تقويم الأدلة في أصول الفقه

باب

القول في أقسام ما يترك به حقيقة اللفظ بلا معارضة
إن حقيقة اللفظ تترك بوجوه أربعة:
أ- دلالة عرف الاستعمال لساناً.
ب- ودلالة اللفظ في نفسه.
ج- ودلالة المتكلم في صفته.
د- ودلالة محل الكلام من حيث صلاحه له.
فهذه وجوه يجب ترك حقيقة اللفظ بها لا على سبيل معارضة لفظ آخر إياه.
فأما عرف اللسان: فلأن الكلام وضع للإفهام وأن المتعارف استعمالاً يستبق الأوهام كالصلاة إذا أطلقت انصرفت إلى هذه العبادة الشرعية، وهي مجاز دون الحقيقة لغة لغلبة الاستعمال، وكذلك الصوم والحج.
وإذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان انصرف إلى الدخول مجازاً حتى إذا دخلها راكباً أو ماشياً يحنث.
وإذا قال: يوم يقدم فلان فعبده حر، فقدم فلان ليلاً أو نهاراً عتق عبده وصار بعرف اللسان عبارة عن الوقت بلا إرادة.
وإذا حلف لا يأكل لحماً لم يحنث بأكل السمك بلا نية لأن اللحم بعرف اللسان لا يراد به لحم السمك إلا مقروناً بالسمك لنقصانه في نفسه من حيث معنى اللحم، فيقال: أكلنا لحم السمك فلم ينصرف إليه بدون القرينة.
وكذلك لو حلف لا يأكل بيض العصفور لا يحنث لأنها لا تسمى بيضاً إلا مقرونة بالعصفور لمعنى النقصان.
والدراهم مطلقة تنصرف إلى نقد البلد لأن غيره لا يسمى دراهم إلا مقروناً بالبلد الذي هو نقده لنقصان حال الرواج في بلدهم.
فإن قيل: لو حلف لا يأكل لحماً فأكل لحم آدمي أو خنزير حنث!
قلنا: لأن اللحم إنما سمي لحماً لصورة معنوية بمعنى خاص امتاز به عن غيره، وتلك الصورة بمعناها غير مختلفة فيهما، وإنما قل الاستعمال تسمية لحرمتهما وعدم

(1/127)


الاستعمال أكلاً، فلم يفتقر إلى القرينة للإلحاق بالجنس ولم يمتنعا عن الدخول تحت المطلق، فأما لحم السمك فدون سائر اللحوم في الإغذاء لأن اللحوم تتولد من الدم ولا دم للسمك، وكذلك الجراد فكانت القرينة لإلحاقها بسائرها فلم يلتحق بها بدون القرينة كالصلاة المطلقة لا تدخل فيها صلاة الجنازة لأنها ناقصة، وإنما التحقت بالصلاة بالقرينة، وكذلك البيض من هذا القبيل بدلالة عدم الأكل عرفاً لا لحرمة مانعة بل لقلة رغبة فيها فكانت القرينة في الخنزير لبيان أنه من جنس المحرمات لا لبيان أنه من جنس اللحوم.
وإذا قال: كل مملوك له حر لم يدخل تحته المكاتب لأنه اختص باسم آخر لنقصان حاله في المملوكية، لأنه بين الحر والعبد مالك من وجه، مملوك من وجه، فصار الاسم علماً على خروجه عن مطلق المماليك، وكان هذا أمنع من الدخول تحت المطلق من دون القرينة ولم يمتنع المكاتب من الدخول تحت المطلق، قوله: {فتحرير رقبة} لأن الرقبة اسم لصورة مرقوقة والرق تام على ما بينا في موضعه والصورة التامة.
وكذلك النباش لا يدخل عند أبي حنيفة ومحمد- رضي الله عنهما- تحت مطلق اسم السارق لأنه اختص باسم لنقصان حال السرقة لأنه اسم لأخذ مال محرز بحيلة من صاب محرز، ومعنى الحرز بالقبر ناقص أو فائت لأنه يوضع فيه للبلى، وكذلك الإحراز من صاحبه الميت فائت ولا يحتاج إلى حيلة لأجله.
والطرار داخل تحته وإن اختص باسم الطر. لأنه اختص به لزيادة معنى على السرقة، وهو اللطف في العمل، والحذق في الأخذ لأنه يأخذها مجاهرة على مثال الأخذ من غافل أو نائم بلطف الصنعة كالصرف يدخل تحت مطلق اسم البيع لأنه اختص باسمه لإيجاب زيادة حكم وهو القبض في المجلس للبدلين جميعاً.
وأما دلالة اللفظ: في نفسه كقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً} دل سياق الآية على أن صدرها للتهديد وهذا نظيره مما قرن باللفظ ما يوجب ترك حقيقته إلى وجه يحتمله.
ومثاله من ألفاظنا قول الرجل: لفلان علي ألف درهم إن شاء الله تعالى، فإنه لا يلزمه شيء لأن العرب تتكلم بالخبر مرسلاً ومعلقاً فكان التعليق بياناً أنه لا إرسال فلا يلزمه حكم الإرسال.
وإذا قال: لفلان علي ألف درهم لسبب، لزمه المال وبطل قوله: لسبب، لأنه لا بيان فيه بوجه بل هو رجوع محض والكلام لا يحتمله.
وأما دلالة المتكلم في صفته: فكقول الله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} الآية، فإنها أوامر أريد بها التوبيخ بدلالة أن الله تعالى لا يوصف بجواز الأمر بالكفر عليه، ومن هذا القبيل قولنا: تربت يداك، فإنه محمول على الخير

(1/128)


بدلالة حال الداعي، وكذلك قول العبد: اللهم اغفر لي، يجعل سؤالاً بدلالة حال القائل وهو العبد فإنه لا يليق بحاله طلب النعمة من مولاه إلزاماً، وإنما يليق سؤالاً وقد قال علماؤنا فيمن دعي إلى غداء فقال: والله لا أتغدى: إنه ينصرف إلى ذلك الغذاء في ذلك الفور لأنه أخرج كلامه مخرج الجواب والحال حال الحاجة إلى الجواب فصار جواباً بدلالة الحال فاقتصر حكمه على موجب السؤال وهو أكل ذلك الطعام في الحال.
وأما دلالة المحل: فنحو قول الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} فالمحل عام لم يقبل تعميم النفي باستوائهما في صفات كثيرة محسوسة علم أن المراد به نفي المساواة من وجه دون وجه، وإذا حلف الرجل لا يبيع فباع حراً لم يحنث لأن المحل غير قابل فسقطت حقيقته بالمحل.
وأما ترك الكلام بدليل معارض كالنسخ والتخصيص فليس من هذا القبيل، لأن دليلي النسخ والتخصيص كلامان آخران يعارضان معنى النص الأول إلا أن المقارن يوجب التخصيص، والمتأخر يوجب النسخ، وامتناع عمل اللفظ بحكم المعارضة ليس من أبواب بيان موجب اللفظ في نفسه.
وإنما سمي التخصيص بياناً لأنه من حيث المعنى كالمتصل به حتى لم يصح وروده متأخراً عنه فجرى الاستثناء من هذا الوجه فكان بياناً، ولكن لما كان بنص آخر فنفصل عنه صيغة أشبه المعارض والناسخ، فنزل منزلة بين المنزلتين.

(1/129)


القول في أقسام الأحكام الثابتة بالنص الظاهر دون القياس بالرأي
هذه الأقسام أربعة:
أ- الثابت بعين النص.
ب- والثابت بإشارة النص.
ج- والثابت بدلالة النص.
د- والثابت بمقتضى النص.
فأما النوعان الأولان: فالثابت بالنص ما أوجبه نفس الكلام وسياقه.
والثابت بالإشارة ما لا يوجبه سياق الكلام ولا يتناوله، ولكن يوجبه الظاهر نفسه بمعناه من غير زيادة عليه أو نقصان عنه، وبمثله يظهر حد البلاغة ويبلغ حد الإعجاز ويكون على مثال من ينظر فيرى شخصاً بإقباله عليه، وآخرين يمنة ويسرة بغمز عينه.
ويرمي سهماً فيصيب صيدين أحدهما قصداً على ما يوجد في العادة والآخر فضلاً على ما يوجد في العادة بزيادة حذقه في الباب وذلك نحو قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} الآية، فإنها نص على إيجاب سهم لهم من الغنيمة، فالآية سيقت لبيان قسمة الغنائم وإشارة إلى زوال أملاكهم بمكة بقهر الكفار، فالفقير في الحقيقة عديم الملك لا البعيد عن الملك لأنه ضد الغنى والغني من ملك المال لا من أصابه بيده حتى كان المكاتب فقيراً وإن أصاب كثيراً.
ونحو قول الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} فهو نص على بيان منة الوالدة على الوالد، فالآية سيقت له وإشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر فمدة الفصال حولان بنص آخر (وفصاله في عامين) فاختفى هذا الحكم على الصحابة واختص بفهمه عبد الله بن عباس ولما أظهره قبلوه منه.
ومنها قول الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فالآية نص على إيجاب رزق الولد على الوالد، وفيه إشارة بالإضافة إلى الوالد بلام التمليك إلى أن الأنساب إلى الآباء، وإلى علة اختصاص الأب بالتزام النفقة فإنها تجب بسبب الإضافة إليه بلام التمليك كما تجب نفقه عبده.
ومنها قول الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} إلى قوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} فالآية

(1/130)


نص على إباحة الأكل والشرب والجماع جميع الليل.
وفيها إشارة إلى صحة الصوم مع الجنابة فإن من ضرورة الجماع إلى النهار أن يصبح جنباً وقد أمر بالصيام بعد ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} نص على وجوب الصوم نهاراً وفيه إشارة إلى تأدي الصوم بالكف عن الأكل والشرب والجماع لأن الآية سيقت لبيان قسمة الزمان للفطر والصوم إذ الصوم لا يمكن وصالاً فلا بد من أن يكون الزمان في حقه قسمين.
فقسم الليالي للفطر وجعل العلم عليه علة فعل الجماع والأكل والشرب فكانت القسمة إشارة إلى أن العلم على قسم الصوم ضده وهو الكف عن الأكل والشرب والجماع فيصير بإشارة النص الكف عنها نمطاً وركناً به يتأدى الصوم ضرورة معرفة ضد الشيء بعلم هو ضد علم الآخر.
وقال الله تعالى في كفارة اليمين: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} إلى قوله: {أو كسوتهم} فكانت الآية بكلمة أو نصاً على أن الواجب أحد الفعلين والخيار إلينا.
وبكلمة الكسوة إشارة إلى أن تمليك الكسوة شرط دون تمليك الطعام لأن الواجب علينا فعل التكفير كما في العبادات فحقوق الله تعالى قبلنا أفعال ابتلانا بإقامتها أو الكف عنها، وقد شرع التكفير بالطعام بالفعل وهو الإطعام كما شرع التكفير بالتحرير فصار الواجب الفعل الذي يسمى إطعاماً لغة إلا أن لا يصلح فنزيد ضرورة ما فيه الكفاية.
والإطعام اسم لفعل يتصف به الغير بطاعم فمتى اتصف الغير بطاعم بتسليط من قبل إنسان كان المسلط مطعماً لغة لأنه متعدي من طعم كالإجلاس متعد من جلس وذا القدر يكفي للتكفير لأن ملكه يتلف بالإطعام إذا تم.
والكفارة قد شرعت بإتلاف الملك بالتمليك كالتحرير فلم تجز الزيادة.
وشرع الآخر بلفظ الكسوة، وهو اسم لما يكتسى لا لفعله والتكفير فعله فاضطررنا إلى زيادة فعل منه لتصير الكسوة كفارة لذلك الفعل، وإنما تصير الكسوة كفارة بفعل يخرج الكسوة عن ملكه لأن التكفير يكون بالإخراج عن ملكه إلى ملك غيره.
وقد يكون بالإخراج لا غير وهو الأدنى وبأن يكسو الفقراء عارية لا يخرج عن ملكه فلا يكون فعل تكفير وقد اضطررنا إلى ما يخرج، وما ذلك إلى إخراج بتمليك فتزيد ضرورة وإشارة بلفظة الإطعام والكسوة إلى أن المصروف إليه صار أهلاً لحاجته إلى الطعام والكسوة لأن الله تعالى ما شرع صلة مالية إلا للحاجة إليها.

