر ولكنه من
الخارج الذي هو نماء أيسر لئلا ينقص أصل ماله به، وكذلك الخارج
لا يجب بإمكان الأداء نفسه فإن لا يجب إذا أهلك الخارج أو إذا
نزت الأرض، وفسدت قبل وقت الوجوب وإن أمكنه الأداء بمال آخر،
وإنما يجب إذا سلم له الخارج حقيقة أو اعتباراً وهو في أن يكون
بحيث لو انتفع بها سلم له الخارج، ولكن حرم بسبب أنه لم ينتفع
به فاعتبر سالماً حكماً بقيام صلاحها له وفوت السلامة من قبله
لا بأنه لم يزرع ولم يأمر، ولما تعلق بسلامة الخارج صار
كالعشر.
وكذلك لا يجب الخراج إذا قل الخارج إلا الأقل من الموظف، ومن
نصف الخارج ليكون بعض الخارج له على كل حال، ولا ينتقص به أصل
ماله إلا بسبب تقصير جاء منه في الانتفاع بالأرض.
وكذلك الزكاة تسقط بهلاك النصاب بعد التمكن من الأداء لأنها لا
تجب إذا هلك قبل التمكن، وإن قدر على الأداء بمال آخر فثبت أن
الشرط سلامة النصاب لتيسير الأداء عليه بقليل من كثير مال نام
ينجبر ما انتقص منه بالأداء بنموه إلى زوائد في سنته في الأغلب
فصار كالعشر أيضاً فيشترط دوام القدرة بذلك المال ما لم يفت،
ولا فوت بالتأخير لأنه غير مؤقت.
وكذلك دوام القدرة على التفكير بالمال شرط لبقاء وجوبها على
العبد لأن الله تعالى لما أسقط المالية إلى الصوم بعدم المال
عند الوجوب علم أن الشرط لوجوبه ليس أصل المكنة فأصلها مما
يثبت بعده في العمر على ما مر، ولكن الشرط قدرة ميسرة حال
الوجوب حتى سقطت بالعدم إلى الصوم ليبرأ عنها بصوم الممكن ولا
تبقى تحت عهدة الوجوب إلى أن يقدر في الثاني، ولما صار الشرط
قدرة ميسرة اعتبرت دائمة ما بقيت أداء، والكفارة غير مؤقتة فلا
تصير فائتة بالتأخير، بخلاف موت صاحب المال فإن الموت مانع من
الوجوب، ولا تسقط إذا طرأ لأنا نشترط حياته للوجوب لا للقدرة
تحريم الأمر الميسر للأداء، فأداء المالي بماله لا بحياته؛ ألا
ترى كيف يجوز الأداء بعد موته إذا أوصى به، ولكن لا وجوب إلا
في الذمة، ولا ذمة إلا مع الحياة.
وبخلاف صدقة الفطر فإنها لا تجب بدون مال محرم للصدقة وبدونه
يبقى واجباً إذا هلك المال بعد التمكن من الأداء لأنا نشترط
قيام الغنى بالمال للوجوب لا للأداء، ولأن الصدقة لا يستقيم
إيجابها شرعاً إلا على غنى، كما لا يستقيم إيجابها إلا على
مؤمن لأنها ما شرعت إلا لإغناء الفقير وكفاية المحتاج بدليل
أنها لا تتأدى إلا بمال يصرف إلى الفقير
(1/89)
المحتاج بالتمليك ليدفع به إذا ملك ما شاء
من وجوه حاجته، ولم يتأدى بالغنى الذي لا حاجة به، ولا بغير
المال الذي لا يدفع حاجة الفقير.
ولما شرعت للإغناء عن الفقر لم يكن الفقير أهلاً لوجوبها عليه
فتصير مشروعة لأحواجه بخلاف الكفارة فإنها شرعت للتكفير عن
ارتكاب المحظور بدليل أنها تتأدى بالصوم الصالح للتكفير، وإن
لم يصلح للإغناء ولكن الإغناء صالح للتكفير لأنه عبادة أيضاً
يصلح للتكفير فيصير الإغناء آلة للتكفير لا أن تكون الكفارة
شرعت للإغناء فلذلك لم نشترط الغنى بالمال لوجوب الكفارة، بل
جعلها الشرط من يصلح لثواب العبادة، فالتكفير يقع بالثواب.
