تقويم الأدلة في أصول الفقه القول في أسماء
الألفاظ في حق قذر تناولها المسميات، وحكمها فيما تتناوله
هذه الأسماء أربعة:
الخاص، والعام، والمؤول، والمشترك.
أما الخاص: فاسم للفظ لا يتناول إلا الواحد بذاته ومعناه،
كقولك: "زيد" إذا أردت بالخصوص خصوص العين من الجملة.
وإن أردت خصوص الجنس قلت: إنسان وجن وملك.
وإذا أردت خصوص النوع قلت: رجل وامرأة. يقال: اختص فلان بملك
كذا إذا لم يشركه فيه غيره، ومنه: خاصة الناس وهم أهل العلم،
والحكمة لقلتهم.
وأما العام: فما ينتظم جمعاً من الأسماء لفظاً أو معنى، كقولك:
الشيء، فإنه اسم لكل موجود ولكل موجود اسم على حدة وإن الإنسان
اسم عام في جنسه لأن جنسه يشتمل على أفراد، ولكل فرد اسم على
حدة كقولك: مطر عام، إذا عم الأمكنة فيكون عاماً بمعناه وهو
الحلول بالأمكنة لا بأسماء يجمعها المطر، وكذلك يقال خصب عام،
ومنه عامة الناس وهم أهل الجهل والسفه لكثرتهم.
ومن الناس من زعم أن العام ما ينتظم جمعاً من الأسماء أو
المعاني، وليس كذلك لأن المعاني لا يتصور انتظامها تحت لفظ
واحد إلا إذا اختلفت في أنفسها وإذا اختلفت تدافعت ولم تنتظم
جمعياً تحت اسم واحد بل يصير كل واحد منها يحتمل الاسم فلا
يثبت مراداً بالاحتمال، وهذا الاسم يسمى مشتركاً وإنه لا عموم
له على ما نذكر وهو بمنزلة المجمل.
وقد ذكر أبو بكر الجصاص: أن العموم ما ينتظم جمعاً من الأسامي
أو المعاني.
وكان هذا منه غلطاً في العبارة دون المذهب فإنه ذكر من بعد أن
المشترك لا عموم له، وإنما أراد بالمعاني معنى واحداً كقولك:
خصب عام، ومطر عام، فإن عموم الأمكنة منهما بمعنى واحد لا
بمعان، فالعام خلاف الخاص بمعنى واحد وهو الشمول.
وأما المشترك: فما اشترك فيه جمع من الأسامي أو المعاني من غير
انتظام، ولكن على الاختلاف كالعين فإنه يشترك فيه يشترك فيه
مقلة الوجه وينبوع الماء والطليعة ونقد المال.
والشيء المتعين في نفسه من غير انتظام فإن الكل لا يدخل تحته
ولكن يحتمل هذا وهذا، وهذا على الاختلاف أي إذا ثبت هذا بطل
الآخر.
(1/94)
وكالقرء: يشترك فيه الحيض والطهر على
اختلاف وتناف.
والبائن: يشترك فيه البينونة والبين والبيان، يقال: بان عني
فلان أي هجرني، وبان العضو عن الجسم إذا انفصل عنه، وبان الشيء
إذا ظهر، وهذه أسماء مختلفة بخلاف قولنا الشيء، فإنه يشتمل على
الموجودات بمعنى واحد وهو صفة الوجود، وفيما ذكرنا من المشترك
إنما يدخل كل واحد من الجملة تحته باسم على حدة، أو بمعنى على
حدة، وإذا كان كذلك لم يكن للمشترك عموم ولا ظهور مراد لأنا
سميناه: "مشتركاً" لاشتراك الأسامي أو المعاني في الدخول تحته
والاشتراك يوجب الاستواء وإذا دخلت متساوية ولم يمكن الجمع
بينهما ولم يصر بعضها بأولى من بعض صار المراد منه مجهولاً
فيصير بمنزلة المجمل.
وأما اختلاف المعاني فإنما يتحقق في المستعار من الكلام وهو
المجاز لأن اللفظ إنما يستعار لغير ما وضع له للاتصال بينهما
معنى، فيصير المجاز: عبارة عن المعنوي من الكلام.
والحقيقة: ما عبر به عن الشيء باسم علمه عقل معناه أو لم يعقل،
فإذا اختلف المعنى الذي يجوز الاستعارة لأجله كان ذلك المجاز
مشتركاً.
وقد أجمعت الأمة أن لا عموم لقوله تعالى: {ثلاثة قروء} بل
المراد بها إما الحيض وإما الأطهار، وقد قال علماؤنا رحمهم
الله– فيمن أوصى لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم-: أن
الوصية باطلة لأن معنى الولائين مختلف في حق الوصية فيراد
بالوصية للمولى الأعلى الجزاء وللمولى الأسفل زيادة إنعام
ترحماً، ولم يدخل النوعان تحت الاسم على العموم فبقي المراد
أحدهما فبطلت الوصية للجهالة.
وإذا قال لامرأة: إن نكحتك فأنت طالق، لم ينصرف إلى الوطء
والعقد جميعاً، لأنهما مختلفان معنى بل انصرف إلى أحدهما على
ما دل عليه الحال.
وأما المؤول: فما يتبين من المشترك أحد وجوهه المحتملة بغالب
الرأي والاجتهاد لا بسماع من يجب تصديقه فإنه متى تبين بالسماع
كان مفسراً بالتحاق هذا البيان، وهو نص مثل الأول، وإذا كان
بالرأي لم يكن تفسيراً لأنه عبارة عن الكشف على ما يأتيك
بيانه. والانكشاف على الحقيقة لا يثبت بالرأي ولكن بالرجحان
يزول مشاركة سائر الوجوه إياه على السواء فيؤول إليه مراد
الكلام من غير انكشاف على الحقيقة فكان تأويلاً.
وكذلك المراد من الكلام متى خفي لدقته فأوضح بالرأي كان مؤولاً
فكان المؤول خلاف المشترك والخفي جميعاً.
فالعام في قدر تناوله المسميات أكثر من الخاص.
والخاص في قدر تناوله المسمى أثبت من المؤول أو المشترك، فلا
ثبوت للمراد به إلا على سبيل الاحتمال فهذا بيان تفاوتها في
قدر التناول في الجملة.
(1/95)
وأما الأحكام فإن العلماء اختلفوا في العام
ما حكمه؟
فقال بعض الأحداث ممن لا سلف له في القرون الثلاثة: إن حكم
العام الوقف فيه حتى يتبين المراد به كالمشترك ..
وقال بعضهم: الثابت به أخص الخصوص حتى تقوم الدلالة على
العموم.
وقال الشافعي: إنه على العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص،
ولكنه غير موجب حكمه لعمومه قطعاً كالخاص لخصوصه، بل على تجوز
الخصوص واحتماله كالحكم الثابت بالقياس يكون ثابتاً لا قطعاً،
ولكن على تجوز الخطأ واحتماله حتى جوز تخصيص العام بالقياس
وجعل الثابت بالقياس أولى من الثابت بالعموم، وإذا عارضه الخاص
في بعض محاله جعل الخاص أولى، وجعل قوله هذا قولاً واحداً فيما
يمكن القول بعمومه في نفسه أو لا يمكن في نفسه فإنه عممه بقدر
الإمكان.
وقال علماؤنا رحمهم الله: العام يوجب الحكم بعمومه قطعاً
وإحاطة، بمنزلة الخاص، أمراً كان أو نهياً أو خبراً. إلا عاماً
يمتنع القول بعمومه لكون المحل غير قابل له على ما نذكره، فإنه
يجب الوقف فيه حتى يتبين بدليل آخر، ولا يعمل به بقدر الإمكان،
وقد دل على هذا القول فتاويهم ومحاجتهم.
أما الفتوى: فقد قالوا- في رجل أوصى لرجل بخاتم وأوصى لآخر
بفصه-: أن الحلقة لصاحب الخاتم والفص بينهما. لأن الوصيتين
اجتمعتا في الفص، لأن إحدى الوصيتين لا تبطل بالأخرى على ما
عرف، ثم الفص اسم خاص له، والخاتم يتناوله بعموم اسمه، فجعلوا
الاستحقاق بهما سواء ولم يجعلوا الخاص أولى. هكذا ذكر في
"الزيادات".
