تقويم الأدلة في أصول الفقه

باب

القول في أقسام الرواة الذين تقبل روايتهم
الراوي إما أن يكون معروفاً بعلمه ونسبه، أو مجهولاً ما عرف إلا بحديث رواه أو بحديثين.
ثم كل واحد منهما إما أن يكون ظهر من الصحابة أو السلف رضي الله عنهم.
رد عليه أو قبول منه. فيصيرون أقساماً أربعة.
أما المشهورون: فنحو الخلفاء الراشدين، والعبادلة الثلاثة رضي الله عنهم.
وأما المجهولون: فنحو معقل بن يسار، وسلمة بن المحق، ووابصة بن معبد، وسائر الأعراب الذين ما عرفوا إلا بما رووا.
ثم خبر المشهور حجة ما لم يخالف القياس الصحيح.
فإذا خالف نظر: فإن كان الراوي من أهل الفقه والرأي والاجتهاد رد القياس بخبره.
وإن لم يكن من أهل الفقه والرأي رد خبره بالقياس.
أما الأول فلأن الخبر أولى في الجملة من القياس، لأن الخبر في الأصل حجة يقيناً، وإنما وقع الإشكال في نقل الناقل والرأي في أصله إشكال في حق الإصابة، ولأن شبهة الرأي من حيث أنه لعله لم يبلغ حيث كان الحق، وشبهة الرواية من حيث قصد الكذب أو اعتراض نسيان، فيكون لا محالة بعارض فكان دون الذي يتوهم من قبل عدم علة الإصابة.
ولأن القائس استشهد بوصف هو ساكت عن إيجاب ما ادعى، وإنما جعله شاهداً بضرب إشارة من الشرع والراوي استشهد بكلام مبين.
فالرأي للقياس مقام السماع للخبر، وبينهما تفاوت في الإصابة.
والوصف الذي به جمع القائس بين الأصل والفرع مقام النص المنقول وبينهما تفاوت في الإبانة وقد اشتهر من الصحابة والسلف ترك الرأي بالخبر الواحد، وإثبات الحكم بخلاف القياس فسموه معدولاً به عن القياس وأبوا القياس عليه.
وأما الذي ليس من أهل الفقه، فلأنه قد ثبت ثبوتاً ظاهراً الرد على أبي هريرة بالقياس، وكان رضي الله عنه من المشهورين المعدلين روى أبو هريرة رضي الله عنه: "الوضوء مما مسته النار"، فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنتوضأ من الماء

(1/180)


السخن أو نتوضأ من دهن ندهن به؟ فرده بالقياس، ولم يشتغل بالسنة ولو كان لا يجوز الرد بالقياس لما احتج به أو كانت عنده سنة لما سكت عن أقوى الدليلين أو لكان يتفحص عن التاريخ ليعمل بالآخر منهما، ولأن السنة المروية بخلاف هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بكتف مؤربة فأكلها وصلى، ولم يتوضأ وأنه يوجب تخصيصه في حق اللحم لا رده.
فإن قيل: وقد قال له أبو هريرة: إذا رويت لك الحديث فلا تضرب له الأمثال!
قلنا: نعم، ولكن أبو هريرة رضي الله عنه وإن جل قدره فلا يعارض مع ابن عباس في الفقه والعلم، فقد ظهر آثار ابن عباس ظهوراً ما يخفى على أحد وما لأبي هريرة إلا الرواية، وكان عمر يستشيره في أكثر الحوادث وكان يقدمه على كبار من الصحابة رضي الله عنهم، وكان يقول: غص يا غواص، ويقول: شنشنة أعرفها من أخزم، وهو مثل تمثلت به العرب لتشبيه الولد بوالده، وكان يريد به مدحه على رأيه.
فقد قيل: لم يكن لقريش رأي مثل رأي ابن العباس رضي الله عنه ألا ترى أن السلف الصالحين عملوا برد ابن عباس دون رواية أبي هريرة فصار إجماعاً.
وكذلك روى أبو هريرة أن ولد الزنا شر الثلاثة، فردت عائشة رضي الله عنها بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وإنها عامة تقبل التخصيص. وقال عامر الشعبي: لو كان شر الثلاثة لما انتظرنا بالحامل عن زنا إلى أن تلد، فرده بالقياس.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت، وأشارت إلى أبي هريرة: ألا تعجب من هذا وكثرت حديثه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده عاد لأحصاه.
فثبت أن العدل ممن ترد روايته بالقياس إذا لم يكن ذا فقه، فإن أبا هريرة ما كان يشكل على أحد عدالته وكثرة صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زر غباً تزدد حباً" وكذلك حفظه فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعا له بالحفظ" ومع ذلك رد حديثه بالقياس، لأنه لم يكن من أهل الاجتهاد، ووجه ذلك أنهم كانوا يستجيزون نقل الخبر بالمعنى على ما نذكر.
ولما ظهر ذلك منهم احتمل كل حديث أن يكون نصه لفظ الراوي نقلاً لما فقه من المعنى.
فإذا لم يكن فقيهاً صار متهماً بالغلط لما خالف معنى لفظه القياس الصحيح فالتحق برواية الصبي والمغفل فرد.

