تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في الحجج المجوزة من
الشرعيات
وهي التي توجب العمل بها دون العلم.
فلما أوجبت العمل بها كانت حجة.
ولما لم توجب العلم- والعمل بغير علم باطل في الأصل- سميناها
مجوزة، حيث جوزت العمل بغالب الرأي في ثبوتها بلا علم حقيقة
توسعة علينا.
وهي أربعة انواع:
الآية المؤولة: لكونها مشكلة قبل التأويل، أو مشتركة، أو
مجملة.
والعام الذي ثبت خصوصه، على ما مر من الأنواع التي لا توجب
العلم قطعاً من كتاب الله تعالى.
وخبر الواحد أو خبر الصحابي.
والقياس، لأنا ما عرفناها حجة إلا بضرب من الرأي.
فالتأويل ما آل إليه أمر النص بالرأي على ما مر.
وكذلك خبر الواحد إنما صار حجة بضرب رأي ذكرناه من بعد فإنه
محتمل للكذب، وليس بحجة يقيناً.
وكذلك خبر الصحابي لأنه ممن يجوز عليه الغلط كما يجوز علينا
إلا أنا رجحنا رأيهم على رأينا إما بخبر الواحد أو بضرب
اجتهاد.
وأما القياس فمحض الرأي.
(1/168)
باب
القول في الآية المؤولة
وقد مر تفسيرها وإنما أعدنا لبيان جواز التأويل بالرأي، وكونها
حجة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه
فليتبوأ مقعده من النار" والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا جوزنا التأويل دون التفسير- وقد يبق الفرق بينهما-
فالتفسير: بيان لا يبقى فيه شك وشبهة ويضلل مخالفه، ومن ادعى
ذلك برأيه وضلل مخالفه فسق كالخوارج والروافض وكان لهم النار.
والثاني: أن هذا الوعيد لمن فسر برأيه، ورأيه على الإطلاق ما
استفاد بنفسه دون شرعه، وإنما يستفيد من نفسه رأي الهوى وما
فيه مصالح دنياه، وحصول مراده فمن فسر القرآن بهذا الرأي فسق
أو كفر كالروافض.
وإنما يجوز له التفسير بالرأي الذي أفادته الشريعة بأن عرف
أصول الشرع وإشاراته وما يبتنى عليه أمر دينه فأول المشكل على
ذلك، ولفق بين المتناقض منه ظاهراً، فيكون هذا تفسيراً برأي
الشرع لأنه ما استفاد هذا الرأي إلا من الشرع وقد اشتغل به
الصحابة، والسلف الصالحون إلى يومنا هذا ومتى لم نجوز هذا لم
يمكننا الخروج عن طعن الملحدين في القرآن، والله أعلم.
فإن قيل: كيف تكون الآية المؤولة حجة مع احتمال الغلط والله
تعالى يقول: {ولا تقف ما ليس لك به علم}؟
قلنا: إن المؤول وإن احتمل الغلط فإنه يجوز العمل به إذا ترجح
أحد الوجهين على الآخر، وعند الرجحان يقع بالراجح علم مثله،
وهو علم الظاهر دون الإحاطة واليقين لبقاء الوجه الآخر، وعند
الرجحان يقع بالراجح علم مثله، وهو علم الظاهر دون الإحاطة
واليقين لبقاء الوجه الآخر محتملاً في الجملة توسعة علينا كما
جوزوا العمل بالخبر الواحد على ما نذكره، وبالقياس مع احتمال
الغلط، وقوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ورد فيما لا علم له
به أصلاً لأنه نكرة في النفي والعلم له مراتب على ما بينا في
آخر الكتاب.
وإنما يذم الإنسان إذا قصر في الطلب فاقتصر على أدنى منازل
العلم، وقد أمر ببلوغ الأقصى فأما ما دام في الطلب وللعلم
درجات فحميد منه سعيه وإن كان قولاً بما لا علم له به يقيناً
لأنه لا وسع له إلا ذلك ولا تكليف إلا به، والله أعلم.
(1/169)
باب
القول في الخبر الواحد
اختلف العلماء في الخبر الواحد على أربعة أقوال؟
فقال جمهور العلماء: إنه حجة، وإن لم يكن المخبر معصوماً عن
الكذب.
