تقويم الأدلة في أصول الفقه

باب

القول في الأسماء الظاهرة التي تتفاوت معانيها ظهوراً من الأسماء المستعملة بين الفقهاء
هذه الأسماء أربعة: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم.
أما الظاهر: فما ظهر للسامعين بنفس السماع، كقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}، {وأحل الله البيع}، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}.
وحكمه: التزام موجبه بنفس السماع يقيناً وقطعاً، عاماً كان أو خاصاً على ما مر.
وأما النص: فهو الزائد عليه بياناً إذا قوبل به بضرب دلالة خاصة بعد دلالة اللفظ بعد ذلك في الظاهر من قولك: نصصت الدابة أظهرت سيرها بسبب منك فوق سيرها المعتاد، وهو اسم لما دون الخبب من الأنواع.
والمنصة: العرش الذي يحمل عليه العروس لأنه سبب زيادة ظهور، ولهذا ظن بعض الناس أن النص اسم للخاص وليس كذلك، بل هو اسم لما ذكرنا من تفسيره، ولكن تلك الزيادة لما كانت لا تحصل إلا بقرينة خاصة ظن بعض الناس أنه يختص به فيكون خاصاً.
وزعم أن الظاهر لا يكون حجة في غير ما سيق له، وإنما السياق دليل النص، وليس كذلك لأن العبرة عندنا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب الذي سيق الكلام له على ما سيأتيك بيانه.
ومثاله قول الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} نص في التفرقة بين البيع والربا في صفة الحل والحرمة، وآية البيع ظاهرة تجيز كل بيع وليست بنص لأن الآية ما سيقت لإحلال البيع ولكن لإثبات التفرقة بينهما دراً على الفكرة.
وكذلك قول الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} نص على بيان العدد لأنها سيقت لأجله عامة ظاهرة تجيز نكاح ما يطيب لنا من النساء.
وقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} نص على وجوب الطلاق للعدة إذا أراد الطلاق لأنها سيقت لبيان الوقت ظاهرة على وجوب الاقتصار على قوله: طلقت،

(1/116)


ليكون الامتثال بالأمر بقدر ما يوجبه الأمر.
فيكون النص والظاهر مما يجب العمل بظاهرهما وإنما يظهر الفرقان بينهما عند المقابلة فيكون النص أولى من الظاهر.
وأما المفسر: فالمكشوف معناه الذي وضع الكلام له كشفاً لا شك فيه، سواء كان الكشف من حيث النص بأن كان لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولكنه كان خفياً بكون العربية غربية.
أو المعنى دقيقاً من الاستعارات فكشف عنه بالدلالة.
أو كان ظاهراً ولكنه يحتمل التأويل بدلالة تقوم فسد باب التأويل بالتفسير حتى لم يبق له محمل فصار فوق النص بانسداد باب التأويل بدليل كقول الله تعالى: {فسجد الملائكة} هذا اسم ظاهر للجماعة ولكنه يحتمل الخصوص فلما فسره بقوله: "كلهم" انسد باب الاحتمال.
وحكمة: اعتقاد ما في النص وزيادة أنه لا يحتمل تأويلاً.
وأما المحكم: فما أحكم المراد منه بحجة لا تحتمل التبدل، من قولك: أحكمت الصنعة إذا أمنت انتقاضها فيصير حكم المحكم بتلك الحجة من قبيل ما لا يحتمل الانتساخ فيصير فوق المفسر لأنه مما يحتمل الانتساخ إن لم يحتمل التأويل، وهذا كقول الله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} وقد ثبت بدليل المعقول أنه وصف دائم أبداً لا يجوز سقوطه، ولهذا سمى الله تعالى المحكمات: أم الكتاب أي الأصل الذي يجب الرجوع إليه كأم الولد لأن مرجع الولد إليها، ومكة أم القرى لأن المرجع إليها في الحج، وفي آخر الأمر.
وحكمه: حكم المفسر وزيادة أنه لا يحتمل الانتساخ.
ولهذا الأسماء أضداد:
الخفي: ضد الظاهر.
والمشكل: ضد النص.
والمجمل: ضد المفسر.
والمتشابه: ضد المحكم.
فالخفي: اسم لما خفي معناه بعارض دليل غير اللفظ في نفسه فبعد عن الوهم بذلك العارض حتى لم يوجد إلا بطلب، من قولنا: اختفى فلان إذا صار بعارض حيلة صنعها بحيث لا يوقف عليه إلا بطلب، وإنها كآية السرقة فإنها ظاهرة في كل سارق لم يعرف باسم آخر خفية في حق الطرار والنباش لأنهما يعرفان باسمين خاصين، فبعدا عن اسم السارق بسبب اسم معرفة عن اسم السرقة على ما تستبق إليه الأوهام حتى اختلف