(1/181)


وإذا كان الراوي فقيهاً لم يتهم، وعلم أنه ما نقل بخلاف القياس بالاجتهاد فإنه عليم بطريقه وعامل به، فلا يظن به تركه برأيه بل بمحكم نص ما احتمل الموافقة، ولهذا رد علماؤنا حديث المصراة، وبيع العرية بالقياس فإنهما لم ينقلا عن فقيه.
ولما ثبت ما قلنا في رواية أبي هريرة فمن لم يبلغه في المنزلة شهرة وصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مثله في باب الرأي والفقه أولى به إلا أن يكون حديثاً نقل السلف عنهم وعملوا به، لأنهم كانوا أهل فقه وضبط وتقوى وكان ظهر منهم رد ما خالف القياس من روايتهم، فيدل قبولهم الواحد من بين الجملة على عملهم بصحته من طريق آخر.
وأما المجهول فخبره حجة إن نقل عنه السلف، وعملوا به لما ذكرنا في الباب الأول.
وكذلك إن سكتوا عن الرد وإن لم يظهر العمل به لأن النقل للعمل به في الأصل، ولو كان مما لا يجوز العمل به في الأصل لما كان يحل لهم السكوت عن بيانه والوقت وقت الحاجة إليه.
فأما قبل الظهور فيعمل به إن وافق القياس ولا يعمل به إن خالف لأنه في الرتبة دون أبي هريرة بكثير، بدليل ما روي أن معقل بن يسار روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية بمثل قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمهر المثل لامرأة كان مات عنها زوجها قبل الدخول بها ولم يكن سمى لها مهراً، فسر عبد الله بذلك وقبله لما وافق رأيه، ورده علي رضي الله عنه لما خالف رأيه.
فإن قيل: كيف تقبل روايته وهو مجهول لم تظهر عدالته ولا ضبطه؟
قلنا: رواية المشهور بالعدالة عنه من غير رد عليه تعديل إياه، ولأن الأصل في العقلاء العدالة والضبط حتى يثبت غيره من واحد على الخصوص أو الجنس على العموم فيصير كل واحد منهم متهماً به وهذا المجهول ما عرف بذلك على الخصوص، وكان من قرن كان الغالب عليهم العدالة والضبط، وهو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا أمر التابعين والصالحين على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب" فأما اليوم فرواية المجهول لا تقبل حتى تظهر عدالته لغلبة الفسق.
وعلى هذا تأويل قول أبي حنيفة رضي الله عنه في الشاهد أنه يقضى به قبل التعديل، لأنه كان في القرن الثالث.

(1/182)


على أن الخبر المحتمل للكذب والصدق لا يكون باطلاً بل يجب التثبت فيه ليتبين، فإذا وافق القياس ترجحت جهة صدقه فيكون حجة من الكل.
ويحتمل أن يقال: أن خبر المشهور حجة ما لم يخالف القياس، وخبر المجهول مردود ما لم يؤيد بالقياس ليقع الفرق بين الذي ظهرت عدالته والذي لم تظهر ليكون رد العدل لعارض تهمة وقبول غير العدل بعارض دليل.
قال عيسى بن أبان في حديث عمر رضي الله عنه حين روت فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض لها بنفقة ولا سكنى- وكانت طلبت النفقة في العدة عن طلاق بائن- قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة، لا ندري أصدقت أم كذبت، أحفظت أم نسيت؟ أنه أراد بالكتاب والسنة القول بالقياس فإنه ثابت بالكتاب والسنة على ما نذكر، إذ لو كان عنده خبر يخالفه لروي، ولكان أيضاً يشتغل بالتاريخ ليعمل بآخرهما، وقد قبل هذا الحديث من وافق قياسه هذا الخبر.
فإن قيل: عمر رضي الله عنه إنما رد حديثها بتهمة الكذب والنسيان وبهما يرد كل خبر وإن وافق القياس!
قلنا: لو أراد به ذلك لقال: لا نقبل، ولما قال: لا ندع كتاب ربنا، فلما ذكر الكتاب- والمراد به القياس- علم أنه رد بسبب مخالفة القياس.
ولأنه قال: لا ندري هذا من هذا، وهذا حكم الجهالة بحالها لا حكم العمل بالكذب، والله أعلم.