وذكر في الوصايا: وقرن الوصية بالفص بالوصية بالخاتم وذكر أن
الفص لصاحب الفص والحلقة للآخر، لأن الخاص لما قرن بالعام صار
بياناً، ولما تأخر لم يصر بياناً وكان عارضاً.
وقالوا– في المضارب ورب المال إذا اختلفا في عموم الإذن وخصوصه
وأقاما البينة وأرخا-: كانت العبرة للتاريخ وكان الآخر منهما
أولى، فرفعوا الخاص بالعام، كما خصوا العام بالخاص فسووا بين
التخصيص والرفع أصلاً ولم يرتبوا العام على الخاص، تقدم الخاص
أو تأخر، على ما قاله الخصم في ألفاظ الشرع.
وأما الحاجة: فقد قالوا– بجواز الصلاة بدون الفاتحة لعموم قوله
تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} ولم يروا ترتيب هذا العام على
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" لأنه
خبر الواحد، فجعلوا الآية أولى وإن كانت عامة، والخبر خاصاً،
وكان هذا مذهباً ظاهراً لعلمائنا.
أما الواقفون: فإنهم احتجوا بأن العام يذكر ويراد به الخاص،
وهذا مشهور بين أهل
(1/96)
اللسان، وقد نطق به الكتاب والسنة والشعر
حتى استحسن الكناية عن الواحد بلفظة الجمع، قال الله تعالى:
{إنا أنزلناه قرآناً عربياً} وقال: {رب ارجعون} ولما كان كذلك
احتمل العام العموم والخصوص وهما مختلفان لا يجتمعان فحل محل
الاسم المشترك.
وأما الذين قالوا بأخص الخصوص فنوع من الواقفية، إلا أنهم
قالوا: إن أخص الخصوص ثابت يقيناً أريد به الخصوص أم العموم
فزال مهنى الاشتراك فيه، فثبت كما في الكل بعد البيان.
وأما الشافعي فقال: إن العموم من العام حقيقة من حيث الوضع لأن
الواضع كما احتاج إلى وضع أسماء خاصة لتعريف الأفراد بمقاصد في
كل فرد احتاج إلى وضع أسماء عامة لتعريف الجمل لمقاصد فيها كي
لا يحتاج إلى ذكر كل فرد باسمه على حدة لتحصيل المقصود الذي لا
ينال إلا من الجملة فيتعذر الذكر عليه، إلا أن العرب استعارت
الألفاظ العامة للخاصة توسعة، وتحسيناً للعبارة لمعنى التعظيم
بالكناية عن الواحد بذكر الجماعة، كما استعارت لسائر ضروب
المجاز، وإذا كان كذلك كان الحكم لحقيقته حتى يقوم الدليل على
مجازه لأن المجاز معناه لا يشارك معنى الحقيقة فلا يزاحمه بل
الحقيقة هي الثانية قبله، واحتجاجه بالاستعمال ضعيف لأن العام
قد استعمل بحقيقته كما استعمل بمجازه كقوله تعالى: {إن الله
بكل شيء عليم} وقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} ونحوهما مما
لا يحتمل الخصوص مع شدة العموم، فصار الاستدلال بالعموم
استدلالاً بدليل محتمل فلم يكن حجة فبقي الحكم للوضع وقد ظهر
القول بالعموم من السلف ظهوراً لا يمكن إنكاره.
احتج عمر رضي الله عنه للمن بسواد العراق على أهلها على
الصحابة رضي الله عنهم منهم الزبير ألزمه بقول الله تعالى:
{للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} فقال
عمر: أما إني لو قسمتها بينكم لم يكن لمن يجيء بعدكم نصيب في
الفيء والله تعالى جعل لهم نصيباً فرجعوا إلى قوله، وهذه
الآيات غاية في العموم.
وأراد عثمان رضي الله عنه رجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال ابن
عباس رضي الله عنه: أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى
لخصمتكم إن الله تعالى يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}
وقال: {وفصاله فى عامين} فيبقى للحمل ستة أشهر، وأخذوا بقوله.
واختلف علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في عدة المتوفى
عنها زوجها إذا كانت حاملاً؟
(1/97)
فقال علي رضي الله عنه: عليها أبعد الأجلين
لعموم آية عدة الوفاء وعدة الحوامل.
وقال عبد الله: عدتها بوضع ما في بطنها لأن هذه الآية آخرهما
نزولاً وهما آيتان عامتان واحتجا بهما.
فإن قيل: إن الصحابة رضي الله عنهم فهموا العموم منها بدلائل
وأحوال اقترنت بها دلت على العموم.
قلنا: إن الحكم بالعموم قد ظهر ولم يظهر له سبب آخر إلا عموم
النص فلم يجز الحمل على سبب لم يظهر على أن العمل بها لو وجب
بدلائل أخر لما قبل منهم الاحتجاج به بدون تلك الدلائل
والأحوال، ولأن الشريعة لازمة إلى يوم القيامة، ووجوبها
بالكتاب ثم بالسنة ولو لم تكن هذه النصوص حجة في أنفسها بدون
تلك الدلائل الموجبة لما حل لهم السكوت عن نقل تلك الدلائل،
ولا لزمهم نقلها كما نقلوا النصوص، ولو نقلوها لظهرت ظهور
النصوص بأنفسها، وظاهر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال– لما
اختلفت الصحابة في نقل الأخبار-: إنكم إذا اختلفتم في شيء كان
من بعدكم أشد اختلافاً، فإذا سألتم عن شيء فلا ترووا ولكن
قولوا: معكم كتاب الله فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، ولم ينكر
عليه أحد فثبت أن الكتاب بنفسه حجة بدون الأحوال التي توهمتها
حجة للصحابة.
فإن قيل: إن الخلاف بيننا وبينكم في موجب العام للحال لا لحال
النزول فإنا لم نبتل بالعمل به فيما سلف.
فنقول: موجب العام للحال الوقت فيه حتى يتبين ما حكمه، لأن
النصوص العامة صارت متفاوتة في أنفسها اليوم من باق على عمومه،
ومن مخصوص، ومن منسوخ، فإذا صار حكمها في البقاء محتملاً لم
تكن حجة حتى يزول الاحتمال.
قلنا: يلزمك مثله في الخاص فإنه يحتمل الانتساخ، والمجاز ولم
يجب الوقف به، وكذلك الشاهد إذا عاين سبب ملك الإنسان حل له
الشهادة بالملك له بعد ذلك، وإن احتمال الفسخ أو البيع من آخر
وكان ما عاين حجة له للحال ما ذكرنا أن الشيء إذا ثبت دام على
ذلك من غير دليل وأنما زواله افتقر إلى دليل مبتدأ فعند عدم
الدليل لا يزول ما كان ثابتاً بالاحتمال لأنه كما احتمل الزوال
احتمل البقاء.
وجملة الجواب فيه: أن العامي يلزمه العمل بعمومه كما سمع.
وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه فيقف ساعة لاستكشاف هذا
الاحتمال بالنظر في الاشتباه مع كونه حجة للعمل إن عمل به،
ولكن يقف احتياطاً حتى لا يحتاج إلى بعض ما أمضاه بتبين
الخلاف، وهذا كالحاكم إذا قامت لديه الحجة فإن شاء حكم بها،
وكان الأحوط الوقف وإمهال الخصم للرفع ثم القضاء عند العجز.
(1/98)
وكذلك إذا قامت البينة أن هذا الرجل وارث
فلان جاز له القضاء بالمال والأحوط له أن يقف فيتعرف عن وراث
آخر ثم يقضي إذا لم يتبين له بعد التعرف.
والكلام ليس فيما يجب احتياطاً، واحترازاً عن وهم يتحقق، ولكن
الكلام في موجب النص بنفسه وأما الاحتياط فضرب معنى يترك له ما
عليه الأصل إلا أن الترك به لا يجب حتماً.
فإن قيل: فالذي يقف هكذا يحتج لامتناعه عن العمل به ويقول أنا
أقف متروياً.
قلنا: هذا صحيح ولكن لا يثبت الوقف على هذا الحد إلا بعد
التزام أصل الحكم واعتقاده أنه ثابت، وأن الوقف بدليل عارض لا
من نفس النص، ومتى قال هذا واعتقد ارتفع الخلاف فلا يتحسن مثله
في الخاص.