(1/117)


العلماء في قطع النباش لشدة الخفاء في حقه.
وفوق الخفي المشكل: وهو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعنى الذي وضع له واضع اللغة الاسم أو إرادة المستعير لدقة المعنى في نفسه لا بعارض حيلة.
كما يشكل طريق المنزل إذا دق في نفسه فكان هذا الخفاء فوق الذي كان بعارض حلية حتى كاد المشكل يلتحق بالمجمل، وكثير من العلماء لا يهتدون إلى الفرق بينهما.
وفوق المشكل المجمل: وهو الذي لا يعقل معناه أصلاً لتوحش اللغة وضعاً، أو المعنى استعارة، وهو الذي يسميه أهل اللسان: الغريب، والغريب: اسم لمن فقد في مكان وجوده عادة، وهو الوطن وصار بحيث لا يوفق عليه بعد الغربة إلا عن استفسار، وهو كقول الله تعالى: {وحرم الربا} لأن الربا في اللغة: الفضل، ولكن الله تعالى ما أراده فالربح حلال ولكن أراد به بيوعاً محرمة شرعاً بسبب فضل أو غيره، فصارت غربية بأن نقلت عما وضع له واضع اللغة إلى معنى أراده المتكلم، فصار لا يوقف على المعنى المراد إلا بعد البيان، إلا أن يكثر الاستعمال لمعنى معلوم فيصير المعنى بالاستعمال كالأهلي وكالغريب إذا توطن ببلدة عرف بها فكان المجمل فوق المشكل، فالمشكل ما له طريق إلى مراده ولكن اشتبه لدقته وخفائه، والمجمل ما لا طريق إلى مراده ولكن احتمل بيان الطريق.
وفوق المجمل المتشابه: وهو الذي تشابه معناه على السامع من حيث خالف موجب النص موجب العقل قطعاً ويقيناً التبديل فتشابه المراد بحكم المعارضة بحيث لم يحتمل زوالها بالبيان، لأن موجبات العقول قطعاً لا تحتمل التبديل ولا موجب النص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في المتشابه: {وما يعلم تأويله إلا الله} فكان فوق المجمل الذي يحتمل البيان والله أعلم به.
وحكم الخفي: وجوب الطلب على العبد بتأمله في نفسه حتى يظهر.
وحكم المشكل: وجوب الطلب بتأمله في نظيره من كلام العرب مما عقل معناه.
وأما المجمل فحكمه: التوقف فيه، واعتماد أن ما أراد الله تعالى منه حق إلى أن يأتيه البيان من غيره، كالذي ضل الطريق فسبيله التوقف إلى أن يأتيه من يهديه، وكذلك يلزمه الاشتغال بطلب من يهديه إن رجا ذلك، ثم بعد البيان يلزمه ما يلزمه بالمفسر أو الظاهر عل حسب اقتران البيان به.
وأما المتشابه فحكمه: التوقف أبداً على اعتقاد الحقيقة للمراد به فيكون العبد به مبتلى بنفس الاعتقاد لا غير، والله أعلم.