(1/183)


باب

القول في شرائط الراوي
الشرائط أربعة: العقل، والضبط، والعدالة، والإسلام.
أما العقل: فلأن الكلام اسم في الشاهد لحروف مجموعة وضعت أعلاماً على المسميات، فما لم يعقل، ولم يميز الاسم عن الاسم لم يوجد منه إلا الصورة بلا معنى، فلا يكون كلاماً، كالآدمي لما كان اسماً لصورة لها معنى لم تكن الصورة من خشب آدمياً، فالعقل والمعرفة أصل لصحة الكلام من المتكلم ولهذا لا يعد صياح الطيور كلاماً، وإن انتظم له حروف وسمي ألحاناً، وكذلك الإنسان إذا نظم حروفاً فصاح بها بما ليست بلغة لم يسم متكلماً.
وأما الضبط: فلأن الباب لبيان قسم ما هو خبر والصحيح من الخبر الذي يتعلق به موجبه صدقه لا كذبه، والصدق لا يتصور إلا بعد ضبط لما سمع إلى أن نقل، فكان معنى الصدق للخبر ليثبت به موجبه لمعنى المعرفة لأصل الكلام.
وأما العدالة: فلأن السامع بعد المعرفة والضبط قد يصدق وقد يكذب، وهذا الباب لبيان خبر من هو غير معصوم عن الكذب فلا يصير خبره حجة على احتمال الكذب والصدق حتى يترجح جهة صدقه على كذبه وذلك بالعدالة، فإن تفسير العدل: من اتقى محظور اعتقاده، والكذب محظور عقده عقلاً وشرعاً، فيكون منفياً عنه بظاهر عدالته فتصير جهة الصدق راجحة، فيجب العمل بها.
وأما الإسلام: فلأن الباب لبيان رواية أحكام الشرع، ومن خالفنا ديناً يعادينا على شريعتنا بغير حق، عداوة لا تكون بعدها نهاية، والعداوة بغير حق تبعت العدو على السعي لرده ما أمكن فيصير متهماً بالكذب على شريعتنا ليهدمها بما ليس بشرع.
فهذه تهمة كذب لا بنقصان حال ولكن بزيادة حال، وهو العداوة حتى لم تقبل شهادتهم بحق على المسلمين، ولهذا لا تقبل شهادة ذي ضغن بغير حق على أخيه، ولا شهادة الأب لولده لأن شفقة الوالد تبعثه على الكذب لولده كما لا تقبل إذا شهد لنفسه، والله أعلم.

(1/184)


باب

القول في حدود هذه الشروط
أما العقل: فأصله في نفسه إنما يعرف باختبار الإنسان فيما يأتيه ويذره الخبر الذي لا ينال بالحواس فإن الفعل أو الترك قد يكون بحكمة وعاقبة حميدة، وبغير حكمة كما يكون من البهائم وبالعقل ما يوقف على العواقب الحميدة، والحكم الباطنة التي لا تنال بالحواس فيظهر عقله بوقوع فعله على سنن أفعال العقلاء.
إلا أنه في أصله معدوم فينا جبلة ثم يحدث شيئاً فشيئاً، وكان يتعذر علينا ضبطه من كل صبي.
فحد الشرع لاعتداله حداً بالبلوغ تيسيراً علينا ونظراً للصبي حتى لا يبقى في عهدة الخطاب لعلم الله تعالى باعتدال العقول بالبلوغ في أغلب العادات، فإنه العلام بما وضع فينا وخلقنا عليه فصار الصبي شرعاً دليلاً.
على أنه في حكم من لا عقل له فيما يخاف لحوق عهدة به دون ما لا يخاف، لأن الله تعالى حكم به نظراً له لا عقوبة.
لأن الصبا سبب المرحمة دون العقوبة فلم يقبل خبره في نقل الشريعة وفيه أعظم عهدة.
ولأن الشرع لما لم يوله أموره في ماله لنقصان عقله فلأن لا يوليه أمر شرعه أولى فصار العاقل المطلق أعنى به حقيقة وشرعاً العاقل البالغ.
فأما المجنون بعد البلوغ فضد العاقل حقيقة، والمعتوه بمنزلة الصبي، لأن نقصان العقل بالعته فوق نقصان العقل بالصبا فلا يدخلان تحت اسم العاقل مطلقاً.
فصار العاقل نوعين: من عد في العقلاء بظاهر تمييزه كالصبي والمعتوه.
ومن عد عاقلاً باعتدال حاله وذلك بزوال سبب النقصان وهو الصبا وانعدام آفة العته، فهذا هو العاقل المطلق.
فأما الأول فعاقل من وجه دون وجه لمصاحبته ما ينافيه، والشرط هو العقل المطلق الثابت حقيقة وشرعاً والعقل كالشهاب لبصر القلب، فيرى القلب مع نور العقل ما غاب عن الحواس أي يعلم إذا نظر وذلك بتفكيره وتمييزه.
وأما العدالة: فتفسيرها: الاستقامة، يقال: طريق عادل لطريق الجادة، ومنه عدل

(1/185)


