تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في انتقاد خبر الواحد بعد ثبوته عن الرسول عليه السلام
مسنداً أو مرسلاً
خبر الواحد ينتقد من وجوه أربعة:
العرض على كتاب الله تعالى، ورواجه بموافقته، وزيافته
بمخالفته.
ثم على السنه الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً
أو استفاضة أو إجماعاً.
ثم العرض على الحادثة فإن كانت مشهورة لعموم البلوى بها والخبر
شاذ كان ذلك زيافة فيه.
وكذلك إن كان حكم الحادثة مما اختلف فيه السلف اختلافاً ظاهراً
ولم ينقل عنهم المحاجة بالحديث كان عدم ظهور الحجاج به زيافة
فيه.
أما الأول: فلما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مئة شرط" أي كان حكمه
بخلاف ما في كتاب الله تعالى، فإن نفس هذا الحديث ليس في كتاب
الله تعالى فيبطل لو أريد به ظاهره.
وكذلك كثير من الأحكام مما يثبت بخبر الواحد والقياس بعد كتاب
الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا روي
لكم مني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافق فاقبلوه
وما خالف فردوه" ولأن كتاب الله تعالى ثابت يقيناً وخبر الواحد
ثابت ثبوتاً فيه شبهة فكان رد ما فيه شبهة باليقين أولى من رد
اليقين به.
وسواء عندنا خالف الخبر من الكتاب أصله أو عمومه أو ظاهره بأن
حمله على مجازه.
وعند الشافعي جائز تخصيص العموم به.
وكذلك الحمل على المجاز على ما مر أنه جوز مثله بالقياس وبخبر
الواحد، إلا أنا لم نجوز لما مر من قبل: أن العام عندنا يوجب
العلم بالعموم يقيناً كالخاص.
(1/196)
ولأن متن العام من كتاب الله تعالى ثابت
يقيناً ومتن خبر الواحد فيه شبهة وإن كان معنى المتن لا شبهة
فيه وفي معنى متن الكتاب ضرب شبهة احتمال الخصوص فكان ترجيح
متن الكتاب لقوة ثبوته أولى من ترجيح معنى خبر الواحد لقوة
ثبوته، لأن المتن قالب المعنى وقوامه فيجب طلب الترجيح من قبله
أولاً إذا استويا فمن جهة المعنى، والله أعلم.
وكذلك السنة الثابتة بالتواتر أو الاستفاضة أو الإجماع لأنها
بمنزلة الكتاب في إفادة العلم على ما مر.
والمشهور فوق خبر الواحد وإن كان في ثبوته أدنى شبهة، وفي هذا
الانتقاد علم كثير وصيانة للدين بليغة.
فأكثر الأهواء والبدع كانت من قبل العمل بخبر الواحد اعتقاداً
أو عملاً بلا عرض على الكتاب أو السنة الثابتة، ثم تأويل
الكتاب بموافقة خبر الواحد وجعل المتبوع تبعاً، وبناء الدين
على ما لا يوجب العلم يقيناً، فيصير الأساس علماً بشبهة فلا
يزداد به إلا بدعة.
وكان هذا الضرر بالدين أعظم من ضرر من لم يقبل خبر الواحد
فاضطر إلى القول بالقياس، أو استصحاب الحال، إذا لم يجد الحكم
الواقع فى كتاب الله تعالى، لأن هذا الرجل ما أخذ بحكم الكتاب،
وجعل أساس دينه ما فيه اليقين إلا أنه رد خبر الواحد لتهمة
الكذب وشبهته ثم وقع فيما هو أبلغ منه تهمة من رأيه أو التمسك
بأي أصل كان.
والأول جعل خبر الواحد أصلاً فعرض كتاب الله عليه وبنى دينه
على ما لا علم له به يقيناً، فكان القول العدل الوسط أن يجعل
كتاب الله تعالى أصلاً، وهو الثابت يقيناً، وخبر الواحد مرتباً
عليه يعمل به على موافقته أو إذا لم يوجد في الكتاب ما فيه خبر
الواحد، ويرد إذا خالف بحكمه حكم كتاب الله تعالى.
