تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في أقسام الصحيح من الأخبار
الأخبار التي يعمل بها ضربان: مشهور، وغريب.
فالمشهور: ضربان، ما بلغ حد التواتر، وما اشتهر ولم يبلغ حد
التواتر.
والغريب: نوعان، ما لم يشتهر، ولكنه لم يدخل في حد الاستنكار،
وما دخل في حد الاستنكار.
وأما المتواتر: فحده ما مر في أول الكتاب، وهو أن يتصل بك عن
المخبر اتصالًا لا يبقى لك شبهة فيه، كما يتصل بقلبك من طريق
السماع من المخبر نفسه، وذلك بأن ينقل إليك قوم لا يتوهم في
العادات تواطؤهم على الكذب لكثرتهم، وبعد أماكنهم عن قوم
مثلهم، حتى يكون آخر طرفيه كأوله، وأوسطه كطرفيه.
وحكمه: أنه يوجب العلم يقينًا كما يكون بالسماع.
وقال بعض الناس: إن المتواتر من الأخبار لا يوجب علم اليقين،
وإنما يوجب علم طمأنينة، وذلك لأن اليهود والنصارى نقلوا قتل
عيسى نقلًا متواترًا وإن كان كذبًا، وهم أكثر منا عددًا.
والمجوس نقلوا معجزات زرادشت نقلًا متواترًا وكان كذبًا.
وإذا رجعت إليهم كانوا على طمأنينة القلب بصدق ما عندهم من
الخبر كما نحن بما لدينا من الأخبار المتواترة من رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم وآياته ثم إنهم لم يكونوا على يقين. فلم
وجب لنا اليقين بمثله.
وكذلك الرجل يعلم بحياة الرجل يقينًا، ثم يمر بداره فيسمع
النياح ويرى أعلام الموت، ويرى المأتم، فيقولون: إنه قد مات،
فيعزيهم ويعزونه، ويطمئن قلبه إلى العلم الحادث، ويزول الأول
على احتمال أنه حيلة وليس بحقيقة.
قال العبد رضي الله عنه: وهذا مع الحجة قول رذل. لأنه زعم أنه
لم يعرف رسولًا من الرسل، ولا كتاب الله، ولا أباه، ولا أمه،
لأنه ما توصل إلى علمهم إلا بالخبر، ولم يعرف أنه مولود، وكان
قبله بشر من جنسه. ومن قال: إني لا أعرف ذلك فقد أبطل دينه قبل
كل شيء، ثم عقله، لأنا إذا رجعنا إلى قلوبنا التي هي معدن
المعرفة، وجدناها عارفة بالآباء والأمهات عن خبر متواتر مثل
معرفتنا بالبنين والبنات عن عيان، ووجدناها تعرف
(1/207)
أنهم مولودون عن أصول، كما تعرف أنهم يلدون
فروعًا، ويعرف كل مسلم نحو مكة بالخبر المتواتر كما يعرف نحو
بيته بالعيان.
وهذا كما عرفنا الله تعالى محدثًا بالاستدلال، كما نعرف
أولادنا حادثة بالعيان فيصير إنكاره بعد ثبوت حد المعرفة على
الحقيقة كمن أنكر العيان، وشبهه بما يرى النائم في نومه.
وأما قوله: بأن حد المعرفة على الحقيقة لم يثبت بعد، ولكن وقعت
الطمأنينة بغلبة دلائل الصدق كما ذكر في المثل، فليس بقوي، لأن
الطمأنينة في الأصل دليل على المعرفة حقيقة، وإنما يحمل على
الغلبة بلا حقيقة. بدليل تبين الغفلة من القلب عن النظر في
باطن الدليل، وإنما يعرف ذلك بإبانة حد آخر وراء ما تراءى له،
كما قيل في رؤيا النائم أنها ليست بحقيقة، وإن كان لا يقف على
بطلانها حال ما يرى، لأنا وجدنا لرؤيتها حالة في حياته،
وتمييزه فوق هذه الحالة وهي حال اليقظة، وكان ما أرى حالة
النوم لضرب غفلة، وأبطلنا تلك الحالة وجعلنا الرؤية يقظانًا
حقيقية، لأنه لا حالة له فوق هذا للدرك.
فكذلك ما يطمئن القلب إلى علم بالسماع، فإن اطمأن وبحاله ضرب
غفلة، كالداخل على المأتم، لأنه لو تأمل حق التأمل لأصاب جهة
الكذب، لجواز تواطئهم على ذلك لأمر أرادوه، ما كان يحصل إلا
بما تواضعوا عليه لم يكن موجبًا يقينًا.
فأما إذا سمع أقوامًا مختلفين لا يتواطأ أمثالهم على الكذب
عادة لكثرتهم واختلاف أمكنتهم، فلم تكن الطمأنينة بحكم الغفلة
عن الكذب، بل بقيام الذليل الموجب للصدق الذي باطنه لو تأمله
أكد ظاهره.
وذلك لأن الله تعالى خلق الخلق أطوارًا على همم شتى ما يصدر
عنهم فعل أو قول بحكم الجبلة على سنن واحد، بل يكون الحدوث على
اختلاف بحسب هممهم وهوى نفوسهم، لأن الحوادث عن علل مختلفة
لابد أن تكون مختلفة، فلما أخبروا خبرًا واحدًا، علم أن
الإخبار لم يكن من قبل اختراعهم، بل عن أصل جمعهم على ذلك،
وذلك سماع اتبعوه، أو اتفاق صنعوه، فإذا انقطع وهم الاتفاق،
بقي السماع.