(1/131)


ولما خص هذه الصلة بالكسوة وهي اسم لثياب تكتسى وبالإطعام علم أن سبب الاستحقاق حاجة خاصة أيضاً، وهي الحاجة إلى الإطعام والإكساء وهذه الحاجة مما يتجدد بالأزمنة لفقير واحد على أصل الخلقة، فصار الواحد على اختلاف الأزمنة المجددة للحاجة قائماً مقام العشرة بإشارة النص إلى هذه العلة، لا بذكر بالنص فصارت الآية نصاً على شرع أنواع ثلاثة، ونصاً على التخيير، وإشارة باختيار اسم الفعل لأحدهما واسم الثوب للآخر على تعليق الحكم بعين المنصوص عليه من الفعل، وبزيادة على المنصوص عليه من اسم الثوب.
وإشارة أيضاً باختيار الاسم المشتق من الأكل والاكتساء اللذين لا يتصوران إلا بحاجة إلى العلة التي بها صار الفقير أهلاً للصرف إليه فجرت الإشارة من النص مجرى التعريض والكناية من الصريح والمحتمل من المحكم أو المشكل من الواضح الذي لا ينال المراد به إلا بضرب تأمل، وتبين ثم قد يوجب العلم بموجبه بعد البيان، وقد لا يوجب وإنه من أبلغ الكلام فقد أصاب عرضين بنص واحد فهذان نوعان ظاهران ثابتان بالظاهر نفسه بلا زيادة ولا نقصان والله أعلم.
وأما الثابت بدلالة النص: فما ثبت بالاسم المنصوص عليه عيناً أو معنى بلا خلل فيه، ولكن في مسمى آخر هو غير منصوص عليه.
فمن حيث كان الموجب ثابتاً بمعنى النص لغة بلا خلل لم يكن الحكم في المحل الذي لا نص فيه ثابتاً قياساً شرعياً، لأن معناه بلا خلل فيه معروف باللغة لا بالشريعة.
ومن حيث ثبت في محل لا نص فيه لم يكن منصوصاً عليه بعينه فسميناه دلالة النص لأن الحكم أبداً يعم بعموم موجبه فالمحل المنصوص عليه وإن كان خاصاً فالموجب عام فدل عمومه على عموم الحكم لما لا نص فيه.
مثال قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} فالتأفيف حرام نصاً والشتم والقتل دلالة النص حتى فهمه كل من عرف معنى النص لغة كما لو كان النص عاماً، وذلك لأن الحرام بالنص التأفيف وإنه اسم وضع لكلام فيه ضرب إيذاء واستخفاف فصار حراماً بمعناه لا بصورة النظم حتى لا يحرم على قوم لا يعقلون معناه أو كان عندهم هذا اسماً لضرب كرامة فكانت الصورة محلاً للمعنى.
ولما كان سبب الحرمة معناه وهو الإيذاء وإنه بقدره موجود في كلمات أخر وأفعال من الضرب والقتل مع زيادة ثبتت الحرمة عامة، ولم يكن قياساً.
فالقياس منا: استنباط علة من النص بالرأي ظهر أثرها في الحكم بالشرع لا باللغة متعدية إلى محل لا نص فيه كما قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة" إنه معلول

(1/132)


بالكيل والجنس بالرأي لأنه ليس بعين الحنطة ولا عين معناها لغة، ولا ما أوجبه النص.
ومن ذلك قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] فإنه نص على إيجاب القضاء على المسافر إذا أفطر.
ودليل على إيجاب القضاء على من أفطر بغير عذر لأن القضاء بالإجماع لا يجب إلا بعد وجوب الأداء.
فوجوب الأداء في حق المسافر لما أوجب القضاء إذا لم يصم مع العذر المبيح للتأخير فإذا زال العذر والوجوب قائم مع ترك الأداء بلا عذر في حق غيره فكان الحكم ثابتاً من طريق الأولى.
وروي أن ماعزاً زنا وهو محصن فرجم فصار رجمه ثابتاً بالنص، ورجم من سواه إذا زنا وهو محصن ثابت دلالة لأنا عرفنا بالنص وبالإجماع أن السبب الموجب في حق ما عززناه في إحصانه لا كونه ماعزاً، وهذا السبب يعم غيره فكذلك حكمه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الهرة ليست بنجسة لأنها من الطوافين والطوافات عليكم" فثبتت الطهارة للهرة نصاً وللحية بدلالة النص لعموم العلة.
وقال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "إنه دم عرق توضئي لكل صلاة" فوجب الوضوء عليها بدمها نصاً، وعلى غيرها بسائر الدماء دلالة لعموم العلة فالعلة منصوص عليها في هذين البابين وبمنزلة المنصوص عليه فيما مضى.
لأن معنى النص لغة الذي لأجله صح وضع الاسم دون غيره بمنزلة المنصوص عليه لأن الكلام ما صار مفيداً ولا موجباً إلا بمعناه.
وكذلك الله تعالى أوجب الحد على الزاني ثم أوجب عامة العلماء الحد على اللوطي دلالة فإن الحدود لا تثبت قياساً فقالوا: إن الزنا اسم لفعل حرام لغة وهو اقتضاء شهوة الفرج على قصد اقتضاء الشهوة بسفح الماء لا غير، ولهذا سمي سفاحاً لا لقصد الولد.
واللواطة من حيث اقتضاء الشهوة وسفح الماء على سبيل تضييع النسل مثل الزنا بل أبلغ.
أما الاشتهاء فالمحلان فيه سواء طبعاً.
وأما الحرمة فآكد في حق اللواطة شرعاً وعقلاً لا تزول بحال في هذا المحل.
وأما الضياع فلأن الولد لا يتخلق في هذا المحل أصلاً فتعدى الحكم إليها لعموم

(1/133)


معنى الزنا، إلا أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول فيه معنى زائداً وهو أن الحدود شرعت زواجر، وليست اللواطة كالزنا في الحاجة إلى الزاجر.
لأن الزنا مما يرغب فيه الفاعل والمفعول بها، واللواطة لا يرغب فيها المفعول به طبعاً.
ولأن في الزنا ضياع النسل وفساد فراش الزوج، وليس في اللواطة فساد الفراش فلم تساويه جناية.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي أكل وشرب ناسياً: "أتم على صومك فإن الله تعالى أطعمك وسقاك" فسقط حكم الفطر من الأكل بالنص، ومن الجماع بدلالة النص.
لأن المسقط من حيث النص نسيانه للصوم وإنه يتعدى إلى الجماع، والجماع مفطر مثل الأكل سواء.
وكذلك كفارة الإفطار على الأعرابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان ثبت بالنص، وعلى غيره بدلالة النص بالإجماع.
وكذلك يجب بالأكل والشرب بدلالة النص لأن الجماع أوجبها بالإجماع لا بمعناه وقوعاً على المرأة، وهو اقتضاء شهوة الفرج فإنه لو كان سبباً لصومه لا يجب ولكن بمعناه وقوعاً على الصوم فإنه مفطر للصوم، والكفارة كفارة فطر، ومعنى الإفطار عام تعلق به وبالأكل والشرب سواء لأن الصوم كان صوماً للكف عن اقتضاء شهوة البطن والفرج، فلما استويا في قيام الصوم بالكف عنهما استويا في انتقاضه بفعلهما ضرورة، وذلك هو الإفطار.
ولما كان الإيجاب في الأكل بالإفطار الذي هو في الجماع لم يكن قياساً بل كان عملاً بمعنى الاسم الثابت نصاً إلا أنه اسم شرعي فالأكل اسم للإفطار شرعاً كالصوم بل كان القياس ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى في أن من أكل مكرهاً لم يفسد صومه كالناسي لأن الكره غير النسيان اسماً ومعنى.
فلما لم يكن الحكم مضافاً إلى الموجب الثابت بالنص بل إلى غيره كان قياساً فكان فاسداً لأن النص معدول بحكمه عن القياس على ما بينا في موضعه.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف" فوجب القود بالسيف بالنص، وبالرمح لأنه مثل السيف فالمراد بالسيف هو القتل به لا قبضه، والرمح مثله قتلاً به، وكذلك السهم وما يجرح.

(1/134)


ومن ذلك الجماع لما أوجب على الرجل الكفارة بعلة الفطرية نصاً دل على الإيجاب على المرأة لأن الجماع يعمهما.
ولما صح صوم عاشوراء بالنية من النهار وهو واجب نصاً بالأمر دل على صحة صوم رمضان وإن لم يتناوله النص لأنه مثله في صفة الوجوب، وهو أنه واجب بسبب ذلك الوقت عينه لا سبب له غيره.
وضرب الدلالة من باب البلاغة معنى.
وضرب الإشارة من باب البلاغة لفظاً فذلك لفظ تضمن معنيين وهذا لفظ في محل خاص تضمن معنى عاماً فكانا من ضروب الفصاحة.
وقد قال الشافعي رحمه الله: إن الكفارة لما وجبت بقتل الخطأ فبقتل العمد أولى لأن الخطأ عذر مسقط لا موجب لحقوق الله تعالى، فلما لم يسقط ضمان الكفارة مع قيام العذر فبدون قيامه أولى كما قلنا نحن في قضاء صوم السفر.
وكذلك الكفارة لما وجبت باليمين المعقودة إذا حنث فيها وصارت كاذبة فالتي هي كاذبة من الأصل أولى بالإيجاب لوجود ذلك الكذب فيه وزيادة إلا أن نقول بالقتل خطأ وجبت الكفارة لا بنفس القتل لأن نفسه فعل محظور إذا كان بغير حق، وإنما يأخذ صفة الإباحة بالخطأ فإن الشرع أباح له الرمي باجتهاده.
ولا بد لسبب الكفارة من صفة الإباحة مع صفة الحظر لأن في الكفارة معنى العبادة، ومعنى العقوبة على ما بينا من بعد.
ووجوب العبادات لا يتعلق بارتكاب المحظورات والمعاصي، بل بأسباب مباحة موجبة كملك النصاب.
ووقت الصلاة، والعقوبات تتعلق بارتكاب الجرائم، فإذا اجتمع لها صفة العبادة والعقوبة لم يجب إلا بسبب مباح محظور فلم يصر الحرام المحض بمعنى ما فيه الإباحة في صلاحه سبباً للكفارة.
وكذلك اليمين الغموس حرام محض ما فيه وجه إباحة شرعاً، والمعقودة مباحة فإن الشرع أمر به في بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحلف الحق محظورة من وجه لقوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} أي لا تحلفوا، وقوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الآية فكان الوجوب معلقاً في المعقودة بالوصفين جميعاً فلا يصير الحرام المحض من جنسه بل الحرام المحض من جنس الزنا والردة والسرقة فلا يصلح سبباً للكفارة بل للعقوبة المحضة إما في الدنيا وإما في الآخرة.
وأما النوع الرابع وهو المقتضى فزيادة على النص لم يتحقق معنى النص بدونها

(1/135)


فاقتضاها النص ليتحقق معناه، ولا يلغو فصار حكم المقتضى مضافاً إلى النص لأن النص أوجب المقتضى فصار المقتضى مع حكمه حكمين للنص، كشراء الأب إعتاق حكماً، وإن لم يوجب العتق بنفسه بل بزيادة الملك، ولكن الملك لما ثبت بالشراء كان حكمه، وهو العتق مع الملك حكمين للشراء فكذلك ها هنا، ولما أضيف المقتضى مع حكمه إلى النص صار بمنزلة الحكم الثابت بالنص بعينه بلا مقتضى ولم يكن قياساً وهذا لا خلاف فيه، إنما الخلاف في أن المقتضى هل له عموم النص أم لا؟
قال علماؤنا: لا عموم له.
وقال الشافعي: له عموم لما ذكرنا أن الحكم الثابت به بمنزلة الحكم الثابت بالنص، والحكم الثابت بالنص، والحكم الثابت بالنص له عموم فكذلك هذا إلا أنا نقول أن مقتضى النص ساقط من النص بنفسه في الأصل لا حكم له، وإنما يثبت ضرورة أن يصير الكلام مفيداً فيتقدر بقدر الضرورة.
وإذا ثبت بقدر ما يصير الكلام مفيداً زالت الضرورة المثبتة فسقط ثبوته كالميتة حكمها الحرمة في الأصل، والحل يثبت بالضرورة فيتقدر بقدرها، وهو قدر سد الرمق دون ما سواه من التمول والحمل والشبع، بخلاف الثابت بالنص نفسه لأن ثبوت معناه منه الأصل فلا يسقط إذا كان عاماً إلا بدلالة كحل الذبيحة.
ومثاله: قول الله تعالى: {وسئل القرية} أي أهلها اقتضاء لأن السؤال للتبيين، فاقتضى موجب هذا الكلام أن يكون المسؤول من أهل البيان ليفيد فيثبت الأهل زيادة اقتضاء ليفيد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وعينها غير مرفوع فيصير كذباً لو أريد بها عينها، وهذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى ضرورة زيادة وهو الحكم ليصير مفيداً وصار المرفوع حكمها، وثبت رفع الحكم عاماً عند الشافعي في الآخرة وهو المؤاخذة بالعقاب، وفي الدنيا من حيث الصحة شرعاً.
وقال: طلاق المكره والمخطئ باطل وكذلك كل تصرفاته، والأكل مكرهاً ومخطئاً لا يفسد الصوم لأنه متى فسد لزمه القضاء، وهو من الأحكام المشروعة في الدنيا.
وكذلك صحة أداء الصوم في نفسه حتى يسقط المؤاخذة عنه من أحكام الدنيا والثواب من أحكام الآخرة فتثبت عامة، كما لو ثبت نفي حكم الخطأ نصاً فقال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي" حكم الفعل ناسياً ومكرهاً وخطئاً.

(1/136)


وقال علماؤنا رحمهم الله تعالى: إنما يرتفع بها حكم الآخرة لا غير، ولا يرتفع عاماً لأن حكم الآخرة وهو المؤاخذة مرفوع بها بالإجماع وبهذا القدر يصير مفيداً فتزول الضرورة فلا يتعدى إلى حكم آخر.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والمراد بها: حكم الأعمال فعينها تثبت بلا نية.
وقال الشافعي: كل حكم يتعلق ثبوته شرعاً بالنية إلا حيث قام الدليل.
وقلنا: لا يتعلق بها إلا حكم الآخرة من الثواب فإنه مراد بالإجماع فالعبادات التي يتعلق بها ثواب لا تصح مؤادة بنفسها إلا بنية، ولما ثبت هذا مراداً وبه يصير الكلام مفيداً لم يتعد إلى ما وراءه، وصار كأنه قال: إنما ثواب الأعمال بالنيات.
وقال علماؤنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق، ونوى بها ثلاثاً: لم يصح.
وقال الشافعي: يصح، لأن قوله: طالق يقتضي طلاقاً لا محالة، ولو قال لها: أنت طالق طلاقاً، ونوى به ثلاثاً صح فكذلك ها هنا.
وقلنا: النية لا تصح في قوله: طالق، لأنه نعت لفرد لا يحتمل الثلاث، وإنما يصح في الطلاق لأنه اسم يحتمل العموم والخصوص، والطلاق غير منصوص عليه، ولكنه مقتضى النص، والمقتضى لا عموم لثبوته عندنا بل يثبت بقدر ما ترتفع به ضرورة النص، وضرورته ترتفع بثبوته في حق طالق ليقع لأن النعت لا يثبت بدون المصدر فلم يبق ثابتاً في حق نية الثلاث، لأن النعت صح بدون الثلاث فلم تكن الضرورة المثبتة في حق نية الثلاث ثابتة فلم يثبت في حقها، وكان كالاستحقاق الثابت على المشتري بإقراره يثبت خاصاً في حقه دون البائع، لأن قوله جعل حجة عليه لا على غيره فثبت خاصاً بقدر خصوص الحجة.
وكما قالوا فيمن قال لآخر: اعتق عبدك عني بألف درهم. فقال: أعتقت، ثبت العتق عنه، وثبت الشراء من المأمور مقتضياً بالإجماع، فصار الطلب مقتضياً بيعاً منه ضرورة أن يصح العتق عنه، وثبت البيع خاصاً في حق تصحيح العتق عنه، ولم يثبت حيث لا تصحيح للعتق، حتى لو قال المأمور: بعتك بألف درهم ثم أعتقه لم يصر مجيباً لكلامه بل كان مبتدئاً ووقع العتق عن نفسه.
وكذلك من قال لامرأته: حجب، ونوى الطلاق لم يصح وإن اقتضى الحج ذهاباً لأنه اقتضاء ضرورة أن الحج لا يتصور إلا بذهاب، فثبت ذهاب لتصحيح الحج لا ذهاب