ويقول في الشهادات الخاصة أن الحكم يقف احتياطاً، وكذلك في
الخاص إذا احتمل المجاز كان الوقف للتعريف أحوط ما لم يؤد إلى
ترك واجب يفوت بالوقت.
قال الشافعي رحمه الله: وسواء فيه ما أمكن القول بعمومه وما لا
يمكن لكون المحل غير قابل له كقول الله تعالى: {قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون} {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب
الجنة} فإن هذا المحل غير قابل عموم نفي المساواة بينهما
لتساويهما وجوداً وإنسانية وبشرية وصورة وكثيراً من الأوصاف.
وقال: هذا المانع من القول بعمومه جملة لا يمنع القول بعمومه
فيما يمكن منه من الأحكام الشرعية حتى لا تكون دية الذمي مثل
دية المسلم ولا يقتل المسلم بالذمي ولا يساوي الذمي المسلم في
تملك العبد المسلم لأن العام الذي يثبت خصوصه بدليل شرعي يبقى
عاماً في ما بقي بعد الخصوص، والخصوص لا يكون إلا بدليل مقارن
للعموم يبين أن المراد به ما بعد الخصوص فأما الرفع بعد الثبوت
فيكون نسخاً، ومتى كان الخصوص على هذا الوجه كان ما نحن فيه من
الذي امتنع القول بعمومه من حيث الحسن، والذي امتنع من حيث
الشرع واحداً.
قال: ولكن الثابت بالعموم لا يكون قطعاً مثل الثابت بالخصوص
لأن العام لا يرد قط إلا على احتمال الخصوص في نفسه، وكذلك
الحكم بعمومه يثبت على احتمال أنه غير ثابت فلا يثبت قطعاً
كالثابت بالقياس إلا عموماً ثبت بالدليل أنه غير محتمل للخصوص
كقول الله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} بخلاف الخاص فإن حكمه
لا يرتفع إلا بالنسخ وإنه لا يحتمل كونه منسوخاً حال وروده،
وإنما النسخ يرد على بقاءه بعد ثبوته والكلام في موجب حكمه حال
الورود لا حال بقائه.
ودل على صحته رواية الصحابة والسلف والناس إلى يومنا أخبار
الأحاد الخاصة في معارضة عموم الكتاب وتخصيص العموم بها. وكذلك
بالقياس.
(1/99)
وأما علماؤنا فإنهم ذهبوا إلى أن الخاص
إنما وجب حكمه قطعاً لأن اللفظ وضع له في الأصل فكان ذلك
حقيقته فلاحتمال المجاز لم يتغير حكمه في نفسه ما لم تقم
الدلالة، والعموم في الأصل ما وضع إلا للتعميم والشمول منه
حقيقة على ما بينا فلاحتمال مجازه وهو المخصوص لا يتغير حكمه
في نفسه حتى تقوم الدلالة.
فإن قال قائل: فكذا أقول في الخاص إن حقيقته لا تثبت قطعاً ما
لم يتبين أنه لم يرد به مجازه كالنصوص في زمان رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما كانت توجب بقاء الحكم قطعاً لاحتمال النسخ
وإن لم يثبت النسخ بعد.
قلنا له: إن المجاز لا يثبت من الكلام إلا بإرادة المتكلم
النقل إليه عما وضع اللفظ له، والإرادة لا تثبت إلا ببيان من
قبله أو دلالة الحال أو العرف ونحوها، فإذا انعدمت دلالات
الإرادة لم يثبت الناقل فلم يثبت النقل فبقيت الحقيقة قطعاً
بلا احتمال، وهذا كالنص المطلق فإن حكمه يثبت مطلقاً قطعاً،
وإن احتمل التغيير بزيادة قيد أو تعليق شرط لأن الثاني إنما
يثبت بزيادة بيان ولم يثبت.
وما هذا بنظير بقاء الحكم قطعاً على ما يثبت ابتداء ً لأن النص
أوجب حكمه فأما البقاء على ما يثبت فليس بموجب به، ولكن من حيث
أن الشيء إذا ثبت دام حتى يقوم دليل الزوال فكان البقاء بحكم
استصحاب الحال لعدم الدلالة والعدم في نفسه فيه احتمال ما كان
يعلم قطعاً فكذلك موجبه لا يثبت قطعاً حتى لما تيقنا بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعدم النسخ ثبت البقاء قطعاً.
فإن قيل: إن عدم إرادة المتكلم الخصوص ما عرفت إلا بعدم
الدلالة عليها فلا يثبت قطعاً كعدم النسخ في زمن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، بخلاف عدم التعليق والاستثناء فإن طريق
ثبوتهما النص عليهما فإذا سكت عنهما ثبت العدم يقيناً.
قلنا: إن الإرادة لما كانت باطنة لا يوقف عليها إلا ببيان لم
يكن حجة علينا أصلاً حتى تظهر بطريقها لأن الله تعالى لم
يكلفنا ما ليس في وسعنا فلا يجعل الباطن الذي لا نقف عليه حجة
حتى يظهر، ويكون ابتداء ثبوته حجة بظهوره فصارت بمنزلة الشرط
والاستثناء في الحكم، وهذا كما قيل إن ابتداء الشرائع ما كانت
تلزم إلا بعد السماع لأن العبد لا يقف عليه إلا بسماعه فكان
لحال سماعه حكم نزول الخطاب ابتداء، وهذا كما قيل فيمن قال
لامرأته: إن كنت تحبيني فأنت طالق، فقالت: أحبك، كذباً وهي
تبغضه، أو علق الطلاق بمحبتها النار، فقالت: أحب. طلقت، وإن
تيقنا بالكذب لأن المحبة لا تعرف إلا بالخبر عنها فقام الخبر
مقام المحبة حقيقة ليكون بناء الحكم على ما نطلع عليه، وصار
كأنه قال لها: إن أخبرتني أنك تحبيني فأنت طالق، والخبر يشتمل
على الكذب والصدق جميعاً فطلقت في الحالتين بوجود الخبر دون
المحبة حقيقة، فهذا سر المسألة ومزل القدم.
(1/100)
فالخصم مال إلى أن الإرادة مغيرة حكم
الحقيقة لا محالة، واحتمال الإرادة ثابت حال التكلم فثبت
احتمال التغيير به إلا أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في
وسعنا سقط اعتبار الإرادة في حق العمل فلزمنا العمل بالعموم
الظاهرة دون ما لا نصل إليه من الإرادة الباطنة، وبقيت الإرادة
معتبرة في حق العلم فلا يعلم قطعاً لأنه ليس في وسعنا ذلك،
وإنه كلام حسن.
ويجب على هذا الأصل أن لا تطلق المرأة فيما إذا قال لها زوجها:
إن كنت تحبين النار فأنت طالق، فقالت: أحب لأنا علمنا يقيناً
ببغضها النار طبعاً، وإنما يقام الخبر مقام المحبة لأن سبب
علمنا به فيما يحتمل المحبة والبغض فإذا كان الاحتمال زائلاً
بدلالة أخرى وجب الحكم بها ولم يجز الوقوف على بيان يقع
بالخبر، كما قال في مسألة العموم إنه إنما يحتمل بيان الخصوص
بدليل يرد إذا كان مما يحتمل الخصوص بإرادة المتكلم وامتنع
العمل بالإرادة لاحتمالها.
فأما إذا كان لا يحتمل إرادة الخصوص كقول الله تعالى: {إن الله
بكل شيء عليم} فلا يجب الوقوف على البيان، وكذلك يجب أن يقول
به في حقيقة الخاص مع مجازه.
والجواب عنه لعلمائنا: أن الله تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في
وسعنا وليس في وسعنا الوقوف على الباطن إلا بدلالة ظاهرة لم
يجعل الباطن حجة أصلاً في حقنا فسقط اعتباره في حق العمل
والعلم جميعاً، وجعل الحجة ما يظهر به الباطن وإن كان سبباً
لثبوت الحجة في الباطن إقامة السبب الظاهر مقام ما هو حجة
باطنة في نفسها تيسيراً على عباده بزوال كلفة التأمل في
الباطن، لاعتبار الحكم بحسب احتمال ثبوته على ما قاله الخصم.