(1/118)


باب

القول في أقسام أنواع استعمال الكلام
أنواع الاستعمال أربعة: حقيقة، ومجاز، وصريح، وكناية.
أما الحقيقة: فتفسيرها ما أريد من التكلم ما وضع واضع اللغة الكلام له، لأنه هو الحق منه على ما عليه الوضع.
وأما المجاز: فتفسيره ما أريد به غير ذلك المعنى، لأنه ليس بحق منه على اعتبار الوضع، ولكن تجوز به على طريق الاستعارة عن المعنى الأصلي لهذا المعنى، وكان هذا المعنى على اعتبار الأصل غير حق من قولك: حبك لي مجازاً، أي: باللسان دون القلب الذي هو معدنه، وهذا الوعد منك مجازاً أي لم ترد التحقيق بل الترويج لأنه باطل على ما عليه أصل العدات في الحكمة، ولهذا سمي المجاز مستعاراً كأن القائل استعاره للمعنى الذي قصده فكساه به، وقد ظهر ظهوراً بيناً من كلام الناس وكتاب الله تعالى، ورسائل الكتبة، وأشعار العرب حتى كاد المجاز يغلب الحقيقة وجوداً أو استحساناً، وبه توسعة اللسان وملحته.
فإذا عرفت حديهما علمت أن الحقيقة لا تنال إلا بالسماع، وطريقها الوضع ولا يوقف عليه إلا بالنقل عن واضع اللغة كالنصوص في باب الشرع فإنها لا تثبت حججاً إلا بعد النقل عمن لا يجوز عليه الكذب.
وأما المجاز فلا حاجة بنا إلى السماع ليثبت لغة يجوز استعمالها بل يثبت من قبل المتكلم، لأن العرب إنما استعارت اللفظ لغير ما وضع له لاتصال بينهما بوجه ما.
إما من حيث معنى اللفظ كالشجاع يسمى: أسداً لوجود المعنى المطلوب من الشجاع في الأسد، وكالبليد يسمى حماراً لهذا المعنى.
وأما من حيث الذات كالمطر يسمى سماء لاتصال بينهما ذاتاً لأنه من السماء ينزل على ما تراه العيون ظاهراً، وقال الله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} أي ماء العنب، وماؤه ليس بخمر حال العصر ولكن قد يتصل هذا العين بذلك الوصف، وقال: {أو لامستم النساء} أي جامعتم لاتصال فعل اللمس بفعل الجماع، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر"، لاتصال بينهما في معنى المخامرة والإنشاط.

(1/119)


وقال الله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} أي أنكحت بالإجماع فاستعارت المرأة الهبة للنكاح لاتصال بينهما سبباً، فإن الهبة وإن وضعت لتمليك الرقبة فإنه يتصل بتمليك ملك المتعة اقتضاء، فإن من ملك جارية هبة ملكها متعة وحل له وطؤها إلا بمانع كالعقد سبب لتمليك الوطء إلا بمانع.
ولما كان لفظ تمليك الرقبة سبباً لملك المتعة صح استعارة الألفاظ المملكة للأعيان لعقد النكاح الموضوع لملك المتعة، وصحت الاستعارات بهذين المعنيين من كل متكلم لأن سبب صحة الاستعارة هذا الاتصال الذي أشرنا إليه، وهذا مما يقف عليه كل متكلم إذا تأمل لأن هذا السبب الذي به صحت الاستعارة سمعاً مما يوقف عليه بالتأمل.
وكان هذا من حجج الشرع كالمقاييس التي أقيمت مقام النصوص لا يتبع فيها السماع، ويصح من كل قايس لأن المسموع من القياس إنما صح لأن النص كان معلوماً بوصف منه لتبين أثره دون سائله فيه في إيجاب ذلك الحكم، ولما صح من السلف بهذا المعنى صح من كل قائس فإن المؤثر مما يوقف عليه بالتأمل في نظائره، والبحث عن وجوه الطلب والاستعارة أمر شائع من الخطباء والكتبة والشعراء حتى استحق الواحد منهم المدح بإبداع الاستعارات والتعريضات فتبين أن المجاز أحد نوعي الكلام.
والنوع الآخر هو الحقيقة، وأن للمجاز من الأنواع والعموم والأحكام ما للحقيقة لأنه مستعمل بمنزلته إلا أن المطلق من الكلام لحقيقته حتى يقوم الدليل على مجازه، لأن معنى الحقيقة أصل منه، والثاني طارئ عليه فلا يثبت ِإلا بدليله.
ومن المتأخرين من ظن أن المجاز لا عموم له، وأنه غلط لأن الاستعارة إقامة المستعار من اللفظ مقام الحقيقة لذلك المسمى الذي استعير له، لولاه لكان المتكلم به مخلاً بالغرض فكان لا يحسن التكلم به.
فلما كان المستعار أحسن من الحقيقة علم أنه مثله في البيان وأربى عليه بحسن الصيغة.
وتبين أن حد المجاز ما أثبت المراد بالكلام بظاهره كذلك مجازاً إلا بما لم يتكلم به من ضمن أو اقتضاء ونحوه كما يكون بعينه لو تكلم بالحقيقة الصريح.
وتبين بما قلنا أن اللفظ الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لأنهما مختلفان لا يجتمعان كالثوب على البدن لا يجوز أن يكون عارية وملكاً في وقت واحد، وكانا عن الانتظام أبعد من المعاني التي تشترك تحت لفظ واحد؛ وقد مر أن المشترك لا عموم له فهذا أولى.
ولهذا لم يجعل علماؤنا المس حدثاً لأن الجماع مراد بقوله: {أو لامستم النساء} وهو مجاز فبطل أن تكون الحقيقة مرادة وهو المس.