وقال بعضهم: لا يكون حجة حتى يبلغ عدد الشهادة.
وقال بعضهم: لا يكون حجة أقصى عدد الشهادة.
وقال بعضهم- ممن لا يعتبر خلافه خلافاً-: لا يكون خبر الواحد
حجة في باب الدين إلا أن يكون معصوماً عن الكذب أو يبلغ حداً
ذكرناه في التواتر لقول الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به
علم}؟ والعلم لا يقع بخبر احتمل الكذب وقال: {ولا تقولوا على
الله إلا الحق} وقال:
ولأنا لا نعمل بالنص المحتمل لوجهين، وغن كان كل واحد منهما
مما يجوز ان يكون شريعة فلأن لا نعمل بالذي يحتمل الصدق
والكذب- والكذب باطل- أولى وأحرى.
قال: ولا يلزمنا العمل بالشهادة لأنا تركنا هذا الأصل بكتاب
الله تعالى بخلاف القياس فلا نقيس عليها غيرها. ولأن حقوق
العباد ليست كأصل الشريعة فإنها باب يثبت بإيجابهم وتصرفهم
وبهم ضرورة إليها، ولا يمكنهم إظهارها بدليل لا يبقى فيها شك
وشبهة، وأما الدين فحق الله تعالى، والله تعالى قادر على إظهار
حقه بما يوجب العلم فلم يجز إثباته بما دونه كما لا يجوز إثبات
أصل الدين من التوحيد والنبوة، وصفات الله تعالى بما فيه شبهة.
واما جمهور العلماء فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} وبقوله تعالى: {وإذ أخذ
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}
الآية، فالله تعالى توعدهم بالكتمان وبترك البيان، وحقيقة هذه
الإضافة تتناول كل واحد من آحاد الجمع على ما مر ذكره في الجمع
المضاف إلى جماعة.
ولأن أخذ الميثاق علينا من أصل الدين والخطاب بأصل الدين، وإن
تناول الجماعة فكل واحد منهم مخاطب به على حدة بالإجماع
وبالدلائل التي لا شك فيها ولما افترض
(1/170)
البيان على كل واحد من الجملة دل ضرورة أنه
مقبول منه ذلك وواجب قبوله كما كان يجب من رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكذلك كل مأمور بشيء إذا أتى به كما أمر كان القبول
منه حقاً له، وقال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون} والفرقة اسم لجماعة أقلها ثلاثة، والطائفة منتزعة منهم
فيكون بعضهم وبعض الثلاثة واحد او اثنان وقد يسمى الواحد طائفة
قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} روي أنهما
كانا رجلين، وقد دلت عليه الآية: {فأصلحوا بينهما} إلى قوله:
{فأصلحوا بين أخويكم} ولم يقل بين إخوتكم.
وإن جعلنا الطائفة جماعة فهي إلى العشرة وخبرهم يحتمل الكذب.
ولن أحداً لم يقل أن الطائفة او الفرقة اسم جماعة بلغوا عدداً
نشترطه في التواتر، والله تعالى أمر الطائفة بالتفقه ثم بإنذار
قومهم بما تعلموا، ولو لم يكن قولهم حجة لما وقع به إنذار ولا
حذر.
فإن قيل: إن الله تعالى أمر به الطوائف أجمع.
قلنا: قد ذكرنا أن الجماعة المضافة إلى جماعة حقيقية آحاد في
حق كل مضاف إليه كقولنا: لبس القوم ثيابهم، وركبوا دوابهم،
ولأنه قال: {إذا رجعوا إليهم} علق الإنذار بالرجوع، ولا يتصور
الرجوع من الطوائف كلها إلى قوم واحد منهم لأنه اسم للعود بعد
المسير عنهم وإنما يسمى الآتي ابتداء قادماً.
ولأن الواجب لو كان اجتماع الطوائف والدوران على الناس لكان
أمراً مشهوراً لا يخفى ذلك.
ولو كان الحق متعلقاً بذلك لوجب نقل ذلك كما نقلت الطهارة
وسائر الفرائض، ولكان لا يندرس أثره فلما لم ينقل علم أنه لم
يكن.