ولما ثبت بالدليل أن الغنى بالمال شرط للوجوب لم يشترط للأداء
بل يشترط للأداء نفس المكنة، والزيادة لا تثبت إلا رحمة بدليل
زائد فإذا تمكن من الأداء تقرر الوجوب ولم يشترط دوامها لبقاء
الواجب لما ذكرنا.
وكذلك قيام كمال النصاب شرط للوجوب عند الحول ويبقى بعض الواجب
بعد هلاك بعض النصاب بعد الحول، لأن الكمال شرط للوجوب لا شرط
للأداء لما ذكرنا أن الغنى شرط لوجوب الصدقة فأكد الشرع هذا
الشرط في باب الزكاة، ولم يجعل الغنى أهلاً لوجوب الزكاة إلا
إذا غني بالمال الذي جعل سببا لوجوب الزكاة، ولا يغنى به الغنى
المحرم للصدقة لولا مال آخر إلا إذا كان نصاباً كاملاً.
والدليل عليه: أن أداء الواجب وهو ربع عشر النصاب لا يتيسر
بكمال النصاب فإن انتقص أو كمل لم يؤد إلا ربع عشر ما عنده من
المال النامي، ونحن شرطنا دوام الشرط الذي يتيسر به الأداء لا
ما لا يتيسر به الأداء.
وكذلك الحج لا يجب إلا بشرط الاستطاعة بملك الزاد والرحلة
ويبقى بدونها إذا فات بعد التمكن من الأداء لأن الشرط من
الاستطاعة بقدر المكنة من السفر المعتاد بزاد وراحلة، لا بما
يتيسر زيادة يسر على المعتاد من محمل وخدم ونحوها.
وقدر المكنة معتبر في حق الوقت بقدر التمكن من الأداء فيه على
ما مر، ولا يلزم إذا استهلك المال، فإنه لو استهلك النصاب قبل
الوجوب لم يجب.
ولو استهلك بعده لم يسقط لأنه إذا استهلك قبل أن يجب لم يضمن
شيئاً لأن المال خالص له.
وإذا استهلك بعدما وجب صدق بعضه إلى الفقير ضمن مثل ما صار
محلاً لزمه تمليكه وصرفه إلى الفقير، وهذا كعبد جنى جناية ولزم
المولى دفعه فأعتقه قبل العلم به ضمن قيمته لأنه صار واجب
الصرف إلى الولي، وإن لم يصر ملكاً له فضمن بالاستهلاك مثل
الواجب بعينه فيكون قضاء لا أداء.
(1/90)
وكذلك إذا عين شاة ليضحي بها ثم استهلكها
ضمن شاة أخرى مثلها، وإن كانت الأولى في ملكه لأنها تعينت
لأداء الواجب منها، ولأنه بالاستهلاك يريد إسقاط ما عليه
باختياره فيه فيصير متعدياً في حق الواجب فلم يعذر، وجعل كأنه
لم يستهلك وإن كان الهلاك مسقطاً، ألا ترى أن الصائم إذا سافر
لم يسقط عنه وجوب الصوب ولو مرض سقط، وهما سواء في الإسقاط قبل
الشروع لأن السفر باختياره كان، ثم القضاء بالمثل يجب على ما
مر، وإنما قصر على المثل لأنه يجب انتصافاً منه على تعديه
بالتفويت، معنى الانتصاف يفوت بالزيادة على المعتدي والنقصان
لصاحب الحق فوجب المثل ليكون عدلاً فمجازاة العدوان واجبة
بالعدل، وإيجاب القضاء مجازة والعفو جائز فضلاً إن شاء صاحبه.
فإذا عرفنا هذا وجب قضاء الصلاة الفائتة بمثلها، لأن مثلها
صلاة هي عبادة مشروعة في كل وقت فأمكن العبد قضاءها بالمثل.