(1/120)


وقال علماؤنا بأن النص الموجب لتحريم الخمر لا يتناول سائر المسكرات، لأن الاسم للنيء من ماء العنب إذا غلا واشتد حقيقة ولغيره مجازاً لاتصال بينهما لمعنى مخامرة العقل فلا يدخلان جميعاً تحته.
وقالوا فيمن حلف لا يأكل من هذه النخلة فأكل من ثمرها، حنث، وهو مجاز لأن النخلة سبب للثمرة، ولو أكل من عينها لم يحنث لأنه حقيقة.
وقالوا: لو حلف لا يأكل من هذه الشاة فأكل من لحمها حنث، وهو حقيقة ولا يحنث بشرب لبنها مجازاً.
فإن قيل: لو حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخل ماشياً حنث، وهو حقيقة ويحنث إذا دخلها راكباً وهو مجاز.
قلنا: وضع القدم بعرف اللسان في مثل هذا صار عبارة عن الدخول لأنه سببه فصار كأنه حلف لا يدخل دار فلان فيحنث دخل راكباً أو ماشياً بمطلق الدخول الذي هو مجازه، لا بمجاز وضع القدم.
وحقيقته ونظيره رجل قال: عبده حر يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً أو نهاراً أعتق عبده لأنه صار مجازاً عن الوقت، ثم الوقت يدخل تحته الليل والنهار.
فإن قيل، قد قال أبو يوسف ومحمد– رحمهم الله– في رجل حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من عينها: حنث، وهو حقيقة ويحنث إذا أكل من خبزها مجازاً.
وكذلك لو حلف لا يشرب من الفرات فشرب منه كرعاً حنث، وهو حقيقة ويحنث إذا شرب منه اغترافاً مجازاً.
قلنا: إنهما يقولان لا أشرب من الفرات عبارة عن ماء الفرات مجازاً، واسم ماء الفرات لا ينقطع بالاغتراف أو الإحراز في آنية لأنها في الظرفية ليست كالفرات فلا تنقطع النسبة الأولى بها، فحنث في البابين لعموم ماء الفرات الذي هو مجاز حتى إذا أخذ الماء من نهر آخر يأخذ من الفرات لم يحنث لانقطاع الإضافة إلى الفرات بالنهر الآخر.
وكذلك أكل الحنطة بعرف اللسان صار عبارة عما فيه حتى قيل، فلان يأكل الحنطة وإن كان يأكل من خبزها، فصار بمنزلة ما لو حلف لا يأكل ما في الحنطة فحنث أكل عينها أو خبزها لعموم المجاز لأنه أكل ما فيها حال ما أكل عينها. وأبو حنبفة- رضي الله عنه- اعتبر الظاهر فوجد أحدهما حقيقة والآخر مجازاً فلم يجمع بينهما.
وهما اعتبرا الباطن فوجدا مجازه يعم النوعين فجمعا بينهما العموم بعموم المجاز لا أنهما جمعا بين الحقيقة والمجاز، كمن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار فلان بملك أو عارية حنث، فالملك حقيقة والعارية مجاز لأن المراد به عرفاً الإضافة بملك السكنى