وهذا كما أن الخطاب متعلق باعتدال العقل وإنه أمر باطن والبلوغ
سبب ظاهر له على ما عليه الجبلة بلا آفة فعلق الشرع الخطاب
بالبلوغ الذي هو سبب ظاهر، وأقامه مقام اعتدال العقل الذي هو
أصل فيه تيسيراً فأسقط حقوقه عن الصبي وإن اعتدل عقله كأنه لم
يعتدل، وخاطب البالغ وإن لم يعتدل عقله بلا خلاف كأنه اعتدل.
وكذلك رخص السفر في الأصل متعلقة بالمشقة وهذه صفة باطنة،
والسفر سبب ظاهر لها فأقام هذا السبب الظاهر مقام المشقة فأثبت
به الرخص وإن لم يلحقه مشقة وأزالها بالإقامة وإن لحقته فيها
مشقة السفر إلا أن يضطر فيباح له الترك دفعاً للضرورة لا بحكم
سقوط الخطاب حتى إذا صبر فقتل كان مأجوراً، أو بمرض في الإقامة
فيثبت الرخص في المرض، وإنه جنس آخر غير جنس المشقة.
(1/101)
وكذلك الاستبراء في الأصل يجب صيانة للمياه
عن الاختلاط في الإماء وسبب الاختلاط في الإماء استحداث ملك
الوطء بملك اليمين لأن زوال ملك اليمين عن الأول وإن كان بعد
الوطء لا يوجب استبراء مانعاً من الحدوث لآخر، فلو أبحنا للآخر
بلا استبراء لاختلاط الماءان، والماء أمر باطن والإباحة بسبب
ملك اليمين أمر ظاهر فأقيم هذا السبب الظاهر مقام الماء، وجعل
علة في نفسه وأدير الحكم معه.
فقيل؛ متى استحدث الرجل ملك الوطء بملك اليمين لم يحل له إلا
بالاستبراء، سواء كانت الأمة بكراً أو ثيباً، وطئت عند الأول
أو لم توطء ومتى كان الاستحداث بالنكاح لم يجب الاستبراء.
وإن كانت وطئت عند الأول نحو الأمة يطأها مولاها ثم تزوجها
فإنه لا استبراء يجب على الزوج، وإن كان يؤدي إلى اختلاط
المياه لأن النكاح أصله في الحرائر لأن الرق أمر عارض والحرة
لا توطأً إلا بنكاح، وزواله بعد الوطء يوجب عدة مانعة من نكاح
آخر والاستبراء يقع بالعدة فلم يصر إباحة الوطء للزوج على ما
عليه أصل الوضع بلا استبراء موجباً لاختلاط المياه فلم يصر
علة.
وكذلك قال علماؤنا- في رجل قال لامرأته؛ إن كان في علم الله
تعالى أن فلاناً يقدم إلى شهر فأنت طالق الساعة، فقدم فلان إلى
شهر-: فإن الطلاق يقع بعد القدوم، كما قال لها: أنت طالق
الساعة إذا قدم فلان إلى شهر، وإن تبين بالقدوم أنه كان في علم
الله ذلك وأنه علق الطلاق بشرط موجود لأنا لا نطلع على علم
الله تعالى بقدومه إلا بعد قدومه، فكان القدوم هو الدليل الذي
نقف به على العلم فقام مقام العلم فيما علق به من الحكم ولغا
اعتبار الباطن في حق تعلق الطلاق به كأنه لم يذكره.
بخلاف ما إذا قال: إن كان زيد في الدار فأنت طالق فعلم به بعد
شهر أنه كان في الدار يوم حلف طلقت امرأته من حين تكلم لأن
كينونته في الدار مما نقف عليه نحن فلم يلغ اعتباره وتعلق
الحكم بحقيقته لا بالدليل الذي يظهرها فثبت أن ما قلناه طريق
بين في الشرع تيسيراً ودفعاً للحرج، فكان أولى مما قاله خصمنا
فإنه أسقط اعتبار الباطن بقدر ما لا يمكنه لا غير، والله تعالى
كما أخبر أنه لم يكلف إلا بقدر الوسع أخبر أنه ما جعل في الدين
من حرج، واعتبار الباطن على الوجه الذي قاله في حق العمل
يوقعنا في الحرج والتأمل ليمكننا التمييز بالإرادة الباطنة
أحرج من التأمل في الصبيان للتمييز بين من اعتدل عقله منهم ومن
لم يعتدل، ولهذا أبى علماؤنا تأخير بيان الظاهر بوجه يحتمله من
حيث ترك ظاهره على ما يأتيك من بعد.
لأن الظاهر يوجب موجبه قطعاً على حقيقة بلا احتمال فيه فلا
يبقى للبيان وجه فإنه لا يتصور إلا بعد احتمال.
(1/102)
ولأن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب
فيلزمنا فيه ما يتفاهم من خطابنا فيما بيننا وفيما بينا لو
قائل: أعط هؤلاء الفقراء مئة درهم وهم مئة فهم منه تفريق المئة
عليهم على السواء، كما لو قال: اعط كل واحد منهم درهماً.
ولو قال: لا تعتق عبدي سالماً، ثم قال: اعتق البيض من عبيدي،
ومنهم سالماً دخل تحت الأمر العام وارتفع النهي الخاص به فثبت
أن العام والخاص، سواء في خطابنا فيما بيننا فكذلك في خطاب
الشرع وإن الإرادة التي هي موهمة ليس لها عبرة حتى تنص عليها
أو تثبت بدلالة أخرى ظاهرة.
فإن قيل: إن تخصيص العام بالقياس جائز، وكذلك حمل الخاص على
مجازه بالقياس جائز، وما يجوز تركه رأساً بالقياس ولو كان
العموم ثابتاً قطعاً لما جاز تبديله بالقياس كترك الكل.
قلنا: عندنا لا يجوز تخصيص العام ابتداء بالقياس، ولا الحمل
على المجاز، وإنما يجوز بيان العموم بالقياس إذا ثبت خصوصه
بدلالة يجوز رفع الكل بها من خبر ثابت تأيد بالإجماع أو
بالاستفاضة في السلف أو بالإجماع نفسه ثم وقع الإشكال في حادثة
إنها من جنس ما دخل تحت الخصوص، أو من جنس ما بقى تحت العموم
فيعرف ذلك بالقياس لأن حكمها في نفسها قبل القياس عن ثابت
قطعاً لظهور دليل الخصوص، واحتمال الحادثة في نفسها أن تكون
داخلة تحت الخصوص وإنا وإنما ألغينا الباطن واحتماله دون
الظاهر واحتماله لعموم النص بعد الخصوص، فيبقى عندنا على حكم
عمومه. قيل: الخصوص عند الشافعي على ما بينا في بابه بعد هذا.
فإن قيل: في إثبات المعارضة بين الخاص والعام إذا لم يعلم
التاريخ ألغي الحكم الخاص أصلاً ولبعض العام بقدر المعارضة بين
العام والخاص، وفي نسخ الخاص بالعام إذا تأخر العام رفع الخاص
بأصله وفي ترتيب العام على الخاص عمل بالخاص في الحالين كله
حقيقة وبالعام بما بقى مجازاً والأصل في النصوص إنما يعمل بها
ما أمكن فكان هذا الوجه أولى.
قلنا: نعم يجب العمل بها ما أمكن ولا إمكان لما ذكرنا أن موجب
العام في كل ما دخل تحته بمنزلة موجب الخاص فيما دخل تحته فلا
يثبت ترجيح الخاص على العام مع التساوي في قدر ما تعارضا فيه،
وإذا لم يثبت الرجحان بطل الترتيب وسقط هذا الإمكان الذي يشير
إليه.
أرأيت قائلاً لو قال: إني أعمل بحقيقة العموم وأحمل الخاص
بالعموم على ما ضرب من المجاز أكان ذلك مقبولاً منه؟ لا، فكذلك
منك إذا قلت: إني أحمل العموم على الخصوص وهو مجازه ليمكنني
العمل بحقيقة الخاص وكل واحد من هذين القولين
(1/103)
يكون معارضاً بالآخر، ولأن موجب الحجة ليس
العمل بها وحدها بل العمل بها إذا لم يعارضها أخرى والمدافعة
إذا عارضتها أخرى مثلها كالشهادات في خصومات العباد، فمن لم
يثبت المدافعة بعد التساوي فهو الذي ترك العمل بحقيقة الحجج
وحكمها في هذه الحالة.