وكذلك الصيام في الأيام والصدقة في كل مال.
وكذلك الحج في وقته والأضحية في أيامها فإذا عين واحدة
واستهلكها ضمن مثلها.
وكذلك الرمي في أيامه في الحج فإذا لم يضح بها حتى مضت الأيام
لزمه التصدق بها ولا يخرج بالتضحية وإن عاد الوقت في السنة
القابلة لأن الشاة في الأصل محل التقرب إلى الله تعالى بالصدقة
إما واجبة في باب الزكاة، وإما نذراً، وإما تطوعاً وبأيام
النحر جعلت محلاً للتقرب بالتضحية قائمة مقام الصدقة مخصوصة
بهذه الأيام لأنا أمرنا بها مقدمة على الصدقة، فإذا ذهبت
الأيام وجب القضاء بالصدقة.
ألا ترى أنه لو جز صوفها حتى لم يمكن التقرب في حقه بالإراقة
وجب التقرب بالصدقة لأن شرع الله تعالى التضحية مكان الصدقة
دليل على ضرب مماثلة حتى صلحت للقيام مقام الصدقة.
ولما تعينت الصدقة لم تعد إلى المثل بعود الوقت، كمن استهلك
رطباً فذهب أوانه وقضى عليه بالقيمة له لم يعد إلى الرطب بمجيء
أوانه.
وكذلك الرمي في الحج إذا فات عن وقته قضى في أيامه لأنه مشروع
عبادة في تلك الأيام وإذا ذهبت الأيام وجب الجبر بالشاة عيناً
شرعاً فلا يعود الرمي، وإن عاد الوقت.
وأما إذا عجز عن قضاء الصوم بالصوم فالقياس أن لا يقضي بالمال
لأنه غيره اسماً ومعنى ولكنا أوجبناه إذا أيس عن الصوم بالشرع
بخلاف القياس.
وإذا عجز عن الحج بنفسه كان القياس أن لا يقضي بالإحجاج لأن
الذي يؤديه بالإحجاج مال، وإنه غير الحج إلا أنا جوزنا بشرط
اليأس عن الحج بالشرع.
(1/91)
وأما الصلاة فلا نص فيها فقلنا تقضى بما
يقضى به الصوم لأنها بالصوم أشبه لأنها عبادة بدنية محضة لا
تعلق لوجوبها ولا لأدائها بالمال، بخلاف الحج لأنه لا يجب إلا
بعد ملك الاستطاعة ولا يتأدى بدون المال للنفقة والراحلة.
فإن قيل: أليس قضاء الصوم بالمال ليس بقياس فكيف قستم عليه
الصلاة؟
قلنا: إن الندم على ما فات والتوبة مما يمحو الذنب بينه وبين
ربه تعالى إذا لم يقدر على زيادة أمر سوى التوبة إلا أنهم
أوجبوا فدية الصوم احتياطاً لقدرته عليها حتى إذا كانت كالصوم
عند الله تعالى لم يبق تحت عهدة المال.
وعلى هذا المثال وجب الخروج عن حقوق العباد فإن الغاصب يلزمه
الخروج عن ضمانه برد العين، فإن عجز عنه بفواته رد مثله صورة
ومعنى، فإن عجز عنه بتفاوت جنس ذلك العين رد قيمته التي هي
معنى ذلك العين وبه صار مضموناً بالغصب.
فإن لم يكن أصل الحق مالاً نحو المنكوحة أمة كانت أو حرة أو
رجلاً عليه قصاص عبداً كان أو حراً لم يضمن بالغصب لصاحب ملك
القصاص، وملك النكاح إلا في حق تسليم العين فإذا هلك العين فلا
يضمن شيئاً في الدنيا.
وكذلك إذا شهد شاهدان على ولي القصاص أنه عفا عن القصاص وقضى
القاضي به ثم رجعا لم يضمنا شيئاً للولي.