ثم القياس بعده مرتباً عليه يعمل به على موافقته أو إذا لم
يوجد في الكتاب والسنة ذلك الحكم الثابت بالقياس ويرد إذا خالف
الخبر الصحيح بشروطه.
ونظير ذلك عمل مخالفنا بخبر مس الذكر وأنه مخالف لكتاب الله
تعالى والسنة الثابتة والإجماع.
فإن الاستنجاء بالماء مشروع بالكتاب في أهل قباء وبالسنة
والإجماع.
ولا بد من مس الذكر حال الغسل بالماء على الوجه الذي جعله
الخصم حدثاً والاستنجاء طهارة، والطهارة لا تحصل بما هو حدث
يضاده.
ومن ذلك خبر القضاء بالشاهد واليمين، فإنه ورد مخالفاً لكتاب
الله تعالى والسنة الثابتة.
(1/197)
أما الكتاب فلأن الله تعالى قال:
{واستشهدوا شهيدين} الآية أمر بالاستشهاد لإحياء الحق فكان
الأمر مجملاً في حق ما هو شهادة كقول القائل: كل مجمل في حق
بيان المأكول، فلما قال، {شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان} كان بياناً لجميع ما دخل تحت الأمر كقول
القائل: كل هذا الطعام أو هذا، وجالس فلاناً، وكقولك للآخر:
استشهد زيداً أو بكراً على صفقتك، لم يكن استشهاد غيرهما من
المأمور استشهاداً غيرهما من المأمور استشهاداً بحكم الأمر لا
محالة، بل يكون زيادة عليه، وكذلك ههنا يكون الشاهد واليمين
زيادة، والزيادة على النص في حكم النسخ عندي على ما نذكر فيكون
خلافاً على أصلي.
ولأنه قال: {وأدنى ألا ترتابوا} فجعل المذكور أدنى ما تقطع به
الريبة من الشهادات فمن جعل الشاهد، واليمين حجة كانت أدنى من
المنصوص عليه في الشهادة فيكون خلافاً للنص بعينه.
ولأن الله تعالى بين ما هو المعتاد بين الناس في الشهادة من
شهادة الرجال وما لا يوجد عادة من شهادة النساء، فإن النساء لا
يحضون مجالس الحكام للشهادات عادة ولو كانت اليمين مع شاهد حجة
وهي شهادة تستوفي من الخصم الذي يحضر عادة لم يصلح النقل إلى
بيان ما ليس بمعتاد مع ترك ما هو المعتاد ولا كان لائقاً
بالحكمة، ولأن النقل إلى غير المعتاد دليل الاستقصاء وحقيقة
الاستقصاء في الإتيان على الكل.
وكذلك في آية الوصية أمر بشاهدين منا أو من أهل الذمة وذلك
اليوم ليس بحجة فعلم أنه لم يكن بعد الشاهدين منا حجة أولى من
شهادة الذميين ولأنه أمر الشاهدين بالقسم لإثبات الحجة وهو
اليوم ليس بحجة فلو كان يمين المدعي حجة ثابتة لما عدل عنه إلى
يمين الشاهد التي هي أبعد عن الحجة من يمين الخصم.
وأما السنة الثابتة فقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على
المدعي واليمين على من أنكر" فهذه السنة نصت على أن اليمين غير
البينة لأنها عطفت اليمين على البينة ونصت على أن اليمين على
غير من عليه البينة، وخبر الشاهد واليمين يرده من طريقين: فقد
جعل اليمين من البينة وعلى من عليه البينة.