فالخصم سوى بين محتمل الحال وبين محتمل اللفظ الذي ورد مخصصاً
فسلب حكم العموم بالاحتمالين قطعاً.
وفرق أصحابنا بين محتمل اللفظ ومحتمل الحال فألغوا اعتبار
محتمل الحال لأنه أمر باطن، واعتبروا محتمل اللفظ لأنه أمر
ظاهر على ما بينا، وسواء عندنا الأمر والنهي والخبر لأن صيغة
العموم توجد في الكل.
وأما ما امتنع العمل بعمومه لمعنى في المحل قارن الخطاب فلا
عموم له فيما بقي بدليل ما ذكرناه في باب: "العام إذا خص منه
شيء ما حكمه في البقية؟ ".
حكم المشترك
وأما المشترك: فحكمه التوقف فيه بلا اعتقاد حكم معلوم سوى أن
المراد به حق حتى يقوم دليل الترجيح، لما ذكرنا أن المشترك ما
يمتنع تعميم معانيه أو أساميه بحكم التعارض والتدافع على
السواء فالشركة تنبئ عن المساواة، أما إذا لم يكن السواء فذلك
احتمال ولا يصار إليه إلا ببيان زائد.
والأصل في تعارض الأدلة الوقف على اعتقاد أن الثابت منها بحكمه
حق.
وأما المؤول: حكمه حكم الظاهر إلا أن الظاهر بنفسه يوجب العلم
بحكمه قطعا، وهذا يوجب غالب الرأي كخبر الواحد والله أعلم.
(1/104)
باب
القول في العام إذا خص منه شيء
اختلف القائلون بالعموم فيه على أربعة أقوال:
رأيت عن أبي الحسن الكرخي، وكثير من كبار شيوخنا: أن العام إذا
خص منه شيء وجب الوقف فيه حتى يأتي البيان من غير إسناد إلى
السلف.
ونص أبو الحسن الكرخي أنه شيء أقوله من عندي، وعلى هذا القول
يجب أنه يثبت منه أخص الخصوص إذا كان معلوماً.
وقال بعضهم: إن خص منه شيء مجهول فالجواب على هذا، وإن خص منه
شيء معلوم بقي الباقي على عمومه على ما كان قبل التخصيص.
وقال بعضهم: إن خص منه شيء مجهول لم يثبت به الخصوص.
قال القاضي أبو زيد رحمه الله: والذي ثبت عندي من مذهب السلف
أنه يبقى على عمومه بعد التخصيص في الفصلين جميعاً، ولكن غير
موجب للعلم قطعاً كما قاله الشافعي قبل الخصوص.
أما أبو الحسن الكرخي فإنه احتج بأن العام إذا خص منه شيء زالت
حقيقته وصار مجازاً، ومجازه في إرادة المتكلم البعض منه، وذلك
البعض مجهول فلم يبق حجة كما في قوله تعالى: {وما يستوي الأعمى
والبصير} فإنه لما امتنع القول بعمومه وجب الوقف فيه على ما
يأتيك بيانه.
ولأن التعميم فيما بقي حقيقة والكلام لا يشتمل قط على الحقيقة
والمجاز بخلاف الكلام إذا استثني منه شيء معلوم فإن الباقي
يبقى على عمومه، لأن المستثنى بالنص غير داخل تحت الجملة نصاً،
ويصير كأنه ما تكلم إلا بالباقي بعده، والباقي بعده كله ثابت
على حقيقته إلا أن تكون أخص الخصوص معلوماً فيجب القول به
لزوال الجهالة.
ولأن دليل الخصوص في حق حكم النص بمنزلة الاستثناء لأنه تبين
أن الثابت من حكمه ما بعده، وإن فارق الاستثناء في صيغة اللفظ
على ما نبين.
وإذا صار في الحكم كالاستثناء قلنا: إن كان دليل الخصوص
مجهولاً لا يوجب جهالة ما بقي حكماً فيصير كاستثناء بعض مجهول،
وكذلك إن كان دليل الخصوص معلوماً لأنه يحتمل أن يكون معلولاً
بعلة موجبة أكثر مما يوجبه النص فيتضمن جهالة على
(1/105)
الاحتمال والشك فيوجب شكاً فيما بقي من
الحكم كاستثناء فيه شك فإنه يوجب شكاً في المستثنى منه كقولك:
والله لا أكلم الناس إلا زيداً أو عمرواً، فإنهما لا يدخلان
تحت اليمين لدخولهما تحت الاستثناء بالشك.
وأما الذين فرقوا بين تخصيص المجهول والمعلوم فإنهم ذهبوا إلى
أن تخصيص العموم بدليل منفصل بمنزلة التخصيص بالاستثناء، إذ
الخصوص لا يثبت إلا بدليل يبين لنا أن المراد به ما بعده، وأن
قدر المخصوص لم يدخل تحته كالاستثناء.
فأما الطارئ الذي يرفع بعد ثبوته فهو نسخ، وإذا كان كذلك كان
بمنزلة الاستثناء.
ثم استثناء المعلوم لا يسقط عموم ما بقي، واستثناء المجهول
يسقطه ويوجب الوقف إلى البيان، فكذلك التخصيص.
فعلى قول هذا القائل لا يصح الاحتجاج بعموم آية البيع لأنه خص
منه الربا وإنه مجهول، ولا بآيات الحدود لأنه خص منها حالة
الشبهة وهي مجهولة.
وأما الذين قالوا؛ إن تخصيص المجهول ساقط حكمه قبل البيان،
وأنه يبقى على العموم بعد الخصوص المجهول والمعلوم موجباً
للعلم فقد ذهبوا إلى أن التخصيص لا يكون إلا بدليل منفصل عن
العام له موجب في بعض ما تناوله العام بخلافه على سبيل ما لو
تأخر كان نسخاً، فإذا جاء مقارناً كان بياناً، وإذا كان كذلك
لم يتغير بالثاني صيغة الكلام الأول كما في النسخ، وكيف تتغير
ولم تتصل بالصيغة بل انفصلت عنه، وكل كلام تام بنفسه وإذا لم
تتغير وجب اعتبار كل صيغة في نفسها على حدة.
ثم صيغة العام للتعميم وقد خرج من أهله فصح خروجه وأضيف إلى
محل قابل للعموم فانعقد موجباً للعموم إلا أنه امتنع عن العمل
في بعض المحال لمانع على سبيل المدافعة وهو النص الذي يخصصه
فيتغير حكمه بقدر المانع، لأن صيغته لم تتغير به، وإذا لم
تتغير الصيغة وهي للتعميم يقيناً بقي كذلك وراء ما ثبت الخصوص،
والخصوص إنما يثبت بقدر ما يتبين بالخاص.
فأما ما لم يتبين منه بأن كان دليل الخصوص مجملاً فلا يمتنع به
لأنه لا مساواة بين الظاهر والمجمل، بل المجمل مما لا يجب
العمل به حتى يلتحق به البيان فيصير في حق العمل كنص لم ينزل
بعد ألا ترى أنه لو طرأ المجمل على ظاهر ناسخاً لم يثبت به
النسخ حتى يتبين، بخلاف الاستثناء فإنه يرد على صيغة الكلام
فيستخرج منه بعضه فيصير كأنه لم يتكلم بالمستثنى وإنما تكلم
بالباقي بعده.
ألا ترى أن الاستثناء لو فصل وهو قوله إلا كذا لم يكن له موجب
بنفسه، وإذا اعتبر المستثنى منه مع الاستثناء كلاماً واحداً
أوجبت الجهالة بالاستثناء جهالة في المستثنى منه، والشك فيه
شكاً في الأصل فيصير الأصل مجهولاً محتملاً فلا يجب العمل به
حتى يرد
(1/106)
البيان، وها هنا لما انفصلا في حق الصيغة
اقتصرت الجهالة على دليل الخصوص فبقي الآخر على ظاهره معمولاً
به.
وهذا بخلاف قول الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} لأن
الكلام إنما يصح في نفسه إذا خرج من أهله وأضيف إلى محل يقبله
فإن بيع المجنون ضائع لأن المجنون ليس بأهل له، وبيع العاقل
حراً ضائع لأنه ليس بمحل للبيع.