العاملين، إذا أتوا بالسيرة على الاستقامة غير ممالة عن سنن الإنصاف والحق.
وضد العدل: الجور، وهو الميل، ويقال: طريق جائر إذا كان من البنيات.
وضد العدالة الفسق، وهو: الخروج عن الحد الذي جعل له.
والعدالة أيضاً قسمان:
أ- عدالة ظاهرة يحكم بها للمرء بعقله ودينه فإنهما حجتا الله تعالى عليه فإذا وجدهما المرء دل ظاهر حاله على العمل بهما جميعاً فكان عدلاً ظاهراً.
ب- وعدالة باطنة يوقف عليها بالنظر في باطن معاملاته، فإذا وجدناه لا يرتكب ما اعتقده حراماً بدينه وعقله كان عدلاً، لاستقامته على سواء الحجة، وترجح جهة صدقه من خبره لأن الكذب محظور دينه وعقله وقد ظهر منه الانزجار عن المحظور.
وبهذه العدالة يصير الخبر حجة لأن الظاهر الأول يعارضه مثله، وهو هوى النفس فإنه الأصل قبل العقل، وحين رزق العقل والنهى ما زايله الهوى، فيصير الرجل عدلاً من وجه دون وجه كالصبي والمعتوه من باب العقلاء فلا يدخل تحت الاسم المطلق حتى يظهر بالتجربة رجحان دليل العقل على الهوى، وذلك بالتأمل في باطن أمره.
ثم محمد بن الحسن- رحمه الله- ذكر في باب الشهادات: أن الرجل إذا ارتكب فاحشة كبيرة ذهبت عدالته بنفس الارتكاب، وإذا لم يكن أمراً فاحشاً لم تذهب عدالته إلا بالإدمان عليه.
وهذا لأن الأصل أن الارتكاب قل أم فحش مما يزيل العدالة لأنه خروج عن حده وميل إلى ما ليس له إلا أنه يتعذر عليه الانزجار عن الصغائر أجمع، فلو شرط الانزجار عن الصغائر مطلقاً لإثبات العدالة ما أمكن إثباتها إلا نادراً لأن لله تعالى في كل لحظة أمراً ونهياً فلم يشترط تيسيراً، إلا أن يدوم لأن الرجوع غير متعذر، والدوام لا يقع إلا عن قصد لا عذر فيه فيصير في حكم الفاحش الذي هو في نفسه لا يكثر وقوعه ولا يتعذر الانزجار عنه.
ولهذا لا يسلب اسم العدالة من صاحب الهوى في الدين وإن كان ضالاً عندنا، وفسق اعتقاداً لأنه صار إليه لغلوه في طلب الحق وشدة عمله بالحجة، إلا أنه التبس عليه فغلط لا أنه خالف عقيدته، والغلو في الدين يدل على شدة اتباع الحجة، فيدل على تأكد جهة الصدق الذي قامت عليه حجته.
وكذلك يجعل الكافر عدلاً لأنه ما خالف عقيدته ولكن لا تقبل على المسلم خبره

(1/186)


لعداوته معنا بغير حق أو لانقطاع ولايته لا لزوال عدالته فيما يظهر من أقواله وأفعاله، ففسق الاعتقاد تديناً لا يدل على فسق لا تدين به بحال.
وكذلك لا تسلب العدالة بالرق، ولا بالأنوثة، ولا بالعمى لأن هذه الأوصاف لا تدل على ترك التقوى، والعمل بالهوى بخلاف الهدى، وإنما تدل على الكذب الذي هو خلاف عقده تعاطيه بخلاف ما اعتقده حراماً بدينه وعقله لا غير.
وأما الضبط: فعبارة عن حزم في باب العلم، وله طرفان:
أ- طرف وقوع العلم له حين السماع.
ب- وطرف الحفظ بعد العلم حين التكلم.
حتى إذا سمع المرء ولم يعلم لم يكن شيئاً معتبراً كما لو سمع صياحاً لا معنى له فإذا لم يفهم اللفظ بمعناه على الحقيقة كان بين الصحة والفساد ولم يكن ضبطاً وإذا شك في حفظه بعد العلم والسماع لم يكن ضبطاً.
ثم الضبط نوعان: ظاهر وباطن.
فأما الظاهر: فضبط المتن بمعناه، من حيث اللغة.
وأما الباطن: فضبط الشيء بمعناه من حيث نطق به الحكم الشرعي، وهو الفقه، وهذا مما لا يوقف عليه إلا بعد التجربة في مسائل الفقه، ومعاني لسان العرب.
ومطلق الضبط الذي هو شرط الراوي هو الضبط ظاهراً وباطناً كالعدالة والعقل وهذا لأنه جائز نقل الخبر بالمعنى على ما يأتيك بيانه فيلحقه تهمة تبديل المتن بلفظه قل فقه المعنى لغة وضبطه فلا تقبل، كما لو لحقه تخمة تبديل المتن بروايته قبل الحفظ أو قبل العلم حين سمع، وأما من حيث فقه الشرع فيوجب ضرب وهن يجب اعتباره إذا خالفه الفقه وهو القياس على ما مر.
فإن قيل: أليس القرآن يصح نقله ممن لا يفهم معناه؟
قلنا: لأن القرآن معجزة، وإعجازه في نظمه كذلك فلم يجز نقله بالمعنى، فلم يشترط لصحة نقله علم معناه، وكذلك القرآن له حرمة متعلقة بعين النظم حتى حرمت قراءته كذلك على الحائض والجنب ولم يحرم نقل معناه عليهما، كذلك جواز الصلاة في قول الأكثرين متعلق بالعين دون المعنى، وأما خبر الرسول فحجة بمعناه وجائز نقل الخبر بمعناه فيشترط لصحة نقله ضبط المعنى.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إن الشهادة لا تصح بالإشهاد حتى يعلم الشاهد ما في الكتاب. ويدل عليه أن من لا يفقه لغة العرب قلما نقل المسموع منها على وجهه فيصير متهماً بالتبديل، ولم يبلغنا أن القرآن أثبت ابتداءً بنقل من لا يحسن لغة العرب.