(1/137)


مطلق، وذهاب الحج لا يحتمل معنى الطلاق فلم يصح فيه نية الطلاق، كما لو قال: اذهبي إلى بيت الله، والذي يدل على أن المقتضى من باب الاختصار، والعرب إنما تختصر على وجه يدل الباقي على ما سقط كما في قوله تعال: {وسئل القرية} فالسؤال للتبيين، فدل على أن المختصر هو الأهل الذي هو أهل للبيان.
وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ" الخبر وقوله: "إنما الأعمال بالنيات" دليل على أن المرفوع والواجب حكمان من حقوق الله تعالى دون الناس لأن الخطأ والنسيان والكره من صفات القلب، وكذلك النية، والقلب باطن لا يقف على عمله إلا الله تعالى، فحكم عمله لا يثبت إلا في حق الله تعالى، وذلك في معنى العبادة من العمل أو معنى المعصية فأما ما عداها فللعباد.
ولهذا قال علماؤنا أن بيع المكره يجوز، وكذلك كل تصرفاته معتبرة لأنه صفة القلب، ولكن لا يحل ولا يطيب. لأن الحل والطيب والحرمة حق الله تعالى.
وجملة حد المقتضى أن تنظر إلى النص نفسه، وإلى المعنى الذي هو شرط صحة الكلام فتثبته مقتضياً كما في قوله تعالى: {وسئل القرية} فإنه لو تم بنفسه لوجب أن تكون القرية ذات بيان فإذا لم يوجد فيها هذا الشرط أثبتنا من فيه ذلك، وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" لأن الفعل خطأ لو تم بنفسه لوجب أن يكون المرفوع حقاً لله تعالى لما ذكرنا، فإذا لم يتم وتصور العمل واقعاً معه أثبتنا ما فيه ذلك الوصف، وهو معنى المعصية من العمل ليكون ثبوت المقتضى من حيث يدل عليه اللفظ، فإن الإثبات بلا نص أو دلالته أو إشارته لا يكون إلا بالقياس والقياس حجة في تعدية حكم النص إلى غيره، دون إثبات النصوص وقد نص كتاب الله تعالى على هذا فإن من قتل خطأ لم يأثم ولم يعاقب عليه في الآخرة، ولزمه ضمان الدم والكفارة لأنها ليست بعقوبة محضة.
ومن حنث في يمينه خطأ أو ناسياً ليمينه لزمته الكفارة ولم يأثم.
ومن زنى بامرأة خطأ لزمه العقد ولا يلزمه الحد لأنه عقوبة خالصة لله تعالى، وهذا قريب من الضرب الأول فإنا أوجبنا بالضرب الأول حكما حيث لا نص فيه بدلالة النص، وها هنا أوجبنا زيادة موجب ليس في النص بدلالة النص إلا أن تلك في محل الحكم، وههنا في علة الحكم.
فإن قيل، إذا قال الرجل لولد له أم معروفة: هذا ولدي، حتى يثبت النسب منه، ثم

(1/138)


جاءت أم الغلام بعد موت الأب وصدقته ورثته ودعوة الغلام نصاً إقرار بنكاح الأم اقتضاء، وثبت في حقق تصحيح النسب الذي لا بد له من الوالدة في حق الميراث، كما لو ثبتت أماً بالإقرار.
قلنا: قوله: هذا ولدي، إقرار بأنه ولده منها إشارة لا اقتضاء ولأن الولد اسم مشترك لا يتم إلا بوالد ووالدة كاسم الأخ لا يتم إلا بأخ آخر، فكذلك الولد لا يتم إلا بوالدين، ولو صار تسمية الولد تسمية للوالدين إشارة، صار الثابت بالإشارة كالثابت بالظاهر فثبت عاماً بخلاف المقتضى فهذه حدود متشابهة ما يميز بينها إلا الفهم المنصف وشيء منها لا يحتمل الخصوص.
أما المقتضى فلأنه لا عموم له.
وأما الدلالة فلأنها تعم بحسب عموم العلة، والعلة بعدما ثبتت علة لا تحتمل الخصوص لما ذكرنا أن الخصوص لبيان أن قدر المخصوص لم يدخل تحت النص فأما بعد الدخول فلا يكون تخصيصاً بل يكون تركاً.
وأما الإشارة فلأنها زيادة معنى على معنى النص، وإنما تثبت بإيجاب النص إياه لا محالة فلا يحتمل الخصوص وبيان أنه غير ثابت.
وقد لقب بعض الناس فقال: أن النص يعمل بمنظومه ومفهومه، وإنه لقب حسن غير أنهم لم يفرقوا بين أنواع ما فهم من النص بهذا الاسم مما قد مر، وبين ما لا يفهم منه.
ومنها ما قال بعضهم: أن التنصيص دليل على التخصيص، وعنى به قطع المشاركة بين المنصوص عليه وغيره من جنسه، قال: لأن الشرع لما نص على عين من الجملة دل على تخصيصه إياه بذلك الحكم لولاه لما كان للتخصيص بنصه فائدة.
وهذا تلبيس ظاهر لأنه إن عنى بالتخصيص أن ما لا يدخل تحته لا يشاركه في حكم النص بالنص فما أحد يخالفه، إلا أن نقول إنما لا يشاركه لأن سبب الوجوب لم يتناوله، والحكم إنما يثبت بحسب سببه لا أن الخالص نفاه، وإن قال لا يجوز أن يشاركه ما عداه في حكمه لمانع من حيث النص فغلط ظاهر لأن ما عداه لم يدخل تحته فكيف يتعدى إليه حكمه بنفيه، على أن النص كان لإيجاب حكم فكيف يوجب نفيا؟ وهو ليس بمعناه لغة بل هو ضده فكيف يقال هذا؟
وما من نص إلا ويجوز تعليله عند من يقول بالقياس وإذا علل يتعدى، ولو كان النص مانعا من التعدي لما كان بعرض التعليل ولأن من أبى القياس أباه لأنه رآه محتملا

(1/139)


للكذب والصدق فأبطله لضعف فيه لا لأن النص منع القياس عليه كما لا يكون خبر الفاسق حجة لا لأن النص الذي يرويه الفاسق يمنعه من كونه صحيحا في ذلك بل لضعف في سنده، فيصير هذا القول خارجا عن حدود الإجماع.
ومنها ما قال الشافعي- رحمه الله- فيما يحكي عنه أصحابه: أن تنصيص الشرع على وصف من جملة أوصاف المسمى باسمه يفهمنا نفي ذلك الحكم عند عدم ذلك الوصف ويجري مجرى النص عليه نفياً كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل السائمة شاة" فلا تجب الزكاة إذا لم تكن سائمة، كأنه قال: ولا زكاة إذا لم تكن سائمة، قال ألا ترى أنا خصصنا به عموم قوله: "في خمس من الإبل شاة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أدوا صدقة الفطر عن كل حر وعبد من المسلمين" فأوجب بمفهومه نفي الصدقة عن الكفار فأوجب تخصيص عموم الأمر بالأداء عن كل حر وعبد تقييده بالإسلام.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ربح ما لم يضمن" فدل بمفهومه على طيبة ربح ما قد ضمن، قال: لأن تخصيص صاحب الشرع وصفاً من أوصاف المسمى باسمه يوجب تعلق الحكم بذلك الوصف نصاً بدليل أنه لولا الوصف لثبت الحكم قبله والآن تعلق ثبوته مع وجود الاسم العام الموجب لولا ذكر الوصف بوجود الوصف، وهو كقول الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار فالدخول شرط لأن الطلاق كان يجب بقوله: أنت طالق لولا الدخول فلما تعلق بالدخول كان شرطاً، وإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار وأنت راكبة، كان الركوب شرطاً، والطلاق يتعلق بالركوب كما يتعلق بالدخول، ولما جرى مجرى الشرط وجد الحكم عند وجوده بمنظومه وعدم عند فقده بمفهومه، بخلاف اسم العلم فإنه يذكر للتعريف لا لتعليق الحكم به.
فأما الوصف فهو اسم الحال والنعت المعنوي فدل على تعلق الحكم به، ولأن الاسم لابتداء الإيجاب كالعلة والوصف بعده لتعليق حكم الاسم بالوصف حكماً فكان شرطاً والفرق بينهما ما نذكره في فصل الشرط.
وأبى علماؤنا- رحمهم الله- هذا فإن أبلغ ما في الباب أن يصير الوصف المعنوي المؤثر في إيجاب الحكم بمنزلة ذكر العلة.
ولا خلاف بين العلماء أن العلة توجد الحكم عند وجودها ولا يعدم عند عدمها بل الحكم يبقى عند العدم على ما كان قبل معرفة العلة، وإنما يصير الوصف شرطاً إذا عطف على شرط كما في مسألة الطلاق فإن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه.

(1/140)


فأما إذا قرن بنص فيصير بمنزلته ثم الاسم كان موجباً للحكم ابتداءً فكذلك الوصف إلا أنه معنوي مؤثر فيصير عليه النص، ولهذا كان السوم بمنزلة العلة في باب الزكاة يضاف إليه الوجوب، والشرط لا يضاف إليه الوجوب، نحو قول الرجل لآخر: أعتق عبدي الصالح، أو طلق امرأتي البدية فيدل الوصف على أنه المشير للحكم فيصير بمنزلة العلة.
على أنا وإن سلمنا أنه يصير شرطاً فالشرط عندنا يوجد الحكم عند وجوده، ولا يقتضي نفياً عند عدمه بل الحكم حال عدم الشرط يبقى موقوفاً على قيام الدلالة، كما قلنا في العلة، ولهذا قلنا: إن صدقة الفطر تجب عن العبد الكافر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا عن كل حر وعبد" من غير تفصيل، وقوله: "من المسلمين" لا يوجب التخصيص لأنه لا حكم له فيمن ليسوا مسلمين، وإنما أوجب تقييد كل عبد ذكر في صدر هذا النص بالإسلام لأنه كلام واحد فلا يحكم بصدره قبل الاختتام عليه وما اختتم إلا بقيد الإسلام فصار المذكور عبداً مسلماً من الأصل فلم يدخل تحته الكافر، لا أن صفة الإسلام رفع الحكم عن الكافر فأما النص المطلق الذي اختتم على إطلاقه فقد دخل تحته الكافر والمسلم فلا يخرج الكافر إلا برافع.
وأما الزكاة فإنما لم تجب في الإبل العوامل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في الإبل العوامل" لا بقوله: "في خمس من الإبل السائمة شاة" ألا ترى أن من قال لآخر: اعتق عبدي الأسود، ثم قال: اعتق عبدي الأبيض لم يكن نهياً عن عتق الأسود.
ومنها الحكم المعلق بشرط.
قال الشافعي- رحمه الله-: إنه ينتفي حال عدم الشرط بمفهومه.
وقال علماؤنا- رحمهم الله-: انتفاء المعلق حال عدم الشرط لا يفهم من التعليق بل يبقى على ما كان قبل ورود النص.
واحتج الشافعي بأن تعليق الحكم بشرط ينفيه عما قبله ويعدمه على اعتبار أنه لولاه لكان موجوداً كقول الرجل لعبده: أنت حر، يوجب وجود الحرية صفة للعبد، فإذا قال: إن دخلت الدار، وتعلق به العتق أوجب إعدامه عن محله ونفيه مع وجود قوله: أنت حر فثبت أن التعليق كما يوجب الوجود عند الشرط أوجب النفي عما قبله وكذلك التعليق الحسي فإن تعليق القنديل بالحبل بسماء البيت يوجب وجوده في الهواء ونفيه عن الأرض والمكان الذي كان فيه لولا العلقة.
وليس الشرط كالعلة فإن العلة يتعلق بها ابتداء ثبوت الحكم وعدم الحكم قبل أولية

(1/141)


الوجود لا يكون بعلة ولكن بانعدام علة الوجود أو سببه فلم يكن من حكم العلة إلا وجوب الحكم عندها، فإنه السبب لابتداء الوجوب والتعليق لتغيير حكم الوجوب بعد وجود سبب الوجوب فجرى مجرى الأصل ولهذا لم يجوز الشافعي تعليق الطلاق أو العتاق بالملك، لأن وجوده لا يسبق الملك وملك المحل هو الشرط لابتداء صحة التطليق أو الإعتاق فيه والتعليق لتغيير حكمهما بعد وجودهما، فلا بد أن يكون ملك التعليق مرتباً على شرط صحة العلة.
وقال الشافعي- رحمه الله-: لا يجوز نكاح الأمة حال وجود طول الحرة لأن الله تعالى قال: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} فعلق جواز نكاح الأمة بعدم طول الحرة فأوجب الإباحة عند عدم الطول ونفيها عند وجود الطول.
وقال أيضاً: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية لأن الله تعالى علق الإباحة في الأمة بصفة الإيمان وقد ذكرنا أنه يجري مجرى الشرط.
وقال: إن تعجيل الكفارة قبل الحنث جائز، وإن علق الوجوب بالحنث كما لو قال: إن دخلت الدار فعلي كفارة لأنه، على أصله بمنزلة التأجيل، كأنه قال: لله علي أن أتصدق بدرهم غداً، والأجل لا يمنع تعجيل العبادة المالية بالإجماع فكذلك الكفارة بالمال وهذا لما ذكرنا أن ابتداء وجوب الحكم يكون مع السبب لا مع الشرط.
وإنما يكون مع الشرط تأدية فإذا وجد السبب لم يمتنع أداؤه قبل الشرط فيما يتصور وجوده ثابتاً قبل فعل الأداء من نحو العبادات المالية لأنها حقوق مالية تجب في الذمة ثم تؤدى بالفعل كديون العباد، فيتصور فيها الفصل بين الواجب بنفسه وبين وجوب الأداء على العبد فعلاً، كما في الديون المؤجلة فإذا تأخر الأداء بسبب جاز التعجيل بعد السبب بناء على ثبوته في نفسه.
فأما البدني فلا يمكن الفصل فيه بين الواجب وبين المؤدى فإنه فعل فيكون ابتداء وجوده حال الأداء فالشرط الذي يؤخر الأداء كينونته في نفسه فيمنع ثبوته قبل الشرط ويستوضح هذا بالعقد الوارد على العين دون الذمة، كمن اشترى عبداً بعينه فلا بدأن يكون التسليم مرتباً على ملك المبيع في نفسه.
وإذا اشترى منفعة عين نحو استئجار الدار لم تسبق المنفعة في الحقيقة التسليم لأنه لا يبقى زمانين، فحال التسليم حال ابتداء دخوله تحت العقد حقيقة، فكذلك ما يلتزم في الذمة إن كان الملتزم مالاً فالأداء يترتب على الواجب، ويمكن الفصل بينهما حقيقة أو اعتباراً، وإن كان الملتزم فعلاً فلا يمكن الفصل بين المؤدى والواجب.
وأما علماؤنا فإنهم ذهبوا إلى أن الأسباب الموجبة للأحكام إذا علقت بالشروط كان