ومن ذلك خبر تحريم الرطب بالتمر بعلة أنه ينقص إذا جف لأنه ورد
مخالفاً للسنة الثابتة "التمر بالتمر مثلاً بمثل يداً بيد
والفضل ربا " لأن الحديث قصر الربا على فضل يضاد المماثلة
المبيحة لأن قوله: "مثلاً بمثل " للإجابة وقوله: "والفضل ربا "
إشارة إلى
(1/198)
فضل يضادها لا محالة وعليه الإجماع.
وخبر الرطب بالتمر جعل الربا فضلاً يتوهم حدوثه لمعنى طارئ وهو
الجفاف، وفضلاً لا يضاد المماثلة المبيحة في الأصل وحرم البيع
مع قيام المماثلة كيلاً فالتحريم مع المماثلة خلاف للأول بالرد
والوجهان الآخران خلاف بالزيادة بجعل فضل آخر سوى المنصوص عليه
فيه ربا.
إلا أن أبا يوسف ومحمداً رحمهما الله قبلا هذا الحديث ميلاً
إلى أن الرطب بالتمر لم يدخل تحت قوله: "التمر بالتمر" لأن
الرطب لا يسمى تمراً عرفاً حتى إذا حلف لا يأكل تمراً فأكل
رطباً لم يحنث، فبقي حكم الرطب بالتمر مأخوذاً من الحديث
الغريب.
وأما الوجه الثاني فلأن البلوى بالحادثة متى كانت عامة فلا بد
من معرفة حكمها من الحجة، وما كان الراوي يعلم به إلا بعد
النص، كان النص يشتهر لديهم لو كان ثابتاً اشتهار حكم الحادثة،
لأخذهم الحكم عن النص، ألا ترى أن النص كيف اشتهر اليوم لدينا
لما كان ظاهراً في الخلف فصار الخلفاء لديهم وعنايتهم بالحجج
أشد من عنايتنا زيافة في ثبوته.
وقال علماؤنا- رحمهم الله- في الشهادة بهلال رمضان: قول الواحد
مقبول إذا كان بالسماء علة أو جاء من موضع آخر، وإذا لم يكن
بالسماء علة لم يقبل قول الواحد من أهل المصر بالهلال، لأن
الناس لما شاركوه في النظر والمنظر والأعين، كان اختصاص الواحد
بالرؤية خارجاً عن العادة فأوجب تهمة في خبره.
وكذلك الوصي إذا أخبر بنفقة على اليتيم كثيرة خارجة عن المعتاد
لم يصدق، وإن احتمل الصديق للتهمة بتكذيب العادة.
فكذلك خبر الواحد مما سبيله الاشتهار لعموم البلوى مكذب في
العادة فيرد بالتهمة.
ومن ذلك خبر مس الذكر، وخبر الوضوء مما مسته النار، وخبر
التوضئ عن حمل الجنازة.
وكذلك الحادثة التي ظهر الخلاف فيها من السلف ولم تجز المحاجة
بالخبر، لأنه لو كان ثابتاً لما حل لهم الإعراض عن المحاجة به،
ولو وقعت المحاجة به لظهر ظهور الفتوى ولوجب الرجوع عن
الاختلاف على ما عليه عاده المتدينين، فإذا لم يظهر كذب بخلاف
العادة، منها: اختلاف الصحابة في زكاة مال الصبي ورواية عمرو
بن شعيب: "ابتغوا في أموال اليتامى خيراً كي لا تأكله الصدقة"
فأنهم لم يرد عنهم المحاجة به.
واختلاف الصحابة في عدد الطلاق أنه بالرجال أو النساء والخبر
المروي: "الطلاق بالرجال" فإن المحاجة لم تجز به، فثبت أنه
مخترع أو تأويله المباشر بالرجال.
(1/199)
فثبت أن الخبر: يصير مزيفاً بالوجهين
الأولين بمقابلة ما هو فوقه كنقد بلد رائج يصير زيفاً في
مقابلة نقد فوقه ببلد آخر، ويصير مزيفاً بالوجهين الآخرين
لتهمة الكذب إما قصداً أو غفلة كالزيف من نقد بلده لزيادة غش
وقع فيه، والله أعلم.