(1/187)


ولأنه لا يثبت إلا بنقل متواتر يرفع شبهة التبديل بتهمة الجهل بالمعنى.
ولأن ناقل القرآن عن جهل لا يقدر عليه إلا بعد الجهد لحفظه سنين كثيرة، ولو ظهر مثله في الحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل.
ولهذا قلت الرواية من كبار الصحابة وكانوا يمتنعون عن كثرة الرواية.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إذا سئلتم عن شيء فلا ترووا، ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى".
وعن عمر رضي الله عنه: "لو حدثتم فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم".
وكان زيد بن أرقم إذا سئل عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع وقال: "كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد".
وعن عمرو بن ميمون: جالست عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذه البهر والعرق- ثم قال: هذا أو نحوه أو قريباً منه أو كما قال.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يكثر الرواية وكان يرد عليه به، قالت عائشة رضي الله عنها وأشارت إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أما تعجب من هذا وكثرة روايته ما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكلمات لو عدها عاد لأحصاها. أو نحواً من ذلك. وكانوا يستدلون بكثرة الرواية على قلة المبالاة بموضع التوقف للحزم.
وهذا باب معتبر حتى قيل- فيمن يعتاد فعل مباحات بحرم المروءة وآداب النفس نحو الأكل في الأسواق وقضاء حاجته بينهم-: أنه لا تقبل شهادته لقلة مبالاته.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "كنا نروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ركب الناس الصعب والذلول فتركنا الرواية". اللفظ كما هو، وقد تكلم أهل الأخبار في هذا الباب فأطالوا واقتصرنا نحن على الإشارة إلى ما فيه الضبط والدين والورع.
وأما الإسلام: فاسم لهذه الشريعة وإنه نوعان:
أ- ظاهر وهو بالميلاد في المسلمين والنشوء بينهم على طريقهم شهادة عبادة.
ب- وباطن لا يوقف عليه إلا باستيصاف الصانع عز ذكره، فإذا وصفه بجميع أسمائه وصفاته التي لا بد من وجودها للألوهية عن علم لا تلقن، كان مسلماً على الحقيقة، وإذا لم يعلم شيئاً منها كان كافراً.
قال محمد بن الحسن- رحمه الله- في المرأة إذا بلغت فاستوصفت فلم تصف أنها تبين من زوجها، وإن كنا حكمنا بصحة النكاح بناء على ظاهر الإسلام، وهذا لأن الشرط

(1/188)


أن تعلم الله تعالى بأسمائه وصفاته، وحفظ اللغة غير العلم بالمعنى.
وكذلك من آمن برسالة محمد ثم لم يعرفه ولم يدر أي محمد هو فإنه لا يكون مؤمناً به ولا من أمته، وكالنصارى آمنوا بعيسى وهو ولد الله تعالى عندهم فلم يكن إيماناً بعيسى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده، وهذا من أهم العلوم فقد استخف الناس به ولا ينبغي ذلك.
فإن كان الرجل ممن له معرفة بالوصف لكنه عاجز عن العبارة عنه إذا سئل كان مسلماً حقيقة فيما بينه وبين ربه، إلا أنا لا نعرف باطنه فنحكم بكفره إذا عجز واستحساناً أن نستوصفه على سبيل التلقين، فنقول له: أليس الله بقادر وعالم أيضاً، وأيضاً حتى يسهل عليه الجواب به إذا وافق استفهامي ما قلبه وعلمه.
فإذا تمت هذه الشروط كان مقبول الرواية وإن كان عبداً، لأن الرق لا يؤثر في شيء من هذه الأوصاف وإنما لم تقبل شهادته لأنها مبنية على الولاية على غيره، والرق يسلب الولاية على الغير وإنما بنيت الولاية على غيره لأن فيها تنفيذ حكم قوله عليه، كما ينفذ بيع ماله وإجارته نفسه.
وأما أخبار الدين فإنها تلزم السامع باعتقاده أن الله تعالى إله تجب طاعته ومحمد رسول الله تجب طاعته وتصديقه وهذا كما يلزم القاضي الاستماع إلى خبر المدعي الكافر إذا ادعى وإلى إنكاره وإلى شهادته على الكافر ويلزمه القضاء به لأنه لا يلزمه بشهادة الشاهد فإن في لفظه إلزام المشهود عليه دون القاضي، وإنما يلزمه بقبول أمانة القضاء من الله تعالى بالشروع فيه.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بقراءة" ما فيه إلزام السامع شيئاً لغة بل فيه إخبار عن صفة تقوم بها الصلاة كما تقول: لا خياطة إلا بإبرة، لم يكن هذا خطاباً يلزم السامع شيئا وإنما يلزمه ما يلزمه لاستعماله الخياطة باختياره فكذا السامع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يلزمه بعقد أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق يدان الله به.
ولما لم يكن فيه إلزام من الراوي لم يشترط قيام ولايته على السامع، ألا ترى أنا نسمع أخبار الحدود من النساء وما لهن من ولاية إقامة الحدود ولا شهادتها، ألا ترى أن كثيراً من الصحابة الذين هم موالي نقلوا أخباراً وتلقتها الأمة بقبولها ولم يتفحصوا عن التاريخ والنقل أنه كان قبل العتق أو بعده.
ولو كانت الحرية شرطاً لما كانت حجة حتى يعلم أن النقل كان بعد العتق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد المملوك، وما كان يجيب إلا بخبره أن