(1/121)


مجازاً، إلا أن ملك السكنى ثابت بحق الملك والاستعارة.
وقد قالوا فيمن أوصى لمواليه بثلث ماله وهو حر الأصل: لم يعتق، وله مولى واحد أعتقه وموالي مولى، كان نصف الثلث لمولاه والنصف للورثة دون موالي مولاه لأن الحقيقة وهو المولى دخل تحت الوصية فلا يدخل تحته موالي المولى لأنه مجاز، إذ الأسفل في الحقيقة مضاف إلى الذي أعتقه دون الذي أعتق من أعتقه فما وجد من الأعلى إعتاق إياه حقيقة، إنما وجد منه التسبيب بأن أعتق الأول حتى قدر الأول على إعتاق الثاني فكانت الإضافة إليه بالتسبيب فكان مجازاً، فلم يثبت مع الحقيقة.
كما لو أوصى رجل بثلث ماله لمواليه وله موالي أعتقوه، وموالي أعتقهم لم تصح الوصية لأن الموالي لفظ مشترك يتناول الأعلى والأسفل على السواء بحق الولاء، لكن بمعنيين مختلفين، لأن ولاء الأعلى ولاء منعم وولاء الأسفل ولاء منعم عليه فلما لم يجتمعا ولم يكن أحدهما بأولى من الآخر تدافعا فثبت أنهم أبوا الجمع بين الحقيقة والمجاز، كما أبوا الجمع بين المعاني المختلفة، إلا أن المشترك يصير كالمجمل بحكم المعارضة والمساواة، والذي يحتمل الحقيقة والمجاز تثبت منه حقيقة إلا بدلالة على المجاز لأن الحقيقة أولى على ما مر، وبمثله لو كان للموصي موالي مولى، وما له موالي كان الثلث لموالي المولى دون الورثة قولاً بالمجاز.
وأما الصربح: فهو اسم لكلام مكشوف المعنى كالنص سواء كان حقيقة أو مجازاً، يقال: فلان صرح فلاناً بكذا أي: خاطبه بأبلغ إظهار لما أراده من مكروه أو محبوب، والعرب تقول: صرح الحق عن محضه إذا انكشفت الرغوة عن محض اللبن.
وأما الكناية: فخلاف الصريح حتى أن الكلمة ما لم تتم مفهمة بنفسها لم تكن صريحة، والحرف الواحد يجوز أن يكون كناية مثل هاء المغايبة وكاف المخاطبة حتى جعلت الهاء في الكناية تامة، فقيل هو كذا كقول الله تعالى: {قل هو الله أحد} وهذا لأن الهاء لا تميز بنفسها بين اسم واسم إلا بدلالة أخرى فلم تكن صريحة.
ولما احتملت التمييز بدلالة استقامت كناية عن الصريح فكانت حروف الكناية من الصريح كالاسم المشترك من المفسر.
من حيث أن حرف الكناية مما لا يفهم معناها إلا بدلالة أخرى.
والصريح اسم لما فهم معناه منه بنفسه.
وعن هذا سمي كل كلام يحتمل وجوهاً كناية.
وسمي المجاز قبل أن يصير متعارفاً كناية لاحتماله الحقيقة وغيرها.