ولو وجب ذلك لما تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض
عنه. على أن الحجة قائمة مع الاحتمال لأنهم إذا اجتمعوا وداروا
وجب الحذر من قولهم وبيانهم بظاهر الآية، وبعد الاجتماع جائز
عليهم الاتفاق على الكذب عادة وإنما يصير الخبر حقاً من
الجماعة إذا كانت الجماعة جماعة لا يتوهم عليهم الاتفاق يقيناً
على الكذب عادة، والاتفاق على الكذب عادة يتوهم على المجتمعين
عادة.
فإن قيل: إنما يلزم الواحد البيان، ولكن لا يلزم السامع القبول
حتى يكثروا كالشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة ولكن لا يجب على
القاضي العمل حتى يتم العدد.
قلنا: إن الله تعالى ألزم البيان ليحذر الناس ولم يشترط عدداً
فمتى لم يلزم العمل
(1/171)
بذلك البيان إلا بعدد لم يقع الحذر إلا
بزيادة فيكون نسخاً ولا يكون تأويلاً، ألا ترى ان الله تعالى
ما ذكر الشهادة للعمل بها إلا مقرونة بالعدد وما ذكر عدداً في
باب الدين، وعلى ان الشاهد إذا علم أنه لا شاهد غيره لا يلزمه
الأداء وظاهر الآية يدل على وجوب البيان على الآحاد.
وكذلك قوله تعالى: {كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر} وإنه يتناول الآحاد فصار الأمر من كل واحد
أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر بنص الكتاب فيجب القبول منه.
ووجه آخر أنا نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان
يعيش إلا بأكل، وما كان يزرع بنفسه ليعلم طيبة الخارج يقيناً
بل كان يأكل مما يهدى إليه أو يشتري أو يدعى إلى طعام على ما
يخبره الخبر من غير نزول وحي في كل ذلك حتى أكل الشاة المصلية
فلم يسغها فسأل عن شأنها فأخبروه بالقصة فأمر بالتصدق.
ووجه آخر انا نعلم يقيناً أنه كان مبعوثاً إلى الناس كافة،
وإنه لم يأت الجميع بنفسه وإنما أرسل إليهم، وكتب وأنه أدى ما
حمل من الأمانة فلو لم يكن خبر الواحد حجة أو الكتاب، لما كان
ذلك تبليغاً، ولكان تجنب الأمانة وهذا غير جائز.
ووجه آخر أنا نعلم يقيناً أن المخدرات ما كن يحضرنه لتعلم
الدين وكن يعلمن من جهة أزواجهن، والقوام عليهن، ولو لم يكن
خبرهم حجة للزمهن الخروج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو
فعلن لاشتهر ذلك كما اشتهر اجتماع الرجال ولم يخف.
ووجه آخر هو أن البلاد النائية افتتحت على عهده مثل بلاد اليمن
والبحرين وما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بل بعث
إليهم من علمهم، وهداهم من الخلفاء على مثال سير الملوك في
ولايتهم اليوم فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما جاز ذلك وللزمهم
الخروج بأجمعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وجد ذلك
لكان أمراً مشهوراً ظاهراً لا ينكتم على أحد.
ووجه آخر ان الله تعالى جعل الشهادات حجة موجبة حتى لو امتنع
القاضي عن العمل بها فسق وهي لا توجب علم اليقين فدل على أن
العمل واجب بالحجة أوجبت علم يقين أو ظاهر يحتمل غيره.
فإن قيل: باب الديانات أعظم من باب معاملات الناس في حقوقهم!
قلنا: لزوم القاضي أن يعمل بالشهادة من الدين ويجب حقاً لله
تعالى، وفرضاً من فروضه حتى إذا تركه فسق وأثم [برفضه]، ولو لم
ير العمل به حقاً كفر، وحق العبد سبب للوجوب حقاً لله تعالى
كما تجب الزكاة حقاً لله تعالى بسبب ماله فما بينهما فرق بل
هذا فوق ذلك ثبوتاً على ما نذكر بعد هذا، فإنا نشترط العدد في
الشهادات دون الأخبار.