وكذلك إذا شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً وقضى القاضي به
ثم رجعا وكان دخل بها لم يضمنا شيئاً، وإن أتلفا الملك
بالشهادة لأن المتلف لم يكن مالاً فلا يكون المال مثلاً له لا
صورة ولا معنى فمعنى النكاح إقامة النسل والسكن، ومعنى المال
مصالح البدن. لذلك قال علماؤنا رحمهم الله: إن المنافع لا تضمن
بالإتلاف بعد قولهم أنها أموال حتى كان عقد الإجارة وارداً
عليها، وعقد الإجارة من التجارة والتجارة لا تكون إلا بعقد
المال بالمال.
وكذلك قالوا: لا يثبت الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عن المنفعة
وثبت ديناً بدلاً عما ليس بمال من العتاق وملك النكاح وملك
القصاص لأن ضمان الإتلاف مقيد بشرط المماثلة، وما للمنافع مثل
إما من جنسها فلا إشكال، وفيه إجماع لأنها تحدث ساعة فساعة من
أعيان متفاوتة فكذلك هي تتفاوت بحسب تفاوت الأعيان.
وأما من الدراهم والدنانير فلأنها في الجملة خير من المنافع
ذاتاً لأنها من جملة الجواهر، والمنافع أعراض، والجوهر خير من
العرض ذاتاً في الجملة لأن الأعراض قيامها بغيرها والجواهر
تقوم بنفسها فكانت الأعراض منها كالتبع من المتبوع.
ثم هذا التفاوت وإن كان عفواً في التجارات في حق المالية حتى
كانت المنافع في الأسواق في حكم الأعيان في حق المالية يبادل
أحدهما بالآخر بلا حرج.
(1/92)
وكذلك الوصي يبادل عن مال اليتيم بالمنفعة
فيجوز.
وكذلك في العقود الفاسدة التي توجب ضمان المثل توجب الدراهم عن
المنافع فإنه لا يعفى في حق ضمان الإتلاف لأن ضمان التجارة على
ما يتراضى عليه الناس في الأصل دون المعادلة والمماثلة، ولكن
الشرع ربما حجر على بعض التجار الذين أطلق لهم بشرط النظر إن
يأتوا بخسر هو خسر في عرف التجار فما لا يتعارف خسراً في
الأسواق لقلة التفاوت وتعذر إقامة السوق مع اعتباره كان عفواً
لأن التجارة أمر مشروع لا تقوم بدونها مصالح الناس فلا يبتنى
على ما يضيق معه استعماله كالعبادات، ألا ترى أنه في الأسواق
لا يظهر التفاوت الذي يكون بين الحجر المبنية للإيجارة على
هيئة واحدة بل تؤاجر بغلة واحدة.
وكذلك للوصي أن يؤاجر منها واحداً بواحد على قول من يرى الجواز
مع اتفاق جنس المنفعة.
وكذلك المأذون في التجارة يملك من التبرع ما لابد للتجارة منه
وإن كان هبة على الحقيقة فكذلك التفاوت الذي لابد منه لأنه
دونه.
فأما ضمان الإتلاف فمبني على المثل في الأصل فوجب اعتبار
التفاوت وإن قل حتى لا يجب على المعتدي زيادة فيكون جوراً وليس
يجب اعتباره تضييق على الناس فإنه يجب بالعدوان وسبيل العدوان
أن لا يكون وإن كان، فإن تقرب في الجزاء من باب الإحسان كان
أولى من باب الجور.
ألا ترى أنه إذا أتلف منفعة حجرة لا يضمن بإزائها منفعة حجرة
أخرى مثلها في الغلة عرفاً وتجارة، وكان التأخير إلى الآخر
أهون لأن الزيادة جور وإنه لا يحل بحال والتأخير جائز كما في
إتلاف الخمر وإيذاء الحر والشتم ولهذا قلنا: إن القياس أن لا
يجب مال بإتلاف الآدمي لأنه لا مماثلة بينهما معنى ولا صورة،
وإنما وجب بالنص حال تعذر القصاص بالخطأ كي لا يهدر دم الآدمي
بخلاف القياس فلا نقيس عليه حال إمكان القصاص.
(1/93)
|