(1/122)


ومن معنى الكناية أخذت الكنى فإن الرجل معروف باسم العلم والتصريح عنه يكون بذلك الاسم ثم يكنى عنه بالنسبة إلى ولده، وهي لا تعرفه إلا بدلالة زائدة، وهي معرفة الولد به وتلك الكنية حقيقة وليست بمجاز عن الاسم العلم لأنه لا اتصال بينهما فعلمت أن الكناية قد تكون بالحقيقة وتكون بالمجاز والصريح قد يكون بالمجاز ويكون بالحقيقة.
والفقهاء– رحمهم الله– يقولون: لفظ التحريم من كنايات الطلاق، والتحريم في باب الفرقة عامل بحقيقته حتى كانت موجبة للحرمة بخلاف لفظ الطلاق، ولو كان مجازاً عن الطلاق يعمل عمله، ومع هذا سمي كناية في باب الطلاق لأنه احتمل وجود حرمة سوى حرمة الطلاق فلم يكن صريحاً لما لم يكن مراده بيناً، فلعدم ظهور المراد منه بسبب الاحتمال والاشتراك سمي كناية.
وكذلك الاستعارة الغربية تسمى كناية، وضروب التعريضات تسمى كناية لأنه يراد بها خلاف ظاهرها.
فالعرب تكني عن الحبشي بأبي البيضاء، وعن الضرير بأبي العيناء ولا اتصال بين الاسمين بوجه، بل بينهما تضاد.
فثبت أن الكنايات حدها غير حد المجاز، وأنها من ضروب التعريضات فعرضت العرب لما يذم بما يحمل تفاؤلاً.
وقد يقال ذلك على جهة السخرية، وكما أرادوا من الأمر الزجر بضرب دلالة ويقولون: تربت يداك، على سبيل التعطف فهذه كلها وما أشبهها من ضروب الكنايات دون المجاز الذي حددناه فإن هذه الألفاظ التي ذكرناها ما فيها معاني حقائقها ولا اتصال بينهما ليستحضر معاني الحقائق بها وأنها تجري مجرى أسماء الأعلام لسقوط الاعتبار بالمعنى.
وسميت كناية حيث أراد به القائل الاسم المعنوي وضعاً تفاؤلاً به فكان كناية عنه بخلاف المجاز فإنه اسم أستعير لغيره لاتصال بينهما لا جواز له بدون الاتصال، والاتصال بين اللفظين مقصور على تشاكل المعنى فيكون للاتصال بينهما معنى أو السببية فيكون الاتصال بينهما ذاتاً، وطريق المجاز مقصور عليهما لأن الشيء يكون شيئاً بذاته ومعناه فلا يتصور الاتصال لغيره بدونهما.
قال علماؤنا– فيمن قال لعبده وله نسب معروف: هذا ولدي-: عتق عليه ولا يثبت النسب، كأنه أخبر عن حريته فقال أنه عتق على من حين ملكته لأن ما صرح به على حقيقته لو ثبت كان سبباً للعتق عليه من حين ملكه فإن من اشترى ولده عتق عليه فلما تعذر إثبات حقيقته صار مجازاً عن كلمة لأن المجاز أحد نوعي الكلام استعمالاً على ما مر إلا أن الحقيقة أسبقهما ثبوتاً، فإذا تعذر بدلالة وضرب المجاز متعين غير مجهول ثبت

(1/123)