(1/189)


المولى أذن له به ولم يظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخبر المولى به ولو كان شرطا لنقل في الحديث ولم يجز الإعراض عنه.
وكذلك بريرة: كان يتصدق عليها وهي تهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقبل ويصدقها على ذلك.
وثبت أن رواية الأعمى مقبولة لأن العمى لا يوجب خللاً في العلم ولا في العبارة، بخلاف الشهادة لأنه يحتاج إلى تمييز المشهود له من المشهود عليه عند الأداء، والعمى يوجب خللاً فيه لأنه حال البصر يميز بالعيان والآن بالاستدلال، والراوي لا يحتاج إلى هذا التمييز.
ولأن باب الشهادة أضيق على ما مر في بيان شرط العدد ولفظ بعينه ليصير حجة، وهذا لأن الشاهد يلزم غيره ولا يلزم نفسه وراوي الخبر يلتزم كما يلزم غيره فجرى التزامه مجرى شاهد آخر معه.
ولأن كثيراً من الصحابة كف بصرهم وقبلت روايتهم بلا فحص عن التاريخ، منهم: عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع- رضي الله عنهم-.
وكذلك رواية النساء مقبولة لأنهن في الشهادات فوق العميان ثم قبلت رواية العميان فالنسوان أولى، ولأن النقصان قيهن في باب الشهادات بشرط زيادة العدد، وزيادة العدد لها عبرة في باب الشهادات، ولا عبرة لها في باب الروايات لأخبار الشرع، ألا ترى أن زيادة العدد شرط في شهادة الرجال وليس بشرط في روايتهم الأخبار.
ولأن شهادة القابلة حجة بانفرادها لضرب عذر، فباب الخبر أولى لأنه أوسع من كل شهادة.
ولأن الصحابة كانوا يسألون نساء النبي- صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن- فيما يختص بهن وكانوا يعملون بروايتهن وعائشة رضي الله عنها كانت من علماء الصحابة رأياً ورواية، والله أعلم.

(1/190)


باب

القول في الرواية عن الخط وما فيه من بيان الضبط
قال القاضي: إما أن يكون الكتاب تذكرة، والرواية عن علمه بعد ما تذكر بالنظر فيه. أو يكون الكتاب إماماً لا يتذكر ما فيه.
وإذا كان تذكرة لم يخل عن تذكرة سماع أو كتاب إليه من الراوي بالحديث عنه أو رسالة أو إجازة.
فالسماع والإجازة ضرب والكتاب إليه والرسالة ضرب لا سماع فيهما حقيقة.
وإذا كان الكتاب إماماً فهو ضربان أيضاً:
إما أن يكون كتابه بسماعه وخطه أو سماعه بخط غيره والخط معروف، والكاتب ثقة أو سماع أبيه بخط أبيه أو راوي معروف بالرواية معروف الخط، فسماعه نوع وسماع غيره نوع.
أما إذا كان الكتاب للتذكرة قبلت الرواية لأنه لا فرق بين التذكر بالتفكر وبين التذكر بمذكر إذ في الحالين جميعاً روى عن ذكر ولا يمكن اشتراط أن لا ينسى لأن الإنسان لا يمكنه الاحتراز عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً به على ما قال الله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} وعلى أنه قد استثنى {إلا ما شاء الله}، وروي أنه كان يقرأ في الصلاة فتردد في آية.
وهذا إذا كان صحيحاً علمه ابتداء بأن كان سماعاً فعلى الحد الذي مر من قبل.
وأما إذا كان علمه بالكتاب إليه.
فإن كان كتاباً على وجهه على رسم الكتب وثبت الكتاب بحجة يثبت بمثله الكتاب وفيه: إذا جاءك كتابي هذا فحدث عني هذا الحديث بهذا الإسناد، حل له الرواية وقبلت منه روايته، وإن علمنا به، لأن الكتاب من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، وبلغه مرة بالخطاب، ومرة بالكتاب ومرة بالرسالة، وكذلك اليوم يثبت بالكتاب من السلاطين إلى الرعية ولاية السلطنة والقضاء ويثبت به الوكالات، ويقع به الطلاق، والرسالة بمنزلة الكتاب بل أولى لأن الرسول يضبط كالكتاب ثم ينطق والكتاب لا ينطق.
وأما الإجازة فالرواية بها لا تحل حتى يعلم المجاز له ما في الكتاب ثم يقول الروي: أتعلم ما فيه؟ فيقول: نعم، ثم يجيز له الرواية عنه به.