(1/172)
على أن خبر الواحد قد يقع في باب الدين وفي
غيره كرجل يقول هذا الماء طاهر أو نجس، وهذه هدية فلان بعثها
إليك، وأنا وكيل فلان بالتصرف في ماله، والخلاف ثابت في الكل
فإن سلموا هذه الوجوه، ولا بد منها لتقوم به مصالحهم إن حقائق
الأملاك لا تعرف بأسباب الملك فلعل الذي باعك غاصب، كان الباقي
قياساً عليه.
لأنك متى صدقته، وعملت به اعتقدت الحل.
ومت كذبته اعتقدت الحرمة.
واعتقاد الحل والحرمة دين وليس من حقوق الناس في شيء.
فإن قيل الكلام في الأحكام الشرعية فإنها تثبت إلا من جهة
الرسول، ولم يجز نصبها بعده، وكان معصوماً عن الكذب فلم تقع
الضرورة إلى معرفتها بما لا يوجب العلم، فأما ما نحن نضطر إليه
مما يحدث كل يوم وكل ساعة، ولا يمكننا البناء على اليقين فجائز
العمل بما لا يوجب العلم يقيناً دفعاً للضرورة.
قلنا: إن الكلام فيما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الأحكام، وحدث لنا من العلم بها وذلك بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم كحدوث حوائجنا إلى مصالحنا، وطريق اليقين إلى
الكل مسدود كما في المعاملات التي تكون منا لأنه لا طريق إليها
يقيناً إلا الآيات المحكمة من كتاب الله تعالى وقلما يوجد ذلك،
بل أكثرها مؤولة، وعمومات لحقها الخصوص وبقيت غير موجبة
يقيناً.
وكيف تكون يقيناً وللناس اختلاف في بعض السراق بعينه أيقطع ام
لا؟ وكذلك الزاني، فلا يضلل بعضهم بعضاً، على أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقضي بالشاهد وباليمين في عصره وكان يقول:
"إنما انا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته
من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فكأنما أقطع له قطعة من
النار" فأخبر أنه يقضي بالظاهر كسائر البشر.
فتبين ان الله تعالى شرع لنا وعلينا العمل بما يوجب علم
اليقين، وما لا يوجب اليقين توسعة ونفياً للحرج، وغنما يختص
باليقين ما يرجع إلى الاعتقاد بلا عمل يلزمنا من معرفة الله
تعالى وصفاته وأحكام الآخرة، ومعرفة النبوة، وما هو من أصل
الدين الذي بدونه ينهار ركن منه.
ووجه آخر أن الأخبار المروية في الباب أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يحكم بخبر الواحد وكذلك الصحابة، وظاهر مثل الشمس عمل
الصحابة بأخبار الآحاد.
وكذلك السلف وقد أوردها محمد بن الحسن.
(1/173)
وكذلك أصحاب التصانيف ما يضيق كتابنا عن
ذكرها ونحن سكتنا عنها اختصاراً واكتفاء بما فعل الناس وتقرر
في قلوبهم، ولعلمنا ان خصومنا متعنتون، وانهم منكرون كل ذلك
فاشتغلنا بما لا يمكنهم الإنكار من الأمور التي هي على مثال
المحسوسات دل عليه ما بينا بإجماع الصحابة، وبنص الكتاب أن
القياس حجة وأنه دون خبر الواحد.
فإن قيل: قال محمد بن الحسن رحمه الله في كتاب "الاستحسان":
إذا تزوج الرجل امرأة فأخبرته امرأة عدل أنها أرضعتهما لم تحرم
عليه.
قلنا: لأن هذه الحرمة لا تثبت إلا بزوال ملك الزوج، وخبر
الواحد ليس بحجة في حقوق الناس، إزالة وإثباتاً، ولهذا لم تفصل
المنازعات الجارية بين العباد في حقوقهم بالإخبار.
لأن أصل المنازعة لا يثبت فيما بينهما لهما إلا بحقهما حتى
يكون شهادة أو يميناً، ففي اليمين زيادة صدق للخبر لا توجبه
عدالة المخبر.