(1/200)
باب
القول فيما يلحق الخبر بتكذيب من
جهة الراوي نفسه
التكذيب من جهة الراوي يلحق الخبر من جهات أربع:
إنكاره الرواية نصًا وعملًا بخلاف الخبر قبل الرواية أو بعدها,
وامتناعه عن العمل به.
فأما الإنكار نصًا: فما اختلف فيه أهل الحديث:
فمنهم من زيف الحديث به ورده.
ومنهم من قبله.
وروى ربيعه عن سهيل عن أبى صالح عن أبى هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين, فسأل سهيل فلم يذكره, فقيل
له: إن ربيعة يرويه عنك, فكان يقول بعد ذلك: حدثني ربيعة عني.
وعن أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- في قاض ادعى رجل عليه قضاه
بحق له على رجل فلم يذكره, فأقام عليه البينة بذلك- قال أبو
يوسف: لا يسمع البينة, وقال محمد: يقبلها وهذه شهادة عليه وهو
منكر, فتدل هذه المسألة على اختلافهما على ذلك في مسألة
الرواية, لأن نفس الرواية في باب الدين كالشهادة في حقوق الناس
إلزامًا, ولا يجوز أخذ هذا من الشهادة على الشهادة, فإنها تبطل
بإنكار الأصل لأن شاهد الفرع لا يشهد عن علم بل عن تحمل على ما
عرف.
ألا ترى أنه لا بحل له أن يشهد بأصل الحق ولا تقبل شهادته حتى
يقول, وأمرني أن أشهد على شهادته أو: أشهدني.
فأما الذين قالوا بالقبول فاحتجوا بما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم: "صلى إحدى صلاتي العشاء فسلم على رأس ركعتين فقال
ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيتها؟ " فقال: "كل
ذلك لم يكن". فقال: "وبعض ذلك قد كان, فأقبل على القوم وفيهم
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: أحق ما يقوله ذو اليدين؟
فقالا: نعم, فقام وصلى ركعتين" فقبل روايتهما وهو منكر وهذا
ظاهر فيما يتعاطى الإنسان من أمور دينه فقد ينسى عمله ويعمل
بخبر غيره.
(1/201)
وأما الذين قالوا بالرد, فاحتجوا بأن خبر
الواحد يرد بتكذيب العادة على ما مر في الباب الأول فلأن يرد
بتكذيب الراوي نفسه أولى، لأن إنكاره حجة في حق نفسه فسقط
روايته: إما بالحجة, وإما بالتناقض فيصير الحديث منقطعًا.
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يرى للجنب التيمم, فروى له
عمار فقال له: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذا كنا الإبل فأجنبت
فتمعكت في التراب ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض فتمسح بهما وجهك وذراعيك" فلم
يذكره عمر ولم يعمل به, وعمار كان عدلاً ثقة.
وكذلك لم يعمل أبو حنيفة وأبو يوسف بحديث سليمان بن موسى عن
الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما
امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" لأن ابن
جريج سأل الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه.
ولأن خبر الفرع في إثبات الراوية ليس بأولى من خبر الأصل في
إنكاره إن لم يترجح الإنكار على الدعوى لأن كل واحد منهما عدل,
وكما يحتمل حال المنكر النسيان بعد المعرفة احتمل حال المدعي
الاشتباه والغفلة, وأنه قد سمع الحديث غيره فنسي فظن أنه سمع
هذا.
وإذا كان كذلك تثبت المعارضة فلم يثبت أحدهما, يدل عليه أن
الإنسان كما يعلم بسماعه عن أمر يقين فكذلك يعلم بتركه الرواية
عن سبب يقين فلا فرق بينهما بوجه.
وحديث ذو اليدين محمول على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تذكر أنه ترك الشفع من الصلاة, أو تذكر غفلته عن حاله يشغل قلب
اعتراض له.