(1/142)


التعليق تصرفاً في العلل بإعدامها لا في أحكامها وعند وجود الشرط يكون ابتداء وجود الأحكام كما عند وجود العلل لا فرق بينهما في حكم الابتداء، وإنما يفترقان في الإضافة فيقال عند الشرط تجب ابتداء، ولكن بالعلة تجب، وإذا كانت بمنزلة العلل في حكم الابتداء كان الانعدام قبلها بحكم أن لا تصور للوجود قبل ابتدائه لا بسبب باق كما قال الخصم في العلة، ولا إشكال فيه، وإنما الإشكال في إثبات هذا الأصل وبيانه فيمن قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار، فالحرية قبل الدخول منعدمة لانعدام العلة لا لأن الشرط نفاه بعد وجود سببه لأن قوله: أنت حر كما لا يعمل حتى يتم الصيغة بقوله أنت مقروناً بقوله حر لا يعمل حتى يحل محلاً صالحاً للتحرير، فإنه لو أضافه إلى بهيمة أو ميتة؛ لغا، كما إذا قال: أنت، وسكت، أو قال: حر، وسكت.
وقوله: إن دخلت الدار، منع وصول هذا الإيجاب إلى العبد لأنه تعلق بالدخول فلا يصل إليه قبل وجوده كالقنديل المعلق بحبل لا يكون واصلاً إلى الأرض ضرورة لاستحالة كينونته كائن في مكانين أو زمانين في حين واحد، وإذا لم يصل إلى محله لم يصر أنت حر علة بل كان يعرض أن يصير علة للوصول إليه عند وجود الشرط كالرمي لا يكون سبباً للقتل قبل وقوع السهم في المرمى ولكنه يعرض أن يكون علة إذا وصل إلى محله.
وكذلك النذر المعلق بالشرط ليس بسبب لأنه لا يصير سبباً ما لم يضف إلى ذمة قابلة للحكم، والشرط يمنع الوصول إلى الذمة فلا يكون سبباً كبعض النذر، ألا ترى أن بعض النصاب لما لم يكن سبباً للزكاة فكذلك النصاب بكماله في ملك كافر ليس بسبب لأنه ليس بأهل العبادة فالتعليق قرن العلة بالشرط فانعدم للحال وانعدم الحكم حكماً لانعدام أصل العلة لا لمنع الشرط الحكم بعد العلة، وعند وجود الشرط توجد العلة ثم الحكم.
فأما قوله: بأن الشرط يمنع الحكم بمنزلة الأجل فلا كذلك بل الشرط يحول بين صورة العلة ومحلها فلا تصير معه علة لأنه دخل على أصل العلة دون الحكم ومتى دخل الشرط على الحكم ما منع السبب أن يكون سبباً كالبيع بشرط الخيار فإن الخيار داخل على الحكم دون البيع فكان البيع بيعاً وأحكامه معدومة حتى يسقط الخيار فيكون حينئذ كالأجل الداخل على حكم السبب دون السبب.
وقيل: إن من حلف لا يبيع فباع بأجل أو بشرط الخيار حنث، ولو حلف لا يطلق فقال لها: أنت طالق إن دخلت الدار لا يحنث لأنه لم يطلقها بعد، وليس هذا بنظير تعليق القنديل بالحبل لأن القنديل موجود بذاته في مكان قبل التعليق، فالتعليق لم يكن لابتداء وجوده بل كان للنقل عن مكان إلى مكان آخر فلذلك أوجب تفريغ مكان وشغل مكان آخر ولهذا جوزنا تعليق الطلاق بالملك لأنه ليس بطلاق ما دام معلقاً بشرط غير واصل إلى

(1/143)


المرأة على ما ذكرنا، ولكنه يمين وإنما يصير طلاقاً عند الشرط فاعتبر ذكر الملك حينئذ لأن ملك المرأة شرط الطلاق لا اليمين بل اليمين تتناول الذمة كاليمين بالله، ولذلك لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، ولا النذر المعلق بشرط قبل الشرط لأن الكفارة علقت بالحنث لأن اليمين عنده تصير علة الكفارة، فاليمين سبب الوجود بشرط الحنث فقبل الحنث لا تكون سبباً ويكون ابتداء وجوب الكفارة حال الحنث فلا يتصور الأداء قبله كما لا يتصور قبل اليمين وكما لا يتصور تعجيل الصوم.
وفرقه الذي ذهب إليه بين المالي والبدني ساقط لما ذكرنا فيما مضى أن العبادة عبارة عن فعل العبد مالياً كان أو بدنياً وإنما يختلف محل الفعل.
فالمالي: ما يكون محل فعل العبد من تمليك أو إعتاق المال.
والبدني: ما يكون محل فعله بدنه.
فأما الواجب: ففعل في الحالين واجب في الذمة بإيجاب الله تعالى.
والأداء: فعل العبد بماله أو بدنه بعد الوجوب، والمسمى من صلاة أو صدقة ما يحصل بفعل العبد لا بالأمر فيكون ابتداء وجوده حال فعله على ما قرره بخلاف ديون العباد التي تجب أعواضاً لأن الواجب هو المال، والتسليم لتعيين الواجب لأن صاحبه ما استحق لنفسه عوضاً إلا مالاً بإزاء حقه وما استحق فعلاً، والله تعالى ما استحق على عباده إلا عبادة وما هي إلا فعل، فأما ذوات الأموال والنفوس فلا تكون عبادة على ما مر بيانه فيما مضى.
وكذلك الله تعالى يقول: {ومن لم يستطع منكم طولاً} أباح نكاح الأمة حال عدم الطول وما حرم حال وجوده بل لم يذكره فاستبيح بسائر الآيات فصار نكاح الأمة حال طول الحرة حلالاً بالآيات المطلقة، وحال عدم طول الحرة حلالاً بتلك الآيات وبهذه، وهذا جائز لأن عقد النكاح بعد معدوم والحل صفة له فصح أن يتعلق ابتداء وجوده حلالاً بوصفين وبعلتين وبعلل كثيرة.
ألا ترى أن الرجل يقول لآخر: اعتق عبدي إن دخل الدار، ثم يقول: اعتق عبدي إن كلم زيداً، ودخل الدار فيصح، ولو دخل الدار فأعتقه كان حلالاً له، ولو كلم زيداً ودخل الدار كان إعتاقه حلالاً له أيضاً بالأمرين جميعاً.
وكذلك لو قال له: اعتق عبدي ثم قال له: اعتقه إن دخل الدار. ملك المرسل والمعلق جميعاً حتى إذا عزله عن أحدهما بقي له الآخر وأحدهما متعلق بذاته والآخر بشرط.
ولو قال لعبده: أنت حر إذا جاء يوم الخميس، ثم قال له: أنت حر إذا جاء يوم الجمعة مع التعليقان، ويوم الخميس يوجد قبل الجمعة ولا يعتبر مانعاً لجواز أن يوجد

(1/144)


العتاق يوم الجمعة في الجملة نحو أن يبيع العبد حتى يمضي يوم الخميس ثم يشتريه وإنما يستنكر بأن يكون الحكم حالاً ومعلقاً في ساعة واحدة، فأما إذا كان الحكم منعدماً فجائز تعلق وجوبه بما شاء الموجب أن يعلقه به، والتعليق بشرط لا يمنع تعليقه بآخر قبله أو بعده.
فإن قيل: كيف يتعلق الحكم بشرطين وبأحدهما فيصير أحدهما كل الشرط وبعضه؟
قلنا: هذا مستنكر بعلقة واحدة فأما إذا ثبتت العلقة بنصين فهما علقتان أحدهما بشرطين، والأخرى بشرط واحد منهما فيكون كلاً في واحد وبعضاً في الآخر كصوم ثلاثة أيام كل في كفارة اليمين بعض في كفارة الكتل.
وكذلك لو قال لعبده: أنت حر إن أكلت، ثم قال: إن أكلت وشربت فأنت حر صح اليمينان جميعاً.
وأما الآجال التي لم تمنع التعجيل فهي آجال دخلت على أحكام العلل وأخرتها إذا كان الحكم مما يقبل التأخير.
فأما العلل فقد بقيت على ما كانت فلذلك لم تمنع التعجيل لأن الأجل متى سقط وجب الحكم بالعلة، وكانت موجودة قبل سقوط الأجل على ما ذكرنا أن الأجل تعرض للحكم لا غير فيستند الوجوب إلى العلة بعد زوال الأجل فيبقى الأداء بعد الوجوب حقيقة فيجوز.
فأما الشروط التي فيها النزاع فقد دخلت على نفس العلل فمنعتها الوصول إلى محالها فلم تصر علة للحال، وإنما تصير علة عنه حين وجود الشرط فلا يسبق الحكم العلة والأداء كان قبل ذلك فلم يجز.
فإن قيل: أليس إن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إن دخلت الدار ثم طلقها ثلاثاً بطلت اليمين لوجود الجزاء قبل الشرط، حتى لو تزوجها بعد زوج ودخلت الدار لم تطلق فدلت هذه المسألة أن المعلق بالشرط ينتفي وجوده قبله، وأن الوجود قبله يبطل التعليق به فلا يجوز أن تكون الأمة مباحة النكاح بنفسها وتتعلق الإباحة بعدم الطول؟
قلنا: إن التعليق بالشرط لا ينفي، ولكن يقتضي أن يكون ابتداء الوجود عنده على ما ذكرنا كالعلة سواء، فإذا ثبت الوجود قبله لا بد أن يبقى معه الابتداء إذا كان الحكم واحداً فيبطل التعليق والحكم في مسألة نكاح الأمة جواز النكاح، والجواز صفة النكاح لا صفة المنكوحة، والنكاح قبل أن يقع معدوم للحل فنقول نحن: إن جواز النكاح قبل أن يقع معلق بذاتها وبعدم طول الحرة أيضاً، كما أن حل الوطء معلق بتزوجها وبشرائها وإذا وكل رجل بعتق عبده، ثم وكله بعتقه إن دخل الدار فالوكالة معلقة بذات العبد ودخوله الدار، حتى إذا تزوجها مع الطول وجاز النكاح لم يبق هذا الجائز معلقاً بعدم الطول،

(1/145)


وإنما يبقى معه نكاح آخر لو تصور كالطلاق الثلاث جاز أن يتعلق وجودها بالشرط وبذاتها كما لو أرسل الثلاث للحال فبان.
وإن ملك الإرسال بغير شرط لم يدل على بطلان الوجود بالشرط إذا لم يرسل، ولكن إذا أرسل ووجدت قبل الشرط لم يبق مع الشرط لأن الثلاث كل طلاقها في هذا المحل على ما عرف والكل لا يثنى، فإذا وجد قبل الشرط لم يبق مع الشرط ضرورة لأن الواحد لا يتصور في مكانين.
وأبعد من هذا أن الشافعي فهم من المقيد حمل المطلق عليه، وإن كانا حكمين فقيد كفارة اليمين بالأيمان كما قيده الله تعالى به في كفارة القتل وهما كفارتان مختلفتان.
وفهمنا نحن من النصين أن نعمل بهما على حسب مقتضاهما في اللغة من غير حمل قال: لأن القيد زيادة وصف وإنه بمنزلة التعليق بالشرط على ما مر، والتعليق ينفي الجواز دونه فثبت النفي فيه وفي نظيره من التحرير في أنواع التكفير بخلاف زيادة الصوم في القتل فإنها لم تثبت في اليمين لأنه زيادة قدر باسم العلم، وههنا تخصيص بوصف ومثل هذا يوجب الإثبات والنفي وهذا عندنا أبعد من الأول لأنه في الباب الأول اتحد الحكم وإن اختلفت العلة وههنا اختلف الحكم والعلة، وقد روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: "أبهموا ما أبهم الله"، وعن عمر- رضي الله عنه-: "أم المرأة مبهمة في كتاب الله تعالى" أي حال تحريمها عن قيد الدخول الثابت في الربيبة وعليه إجماع من بعدهم، لأن النساء في حق الأمهات ذكرن مطلقات، وفي حق الربائب قيدن بالدخول، فلم يحمل المطلق على المقيد.
والدليل على أن الدخول زيادة قيد وليس بشرط أنه دخل على النساء، والنساء معارف بالإضافة إلينا فكان زيادة القيد فيهن زيادة معرفة أيضاً كقولك عبد امرأتي، وعبد امرأتي البيضاء وهذا لما ذكرنا أنه ليس في التعليق نفي لذلك الحكم قبل القيد وإنما لا يجوز في القتل تحرير الكفارة لأنها تشرع كفارة كما لا يجوز تحرير النصف أو ذبح شاة لا لأن القيد نفى جوازه فالكفارة في نفسها وقدرها ليس تعرف إلا شرعاً، فلا يحتاج إلى الشرع لانعدام الكفارة.
ولأنا وإن سلمنا نفي ذلك الحكم بعينه قبل الشرط فلا يثبت في غيره إلا استدلالاً به، وإنما يثبت استدلالاً به إذا كان الثاني مثله سواء، والتحرير في كفارة اليمين يخالف كفارة القتل لأن الأسباب مختلفة فتختلف الأحكام وإن اتفقت اسماً كالملك الثابت بالهبة، غير الثابت صدقة وشراء وإرثاً ألا ترى كيف اختلفت صورة وحكماً فيما عدا الإعتاق من الصيام والإطعام، وكيف ظهر اختلاف في التعيين وعدمه فإن كفارة القتل تتعين وكفارة اليمين أحد الأنواع الثلاثة غير عين.