وكذلك في لفظ الشهادة ثم قصر العدد على أربع وشاهدين، وواحدة
في باب النساء أمر عرف شرعاً لا لعلة معقولة، إذ لو كانت
معقولة لما اختلف العدد، ولما اختلفت، وقبلت شهادة القابلة
وحدها وكانت حجة، وقبلت شهادة خزيمة وحدها، علم ان زيادة العدد
ليست لإفادة أصل العلم بل لحكمة اختص الله تعالى بعلمها فلم
نقس عليها سائر الأخبار التي ليست من قبيل تلك المنازعة.
ويحتمل أن يقال: إن المنازعات في حقوق الناس تجري بينهم لهواء
أنفسهم فتكون أشد من باب الديانات فغلظ بتخصيص اللفظ الدال على
الوكادة من الحلف والشهادة، وكذلك زيادة العدد، والله أعلم.
(1/174)
باب
القول في أقسام المخبرين
أقسامهم أربعة:
أ- الصبي العاقل والمعتوه بعد البلوغ، ومن بمنزلتهما ممن به
نقصان عقل ومعرفة بعد وجود أصل العقل والمعرفة.
ب- والعاقل التام العقل الفاسق، ومن بمنزلته ممن انعقد له سبب
تهمة الكذب في خبره.
ج- والعدل الضابط الذي لا تهمة له سوى أنه غير معصوم عن الكذب.
د- ورسل الله وأنبياؤه- عليهم السلام- المعصومون عن الكذب.
فأما المجنون ومن بمنزلته كالنائم والمغمى عليه: فلا عبرة بهم
لأنه لا معرفة لهم ولا تمييز.
والخبر إنما يقبل لما فيه من الإعلام، وكذلك أصل الكلام إنما
يصح ممن له معرفة إخباراً كان أو إنشاء لأنه اسم لصوت مفهم
وحروف منظمة أعلاماً على أعيان وأفعال.
هذا حد الكلام في الشاهد فلا يصير صاحب الصوت من أهله إلا بعد
المعرفة والتمييز بين الاسم والاسم لينطق به على وجهه فيصير
الكلام قبل المعرفة وسائر الألحان من ألحان الطيور بمنزلة كلام
السكران.
فإنه إذا أنشأ شيئاً يلزمه واعتبر صحيحاً منه عقوبة له بأن بقي
مخاطباً غير معذور بالتباس عقله لسكره لأنه كان منه بفعل هو
معصية.
فأما إذا أخبر فلا يقبل منه ولا يعمل به لأن حكمه في صدقه لا
عينه فالعين وإن صح لقيام الخطاب لم يثبت معنى الصدق، لأنه أمر
لا يبنى على الخطاب بل على ما يزيل جهة الكذب، ولم توجد هذه
الشريطة فأشبه إقرار المكره.
فأما الصبي العاقل ومن بمنزلته فخبره مقبول في البعض دون البعض
على ما نبينه في البا الذي يلي هذا الباب لبيان أقسام المخبر
عنه لأنه ينطق عن معرفة، وهذا حد صحة الكلام.
إلا أنه لا ضابط له لنقصان عقله وغلبة هواه، والخبر صحته من
حيث يعمل به في صدقه وتمام ذلك في ضبطه بعد المعرفة فقبل خبره
في البعض دون البعض على ما نبين
(1/175)
الحد بينهما، والمعتوه بمنزلته لأنه هو
الذي اختلط عقله ولم يزل، وكذلك المغفل هو الذي به غلبة
النسيان فلا يبقى له ضبط لما يسمع فيلتحق بغلبة النسيان بالذي
انتقص عقله أو به غفلة عن التأمل والتحفظ فليلتحق بالعاجز عن
الحفظ بترك استعمال الآلة.
وأما العاقل البالغ الفاسق: فقد أخبر عن عقل تام وضبط إلا أنه
متهم بالكذب لفسقه، فإن الفسق في ارتكاب الإنسان ما اعتقده
حراماً في دينه فأما إذا ظهر منه ذلك وفيه مكابرة لدينه وعقله،
فإن عقله يلزمه إقامة دينه اتهم أيضاً بالكذب مكابراً لعقله
ودينه.
والكافر العدل في تعاطيه بمنزلته فيما يخبر من أمور الدين
لظهور العداوة فيه بيننا وبينهم، والعداوة سبب تحمل المرء على
مكابرة عقله فيما يضر بعدوه.