وقوله: {وما يستوي الأعمى والبصير} إنما لم يثبت عمومه لأن
المحل غير قابل للعموم، لأن نفي المساواة بينهما مضاف إليهما،
وهما غير قابلين لعمومه لتساويهما في الوجود والعقل والإنسانية
والحيوانية فضاع هذا الكلام من حيث اقتضاء العموم لعدم المحلية
فلم يبق إلا الخاص، وأنه مجهول وكان كالذي استثني منه شيء
مجهول لأن المستثنى يصير غير ثابت في نفسه كان المتكلم لم
يتكلم إلا بالباقي بعده.
فأما إذا كان المحل قابلاً في نفسه، والكلام صدر من أهله ولم
يستثن منه شيء حتى صح مخرجه وقراره فالعمل به لا يمتنع إلا
بمانع فيتقدر بقدره، كما في الكلام إذا استثني منه طرف،
وكالبيع بشرط الخيار لا يضيع أصلاً لوجوده من أهله في محله،
ولكن يمتنع العمل به بقدر المانع، وكما إذا استحق بعض المبيع
امتنع عمل البيع فيه بقدره.
وأما القول الرابع الذي عليه جمهور العلماء: وهو أن العام إذا
خص منه شيء معلوم، أو مجهول بقي على عمومه ولكن غير موجب للعلم
قطعاً، كما قاله الشافعي رحمه الله تعالى قبل التخصيص.
الدليل على أنه مذهب جمهور العلماء أنا توارثنا الاحتجاج
بالعام في أحكام الحوادث، وما فيها عموم لم يثبت خصوصه.
والدليل على أنه غير موجب علماً أنا توارثنا أيضاً تخصيصها
بالقياس وبخبر الواحد والمعقول يدل عليه، وهو أن دليل الخصوص
يشبه دليل النسخ من حيث الصيغة، ويشبه الاستثناء في حق الحكم.
أما في حق الصيغة: فكما ذكره الأول أنه لا اتصال بين النصين
وكل واحد منهما كلام تام بنفسه وردا منفصلين حتى لو كانا
متراخيين كان الثاني ناسخاً للأول، فمن هذا الوجه يجب بقاء
العموم فيما لم يثبت خصوصه قطعاً، كما يجب فيما لم يثبت نسخه
قطعاً.
وأما من حيث الحكم: فلأن دليل الخصوص يبين لنا أن قدر المخصوص
منه لم يدخل تحت العموم حكماً كالاستثناء بخلاف النسخ فلم يجز
الاعتبار بأحدهما بل اعتبر في كل باب بنظيره.
فنقول في حق الصيغة تعتبر بالنسخ كأن الحكم ثابتاً ثم ارتفع إذ
صح مخرجه وانعقد في محل قابل للعموم.
(1/107)
ألا ترى أنهم قالوا فيمن اشترى عبدين ونفذ
البيع فيهما جميعاً بألف، فإذا أحدهما مدبراً: إن البيع نافذ
على الثاني بحصته من الثمن كأنهما كانا عبدين، ونفذ البيع
فيهما جميعاً ثم هلك أحدهما قبل التسليم فإن الباقي يبقى بحصته
من الثمن، ولم يعتبر بما لو باع عبدين بألف درهم إلا هذا بحصته
من الألف لأحدهما بعينه فإن البيع يفسد في الباقي كأنه باعه
وحده بحصته من الألف لو قسم عليه وعلى الآخر على قدر القيمة.
وكذلك لو كان أحدهما حراً لأن الاستثناء يبطل الصيغة فيجعله
متكلماً ببيع جميع الذي يبقى بعد الاستثناء وحده كأنه ما تكلم
بالآخر فيصير بائعاً بثمن المجهول، والجهالة تمنع الصحة.
وكذلك إذا كان أحدهما حراً لبطلان الكلام فيه لعدم المحل، وفي
مسألة المدبر لا يكون هكذا لأن البيع عمهما جميعاً وهما حل له
لقيام المالية المتقومة التي تقصد بالأشرية وانعقد من الصيغة
موجبة عمومها، ولكن النفاذ والعمل امتنع في المدبر لمانع فيه
من استحقاق له فاعتبر في حق الانعقاد جملته، وجملة الثمن
معلومة وإن كان المدبر في حكم الاستحقاق والعمل به كأنه لم
يدخل تحته، وجعل كأنه خرج بعد الدخول في الصيغة فلم يفسد العقد
في الآخر لأن طريان الجهالة لا يوجب فساد العقد.
وكذلك إذا باع عبدين له بألف على أنه بالخيار ثلاثة أيام في
واحد منهما بعينه فإن ثمنه لا يجب والبيع لا يعمل فيه ويصح في
الآخر ويعمل.
وكذلك يبقى على الصحة لو فسخ العقد في الذي فيه الخيار لهذا
المعنى، واعتبر بالذي ملك ثم فسخ، وهذه مسألة لا خلاف فيها.
وإذا كان كذلك اقتصرت جهالة دليل الخصوص أو الشك عليه ولم يتعد
إلى العام في حق الصيغة فلا يصير العام مجملاً مجهولاً أو
مشكوكاً فيه بما وقع في دليل الخصوص كما لو جاء ناسخاً وهو
مجمل في نفسه فإن الأول لا يصير منسوخاً به حتى يقترن به
البيان ولكن لما كان في حق الحكم بمنزلة الاستثناء على ما بينا
أنه يتبين به أنه لم يدخل تحت العموم حكماً، وإن دخل صيغة
اعتبر بالاستثناء في حق الحكم فالجهالة في دليل الخصوص توجب
جهالة في حكم العموم فلا يبقى يقيناً.
وكذلك إن كان الخاص معلوماً لأن النص معلول عندنا في الأصل ما
لم يتبين خلافه، والعلة تكون أعم من النص فيتعدى إلى ما وراءه
ولكن لا يجب العمل به ما لم يقم دليل لتركه، على ما يأتيك
بيانه، فيصير بمنزلة المجمل الذي هو حجة ولكن لا يجب العمل به
إلا ببيان.
فمن حيث قيام دليل موجب حكماً بخلاف العام لم يبق العام موجباً
علماً على سبيل القطع من حيث لم يجب العمل بالدليل الذي أوجب
التخصيص بقي العام معمولاً به،
(1/108)
والنص المعلوم ورد مخصصاً أو المجهول لما
احتمل البيان بتفسيره أو بتعليله كان بمنزلة إرادة المتكلم
الذي اعتبرها الشافعي رحمه الله تعالى.
إلا أن النص ظاهر فاعتبر بالإجماع، والإرادة باطنة فلم نعتبرها
بخلاف الاستثناء لأنه تكلم بالباقي بعد الاستثناء ويصير قدر
المستثنى كأن لم يتكلم به.
وإذا كان هكذا لغة على ما يأتيك بيانه في بابه وجب العمل
بالباقي قطعاً لعدم دليل يعارضه بنصه أو بعلته لأن ما صار
عدماً حكماً لا يعلل.
وبخلاف الناسخ لأن الأول لما تقرر حكمه لم يجز رفعه في زماننا
هذا إلا بدليل مثله، حتى لم يجز رفع الكتاب بالخبر الواحد ولا
بالقياس، فإذا جاء الناسخ خاصاً فباحتمال أن يكون معلولاً لا
يمكن تغيير حكم العام الذي بقي لامتناع جواز النسخ ما ثبت
بالنص بعلة مجتهد فيها فأما إذا كان مخصصاً، وهو بيان أن قدر
المخصوص لم يرد بالكلام لم يثبت موجب العام قطعاً، وفي معارضته
حال ثبوته دليل يمنع الدخول تحته قطعاً أو احتمالاً، بل إذا
ثبتت المعارضة قطعاً لم يدخل تحته قطعاً فإذا كان احتمالاً لم
يمنع الدخول بل دخل على احتمال أنه خارج إذا تبين ما احتمل كما
في الاستثناء، على ما مر فيمن حلف لا يكلم الناس إلا زيداً
وعمرواً أنه لا يحنث إذا كلمهما جميعاً لأن الاستثناء لبيان
التكلم بالباقي بعده، فإذا وقع الشك في الاستثناء وقع في
الثابت بعده فلم يثبت بالشك، فكذلك ما نحن فيه لما احتمل النص
الخاص أن يكون معلولاً بعلة يعمل بها تعدى حكم الاحتمال إلى ما
بقي.
وبالاحتمال لا يمتنع العمل الأول ولكن اليقين يزول عنه به.