(1/146)


ولا فرق عندنا بين التخصيص بوصف وبين التخصيص باسم العلم لا لأن اسم العلم إذا لم تعقل علته يصير بمنزلة العلة، والعلة لابتداء الوجوب فلا يكون الانعدام قبل الابتداء بسبب باقي وهذا حكم الشرط والقيد عندنا على ما بينا فصار زيادة القيد، وزيادة عدد أيام الصوم والمساكين بمنزلة واحدة على هذا الوجه فلما لم تثبت زيادة العدد في كفارة اليمين، فكذلك زيادة الوصف وكان يجب على هذا القياس أن تصير أعداد ركعات الصلاة على نمط واحد.
ولما تعلق جواز الجمعة بزيادة صفة الجماعة إن وجب أن تثبت شرطاً في سائر الصلوات فإنها جنس واحد على أن الكفارات أجناس مختلفة حكماً لاختلاف أجناس أسبابها.
وكذلك صفة التتابع زيد في كفارة القتل ولم يزد على صوم كفارة اليمين، وليس في الكفارات ما قيد بصفة التفريق ليمتنع الحكم به بحكم المعارضة.
وكذلك الجواب عندنا في الحكم المطلق أنه على إطلاقه والمقيد على قيده في الحادثة الواحدة بعد أن يكونا حكمين.
قال أبو حنيفة –رضي الله عنه- فيمن كفر عن ظهاره بالصيام وجامع التي ظاهر عنها ليلاً: استقبل الصيام لقول الله تعالى: {من قبل أن يتماسا} وكذلك قال أبو حنيفة –رضي الله عنه-: لو كفر بالعتق فأعتق نصف عبده ثم جامعها ثم أعتق البقية لم يجزه، وعليه الاستقبال لأن الله تعالى قال: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}، وبمثله لو كفر فأطعم ثلاثين مسكيناً ثم جامعها ثم أطعم ثلاثين مسكيناً أجزأه لأن الله تعالى لم يقل فيه {من قبل أن يتماسا}.
فإن قيل: إنكم زدتم صفة التتابع في كفارة اليمين حملاً على كفارة القتل.
قلنا: لا هكذا، ولكن بقراءة عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: {فصيام ثلاثة أيام} متتابعات وقراءته كانت رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت مشهورة في السلف فجوزنا الزيادة على النص بها كما جوزنا النسخ بمثلها من أخبار الآحاد.
فإن قيل: ألا جعلتهما كنصين فعملت بكل واحد منهما فجوزت المتابعة بقراءة عبد الله بن مسعود، والمطلقة بقراءة الجماعة، كما قلت في صدقة الفطر عن العبد الكافر أنه يجب بالنص المطلق باسم العبد، وعن المسلم بالنص المقيد بالإسلام؟
قلنا: لأن القيد هاهنا ورد على الوجوب باليمين، وأنه حكم واحد إذا قيد لم يبق غير مقيد وفي باب صدقة الفطر ورد القيد على سبب الوجوب، ويجوز أن يكون لواجب واحد سببان فأثبتنا المقيد بقيده سبباً والمطلق بإطلاقه سبباً آخر.
فإن قيل: أليست العدالة شرطاً في باب الشهادات أجمع، فالله تعالى قيد بالعدالة بعضها.

(1/147)


قلنا: إنما توقفنا في شهادة الفاسق بقول الله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} لا بقيد العدالة في البعض، وبقوله: {ممن ترضون من الشهداء} والفاسق لا يرتضى بشهادته.
والجملة: أن النفي ليس من جنس الإثبات ليثبت بدليل النص ولا مما دخل تحت النص ليثبت به أو إشارته ولا مما لا يستغنى النص عنه ليثبت مقتضى به، لأن القياس في علتين أو شرطين أو حكمين فتعيين أحدهما لا يوجب تعيين الآخر إذا كانا ينفصلان فكان هذا من جنس الاستدلال بلا دليل والاحتجاج بلا حجة، وإنه كلام متناقض في نفسه، وسيأتيك بيانه على الوجه في أبواب المقاييس في باب مفرد لقولهم لا دليل حجة، وبالله التوفيق.
ثم الخصم ترك أصله في الصوم المطلق حيث لم يشترط التتابع والله تعالى قيد بعض الصيام بالتتابع.
فإن قيل: إن الله تعالى قيد بعض الصيام بالتتابع وبعضها بالتفرق كما في صوم المتعة، وقال: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} فالعشرة الكاملة صوم المتعة بالنص، ولو صامها متصلة لم يجزه فالمطلق منها بقي على إطلاقه لتعارض وقع بين التفريق والتتابع.
قلنا له: إن صوم السبعة لا يجب إلا بعد الرجوع فلم يصح الأداء قبله، كمن صام رمضان قبل الوقت لا أن يكون الفساد لعدم التفريق حتى لو فرق ولكن صام قبل الرجوع لم يجزه فعلم أن الفساد ليس لعدم التفريق وأنه ليس بشرط للجواز، والتتابع شرط الجواز فلا يبقى للتتابع معارض، ومع ذلك المطلق من الصيام لم يتقيد بالتتابع فبطل هذا الأصل.
فإن قيل: ألستم قلتم في رجل له أمة فولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة، فقال الأكبر: ابني لم يثبت نسب الأصغرين، وإن كان المذهب عندكم أن ولد أم الولد يحدث ثابت النسب ولا ينتفي إلا بالنفي وقد صارت أم ولد بالولد الأكبر، فعلم أن نسب الأصغرين ما انتفى إلا بنفي وإن تخصيص الأكبر بالإثبات، نفي لنسب الأصغرين.
قلنا: قد ذكرنا أن التخصيص بوصف سكوت عما وراءه غير أن السكوت في موضع الحاجة إلى بيان حجة على أن حكم المسكوت عنه بخلاف المنطوق به لأنه لو لم يكن كذلك لما حل السكوت عن بيانه مع وقوع الحاجة إليه، وفي غير موضع الحاجة إلى

(1/148)


البيان لا يكون حجة وفي مسألة الأولاد سكت المولى عن البيان في وقت الحاجة إليه لأن دعوة الأولاد فريضة عليه متى علم أنهم منه نصاً، لا بناءً على أنهم ولدوا على فراشه لأن في ذلك إثبات النسب على طريق استصحاب الحال.
ألا ترى أنه ينتفي بالنفي والواجب علة إذا علم أنهم منه بيان نصاً حتى يصير بحيث لا يحتمل النفي بعده.
ولأنه حين الدعوة لم يكن لواحد منهم فراش يغنيه عن النص فلما خص الأكبر بالبيان وسكت عن الأصغرين مع الحاجة لو كانوا منه علم أنهم لم يكونوا منه، ولم يحتج إلى بيان النسب في حقهم ليكون حملاً لحاله على ما يحل له، ألا ترى أنه لو قال: هذا ابني، وأشار إلى الأكبر كان الجواب هكذا وما هنا هنا تخصيص بوصف بل بالإشارة وإنها تجري مجرى اسم العلم ولا إشكال أنه لا يتضمن نفياً.
فإن قيل: قد قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في شاهدين شهدا أن هذا الرجل وارث فلان لا نعلم له وارثاً آخر بأرض كذا: إن هذه الشهادة لا تقبل لأن تخصيص بعض الأماكن بالنفي دليل على الإثبات من غيره.
قلنا: إنهما قالا إن الشهادة تتم بقولهما إنه وارث فلما زاد لا نعلم له وارثاً آخر وخصا موضعاً اتهما بعلم الوارث في مكان آخر، والشهادات ترد بالتهم. فأما الأحكام فلا تثبت بالتهم، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: هذه الشهادة مقبولة لأنهما سكتا عن النفي فيما عدا المخصوص من غير حاجة إلى البيان، لأنهما لو سكتا أصلاً عن النفي كانت الشهادة تامة والسكوت في غير موضع الحاجة أن البيان لا يكون حجة فأما التهمة فليست تثبت بالتخصيص لاحتمال أنهما خصا احترازاً عن الكذب بعلمهما بوارث في مكان آخر ويحتمل أنهما خصا احترازاً عن الخبر بغير دليل كأنهما تفحصا عن الوارث في المكان المذكور فلم يقفا عليه ولم يتفحصا عن الوارث في سائر الأمكنة، والنفي لا يعلم علم مثله إلا بدليل التفحص، فإذا احتمل الأمرين جميعاً لم تثبت التهمة بالاحتمال إلا أنهما احتاطا لأمر الشهادة.

فصل
ومن ذلك الكلام المقرون به الاستثناء، فإن قدر المستثنى من الجملة لا يثبت فيه حكم الجملة بالإجماع، وإنما لا يثبت عندنا لعدم النص الموجب في حقه، والذي يدل عليه مذهب الشافعي- رحمه الله- أنه لا يثبت بمعارضة نص الاستثناء النص المستثنى منه كما قالوا جميعاً في العام إذا خص منه شيء لم يثبت حكم العام في قدر ما تناوله الخاص لا بعدم العام فيه، ولكن بالنص الخاص الذي ورد مبيناً فالاستثناء عنده بمنزلة

(1/149)


التخصيص إلا أن هذا متصل لفظاً، وذاك منفصل لفظاً.
وعندنا لا عمل لنص الاستثناء في الحكم وإنما ينعدم حكم الجملة في قدر المستثنى لتناهي نص الجملة إلى قدر الاستثناء، كالإيجاب إلى غاية ينعدم حكمه إذا انتهى إلى الغاية لا بنص الغاية بل بانعدام الأول إذا جاءت الغاية كالصوم إلى الليل، وإباحة الأكل إلى الفجر ونحوهما.
ولنا ولهم مسائل تدل على صحة المذهبين على ما نذكرها بعد ذكر الحجة.
أما الشافعي فإنه احتج بكلام أهل اللغة أن الاستثناء من النفي إثبات، والاستثناء من الإثبات نفي، فقد أطبقوا على أن لنص الاستثناء حكم بخلاف حكم الجملة المستثنى منها قال الله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم}: أي إلا قليلاً لم يشربوا، إلا أنه لم يقله اختصاراً لدلالة الصدر عليه بدليل عدم ثبوت الشرب صفة لهم بموجب اللغة.
وكذلك قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} أي خمسين عاماً لم يلبث فيهم.
وكذلك كلمة الشهادة (لا إله إلا الله)، أي إلا الله فإنه الإله لأنها شرعت لنفي الألوهية عما سوى الله تعالى وإثباتها لله تعالى وحده.
وكذلك قول الله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً* إلا قيلاً سلاماً سلاماً} أي إلا سلاماً، فإنهم يسمعونه وقد نص الله عليه في قوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعين إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين} ثم قال في قول الله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من} أن ظاهر الاستثناء نص على أن التائبين ليسوا بفاسقين إلا أنهم لم يدخلوا تحت خطاب التفسيق، فكذا يكون نصاً على قبول شهادة التائبين لأنه بيان ورد على الجملة في حق الزمان فينصرف إلى كل ما يتوقت كأن الله تعالى قال: {إلا الذين تابوا} فإنهم بعد التوبة ليسوا بفاسقين وتقبل شهادتهم.
وقال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" أي إلا سواء بسواء فإنه حلال، فيثبت به حكمان: حرمة البيع بالقدر مطلقاً، وحله إذا جاءت المساواة بالمعيار لا اتصال لأحدهما بالآخر.
فقال: إن الحبة بالحبة حرام وإن لم يكن لها حد بالمساواة في حالة بوجه.
وأما الحل فيتناول ما له معيار شرعي قال: ومثاله قول الله تعالى: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} أي إلا أن يعفون فيسقط الكل فيثبت به حكم مخالف للأول.

(1/150)


فيكون الأول ثابتاً في حق المجانين والصغائر، وحكم العفو ثابتاً في حق الكبائر العاقلات.
وقال فيمن أقر وقال: لفلان علي ألف درهم إلا ثوباً إن قدر الثوب من الألف: لا يلزمه لأن معناه: إلا ثوباً فإنه ليس علي من الألف لأنه لا يكون بياناً إلا هكذا ثم عين الثوب لا يمكن أن يجعل بياناً من الألف في أنه لم يدخل تحته فانصرف إلى قدر قيمته ليستقيم.
وقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف– رضي الله عنهما- فيما إذا قال: لفلان علي ألف درهم إلا كر حنطة: إن قدر قيمة الحنطة يسقط من الألف عنه.
ومتى جعل حكم الجملة ساقطاً عن الاستثناء لعدم النص لم ينتقص من الألف شيء، لأن عدم لزوم الحنطة إياه لمعنى أن الإقرار بالألف لم يتناوله ولا يوجب نقصاناً عن الألف المقر به على ما قاله محمد بن الحسن– رحمه الله-.
فجعل الشافعي الاستثناء تعرضاً لحكم النص المستثنى منه كما جعل الشرط تعرضاً لحكم المرسل والله أعلم.
أما علماؤنا- رحمهم الله- فإنهم قالوا: إن الكلام إذا اتصل به الاستثناء كان تكلماً بالباقي بعد الثنيا، لأن الاستثناء في اللغة استخراج، ولم يستخرج به بعض حكم الجملة، بل استخرج به بعض نص الجملة على سبيل البيان، وإنما يكون بياناً إذا جعل غير ثابت كما في التخصيص للحكم متى كان تخصيصاً، وبياناً لم يكن من الأصل ثابتاً، وعلم أن المراد به بعضه فكذلك إذا جاء الاستثناء وهو بيان علم أن المراد به ما بقي، إلا أن الاستثناء تعرض للنص فتبين أن بعضه غير ثابت، والتخصيص تعرض للحكم بنص آخر بخلافه.
والدليل على أن الاستثناء تعرض للنص قول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} فخمسون تعرض للعدد المثبت للألف لا لحكمه مع بقاء العدد، لأن الألف متى بقيت ألفاً لم تصلح اسماً لما دونها.
وكذلك قول الله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} تعرض للشاربين فإن الشاربين هم الثابتين والقليل مستثنى منهم، ولما تعرض للعدد الذي تضمنهم الشاربون فاستخرج عن جملتهم انعدم فيهم حكم النص المتناول للشاربين لانعدام تناول النص إياهم بخروجهم بالاستثناء عن جملتهم.
ولما كان الانعدام فيهم لعدم تناول نص الشرب لم يحتج إلى أن يسقط الشرب عنهم بمعارضة الاستثناء.
وهو كمن قال: لفلان علي ألف درهم إلا مائة لم يلزمه المائة لعدم الإقرار لا لسبب