وكذلك كل من أخبر على عدوه أو أخبر لمن اتهم به كالأب لولده
ونحوهم فهؤلاء كلهم متهمون بالكذب بأسباب باعثة على الكذب لا
بقلة الضبط وخبرهم مما يجب التثبت فيه، لقوله تعالى: {إن جاءكم
فاسق بنبإٍ فتبينوا} الآية، إلا في بعض الأحوال على ما يأتيك
بيانه في الباب الذي يليه.
ولهذا المعنى يجب التثبت في القسم الأول إلا فيما استثنى
بدليله لأن التهمة بسبب الغفلة ونقصان العقل تقرب من تهمة قصد
الكذب بأسباب باعثة عليه مع كمال العقل.
وأما العدل: فخبره حجة لترجح جهة صدقه على جهة كذبه، على ما مر
في الباب الأول، ولا يبطل إلا بمعارضة.
وأما خبر الرسل: فحجة موجبة علماً يقيناً لقيام الدلالة على
عصمتهم عن الكذب كرامة من الله تعالى حتى صلحوا لنقل رسالته،
وخبرهم من قبيل ما مضى من الحجج الموجبة.
(1/176)
باب
القول في بيان أقسام ما كان خبر
الواحد فيها حجة
هذه الأقسام أربعة:
منها الأحكام الشرعية كلها التي تحتمل النسخ والتبديل، وهي من
فروع الدين لأن الأحكام على ما شرعت حق الله تعالى علينا
يلزمنا أن ندين الله بها.
ومنها حقوق العباد مما يجب لهم وعليهم مما يقوم به مصالحهم
العاجلة التي اشترك فيها أهل الملل كلهم.
والثالث: المعاملات التي أبيحت لنا وكنا مختارين في إنشائها
مما يتعلق بها اكتساب تلك الحقوق.
والرابع: حجر يلحقنا لحق الغير فيلزمنا الكف عن ضروب أفعال
صيانة للحد الذي بين ما للمرء ولغيره مما ظهر ذلك من الناس
أجمع في أملاكهم وولاياتهم وأفعالهم.
فأما ما لله تعالى فخبر الواحد فيها حجة ويجب العمل به بلا شرط
عدد معلوم ولا لفظ معين بل بشروط تراعي المخبر على ما يأتيك
بيانه في بابه.
فأما حقوق العباد فلا يكون الخبر حجة لهم ولا عليهم عند
المنازعة إلا بعدد معلوم، ولفظ معلوم وشرائط معدودة في المخبر
زائدة على شرائط المخبر عن حقوق الله تعالى، وموضع معرفتها
كتاب تقسيم فروع الفقه.
وأما المعاملات فخبر كل مخبر صحيح العبارة فيها حجة يجوز العمل
بها.
وأما الحجر فقد شرط أبو حنيفة رضي الله عنه لصيرورة الخبر حجة
أحد شرطي الشهادة إما العدد وغما العدالة، وخالفه أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله وذلك في الوكيل يبلغه خبر العزل، أو العبد
المأذون يبلغه خبر الحجر، أو المولى يبلغه أن عبدك قد جنى فإنه
يلحقه الحجر عن التصرف فيه إلا باختيار الأرش.
أما الفصل الأول: فإنما لم نشترط زيادة عدد ولا تعيين لفظ لأن
احتمال الكذب لا يرتفع بنفس زيادة العدد ولا تعيين لفظ فلم
نشتغل به ولأن نقل الأخبار كان في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة والسلف ولم يبلغنا شرط زيادة عدد ولا تعيين لفظ
إلا احتياطاً، فقد روي أن علياً رضي الله عنه كان يحلف الراوي
فروى له أبو بكر الصديق فصدقه ولم يحلفه، ألا ترى اللفظ والعدد
لما كان شرطاً في باب حقوق العباد كيف ظهر ذلك ولم يختلف
باختلاف الشاهدين في العدالة.