وبعد التعارض يبقى ما كان ثابتاً على ما كان، لمعنى أنه كان
ثابتاً فلا يزول إلا بدليل، وما كان طريق بقائه عدم الدليل لم
يكن فيه يقين بوجه لأنه لا يثبت إلا بدليل وكان هذا دون الثابت
بخبر الواحد والقياس، ولهذا جوزنا ترك العموم الذي ثبت خصوصه
بالقياس ولم نجوز ترك موجب الخبر الواحد بالقياس.
وتبين بما قلنا؛ أن هذا العموم الذي خص منه شيء ليس كقوله:
{وما يستوي الأعمى والبصير} لأن الصيغة منه لم تنعقد موجبة
للعموم لفقد المحل، فأشبه الذي فسد صيغته باستثناء بعض مجهول
حتى صارت العبرة بما بقي من الصيغة.
ألا ترى أنهم قالوا في الرجل إذا اشترى عبدين بألف فإذا أحدهما
حر؛ كان البيع فاسداً في الباقي، كما لو كانا عبدين فقال: إلا
هذا بحصته من الألف لأن الحر ليس بمحل للبيع فسقطت صيغة النص
بقدره، كما لو سقط بالاستثناء، فتكون على هذا آية البيع عامة
لأنه ظاهر وقوله: {وحرم الربا} كلام آخر معطوف عليه وليس
باستثناء، فإجمال الربا لا يوجب إجمالاً في آية البيع ولكن لا
يكون موجباً علماً على سبيل القطع والله أعلم.
(1/109)
باب
القول في بيان ألفاظ العموم
ألفاظ العموم أربعة أنواع:
لفظ الجماعة معنى وصيغة كقولنا: رجال ونساء ومسلمون.
ولفظ الجماعة معنى لا صيغة: كالإنس والجن والشيء. فهما نوعا
عموم نصاً.
ونوعان آخران لفظاً عموم إبهاماً نحو: "من"، فإنها عامة فيمن
يعقل.
و"ما" عامة فيمن لا يعقل.
ونحو: كلمة"الذي" فإنها عامة كالشيء لكن على سبيل الكناية،
و"أين" و"حيث" يعمان الأمكنة إبهاماً.
و"متى" تعم الأزمنة إبهاماً.
و"كل" يعم الفرد النكرة وغيره كقولك: كل رجل، وكل زيد وكل
الناس.
و"كلما" تعم الفعل كلما فعلت فعلاً، لأن كلمة كل خلاف البعض
لغة فكانت مشتملة على الأبعاض.
فهذه أسماء مبهمة عامة فكانت نوعاً.
والنوع الآخر: الألف واللام إذا دخلتا على اسم غير معهود كانتا
لبيان الجنس.
فأما قولنا: رجال، فلأن واضع اللغة لم يضع هذه الصيغة إلا
علماً على جمع الآحاد من ذلك الاسم فإنك تقول: رجل واحد،
ورجلان اثنان، ورجال ثلاثة، وألف فصاعداً، ولهذا قالوا فيمن
قال: لفلان عليً دراهم؛ أنه يلزم ثلاثة إلا أن يبين أكثر من
ذلك لأن أقل ما يتحقق فيه صيغة الجمع على ما قلناه ثلاثة، وعلى
ما نذكره من بعد، وما وراءها محتملة فلم يثبت بالشك وقبل
البيان.
وأما الإنس: فاسم خاص صيغة ماله وحدات، ولكن عام معنى لأنه اسم
علم على جنس، والجنس يشتمل على أعداد كثيرة، والعبرة للمعنى لا
للصورة، وكان اسماً عاماً.
فإن قيل: أليس لو حلف لا يشرب الماء حنث بأدنى ما ينطلق عليه
الاسم إلا أن ينوي الجميع؟
قلنا: إن من صرف إلى الخصوص بدلالة العرف وهو أن الحالف إنما
يمنع نفسه
(1/110)
باليمين مما يخاف على نفسه فعله، وذلك في
نفس شرب الماء لا جميعه فانصرف إليه بدلالة الحال إلا أن ينوي
الجميع فيصدق لأنه حقيقة، ولو كان مجازاً لما صدق في القضاء
كما إذا نوى التخصيص فيما هو عام، هذا جواب عامة الشيوخ.
قال القاضي أبو زيد رضي الله عنه: والذي يصح عندي أن اسم الجنس
عام ولكنه يتناول بحقيقة أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما يتناول
الكل بحقيقته، لأن القطرة من الماء صالحة لكونها كلاً فإن
المياه لو انعدمت كانت القطرة كلاً وكان الاسم لها حقيقة،
وكذلك الإنس يعم جنس بني آدم، وكان الاسم لآدم حين لم يكن إلا
هو حقيقة، وكان كل الجنس فثبت أن البعض من الجنس صالح في ذاته
لهذا الاسم حقيقة، وإنما صار بعضاً بمزاحمة أمثاله لا بنقصان
في نفسه، وإذا كان كذلك ساوى البعض الكل في الدخول تحت الاسم
فتأدى به حكم الكل إلا بدليل يرجح حقيقة الكل على الأدنى
كقولنا: دراهم اسم للثلاثة حقيقة وللألف.
ولهذا قالوا- فيمن قال لامرأته: أنت طالق الطلاق، أو أنت
الطلاق ونوى الوقوع-: أنها تطلق واحدة إلا أن يعني ثلاثا ًلأن
الألف واللام لبيان الجنس فقام الأدنى مقام الكل في تأدي حكم
الخطاب به إلا أن ينوي الكل، وإن أمكن تعليق الحكم بالكل فإنه
معلوم ممكن فثبت أن العذر في الماء ليس ما قالوه ولكن ما
قلناه، والله أعلم.
وأما كلمة"من" و"ما": فمن عامة فيمن يعقل لأنك إن قلت: من في
الدار؟ استقام الجواب بكل من يعقل، ولا يستقيم الجواب عنه
بالشاة والدابة، واستقام الجواب عنها بالواحد والجماعة فكانت
بمنزلة اسم الجنس.
وإذا قلت: ما في الدار لم يستقم الجواب عنها بالعاقل ولكن بما
لا يعقل ألا ترى أن فرعون لما قال لموسى عليه السلام: {وما رب
العالمين} فأجاب موسى {رب السموات والأرض}، قال فرعون: {إن
رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} لأني سألته عن المائية، وهو
يجبني عن المنية فما يتناول ما لا يعقل فيكون سؤالاً عن أصل
الشيء أنه جوهر أو عرض، ولكن لما تعالى الله عن المائية أعرض
موسى عن سؤاله فإن من شأن الحكيم إذا سمع اللغو أن يعرض عنه،
قال الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا
أعمالنا ولكم أعمالكم} لأن الكلام كان جواباً، ولكن بيان أنهم
أعرضوا عن اللغو وتحقيق الإعراض بذكر كلام مبتدأ مفيد، فكذلك
موسى أعرض عن جواب سؤاله لأنه كان لغواً، وحقق الإعراض بذكر
كلام مبتدأ مفيد وهو أن الله تعالى لا يصير معلوماً بذكر
المائية فقد تعالى الله عنها ما هو بجوهر ولا عرض، ولكن يصير
معلوماً بصفاته وأسمائه التي تعالى الله بها عن جنس المدبرين
والحكماء ممن لهم عقل وتمييز على أن ما يقام مقام "من" مجازاً،
وإنما الحد الذي قلناه للحقيقة.
(1/111)
فإن قيل: قال الله تعالى: {ومنهم من يستمع
إليك} ولم يعم هذا المستمعين أجمع!
قلنا له: لأن الله تعالى أخبر عن معهود استمع إليه وجعل الله
تعالى على قلوبهم أكنة و"من" في المعرفة لا تعم بل تخص تلك
المعرفة لأنها صالحة للخصوص كاسم الجنس على ما ذكرنا فيصير
المراد بها إذا أضيفت إلى معرفة تلك العين لا غير، ألا ترى أنه
لو قال: من في الدار من عبيدي الذين صاموا؟ لم يتناول غير
الصائمين من عبيده لاستخباره عنهم لا غير.
فأما "من" في الاستخبار المطلق والوعد والمجازاة فلا تخص عيناً
فتعم لعدم دليل التعيين.