(1/151)


مسقط وتبين أن الاستثناء يصير بمعنى الحد والغاية للمستثنى منه لانعدامه عنده في نفسه ثم انعدام حكمه لانعدامه.
وهذا على مثال الشرط فإن الإيجاب متى علق به صار متعرضاً لنفس الإيجاب بأن أعدمه عن محله للحال فانعدم الحكم قبل وجوده، لانعدام الموجب لا لنفي الشرط الحكم بعد وجود علته.
فالخصم مال إلى الظاهر في الفصلين فإن الإيجاب لولا الشرط موجب للحال وجاء الانعدام ظاهراً بالشرط فجعله نافياً.
وكذلك النص العام لولا الاستثناء لأوجب عاماً وإنما سقط حكم العموم في البعض بالاستثناء.
إلا أنا قلنا انعدم الحكم بالشرط والاستثناء بواسطة انعدام العلة بهما من الوجه الذي بينا فلا يكون انعدام الحكم بعد عدم العلة بعلة نافية للحكم.
وإذا كان كذلك صار الحكم الثابت بنص قرن به الاستثناء واحداً وهو الثابت بالمستثنى منه.
وما للاستثناء في نفسه حكم غير حكم انعدام بعض ما نطق به.
بخلاف التخصيص لأنه لا يكون تخصيصاً إلا بنص آخر معارض للأول في حكمه مبين أن العام لم يرد به ما يتناوله الخاص من غير تعرض للفظ العام، بل مغير للحكم.
فأما قول أهل اللغة: الاستثناء من النفي إثبات، فإطلاق على ظاهر الحال مجازاً لا حقيقة لأنك إذا قلت: لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم تجب العشرة كما لو نفيتها، ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بما ينافي الوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب.
وكما قالوا ذلك فقد قالوا: أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا فلا بد من الجمع بينهما فيجعل الأول مجازاً، وهذا حقيقة حتى قالوا بأن الاستثناء ضربان: حقيقة واستثناء مقطوع وهو بمعنى "ولكن"، ثم قالوا: ما يكون من جنس الأول لم يكن استخراجاً لأنه لم يكن داخلاً تحته فكان كلاماً مبتدأ حكمه بخلاف الأول فلا يتغير به أصل الثبوت بالأول، وإنما يتغير بقاؤه.
فإن قيل: إذا قيل: لا عالم إلا زيد، كان نصاً على أن زيداً عالم، وكذلك قول الناس: لا إله إلا الله ولو جعل الاستثناء تكلماً بالباقي بعده لكان زيد مسكوتاً عن صفته.
قلنا: قول القائل: لا عالم لنفي صفة العلم أصلاً، فلما قال: إلا زيداً صار توقيتاً

(1/152)


لنفي الصفة به وقد ذكرنا أن الاستثناء بمعنى الغاية فإنا متى لم نجعل هكذا لم يكن بياناً لتقدير النفي بما قدر وقد قدره لما استخرج بعض ما نفي نصاً، ولما صار توقيتاً دل ضرورة على سقوطه بوقته وإنما يسقط نفي العلم بالعلم ضرورة كالحركة لا تزول إلا بالسكون فيما يقبل الحركة والسكون، والليل لا يزول إلا بالنهار، وكذلك كل ما يوقت ولا انعدام له إلا بضده دل ضرورة أن وقته ضده، وعلى هذا كلمة التوحيد.
ولأن الآدمي لا يخلو إما أن يكون عالماً أو غير عالم ما بينهما ثالث.
فإذا استثنى زيداً عمن ليس بعالم تعين عالماً ضرورة لا بالنص.
وكذلك الموجود اسم لما هو مخلوق أو إله ما هناك ثالث فإذا استثنى الله عما ليس بآله تعين إلهاً بالضرورة، فإذا عرفنا ما هذه الجملة لم يلزم آية القذف لأنا ذكرنا أن حقيقة الاستثناء لبيان أن المستثنى لم يدخل تحت خطاب المستثنى منه إلا أن لا يمكن فيجعل استثناء مقطوعاً.
ولا يمكن حمل الاستثناء على الحقيقة في آية القذف لأن التائبين هم القاذفون فهم الذين كانوا فسقة فجعل استثناء مقطوعاً وصار بمعنى "ولكن إن تابوا فالله يغفر لهم" فلا يتغير من ثبوت حكم الصدر شيء، وإنما يتغير بقاء ما تنفيه التوبة، وهو الفسق لا على سبيل بيان أنه لم يدخل تحت الصدر، وليس تحت التوبة قبول الشهادة لا محالة فالعبد العدل التائب لا شهادة له.
وكذلك آية العفو {إلا أن يعفون} استثناء مقطوع لا يبين أن التصنيف لم يكن إذا جاء العفو فكان مقطوعاً بمعنى ولكن إذا جاء العفو سقط الباقي بتصرف طارئ، والاستثناء المقطوع بمنزلة نص آخر يعمل به بنفسه والأول بنفسه كما قاله الشافعي رحمه الله، وإنما خالفناه في الاستثناء حقيقة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" فنقول: إن حكم هذا النص واحد لأن الاستثناء استثناء على الحقيقة حتى يقوم الدليل على مجازه، فيكون بياناً أن بيع الحنطة بالحنطة متساويين لم يدخل تحت النهي لأن النهي لما تناهى إلى الاستثناء ولتناهيه سقط حكمه لا بمعارض مع حال قيامه عاماً فكذا حكمه يثبت متناهياً إلى حين التساوي، لأن الحكم يثبت بقدر سببها، فيثبت به حرمة مؤقتة إلى حين التساوي كيلاً والحكم بهذا الوصف لا يثبت إلا في محل قابل لصفة التساوي وعدمه.
فأما محل لا يقبل صفة التساوي الذي بها وقتت الحرمة فلا يكون محلاً لحرمة مؤقتة بالتساوي كالحبة من الحنطة بالحنطة فإنهما بنفسهما لا يقبلان صفة التساوي التي بها تزول الحرمة، وإنما يقبلان بحبات أخر تنضم إليهما.

(1/153)


وكل ما لا ينهض لإفادة حكم إلا بما يوجد معه لم يسم بنفسه علة ولا محلاً ولا شرطاً.
وكان كقوله: "لا تنكح الثيبة حتى تستأمر" فإنه نص واحد أوجب حرمة إلى غاية، وهي حرمة نكاح امرأة تزول باستئمارها فلا يدخل تحته إلا امرأة صالحة للاستئمار، وأما من لا تصلح إلا بوصف آخر لم يوجد بعد وهو البلوغ أو العقل فلا تكون صالحة قبل ذلك على ما مر فلا يكون محلاً لهذا الحكم المؤقت بالاستئمار، إلا أن يحمل حتى تستأمر على البلوغ فيصير مجازاً.
وكذلك قوله: إلا كيلاً بكيل حتى يصير كيلاً بكيل فيكون مجازاً.
وكذلك إذا قال: لفلان علي ألف درهم، إلا ثوباً. لم يتعرض لما وجب بالجملة لأنه استثناء مقطوع فلا يكون بياناً في حق ما دخل تحت الأول بل يكون معمولاً به بنفسه على حدة، فإن أوجب العمل به معارضة الأول في حكمه تعرض بحكم المعارضة على ما مر وإلا سقط حكم البيان من كل وجه.
وههنا إذا جعل مقطوعاً وجعل كأنه قال: لكن لا ثوب له علي لم يصر متعرضاً نفي الثوب حكم الوجوب الثابت بالإقرار فبقي هذا منفياً بنصه.
والأول ثابتاً بنصه ولو أوجب دفعه لم يقدر لأنه يكون بمنزلة الرجوع بعد الإقرار.
ولهذا قال محمد رحمه الله- في قوله: لفلان علي ألف درهم إلا كر حنطة-: إنه لا ينقص من الألف شيء، إلا أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: إلا كر حنطة إن لم يكن من جنس الألف تسمية فهو من جنسها في حكم الوجوب في الذمة لأن المكيلات تجب في الذمة مطلقة بكل سبب كالأثمان، والثابت بالإقرار ألف درهم واجب في الذمة فتعرض الاستثناء للوجوب إن لم يتعرض عن الدراهم فصار بياناً إن قدر المستثنى غير واجب من الألف.
فأما الثوب فليس من جنس الدراهم تسمية ولا وجوباً لأن الثوب لا يجب في الذمة مطلقاً بكل سبب لا يثبت إلا سلماً أو ثمناً مؤجلاً، فأما استهلاكاً واستقراضاً وثمناً حالاً فلا.
فإذا لم يكن من جنس الدراهم اسماً ولا حكماً لم يصر بياناً في حق الحكم، ولا الاسم، فبقي كلاماً مبتدأ وأوجب نفياً مبتدأ.
وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة ومحمد فيمن حلف: لا يكلم فلاناً إلا أن يأذن له

(1/154)


فلان، فمات فلان قبل الإذن بطلت اليمين لأن الإذن بمنزلة التوقيت، كأنه قال: حتى يأذن له فلان فيوجب اليمين حظراً مؤقتاً بإذنه فلا يبقى به حظر مطلق، ولو بقي الحظر بعد موته لبقي حظر مطلق.
فإن قيل: لو حلف لا يخرج من الدار إلا بإذني فأذن مرة لم تبطل اليمين، ولو قال: حتى آذن لك بطلت اليمين إذا أذن مرة ففرقوا بين الغاية والاستثناء.
قلنا: لأنهما لم يتناولا محلاً واحداً لأن قوله: "حتى" دخلت على الحظر الثابت باليمين فتوقف الحظر به "وإلا" دخلت على المصدر إي إلا خروجاً بإذنه فالخروج محظور بيمينه مطلقاً، فلما استثنى خروجاً بإذنه بقي ما عداه تحت اليمين، كذلك فصار الاستثناء نهاية للخروج المحظور، وحتى غاية للحظر الثابت باليمين لنفس الفعل لا للاسم والمصدر.
ومن هذا القبيل قول الشافعي إن الأمر بفعل رفع لضده، والنهي عن الفعل رفع للأمر به، وهذا عندنا حكم السكوت على ما مر ذكره في أبواب الأوامر والنواهي.
ومن ذلك قول بعض أهل النظر إن العام يخص بسببه وهذا عمل بالسكوت على الإطلاق، وإنه على أقسام أربعة:
نص نقل معه سببه، كما روي: زنى ماعز فرجم، وسهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد، وكقوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه} الآية.
ومنها ما لا ينقل معه سببه وإنه على أوجه ثلاثة:
ما لا يستقل بنفسه حتى يربط بسببه كقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} قوله: بلى لا يستقل بنفسه فلا بد ا، يربط بسببه.
- ومنها ما يستقل وهو على ضربين: ما خرج جواباً للسؤال وكان السؤال سبب خروجه ما فيه زيادة على حرف الجواب فيختص بالسبب كالرجل يقول لآخر: إنك لتغتسل هذه الليلة في هذه الدار عن جنابة، فقال: إن اغتسلت فعبدي حر. فإنه يختص بما تقدم حتى إذا اغتسل لا عن جنابة لم يحنث.
والوجه الآخر ما فيه زيادة يستغني عنها الجواب فلا يقتصر على السبب بل يعم وفيه الخلاف كما لو قيل له: إنك لتغتسل الليلة في هذه الدار عن جنابة فقال: إن اغتسلت الليلة فعبدي حر كان عاماً حتى يحنث عن أي سبب اغتسل.
وأما الأول فلأنه لما نقل معه السبب صار النص حكماً لذلك السبب، وحكم العلة مخصوص بها لا يبقى بدونها مضافاً إليها بحال ولا بد للبقاء دونها من علة أخرى.

(1/155)


وكذلك النوع الثاني لأنه متى لم يستقل بنفسه حتى يربط بما قبله من السبب صار كبعض الكلام من جملة فلا يجوز تفصيله للعمل به.
وأما إذا استقل بنفسه فإن خرج مخرج الجواب وقت الحاجة إليه، وما فيه زيادة على الجواب ابتنى على السؤال لأنه جواب عنه، وصار بمنزلة الحكم للعلة- على ما مر- وبعض الكلام من الجملة فصار مقتضياً حكاية ما في السؤال أي: إن اغتسلت عن ذلك السبب الذي قلته فعبدي حر.
وكمن إذا قيل له: تعال فتغد، فقال: والله لا أتغدى. اختص بذلك الغداء في ذلك الفور.
فأما إذا كان فيه زيادة فتعم لأنا متى جعلناها جواباً لغت الزيادة فجعلناها ابتداء لتصير معمولاً بها وصار إلغاء الحال أولى من إلغاء الكلمة في نفسها، لأن السبب ساكت عن إيجاب القصر عليه، والزيادة ناطقة بالعمل بها بلا تخصيص.
وعلى هذا القول جمهور العلماء نزلت آية الظهار بسبب خولة ولم يقتصر عليها لعمومها في نفسها وخلوها عن دلالة التخصيص.
ونزلت آية حد القذف بسبب عائشة- رضي الله عنها- فكانت عامة.
ونزلت آية اللعان بسبب سعد بن معاذ وكانت عامة.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ولم يختص الخطاب بمن يسلف إلى أجل مجهول فيلزمه الخطاب إعلام الأجل دون غيره، وإن كان سبب الخطاب إسلافهم إلى آجال مجهولة لأن النص مستقل بنفسه خال عن قيد الخصوص غير سببه فلم يكن السبب بنفسه مخصصاً.
ومن ذلك قول بعض أهل النظر ممن لا تبع له من نحارير الفقهاء: أن الاتفاق في النظم يدل على الاتفاق في الحكم كقول الله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} هذه كلمات نفي اتفقت نظماً، ومعنى الاتفاق نظماً ان يكون الكلام جملاً تامة لو فصل بعضها عن بعض أفاد كما لو وصل فوصل بينهما تكلماً بواو فهذه تسمى واو نظم فقد حسن بها نظم الكلام، وإن كان جملاً كقولك: جاء زيد، وتكلم عمرو.
فأما واو العطف فما دخلت بين جملتين إحداهما ناقصة فتمت بحكم تلك الواو العاطفة على الولى حتى تصير بحكم الانعطاف مثل الأولى فيما تمت به الأولى كقولك:

(1/156)


جاء زيد وعمرو، فعمرو إنما يتم بخبر زيد، هذا حر وهذا، فهذا يتم بخبر الأول، فهذا تفسير واو العطف.
وأما الذين قالوا؛ هذه الواو تدل على الاتفاق حكماً، فشبهوا هذه الواو بواو العطف، وقالوا: إذا تحقق العطف صار الكل كلاماً واحداً كما لو تكرر الخبر لكل اسم فيصير خبر الأول خبر بعينه للثاني ألا ترى أن خطاب الشرع محمول على المتفاهم من مخاطبة العرب بينهم، والواحد منا إذا قال: عبده حر، وامرأته طالق إن كلمت زيداً تعلق الأمران بالشرط وكل واحد جملة تامة فلو اعتبرا منفصلين لما تعلق الأول بالشرط.
إلا أن نقول هذه الواو ساكتة عن جعل الجمل كلاماً واحداً، وجعل خبر الأولى خبراً للأخرى. لأن الخبر منصوص عليه بالأخرى فاستغنى عن خبر الأولى.
ولأنا متى جعلنا ذلك صار خبر كل جملة خبراً للجميع كما لو لم يوجد إلا خبر واحد فإنه يكون خبر للجملة، وإنه ساقط بإجماع أهل اللسان.
فأما الواو فقد استعملت لا للعطف قال الله تعالى: {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء} {وريشاً ولباس التقوى} فلباس ابتداء لولا ذلك لما استقام مخالفة المعطوف المعطوف عليه إعراباً، وكانت الواو لتحسين نظم المتكلم لا غير فمن جعل واو النظم لإثبات الشركة بين الجمل فقد أثبت بها بما ليس بموجبها لغة وعمل بما سكتت عنه وغنما يجب ذلك بدلالة أخرى توجب الوصل أو الاشتراك.
ومن ذلك قول الله تعالى في آية القذف: {وأولئك هم الفاسقون} فهذه الواو عندنا واو النظم لا واو العطف فتبقى هذه الجملة مفصولة عن الأولى فلم يلتحق الاستثناء بالأولى.
وعند الشافعي هذه واو العطف وإنما واو النظم ما قبلها: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} فهذا حكم مفصول عنده عن الجلد موصول بالفسق فانصرف الاستثناء إليه، ولم ينصرف إلى الجلد ثم هذا من الشافعي عمل بالسكوت لأن كل واحدة من الجملتين تامة خبر وجواب متى اعتبر ابتداء وإنما ينتقص إذا اعتبر جزاء عن القذف وقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة} يصلح جزاء دون الفسق لأن ظاهر الآية شاهد بكون النصين جزاء {فاجلدوهم} {ولا تقبلوا} فإنه خطاب راجع إلى الأئمة معطوفاً على خطاب الجلد والأول جزاء فكان الثاني جزاء لأن النص وإن فهم بنفسه فقد نقل معه سببه، وهو القذف فيجب ربط كل ما يصلح جزاء له به وجرح العدالة يصلح جزاء كالجلد لأنه ضرب عقوبة إذا قوبل بقبول القول منه فبهذه الدلالة جعلنا الواو الأولى للعطف.
فأما الفسق فلا يصلح جزاء فإن الفسق في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن

(1/157)


أوامر الله تعالى بمعصية يرتكبها فلا يقع الفرق بين قولنا: فسق، وبين قولنا: عصى فيكون الفسق عصياناً لا بياناً لجزائه.
وكذلك النظم دليل عليه، لأنه لم يخاطب الأئمة، والأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود كما في الزنا والسرقة بل أخبر عن صفة القاذف كما قال: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي: القذفة وإن كان خبراً يحتمل الحسبة لإقامة الحد والمعصية لقصد هتك الستر فإنه متى عجز عن الشهود حتى حد صار معصية وفسقاً فأخبر الله بذلك لتزول عنها شبهة الاحتمال، وشبهة إيجاب الحد عليه بما فعله محتسب ومتى لم يصر الفسق جزاء وهو كلام تام بنفسه صار ابتداء فالشافعي متى قطع: {ولا تقبلوا} عن قوله: {فاجلدوهم} صار قاطعاً بلا دليل من النص ونحن متى قطعنا الفاسقين عما قبله قطعنا بدليل من النص نفسه فلم يلتحق الاستثناء بما تقدم.
فأما قول الرجل: عبده حر، وامرأته طالق إن كلمت زيداً، فإنما التحق الشرط بهما لأنه بين بأجزاء الكلام أنه حلف ولم يرسل الإيجاب، والحلف غير الإرسال وتمام الحلف بالشرط والجواب فصارت الجملة الأولى ناقصة على اعتبار الحلف لأنه لا شرط لها، فصارت الواو واو العطف كما لو كان إرسالاً فقال: هذه طالق، وهذه فإنهما تطلقان لأن الثانية ناقصة إرسالاً فانعطفت على الأولى وشركتها في خبرها، وصارت جملة واحدة فكذلك هذه اعتبرت يميناً، ونظير ما نحن فيه قوله: لفلان علي ألف درهم ولفلان علي ألف درهم إلا عشرة فإن الاستثناء يقتصر على الثاني.
ومن ذلك الجمع المضاف إلى جماعة كقول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} فمن الناس من قال: حقيقة هذا الجمع تتناول جماعة أموال كل واحد من الجملة لأنها اسم جمع لولا الإضافة، ومع الإضافة يمكننا العمل بحقيقة موجبها مطلقة فلا نخصها بغير دليل، وهذا عند عامة العلماء عمل بلا دليل.
قال علماؤنا فيمن قال لامرأتين له: إن ولدتما ولدين او دخلتما دارين فأنتما طالقان، فولدت كل واحدة ولداً أو دخلت داراً واحدة طلقتا جميعاً.
لأن هذه جماعة مضافة إلى جماعة فيجب تحقيق الجماعة المضافة بسبب الإضافة حتى لا تصير الإضافة لغواً اعتبراها في الجماعة المعرفة بالإضافة، فإن الإلغاء لا يجوز إلا بدليل، واعتمادهم على الجماعة ليس بدليل، لأن الجماعة مقيدة بالإضافة ونحن نحققها كذلك.
فأما المطلقة فمعدومة كالإيجاب المعلق بشرط يكون سكوتاً عما عداه، وعلى هذا تفاهم الناس من خطابهم: لبس القوم ثيابهم ونعالهم وحلقوا رؤوسهم ومشطوا لحاهم، ويقول الشاعر:

(1/158)


وإنا نرى أقدامنا في نعالهم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب
ولا يكون لكل واحد إلا أنف، والله تعالى يقول: {فقد صغت قلوبكما} ولن يكون لواحد إلا قلب، وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} الآية، ولم يجب بالسرقة الواحدة من السارق والسارقة إلا قطع يد واحدة من كل واحد منهما.
ولو اوجب هذا الاسم جماعة الأيدي؛ في حق كل واحد منهما لوجب قطع الأيدي جملة منهما بالمرة الواحدة، لأن الله تعالى جعل جزاء سرقة واحدة قطع أيديهما.
فلما لم يجب إلا قطع يد واحدة، علم أن الجمع المضاف إلى جماعة، آحاد في حق الآحاد.
وقال الله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} والمحظور على كل واحد منهم حلق رأس نفسه بهذا الخطاب حتى لو حلق رأس غيره لم يلزمه الدم المتعلق بحلق رأسه، وقال جل جلاله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم}.
ومن ذلك قول بعضهم: إن العام يخص بغرضه ولا يكون حجة فيما عداه وانه بمنزلة التخصيص بسببه لأن المتكلم إنما يتكلم لغرضه فذلك الغرض سبب خروج الكلام من المتكلم، ومن ذلك قولهم: إن كلام المدح والذم والثناء، والاستثناء لا عموم له. وذلك قول بالتشهي لأن العام حيث قيل بعمومه، فإنما قيل به لأن الوضع للعموم وإنه قائم مع كونه ذماً أو مدحاً أو استثناء، لأن العرب تمدح العام بوصف عام، وقد تذم كذلك وقد تستثني كذلك فلا تدل هذه الصفات على التخصيص وترك الحقيقة.
فهذه جملة ما ذكرنا من فنون الأقوال في هذا الباب فإن شذ عنا شيء فليقس بما ذكرنا، فقد حددنا للعمل باللفظ حداً لا يعدوه، وهو العمل بنصه وإشارته ودلالته ومقتضاه، وحددنا كل قسم بحد يمتاز به عن غيره، ليعلم أن ما لا يدخل تحت الحد أنه عمل لا بالنص فلا يبقى إلا الرأي والقياس، غير أن الحدود التي قلناها متقاربة، يشبه بعضها بعضاً، لا يثبت قدم سالكها على الحد إلا بحد التأمل.
فليشمر المهتدي لما أشرنا إليه أذيال خاطره، ثم ليستعن بالله فلا يضل، فإن التخريج على هذه الحدود ورد كل نوع إلى نظيره أصعب انقياداً للقلب من معرفة الأقسام بحدودها، وما التوفيق إلا بالله تعالى.

(1/159)


باب

القول في إبانة طريق المراد بمطلق الكلام
قد ذكرنا فيما مضى أن الكلام ضربان: حقيقة ومجاز، فإن المجاز لا يصل إليه إلا بدلالة وربما يشكل على السامعين مجاز الكلام من حقيقته، وربما يشكل أيضاً المراد من النوعين ولا يمكن التبين إلا بروية فيقع فيه الاختلاف بين أهل الروية فيحتاج إلى معرفة طريق التبين عند الإشكال ليمكننا الوصول إلى المراد بالكلام.
وطريقته بالنظر في السبب الداعي إلى ذلك الاسم من تعريف الأسماء في باب الوضعيات التي لا معنى لها، أو تعريف المعنى في المعنويات فما كان أكثر إفادة كان أحق بالإرادة.
وظهور ذلك من أحد طريقين:
أ- إما بمحل الكلام.
ب- وإما بنفس الكلام في نوعي الكلام جميعاً: حقيقته ومجازه، فصير أربعاً.
أما من حيث المحل فنحو اللفظ العام فقد اختلف أهل العلم فيه.
فقال بعضهم: مطلقه ينصرف إلى الخصوص.
وقال بعضهم: إلى العموم.
وهذا أحق لأن بعض المحل الذي وضع الاسم علماً عليه يبقى غير مراد به إذا انصرف إلى الخصوص.
ولأنا لو جعلنا المراد به الخصوص، وقد وجدنا لذلك الخاص اسماً خاصاً، لصار لمسمى واحد اسمان لغرض واحد، فيكون تكراراً فتقل فائدة أصل الاسم لأنه لأجل الإعلام وضع.
والإعلام حاصل قبل الاسم المكرر وإنما يحصل بالتكرار التأكد وتوسعة البيان فيكون دون فائدة أصل الوضع فلا يجوز ترك إكمال الفائدة إلى البعض إلا بدلالة، فهما معنيان يدلان على ما قلناه مأخوذان من محل الكلام، وهو ما يدخل تحته مسمى به لا من نفس الكلام، فإنه متى حمل على الخصوص صار تناوله قدر ما تناوله تناولاً بحقيقته كما لو عم.

(1/160)


وأما ما يعرف من نفس الكلام وهو أقوى البابين وأكثر فقهاً فنحو قول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} فقد اختلف أهل العلم في تفسير معنى اللغو؟
قال علماؤنا- رحمهم الله-: لغو اليمين ما لا يفيد فائدتها المطلوبة منها شرعاً ووضعاً، وهو تحقيق الصدق من الخبر الذي عقد عليه اليمين وإنما تنعدم هذه الفائدة إذا كان الخبر غير محتمل للصدق.
وقال الشافعي: لغو اليمين ما جرى على اللسان من غير قصد.
وإجماع منا على جواز الإطلاق على كل واحد من المنعيين فنقول:
ما ذهبنا إليه أولى لأنا وجدنا للخارج من غير قصد اسماً موضوعاً له.
وهو الخطأ الذي هو ضد العمد.
والسهو الذي هو ضد التحفظ.
فمتى حملنا اللغو عليه كان تكراراً.
فأما الكلام الذي لا يفيد فائدته لانعدام شرط صحته لا لحال المتكلم فما له اسم سوى اللغو قال الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} أي الكلام الفاحش الذي هو خلو عن الفائدة المطلوبة منه في الحكمة، ليس الكلام الخارج من غير قصد فإن ذلك عفو لا عنت فيه وقال الله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} أي عارضوا بالتعنت، وما ليس بصحيح في الحكمة فلعلكم تغلبون بالمغالبة إن لم يكن بالمحاجة الصحيحة ولم يرد به: تكلموا من غير قصد، فإن الأمر به لا يستقيم.
وكذلك الرجل إذا تكلم بالخنا قيل له: ألغيت: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} أي صبروا عن الجواب، دل عليه أنه متى حمل على ما قالوا كان الفساد لمعنى في القلب؛ الذي هو سبب التكلم فيصير لغواً لفساد السبب، وعلى ما نقوله نحن يصير لغواً بنفسه لكونه غير مفيد وضعاً ولا شرعاً.
وكذلك العلماء اختلفوا في العقد؟
فقال بعضهم: هو القصد.
وعندنا: العقد هو ربط اللفظ باللفظ لإيجاب حكم نحو: ربط اليمين بالخبر المضاف إليه لإيجاب الصدق منه وتحقيقه، وربط البيع بالشراء لإيجاب الملك، وهذا أقرب إلى الحقيقة لن العقد حقيقته؛ من حيث عقد الحبل إذا شددت بعضه ببعض لأمر تريده لا يتم إلا به وضده الحل.