(1/177)
وأما القسم الثاني: فإنما شرطنا العدد
واللفظ بنص الكتاب لأنها شرعت حجة لفصل منازعة ثابتة بين اثنين
بخبرين صحيحين متعارضين من الدعوى والإنكار، فلم يقع الفصل
بجنسه خبراً بل بنوع خبر ظهرت مزيته في التأكيد على غيره من
يمين أو شهادة ثم ضرب احتياط بزيادة العدد وهذا المعنى معدوم
في حق أحكام الله تعالى، فإن الذي لم يبلغه الخبر لم يكن يعمل
به لعدم الدلالة لا لدليل موجب عملاً بما كان عليه فكانت
الحالة أخف من حال قيام المنازعة بدليلين صحيحين شرعاً، أعني
خبر المنكر والمدعي لأن الشرع جعل خبر كل ذي عقل في الأصل حجة
وإنما الرد بعوارض.
وأما المعاملات: فإنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يدعى إلى الطعام وكان يجيب البر التقي وغيره وكان يشتري من
الكافر وكان يصدقه.
وكذلك الأسواق القائمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى يومنا هذا قائمة بعدول وفساق، والشراء مباح من الكل إلا أن
يقع في القلوب تهمة الكذب بأمارات غير فسقهم بزناهم وشرب الخمر
وما لا يتصل بالأموال، وقد نص عليها محمد بن الحسن في كتاب
"الاستحسان".
ولأن هذا إخبار عن أمر من امور الدين لأن الحل والحرمة دين ولا
دليل مع السامع ينازعه به كالرواية عن النبي صلى الله عليه
وسلمبل السامع متمسك بأصل كان لعدم الدليل على زواله فلم يشترط
لفظاً عيناً ولا عدداً كما في الخبر عن النبي صلى الله عليه
وسلم إلا أنه أخف من ذلك.
وذلك لأن للناس ضرورة في التصرف مع الناس لإقامة مصالحهم، ومع
وكلاء الملاك وأكثر الناس أبداً فسقة فلو لم يجز التصرف إلا مع
العدول لانسد باب التجارات وضاق الأمر على الناس والله تعالى
ما جعل في الدين من حرج فلم نشترط العدالة لذلك.
بخلاف الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا ضرورة بنا
إلى تصديق الفاسق بعد قيام المعارضة بين صدقه وكذبه، وإن بعدنا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حكم الله تعالى في تلك
الحادثة ممكن إقامته بالقياس الصحيح الذي شرع حجة بلا معارضة
حتى إذا تعارض القياسان حل له العمل بما يقع في قلبه أنه الحق،
ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في القسم الرابع: ان خبر
الفاسق حجة وإن كان واحداً.
واما الحجة لأبي حنيفة رضي الله عنه في القسم الرابع: أن
المخبر عنه من جنس الأول لأنه خبر عن تصرف المالك بحكم ملكه
فإن له الإطلاق والحجر، إلا أن في هذا إلزاماً عدم في الإطلاق
ذلك، فأشبه من هذا الوجه القسم الثاني من حقوق الناس التي تجب
لهم وعليهم فصار بينهما، فشرط لصحته أحد شرطي الشهادة من عدد
أو عدالة بخلاف الرسول فإن قوله وحده حجة في هذا الباب وإن كان
فاسقاً، لأن الموكل قد يبدو له في العزل للوكيل، فلا يجد عدلاً
ولا اثنين فلو لم تقبل رسالة الفاسق لضاق الأمر على
(1/178)
الناس ولما أمكن ذا الحق تدارك حقه وهذا
المعنى معدوم في حق المخبر لأنه يخبر من عند نفسه وماله حق
يفوته إذا كذب، ولو أراد ذو الحق تدارك حقه لأرسله فلما لم
يرسله؛ والعزل غير صحيح على غيب، علم أنه ما قصد التدارك.
فإن قيل: فما الفائدة في زيادة العدد مع قيام الفسق؟
قلنا: كما قلنا في الشهادة مع قيام العدالة في الواحد
والاثنين، وقد نص محمد بن الحسن في كتاب "الاستحسان" في ماء
أخبره رجل بنجاسته والآخر بطهارته، وأحدهما فاسق والآخر عدل:
أن خبر العدل أولى، وإن كانا فاسقين: توقف، وغن كان أحد
الفريقين رجلين: فخبرهما أولى فرجح بالزيادة كما رجح بالعدالة،
وكذلك إذا اختلف المزكون في جرح الشاهد وتعديله، ومن جانب
رجلان، ومن جانب رجل فقول الرجلين أولى، والله أعلم.
(1/179)
|