وعلى هذا عادات الناس أنهم إذا عملوا من أحوالهم في الغفلة
تعرفوا من غيرهم.
وعلى هذا يجوز أن يقال في الخبر أن الراوي الأصلي ينظر في نفسه
فإن كان رأيه يميل إلى غلبة نسيان إذا كانت عادته ذلك في
محفوظاته قبل رواية غيره عنه, وإن كان رأيه يميل إلى جهله
أصلاً بذلك الخبر رده وقلما ينسى الإنسان شيئًا ضبطه نسيانًا
لا يتذكر بالتذكير, والأمر يبتنى على الظواهر لا على النوادر.
وأما عمل الراوي بخلاف الخبر:
فإن كان قبل الرواية فلا يكون تكذيبًا بوجه لأن الظاهر أنه
تركه لما بلغه الخبر وكذلك إذا لم يعلم التاريخ حمل عليه
تحريًا لموافقة السنة.
وأما إذا كان بعد الرواية نظر فيه: فإن كان الخبر يحتمل ما عمل
به الراوي بضرب
(1/202)
تأويل لم يكن تكذيبًا لأن باب التأويل في
الإخبار غير مسدود, ولكن الخبر لا يترك على ذلك, لأن الحجة هو
الخبر لا تأويله لأن تأويله كان برأيه ورأيه ورأي غيره بمنزلة,
وظاهر النص فوق رأيه بلا شك.
وأما إذا كان الخبر لا يحتمل ما عمل به فالخبر مردود لأن عمله
بخلافه لا يخلو: إما أن يكون عن غفلة أو إنكار أو نسيان, أو
علم بانتساخ الخبر أو تقول الراوي عنه كذبًا عليه, ولم يكن
عنده ذلك الحديث فلا شك بأنه مردود.
وكذلك إذا ثبت انتساخه فهو مردود في حق العمل به وإن ارتكب
خلافه فسق, ورواية الفاسق لا تقبل.
وكذلك إن غفل أو نسي فرواية المغفل أو الناسي ساقطة دل عليه ما
ذكرنا في القسم الأول من بطلان الرواية بإنكار الأصل والعمل
بخلافه إنكارًا ظاهرًا فيصير الخبر به مردودًا ظاهرًا ما لم
يثبت رجوعه إلى تصديق الراوي عنه, والعمل به على قول من يجوز
مثله وإن لم يتذكر الحديث.
والوجه في مثل هذا الخبر أن يحمل على الانتساخ فرارًا عن تكذيب
الراوي ليكون الإسناد ثابتًا والعمل به ساقطًا على ما روي عن
عمر رضي الله عنه أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء
ومتعة الحج. فدل العمل بخلاف ما روى أنه علم بانتساخه.
وروت عائشة- رضي الله عنها وعن أبيها-: "أيما امرأة نكحت بغير
إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" ثم زوجت بنت أخيها عبد
الرحمن بغير إذنه فدل على أنها عرفت بطلاته.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم -
رفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع, ثم
روي عن مجاهد أنه صحب ابن عمر سنين فلم يره يرفع يديه إلا عند
افتتاح الصلاة فدل أنه علم بانتساخه.
وعن عيسى بن أبان أن غير الراوي أذا عمل بخلافه من أئمة الدين
والحديث ظاهر كان دليلًا على انتساخ الحديث وبطلانه, لأنه يجوز
إساءة الظن كان مقتدى به في دين الله وإمامًا يشار إليه
بالأصابع.
وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد
مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة" فدل
عمل الأئمة بخلاف ذلك في الثيب بالثيب, على أنه منسوخ.
(1/203)
وكذلك عمر رضي الله عنه نفى رحلًا فلحق
بالروم فحلف أن لا ينفي أحدًا بعده.
وقال علي رضي الله عنه: "كفى بالنفي فتنة" فدلت فتواهم بخلاف
الخبر في النفي على أن خبر النفي غير ثابت على ظاهره.