عينا كضرب الحقيقة إذا كان عيناً، وكذلك قال أبو حنيفة– رضي الله عنه– فيما إذا كان العبد كبيراً، يولد لمثله مثله، لأن العتق ثبت من حيث انقلب النص إخباراً عن عتقه من حيث ملكه مجازاً لا من حيث تثبت حقيقته، وقد يسمى هذا كناية لأن الاستعمال غير ظاهر.
وقالوا: إذا قال لامرأته: هذه ابنتي، ولها نسب معروف لم تحرم لأن حقيقة ما تلفظ به ليست بسبب الفرقة عن النكاح فإنه لو كان ثابتاً ما كان بينهما نكاح، وكان سبباً لانتفاء النكاح بينهما من الأصل فيصير مجازاً عنه إذ لم يمكن إثبات حقيقته كأنه قال: ما تزوجتها.
وكذلك قالوا: إن ألفاظ تمليك العين ينعقد بها النكاح بلا نية ولا قصد لأنها متى تحققت فيمن يصلح لملك المتعة كانت أسباباً لإيجاب ملك المتعة فمتى تعذر إثبات حقائقها بكون المحل غير قابل لها صار مجازاً وكناية عما يوجب ملك المتعة.
فإن قيل: من اشترى حراً لم يصح أصلاً فلم يصح كناية عن الإجارة، وإن كان شراء الأصل سبباً لملك المنفعة وقد تعذر إثبات حقيقته في الحر ولم يصر مجازاً عن الإجارة.
قلنا: إنما يستقيم هذا إذا اتحد محل الحقيقة والمجاز لأن اللفظ المضاف إلى محل لا يعمل في محل آخر، ومحل الحقيقة والمجاز واحد في مسألة العتق والنكاح، لأن المملوك بالشراء والهبة هو العين، وكذلك المملوك بملك بالنكاح في حكم ملك العين على ما بينا في كتاب: "تحديد الأسرار"، والثابت بقوله هذا ولدي على حقيقة النسب وأنه وصف يثبت للعين، وكذلك مجازه وهو الحرية يثبت للعين.
فأما الشراء والإجارة فمحلهما مختلف فالشراء يعمل في العين والإجارة في المنفعة فلذلك لم يصر مجازاً، ألا ترى أنه وإن صار مجازاً في ذلك المحل لم يقدر على العمل.
فإن قيل: لو قال؛ آجرتك عبدي هذا يوماً عمل العقد عمله، وإنما أضاف إلى العين.
قلنا: تفسير قولنا: آجرتك هذا العبد، أني ملكتك منافعه شهراً بكذا فهو لفظ وضع لتمليك المنفعة، وإن كانت مضافة إلى الرقبة صورة.
فأما البيع فمضاف إلى الرقبة صورة ومعنى فمتى صار مجازاً صاراً مجازاً موجباً في ذلك المحل، والإجارة لا تعمل في العين فلم يصح، حتى إذا قال: بعت منافع عبدي شهراً بعشرة دراهم كانت إجارة صحيحة بلفظ البيع، وأهل المدينة يسمون الإجارة بيعاً، ولذلك أول علماؤنا خبر بيع المدبر أنه كان إجارة.

(1/124)