قال علماؤنا- رحمهم الله تعالى- فيمن قال لآخر: من شاء من
عبيدي العتق فأعتقه، فشاؤوا جميعاً: فإنه يعتقهم لعموم كلمة
"من" فيمن تناولهم، وهو الذي شاء من العبيد.
فأما إذا قال: من شئت من عبيدي عتقه فأعتقه، كان له أن يعتقهم
إلا الواحد بسبب كلمة"من" التي وضعت للتبعيض على ما بينا في
موضعه، وقد دخلت على العبيد.
وفي المسألة الأولى دخلت على من شاء العتق فإنه يعم العبيد
وغيرهم فميز العبيد من غيرهم وبعضهم، فأما "من" فقد أوجب
التعميم حيث لم يقتصر على الواحد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وكان عاماً، وقوله: "من
قتل قتيلاً فله سلبه".
فأما الألف واللام فإنها للتعريف في أصل اللغة، تقول العرب:
رأيت رجلاً، ثم كلمت الرجل، أي كلمته بعينه، قال الله تعالى:
{كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول} أي ذلك
بعينه، وإذا لم يكن في كلامه نكرة سابقة يمكن تعريفها بالألف
واللام اقتضى ضرورة تعريف جنس ما سماه لأنه متعين من بين
الأجناس بالاسم إن لم يتعين فرد من أفراد الجنس للتعريف.
قال علماؤنا- فيمن حلف لا يتزوج النساء، فتزوج امرأة- حنث، كما
إذا حلف لا يشرب الماء، بخلاف ما إذا حلف: لا يتزوج نساء، فإنه
لا يحنث إلا بثلاث منهن فجعلت الصيغة بسبب الألف واللام عبارة
عن الجنس، لأنا لو اعتبرنا معنى الجماعة صيغة الذي هو ثابت من
قولنا: نساء على التنكير كانت الألف واللام لتعريف تلك النكرة،
(1/112)
وذلك الاسم يتناول بعض الجنس غير معلومات
فلا يمكن تعريفهن فلغى معنى الجماعة صيغة، وكانتا لتعريف الجنس
لأن الجنس معلوم، وأما النكرة من الاسم كقول الله تعالى
وتعالى: {فتحرير رقبة}، وقولنا: اشتر لي عبداً بألف درهم،
ولفلان علي درهم فللخصوص في أصل اللغة لأنه اسم وضع لفرد من
أفرد الجملة، فتقول: رقبة من الرقاب، وعبد من العبيد. ولا
تقول: النساء من النساء، ولا الماء من الماء، قال الله تعالى:
{إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون
رسولاً} فالمراد بذلك الواحد، وإذا كان للخصوص لغة قلنا: إذا
جاءت في الإثبات خصت صورة ومعنى كقولك: رأيت رجلاً، ولفلان علي
درهم، وقد حججت حجة، وكقول الله تعالى: {فتحرير رقبة} فإنها
للإيجاب، ولا تجب إلا واحدة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"في خمس من الإبل شاة" ولا يجب إلا واحدة.
فإن قيل: أليس قوله تعالى: {فتحرير رقبة} تناول كل رقبة حتى
قيل تخصيص العمياء والمجنونة والمدبرة من الجملة؟
قلنا: إن الآية للإيجاب ولا يجب إلا تحرير رقبة واحدة، فأما
المحل الصالح للأداء فعام ما من رقبة إلا وهي صالحة للتحرير،
ولكن الصلاح ليس من حكم النص بل كان صالحاً له قبل النص ولكن
كان التحرير قبل النص غير واجب وبالنص انقلب واجباً فانقلب
خاصاً لا عاماً بحكم النص كمن نذر أن يتصدق بدرهم يلزمه درهم،
وكل درهم يصلح لأداء الصدقة وليس ذلك بحكم النذر بل كان صالحاً
لها قبل النذر، ولهذا قيل: إن النكرة إذا كرر ذكرها كانت
الثانية غير الأولى قال الله تعالى: {فإن مع العسر يسراً * إن
مع العسر يسراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لن يغلب عسر
واحد يسرين" لأن اليسر كرر بلفظ النكرة، وهذا لأنها تتناول
واحداً من الجملة غير عين.
ولو انصرفت الثانية إلى الأولى لتعينت ضرب تعين بأن لا يشاركها
غيرها فيه.
ولو كانت عامة لما كانت شيئاً آخر بالتكرار لأن المسمى على
العموم واحد في البابين كاسم الجنس.
ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، فيمن قال: لفلان علي ألف
درهم وأشهد ثم كررها في مجلس آخر وأشهد: كانا مالين على اعتبار
الحقيقة ولهذا لم تعتبر صفة الإيمان بحكم النص وهو قوله تعالى:
{فتحرير رقبة} لأن النص سكت عن أوصاف الرقبة فيكون إثبات ما
سكت عنه النص زيادة عليه لا تخصيصاً، بخلاف العمياء لأن الرقبة
اسم لغير الهالكة لغة، والعمياء هالكة من وجه وإذا كانت النكرة
في النفي عمت
(1/113)
اقتضاء كقوله: ما رأيت رجلاً، وكقول الله
تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحداً} إلا أنا ذكرنا أن الصيغة
تناولت واحداً من الجملة غير عين، فإذا كانت في النفي لم تتصور
نفي ما أخبر إلا بنفي الكل فإنه إذا قال: ما رأيت أحداً، وكان
رأى رجلاً وهو واحد من الجنس كان كاذباً ألا ترى أنه تستقيم
العبارة عنه: رأيت رجلاً، وهذا لما ذكرنا أن المنصوص عليه نفي
فعل أو إثبات فعل، وما يقع عليه الفعل محل الفعل، والنكرة
يتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم من جنسه، فلا يتصور نفي
الأدنى إلا بعد نفي الكل فيعم النفي اقتضاء لا نصاً، فأما النص
في البابين فما يتناول إلا الأدنى.
أي
وأما كلمة "أي" فبمنزلة النكرة عندنا لأنها تصحب النكرة لفظاً
ومعنى لاستحضارها فيقول: أي رجل فعل هذا، وأي دار تريدها، قال
الله تعالى: {أيكم يأتيني بعرشها} أي رجل منكم وهي نكرة معنى
لأن المراد بها واحد منهم.
وقال علماؤنا رحمهم الله؛ في رجل قال لآخر: أي عبيدي ضربته فهو
حر، فضربهم جميعاً: لم يعتق إلا واحد وهو الأول.
فإن قيل: لو قال: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه، عتقوا جميعاً،
وقال الله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} وقد تناول الكل!
قلنا: لأنه وصف النكرة بالضرب فميز للوصف جنس الضاربين عن
غيرهم كما إذا وصف النكرة بصفة عامة كقولنا: لا أكلم الناس إلا
رجلاً كوفياً فإنه يخرج عن اليمين جميع رجال الكوفة لعموم
الوصف من حيث انصرافه إلى تمييز الجنس كأنه قال: إلا كوفياً.
فأما إذا قال: أي عبيدي ضربته، فالضرب مضاف إلى المخاطب فبقيت
العبرة للعبد الداخل تحت كلمة "أي" فكان خاصاً كالنكرة.
فإن قيل: لو قال: أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر، فحملوها جميعاً،
وهي خفيفة يحملها كل واحد، لم يعتقوا وإن عمهم صفة الحمل.
قلنا: إنه ما ميز العتق بالحمل مطلقاً، ولكن بحمل الخشبة فإذا
حملوها جملة فما اتصف واحد منهم بحمل الخشبة، وإنما اتصف بحمل
البعض فلم يوجد الوصف الذي تعلق العتق به، فأما الضرب فيتم من
الواحد بفعله وإن ضرب معه غيره، وعلى هذا قوله تعالى: {أيكم
يأتيني بعرشها} إلا أن تكون الخشبة ثقيلة لا يحملها الواحد
فإنهم يعتقون لأن دلالة الحال تدل على أن المراد به الحمل
الممكن وهو الحمل على الشركة إذ باليمين لا يمنع نفسه عما ليس
يمكن عادة، فينصرف المطلق إلى المعتاد إلا أن لا يحتمل
(1/114)
المعتاد، وكذلك قول الله تعالى: {ليبلوكم
أيكم أحسن عملاً} كان على العموم لعموم صفة العمل الحسن وما
ذهب علينا ممن لم نذكره فهو قياس ما ذكرنا والله أعلم بالصواب.
(1/115)
|