وعن ابن سيرين في متعة النساء أنه قال: "هم شهدوها وهم نهوا
عنها، فما في رأيهم ما يرغب عنه، ولا في نصيحتهم ما يتهم".
وكذلك عمر رضي الله عنه لما فتح سواد العراق وامتنع عن القسمة
علم أن القسمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن حتمًا.
فإن قيل: عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كان يرى التطبيق في
الركوع سنة، وخبر الأخذ بالركب مشهور، ولم يدل على ضعفه.
قلنا: لأنه كان يحمل الأخذ بالركب على الرخصة لما فيه من
الترفيه. وقد ذكرنا أن تأويل الراوي لا يكون حجة، فكذا تأويل
السامع. وأما إذا لم يكن الخبر مشهورًا، فخلاف غير الراوي لا
يضعفه لاحتمال أنه خالفه، لأنه لم يبلغه، وكذلك إذا امتنع عن
العمل به، لأنه حرام مثل العمل بخلافه. والله أعلم.
(1/204)
باب
القول في أقسام جملة الأخبار في حق
العمل بها
هي أربعة أقسام:
أ. قسم يحيط العلم بصدقه.
ب. وقسم يحيط العلم بكذبه.
ج. وقسم يحتملهما على السواء لا يترجح أحد احتماليه على الآخر.
د. وقسم يترجح أحد احتماليه على الآخر.
فأما الأول: فأخبار الرسل، لأنه ثبت بالدليل أنهم كانوا
معصومين عن الكذب. وحكمها افتراض الاعتماد بصدقها والعمل بها
بقدرها.
وأما القسم الثاني: كدعوى فرعون الألوهية مع عياننا آيات الحدث
فيه، وخبر الكفار أن الأصنام لآلهة مع عياننا أنها جماد لا
قدرة لها بوجه بعد قيام آيات الحدث فيها، وكأخبار مسيلمة،
وزرادشت، وماني من المتنبئين كذبًا لظهور آيات الكذب من
معاملاتهم الخارجة على سبيل السفه، ولعدم آيات التصديق من
المعجزات، فإن النبوة لا تثبي إلا بمعجزة ليمتاز بها الصادق من
الكاذب.
وحكمها، وجوب اعتقاد الكذب فيها وردها باللسان، أو بما فوقه
بحسب قيام الأمر.
وأما القسم الثالث: فنحو خبر الفاسق، لأن الخبر في أصله يحتمل
الكذب والصدق، إلا أنا نرجح من العدل صدقه، لأنه عاقل متدين،
وهما يمنعانه الكذب، ولم يظهر منه لما ثبتت عدالته مخالفة
المانع، فصار الحكم للجري على موافقة العقل والدين الذي
اعتمده، فإذا فسق ظهر منه مكابرة المانع ومخالفته فيما ارتكب
من المحظور حتى فسق به، وذلك إنما يكون بغلبة الهوى، ولابد من
وقوع ضروب فعل على موافقة العقل من كل عاقل، وإن كان فاسقًا،
وذلك يدل على غلبة العقل، فيصير الخبر مشكلًا بينهما في خروجه
على حكم غلبة عقلة فيكون صدقًا، أو هواه فيكون كذبًا.
(1/205)
وحكمه التوقف فيه على ما قال الله تعالى:
{إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} وعلى ما هو الحكم في النص الذي
هو محتمل وجوهًا على السواء، وفي الحجج المتعارضة.
وأما القسم الرابع: فنحو خبر العدل، فإن جانب صدقه أرجح لظهور
غلبة عقله على هواه، حتى امتنع عما يوجب الفسق من دواعي نفسه،
لكنه غير يقين لاحتمال حاله مساعدة هواه.
وحكمه العمل به لا عن اعتقاد بحقيقة ذلك، وكذلك الفاسق، إذا
شهد فردت شهادته صار جانب الكذب برد القاضي أرجح، والله أعلم
بالصواب.
(1/206)
|