(1/191)


فأما إذا قال له الراوي: أجزت لك الحديث عني بما فيه، والسامع غير عالم به فلا يحل له، فإنا قد ذكرنا أنه لو سمع، ولم يعلم لم يحل فكيف الإجازة.
وهذا كما قالوا في القاضي يشهد الشاهد على كتابه أو المقر على صك عليه، والشاهد لا علم له بما فيه أن شهادته باطلة.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف: جائز ذلك إذا كان الكتاب معلوماً بنفسه وصورته بحيث يعلم ما يزاد فيه أو ينقص منه، فأما ما كان على غير ذلك ينبغي أن لا يحل بحال لأنه لا يدري عند الشهادة أنه ذلك إلا أن يشهد على كتاب ويسلمه إلى الشاهد فيصير كالمختوم.
والاحتياط فيما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأنه إذا لم يعلم بما فيه كان الضبط بالخط والختم وكل ذلك يحتمل التغيير فإن الخط يشبه الخط والكتاب يشبه الكتاب وكذلك الختم.
ثم الإجازة إذا صحت كانت كالسماع وحلت الرواية بحدثنا، أو خبرنا جميعاً لأنهما خطاب.
فأما الكتاب والرسالة فإنما نقول: أخبرنا بكذا، ولا نقول: حدثنا، كما نقول: أخبرنا الله بما أنزله من كتاب ورسول، ولا نقول حدث ولا كلم، وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بالتكليم.
فأما إذا كان الكتاب إماماً فمن أهل الحديث من جعل الكتاب كالسماع، وقال: إذا وقع في علم الراوي أنه كتابه بسماعه وخطه ووثق به أو كتاب أبيه بخطه وله ثقة بعلمه بخط أبيه حلت له الرواية كما لو سمعه، وتذكر سماعه ما فيه، وعلى هذا يجب أن يحل له إذا علم أنه خط راو معروف فلا فرق بين خط أبيه وخط غيره.
وقال أبو يوسف في باب القضاء: إن القاضي إذا رأى خطه بقضاء فلم يتذكر حل له العمل بذلك إذا كان قمطره بخاتمه.
وقال أيضاً- في الشاهد- أنه يحل له أن يشهد بخطه وإن لم يتذكر. فعلى هذا تحل له الرواية بالخط وإن لم يتذكره.
وعلى قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ أنه لا يحل له إلا بعد التذكر ولا تقبل روايته عن الخط بنفسه.
وهذا هو الصحيح لأن الخط في الأصل لم يوضع إلا للتذكرة فما في عينه إعلام وإنما الكتاب للقلب بمنزلة المرآة للعين، وإنه لا عبرة بالمرآة إذا لم تر بها العين وجهه فكذا الكتاب إذا لم يتذكر القلب به علماً.

(1/192)


وعن إبراهيم النخعي: أنهم كانوا يكرهون الكتابة ثم أباحوا بعد ذلك لكسل حدث بالناس، وكذلك القرآن كان محفوظاً بالقلوب ابتداء ثم كتب مخافة النسيان.
فإن قيل: أليس كتب ليحفظ به، فلو لم يكن عينه حجة على القارئ لما كان حافظاً؟
قلنا: التحفظ به على سبيل أنه مذكر كالمرآة على ما قلنا لا أنه حجة بنفسه فإن الخط غير ناطق بنفسه، ولكن مذكر بصورته وقد يشبه الخط الخط شبهاً لا يمكن التمييز بينهما فيقع بالبناء عليه ضرب شبهة يمكن الاحتراز عنه بالجد في الحفظ فلا يلغو اعتبار تلك الشبهة بنسيان يكون بالتقصير في الحفظ وما فسد دين الأديان إلا بالبناء على الصور دون المعاني.
ألا ترى أنا لا نقبل رواية الأخرس وإن كانت له إشارة معلومة معقولة لضرب شبهة فيها يقع الاحتراز عنها بغيره فاعتبرناها، ولم نعتبر فيما يتصرف لنفسه وعليه فيثبت بها النكاح والطلاق والعتاق لأنه لم يمكن الاحتراز عنها في حقه.
ألا ترى أنه لا فرق بين علمه بخطه وخط غيره ثم خط غيره لم يكن حجة فكذا خطه، فعلمنا أن الرواية عن كتاب لا تحل إلا عن ذكر سماع أو ما يقوم مقامه من كتاب إليه أو برسالة أو بالسماع بإجازة صحيحة على الوجه الذي فسرناها أو برواية المحدث له بلسانه أو القراءة عليه وتصديقه القارئ، وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إن قراءتك على الراوي أضبط من قراءة الراوي عليك فلعله يغفل فيقرأ خطأ وأنت لا تشعر لتداركه وتشعر بخطائك وتداركه بالإعادة.
فإن قيل: إذا قرأت على الراوي لم تأمن غفلة الراوي عن سماعك!
قلنا: الغفلة عن السماع أهون من الخطأ في القراءة فلما يمكن الاحتراز عنهما سقط اعتبار ما لم يمكن ووجب الاحتراز عن الأهم منهما، والله أعلم.