قالوا: وإذا قال لامرأته: أنت حرة ينوي طلاقها طلقت، لأن التحرير سبب لإزالة ملك المتعة فإن من اعتق أمته حرمت عليه فاستقام أن يكون مجازاً عن الطلاق الموضوع لقطع هذا الملك إلا أنه لا يصير كناية عنه إلا بالنية لأن المحل المضاف إليه هذا الوصف كان قابلاً لهذا الوصف على حقيقته فلا يكون مجازاً إلا بدلالة زائدة.
وإذا قال لأمته: أنت طالق ينوي عتاقاً لم يصح، لأن الطلاق لو تحقق لم يكن سبباً للعتاق فلم يكن بينهما اتصال بالسببية، ولا اتصال بينهما من حيث المعنى لأن العتاق عبارة عن قوة لذات الموصوف به، يقال: عتق الطير إذا قوي وطار عن وكره، فكذلك الشخص إذا قوي حكماً حتى لم ينفذ عليه حكم الاستيلاء ولم يتملك بأسباب الملك بقوة دافعة أثبتها الله تعالى له نعمة وكرامة قيل عتق وإذا ضعف فصار عرضة للتمليك بأسباب الملك والاستيلاء ولم يقدر على الدفع قيل: رق، والطلاق لا ينبئ عن هذه القوة بل ينبنئ [ينبئ] عن رفع المانع عن استعمال قوة كانت من قولك: أطلقت فلاناً عن القيد فطلق، وأطلقت الدابة عن الوثاق فإن القيد ما يضعف الدابة ولكن يمنعها عن المشي فكان الطلاق لإزالة المانع عن استعمال قوة كانت فلم يبق بينهما اتصال معنى فما لإزالة المانع معنى العلة.
وإذا كان كذلك لم يثبت أحدهما بالآخر من حيث المعنى، وإنما يثبت بالسببية فيثبت بالعتاق الطلاق لأنه سبب لإزالة ملك المتعة متى ثبت بنفسه في محل المتعة ولا يكون الطلاق قط سبباً لإزالة ملك الرق وإن وجد فيه، وهذا كما تثبت العارية بالهبة إذا أضيفت إلى المنفعة ولا تثبت الهبة بالعارية لأنه لا اتصال بينهما معنى فإن أحديهما تغير صفة الذات فإن الملك ثابت للذات والأخرى صفة المنافع فالملك بالعارية يثبت فيها.
والمنفعة ليست بمعنى العين وما تحقيق المنفعة إلا العمل فلا تستقيم الاستعارة من حيث المعنى، ولكن من حيث السببية فاستقام من جانب ما هو سبب للآخر كالهبة للعارية ولم يستقم من جهة ما ليس بسبب كالعارية للهبة. ألا ترى أن ضد العتق الرق وضد الطلاق والنكاح والرق ما فيه معنى النكاح بوجه فإنه ينبئ عن ضعف حكمي يعجز به عن دفع نفوذ أسباب الملك عليه فيصير كالبهيمة، والنكاح لا ينبئ عن الضعف بل ينبئ عن ملك يثبت كرامة يتوصل به إلى اقتضاء الشهوات واستحداث النسل وإقامة مصالح المعيشة.
فلما لم يكن الرق بمعنى ملك النكاح لم يكن ما وضع لإزالة الرق بمعنى ما وضع لإزالة ملك النكاح ضرورة وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النكاح رق" محمول على مجاز الرق لضرب ملك يثبت بالنكاح لا حقيقة.

(1/125)


فإن قيل: أليس من قال لآخر أعتق عبدك عني على ألف درهم يصير متملكاً بألف ثم معتقاً فصار مجازاً عن الشراء وليس بينهما اتصال معنى ولا سببية، وكذلك شراء القريب إعتاق وما بينهما اتصال معنى؟
قلنا: إن الشراء بقوله: أعتق عبدك عني ليس يثبت على طريق أن العتاق يصير مجازاً عنه ألا ترى أن العتق يثبت بنفسه، وقد ذكرنا أن اللفظ متى صار مجازاً عن غيره سقطت حقيقته وإنما يثبت الشراء مقتضى هذا العتق فإن العتاق لا يقع إلا أن يكون العين مملوكاً له فاقتضى العتق عنه شرطه، وهو ملك المحل على ما بينا في موضعه، فالمقتضى حده ما يثبت ضرورة ثبوت النص بنفسه على حقيقته لا باللفظ وإنه صار عبارة عنه على ما بينا في حد المقتضى من بعد وأنه ليس من باب المجاز في شيء وأنه من ضروب الكناية.
وكذلك شراء القريب إعتاق لا على سبيل أن الشراء يصير مجازاً عنه ولكن على سبيل أن الشراء ثابت بنفسه موجب للملك على حقيقته ثم العتق موجب الملك على ما بينا في موضعه فصار الشراء بمنزلة العلة في إضافة الحكم الثاني، وهو العتق إليه لأنه علة العلة، ولم يكن علة بنفسه من حيث يصير مجازاً عن العتق، ألا ترى أنه كيف ثبت بنفسه لم يثبت العتق بناء عليه وعلى هذا إذا قال لامرأته: اعتدي، ونوى به طلاقاً طلقت على طريق أنه يقتضيه إذا أراده لأن الطلاق شرط العدة ألا ترى أن حقيقته وهي العدة ثبتت بنفسها، وبالله التوفيق.

(1/126)