(1/161)


تقول العرب: يا عاقد اذكر حلاً.
ثم استعير للألفاظ إذا عقد بعضها ببعض لإيجاب حكم.
ثم استعير للقبل إذا عقد عزمه لأمر ما فصار عقد اللفظ أقرب غلى الحقيقة بدرجة.
ولأنا متى حملنا على عقد اللفظ بالإضافة إلى خبر يحتمل الصدق لينعقد لإيجابه كان الانعقاد صفة لليمين نفسها.
ومتى حمل على القصد لم يصر صفة لليمين نفسها، لأن اليمين لا تكون بالقصد حتى يتكلم بها وإنما القصد سبب خروج الحلف فتصير اليمين معقودة بسببه لا بنفسه، ألا ترى ان ضد العقد الحل، فما ينعدم بالحل يكون عقداً حقيقة.
على ما نفسره نحن ينعدم بالحل فإن اليمين تنحل بالحنث فتنعدم، وضد العقد الذي هو قصد القلب السهو لا الحل فلما لم ينعدم العقد بشرط الحنث الذي هو حل، علم أنه حين وجد لم يكن عقداً حقيقة بل كان مجازاً، وكان غيره حقيقة.
ومن ذلك اختلاف الناس في القرء؟
قال بعضهم: حيض.
وقال بعضهم: إطهار.
فالقول بالحيض أقرب إلى الحقيقة لأن القرء: اسم معنوي للحيض أو الطهر بلا اختلاف فلئن أخذ الاسم لهما من معنى الاجتماع كما في قول الله تعالى: {فإذا قرأناه} أي جمعناه، ويقول الشاعر:
هجان اللون لم تقرأ جنيناً
أي لم تجمع إلى رحمها ولد فالحيض أولى بهذا المعنى من الطهر لأن الحيض: اسم لدم مجتمع في نفسه، فإن نفس الدم لا يكون حيضاً حتى يدوم مدة وإن اختلف الناس في تلك المدة.
وأما الطهر فليس بشيء مجتمع ولكنه حال لاجتماع دم الحيض بأن كان يجتمع وقت الطهر ثم يدر.
ولئن أخذ هذا الاسم من الوقت المعتاد كما يقول الشاعر:
إذا هبت لقارئها الرياح
أي لوقتها المعلوم، ويقول آخر:
يا رب ذي ضغن وضب فارض .... له قروء كقروء الحائض

(1/162)


أي أوقات معلومة، فالحيض أولى بهذا الاسم لأن الوقت المعلوم نصب للحيض لنفس الحيض، ونصب للطهر لا لنفس الطهر، بل للحيض فإن النصب احتيج إليه لإقامة الأحكام، والحكام تتغير بالحيض لا بالطهر.
وكذلك القروء: اسم جمع وأقل الجمع الصحيح ثلاثة كوامل والبعض مجاز على ما نذكره، ولن يكمل الأطهار ثلاثة قروء قط للطلاق المشروع لن الطلاق شرع في الطهر فيكون الجزء الماضي قبل الطلاق والمقارن إياه غير محسوب من العدة.
ومن ذلك اختلاف العلماء في (النكاح المطلق) أنه ينصرف إلى الوطء أو العقد فالقول بالوطء أقرب إلى الحقيقة لأنه اسم معنوي مأخوذ من الظن يقول الشاعر:
أنكحت ضم صفاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
أي: ألزمت وضممت، والضم إنما يتحقق بالجماع. فأما العقد فسبب للضم فكان للوطء حقيقة وللسبب مجازاً.
ومن ذلك اختلاف العلماء في ان أقل الجمع الصحيح للثلاثة أو للاثنين بعد وجود الإطلاق عليهما جميعاً.
والقول بأنه اسم للثلاثة حقيقة وللاثنين مجازاً أولى لأن العرب فصلت بين علامة الاثنين وعددهما، وعلامة الثلاث وعددها، كما فصلت بين الاثنين والواحد فقالت: رجل واحد، ورجلان اثنان، ورجال ثلاثة فما فوقهم.
فعلم أنها على الحقيقة أسماء لمسميات ثلاثة، وفي جعل الجمع اسماً للاثنين إثبات تكرار فيكون رجلان ورجال اسمين للاثنين ثم يجب على قياد هذا أن يكون اسم رجلين اسماً لثلاثة أيضاً لما صارا واحداً.
وقد قال علماؤنا- فيمن حلف لا يكلم رجالاً-: أنه على الثلاثة، وكذلك إذا أقر بدراهم، لزمته ثلاثة، وكذلك الجمعة لا تصح إلا بالجماعة، ثم كان الشرط ثلاثة من الجماعة فعلم انه أقل الجمع.
وقالوا- في سائر الصلوات-: أن الإمام إذا صلى بواحد قام بحذائه لأنهما ليسا بجماعة والاصطفاف بعد الإمام من حكم الجماعة، ولو كان سوى الإمام رجلان قاما خلفه صفاً لأنهما جماعة مع الإمام والإمام منهم في حق الجماعة، لأن صلاة الإمام تصح بلا جماعة، ولكن أمرنا ان تكون الصلاة بجماعة والصلاة حصلت بثلاثة فكانت بجماعة.
فعلى هذا مسائل علمائنا إلا باب الوصايا فإنهم جعلوا الاثنين في حكم الثلاثة في استحقاق الوصية المضافة إلى جماعة لأنها أخت الميراث، وقد قام الدليل في المواريث ان الاثنين في حكم الثلاثة لا من جهة النص، فإن النص قوله: {فإن كن نساء فوق اثنتين

(1/163)


فلهن ثلثا ما ترك} والنساء فوق الثنتين لا يتناولن الثنتين بلا إشكال، ولكن من جهة دليل آخر تبين لنا ان فوق مؤخر والمراد به نساء اثنتين فما فوقهما فلما ثبت ذلك في باب المواريث ثبت في الوصايا استدلالاً بها، ولهذا كان أقل الاسم على ثلاثة أحرف في أصل الوضع، لأن الكلام حروف مجموعة فكان أقلها ثلاثة أحرف.
ومن ذلك موجب الواو فقد قيل: إنها للترتيب والإشراك، والجمع.
والصحيح ان الواو تقتضي مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في خبره كأن الخبر كرر في حقه شركة مطلقة من غير وصف المقارنة أو الترتيب أو غيرهما ذلك لأنا وجدنا كلمة "مع" توجب المقارنة.
و"الفاء" توجب الترتيب بلا فصل.
و"ثم" توجب الترتيب بفصل.
فلو حملت الواو على أحد هذه المعاني لصار الاسم لذلك المعنى مكرراً.
ولو حملت على شركة بصفة متعينة محتملة للقرآن والفصل والترتيب صار لها فائدة جديدة، ألا ترى انك إذا قلت: جاء زيد وعمرو وكنت أخبرت عن مجيئهما جميعاً مطلقاً، وكنت صادقاً في الخبر، جاءا معاً أو متفرقين او متعاقبين.
وقد يراد بها معنى بعينه بدلالة توجب زيادة الوصف كالاسم المطلق قد يختص بقيد بدلالة، ولهذا قال علماؤنا: إن الواجب من غسل الوضوء غسل الأعضاء مطلقاً بلا تعيين وصف، من ترتيب أو مقارنة أو تفريق. وإذا قال لعبيده- وهم ثلاثة-: هذا حر أو هذا وهذا عتق الثالث وله الخيار في الأولين.
وقال الفراء: له الخيار بين أن يعتق الأول او الآخرين لأن الواو للجمع فيصير قوله أو هذا وهذا، كقوله: أو هذان كما إذا قال: هذه الألف لفلان وفلان، كان بينهما كما لو قال لهما.
إلا انا نقول: الواو لا توجب صفة الجمع والمقارنة على ما قلنا، فلا يصير الثالث داخلاً تحت العتق مع الثاني بكلمة الواو وقد فرق بينهما لفظاً فبقي داخلاً وحده كما تكلم وبقي الخيار بين الأول والثاني ويصير الثالث معطوفاً على الذي عتق لما بقي وحده إذ لا يصح العطف على الذي لم يعتق لن المراد بالجملة الأولى الذي عتق فإن قوله هذا حر أو هذا كقوله: أحدهما حر، ولو قال: أحدهما حر وهذا، عتق الثالث عيناً لأنه لا جهالة فيه وقد عطف على حر مجهول ألا ترى أن المعطوف يدخل تحت خبر المعطوف عليه كأنه كرر في حقه ومتى جعلا مجموعين لم يستقم فإنه لا يستقيم أن تقول هذا حر وهذان حر بل يجب أن يقال هذان حران.

(1/164)


فثبت أن الصحيح أن يجعل كأنه قال: هذا حر أو هذا حر وهذا حر.
ولا يلزم مسألة الإقرار فإنا حملناه على الشركة على سبيل المقارنة بدلالة، وهو أن أول الكلام موقوف على آخره فيما يخرج بياناً وهو بذكر فلان وفلان يبين من يستحق المال ولا يستقيم البيان على معنى أن يجعل الكل للأول ثم للثاني، وإنما يستقيم على سبيل الشركة على المساواة.
فإن قيل: أليس الرجل إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق، فدخلت، لم تطلق إلا واحدة عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- لأن التطليقات تعلقن مرتبة بحرف الواو، وعندهما: تقع جملة لأن الواو للجمع فكأن قولك: هذا مما يخالف الأصلين؟
قلنا: ما هذا الاختلاف من هذا الجانب بل أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: إن الطلاق الأول تعلق بالشرط بلا واسطة، والثاني تعلق به بواسطة بينهما، وهو الطلاق الأول لأن كل واحد منهما تعلق حين ما تكلم به، وقد تكلم بهما في وقتين فبالواو لا يجتمعان لأن الواو لا توجب الجمع وهما يقولان: تفرق أوقات تعلق الطلاق بشرط لا يوجب تفرق الوقوع كما لو تكرر الشرط فلا يتفرق بالواو، لأن الواو لا توجب التفريق.
ومن ذلك كلمة "أو" فقد زعم عامة الناس أنها للتخيير في الإثبات وللنفي في النفي محتجين بقول الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} وكان للتخيير، وقال: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} أي: ولا كفوراً.
والصحيح عندنا أن كلمة "أو" كلمة تشكيك لأنا متى جعلناها للتخيير مرة وللنفي مرة أخرى كان كلاماً محتملاً.
والأصل أن الاسم له معنى واحد، ويدل عليه أنك إذا قلت: رأيت زيداً أو عمراً أخبرت عن رؤية كل واحد منهما على سبيل الشك، واحتمال أنك لم تره لا يفهم غير ذلك حتى تصير كاذباً إذا رأيت أحدهما بعينه وأنت تعلمه أو رأيتهما جميعاً.
ولأنك إذا قلت: رأيت زيداً وعمراً أوجب الواو رؤيتهما.
وإذا قلت: رأيت زيداً بل عمراً فكان "بل" لإقامة عمرو مقام زيد في الرؤية على سبيل استدراك الغلط به.
وإذا قلت: رأست زيداً أو عمراً أخبرت أنك لم ترهما يقيناً وإنما رأيت أحدهما، ولكنك شككت في معرفة ذلك منهما حتى احتمل كل واحد منهما ان يكون هو المرئي وأن لا يكون، فتكون لهذه الكلمة فائدة على حدة إلا أنها إذا استعملت في الإيجابات والأوامر والنواهي والإنشاءات لم توجب شكاً لأن الشك إنما يتحقق عند التباس العلم

(1/165)


بشيء وذلك إنما يكون في الإخبارات، وأما الإنشاءات من إيجاب وأمر ونهي وتحريم وهي لإيجاب حكم مبتدأ، فلا يتصور فيهما شك ولا التباس وإذا بطل معنى الشك إذا استعملت في غير الخبر.
قلنا: إن دخلت بن أمرين أو إيجابين أوجبت التخيير لما ذكرنا أنها إذا دخلت في الخبر نفت دخول المذكورين جميعاً تحت ما أخبر به وثبت أن المراد به إما هذا وإما هذا لما ذكرنا أن اللفظ يتناول كل واحد منهما على سبيل الشك، وإنهما ليسا بثابتين معاً.
وإذا انتفى معنى الشك في الإيجابين بقي المعنى الآخر وهو أن الثابت إما هذا، وإما هذا فأوجب ضرورة التمكن من أداء الواجب لأن الأداء لا يتصور إلا بمعين.
وإذا دخلت بين إباحتين كقولك: جالس الحسن أو ابن سرين، وكل هذا الطعام أو هذا، صارا جميعاً مباحين لأن معنى الشك باطل لما قلنا في الأمر.
وكذلك معنى الخيار إنما وجب للتمكن من أداء الواجب، على ما ذكرنا ولا وجوب في الإباحة فلم يثبت الخيار.
وإذا دخلت بين نفيين أو تحريمين كقول الله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} صارت بمعنى "ولا"، وكذلك إذا حلف فقال: والله لا أكلم فلاناً، أو فلاناً.
لأن معنى الشك ساقط لما ذكرنا في الإيجاب.
ومعنى الخيار ساقط لأنه لا فعل عليه في التحريم والخيار كان لضرورة الإمكان من الفعل فبقي معنى دخول كل واحد منهما على الإنفاد بلا خيار.
وكذلك إذا قال: ما رأيت زيداً أو عمراً، لو انصرف إلى نفي رؤية أحدهما دون الاخر لصار بمعنى قوله: رأيت زيداً أو عمراً فيكون حينئذ النفي والإثبات واحداً، بل لما ثبت بقوله رأيت زيداً أو عمراً رؤية كل واحد منهما على الشك صار ذلك بعينه منفياً بقوله: ما رأيت زيداً أو عمراً، فأوجب دخول كل واحد منهما تحت النفي على الانفراد وصار كقوله: ما رأيت زيداً ولا عمراً، لا كقوله: ما رأيت أحدهما. وإن كانا يتفقان معنى.
وأما إذا دخل بين نفي وإثبات، كقوله: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى. كان بمنزلة "حتى" فإن دخل الدار الأولى حنث وإن دخل الدار الأخرى سقطت اليمين إلى بر لأن عمل "أو" في النفي عمل بلا شك، وعمله في الإثبات بأن لا يثبت إلا أحدهما فاعتبر في حق الدار الأولى بنفيين كأنه قال: والله لا أدخل هذه الدار أو هذه الدار، وفي الدار الأخرى بالإثباتين، كأنه قال: والله لأدخلن هذه الدار أو هذه الدار فإذا دخل في أحدهما بر في يمينه وتمت اليمين براً فكذا ههنا إذا دخل الدار الثانية.

(1/166)


ثم البر بهما وما ينتهي إليه بر اليمين معقودة على النفي كان غاية، قالوا: وإذا قال والله لا أكلم الناس غلا فلاناً أو فلاتاً كان له أن يكلمهما جميعاً لأن الاستثناء من الحظر إباحة، وقد ذكرنا أنها في الإباحة توجب إباحة كل واحد مما دخلت عليه، كقولهم: كل هذا أو هذا، والله أعلم بالصواب.

(1/167)