(1/193)


باب

القول في ضبط المتن ونقل الخبر بالمعنى
قال بعض أهل الحديث: ضبط المتن في مراعاة اللفظ ويحل له نقله بالمعنى عنده.
قال القاضي رحمه الله: وقد رأيت عن بعض أهل النظر أنهم قالوا: لفظ الراوي لا يكون حجة بل يطلب في تلك الحادثة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمل عليه لفظ الراوي. وهذا قول مهجور.
وقال جمهور العلماء: يجوز نقل الخبر بالمعنى في الجملة لكنه على أقسام أربعة تفصيلاً فتقول:
إن كان الخبر محكماً فإنه يجوز نقله بالمعنى لكل من سمعه من أهل اللسان.
وإن كان ظاهراً يحتمل غيرها ما ظهر لم يحل له النقل بالمعنى إلا للفقيه بعلم الشريعة وطرق الاجتهاد.
وإن كان مشكلاً أو مشتركاً لم يحل لأحد النقل بتأويله.
وإن كان مجملاً فلا يتصور نقله بالمعنى.
أما الأولون فإنهم احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله وجه امرء سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" فالنبي صلى الله عليه وسلم رغب في مراعاة الحفظ ونبه على المعنى وهو اختلاف الناس في معرفة معاني الألفاظ، والفقه الذي يدور عليه أمر الشرع، فإذا صار الأصل هذا ثبت الحجر عاماً، وإن كان من الألفاظ ما لا يتفاوت الناس في معرفة معناه.
وأما عامة العلماء فإنه يحتج لهم بما ظهر من الصحابة رضي الله عنهم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، وأمر بكذا، ورخص في كذا". ظهوراً لا يرده إلا متعنت ولو لم يكن حجة لما نقلوا للعمل به ولا للإلزام هكذا، وعن عامر الشعبي وإبراهيم النخعي أنهما كانا ينقلان بالمعنى.
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يروي ويقول: هذا أو نحوه. والفقهاء

(1/194)


كلهم في تصانيفهم احتجتوا [احتجوا] بقولهم: وبلغنا نحو من ذلك: ومثل ذلك، وكثيراً ما أورده محمد بن الحسن رحمه الله.
ولأن اللفظ إنما يجب مراعاته لعينه إذا كان معجزاً أو آية لزوال الإعجاز فإنه يزول الإعجاز بالتبديل أو تعلق بعينه حكم يزول بغيره.
فأما إذا كان اللفظ مما يجب نقله للعمل بمعناه فوقف على معناه حقيقة ثم أداه بلفظ آخر بلا خلل فيه سقط اعتبار اللفظ، ونحن أنما نجوز ترك اللفظ بهذا الشرط.
وأما الجواب عن احتجاجهم بالحديث فإن أكثر ما فيه أن حفظ اللفظ مرغوب فيه في الجملة ونحن هكذا نقول فالنقل باللفظ عزيمة عندنا وبالمعنى رخصة في بعض الأخبار على ما فصلناه.
أما المحكم من الألفاظ فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً دائماً على ما مر تفسيره ولما تعين المعنى فيه ولم يقع وهم الخلل في الوقوف عليه ممن عرف اللسان رخص لهم ذلك لحصول الغرض منه بأجمعه بلفظ آخر.
وأما الظاهر فلأن المعنى وإن ظهر منه بظاهره فقد احتمل مجازه، والخصوص من عمومه بدليل موجب فلا يرخص في نقله بالمعنى إلا للعالم بطريق الدين والفقه حتى يؤمن بعلمه عن الخلل بمعناه إذا كساه بلفظ آخر فلعل الجاهل بالفقه يكسوه بلفظ لا يحتمل ضرب مجازه ولا ضرب خصوصه، ويكون المراد باللفظ المسموع مجازه أو خصوصه فتفوت تلك الفائدة، أو ينقله بلفظ أعم من اللفظ الأول لجهله بالفرق بين الخاص والعام فيوجب ما لا يوجبه الأول فيلزمه المحافظة على اللفظ فأما العالم بطريق الدين فخال عن هذه التهمة فأبيح له.
وأما المشكل أو المشترك من الألفاظ فلا يوقف على معناه، والمراد منه إلا بضرب تأويل وتأويل الراوي لا يكون حجة على غيره لأنه يصدر عن رأيه في أصول الشرع فجرى إظهار المعنى بالتأويل مجرى القياس فلا يحل نقله إلا بلفظ مسموع، ولا يظن بالعدل إذا نقل بلفظه إلا أحد الضربين الأولين اللذين يحلان له.
وأما المجمل مما لا يوقف على معناه فلا يتصور نقله بمعناه فيكون الامتناع بذاته لا بدليل يحجر الناقل عنه فيكون ضرباً آخر من الحجر غير الضرب الأول، والله أعلم.

(1/195)