فإن قيل: الناس وإن كثروا لم ينقطع وهم الاتفاق على الكذب، لأن
شرط التواتر ليس اجتماع أهل الدنيا، بل أهل بلدة أو عامتهم،
وما نقل الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أصحابه،
وكان عسكره وإن كثروا كان يجوز اتفاقهم على ذلك.
قلنا: إن توهم هذا الاتفاق نادر فيما يتوهم كتمان الاتفاق بعد
مرور الزمان من جمع عظيم، عشرة آلاف أو عشرين ألفًا فإن
الإنسان في نفسه يتعذر عليه كتمان سره حتى يفشيه إلى صديق له
ويستكتمه ثم يضيق عنه صدر صديقه فيفشيه إلى ثالث فيصير السر
فاشيًا
(1/208)
عن قريب, فلا يتوهم كتمان المواضعة من
الجمع على امتداد المدة, وفي الجمع المؤمنون والمنافقون
والجواسيس لأهل الكفر هذا مما ترده العقول, ولا تجد لقبوله
مساغًا فيها.
فكان الوقوف على بطلان هذا القول أسهل من الوقوف على معرفة
الصانع عز ذكره بآيات الحدث في المحسوسات, فإنا نجد الناس
مختلفين في معرفة الصانع ولا نجد أحدًا ينكره ميلاده, وكون
السماء قبله قرارًا, وكون آدم أبا البشر, وهل عرفت المعجزات
آيات يقينًا على الرسالة إلا بخروجها عن حد معتاد البشر, فكذلك
مثل هذا الاكتتام خارج عن معاد البشر, فيقطع القول بعدمها
منهم, وكما نكذب اليوم رجلًا يخبر عن عروجه إلى السماء, ومسه,
وكلامه الملائكة متى شاء قطعًا, وإن جاز مثله في فدرة الله
تعالى, لأنه خارج عن معتاد البشر حتى رددنا شهادة شاهدين على
رجل بطلاق امرأته بمكة يوم النحر مع الشهادة أخرى بعتاق عبده
ذلك اليوم بالكوفة.
وكيف يتوهم إنكتام هذه المواضعة وكانوا يلقون إلى الكفار
بالمودة ويفشون أسرار النبي صلى الله عليه وسلم في باب الحرب,
وكان الكفار يتقولون عليه ما لم يكن منه إطفاء لنوره, وهذا على
مثال من زعم أن القرآن ليس بمعجز إلا أن العرب لو تشتغل
بمعارضته أو جاؤوا بمثله, ولكن المسلمين أخفوه, فكان هذا قولًا
مردودًا, لأن العرب لو قدرت عليه لعارضت ولما صبرت عن فعلها,
وفيه ذهاب دينهم ومالهم ونفوسهم وحزمهم, لأنه غير متصور مثل
هذا الصبر في العادات إلا عن عجز, ولو عارضت لما صبرت عن
الإظهار, فإن الحجة كانت تسقط بالإظهار على سبيل المعارضة ما
كان يتصور الاختفاء عادة.
وكيف يتصور وغير المسلمين كانوا أكثر من المسلمين وكانوا
ينقلون ذلك مثل نقل المسلمين كلام رب العزة, وكيف يتوهم ذلك,
ولم تختفِ كلمات مسيلمة, ومخاريف المتنبئين, وهذا القائل قد
قال: بأن القرآن بمعجز, وأن السؤال باطل من هذا الطريق, فيبطل
بهذا الطريق أيضًا سؤال من ينكر العلم اليقين بالتواتر بدعوى
احتمال أو شبهة تردها عادات النفوس.
وأما الجواب عن تواتر الخبر بين اليهود بقتل عيسى عليه السلام
فمن وجهين:
أحدهما: أن التواتر غير ثابت, لأن حده أن يساوي الطرف الأول
الآخر ولم يوجد, لأن القتل نقل عن الذين دخلوا عليه في بيت
للقتل, وقوم يرتدون أن يقتلوا رجلًا في بيت لا بد أن يكونوا
بحيث يجتمعون في العادات على الكذب لأنه أيسر من الاجتماع على
قتله, وقد روي أنهم كانوا تسعة نفر.
فإن قيل: تواتر الخبر بينهم بالصلب, والصلب مما يعانيه أطوار
الناس الذين لا يتواطئون على الكذب عادة.
(1/209)
قلنا: إنهم نقلوا الصلب بعد القتل,
والمصلوب بعد القتل لا يتأمل فيه كل التأمل على ما جرت به
العادات, بل يكتفي فيه العلم بالأعلام الظاهرة, والتسامع أنه
فلان, وهذا معلوم بين الناس بمن يصلب في أزمنتهم, فإن الذين
يباشرونه قوم معدودون, ثم ينقل عنهم ويقع العلم للناس بالتسامع
أو النظر إليه من غير تأمل, فإن الطباع تنفر عن التأمل والخلق
يتغير بالصلب ويشتبه أيضًا ببعد مسافة النظر, وإذا كان كذلك
كان العلم به علم طمأنينة لا علم يقين, وروي أن اليهود كانوا
لا يعرفونه, وإنما دلهم عليه رجل يقال له يهوذا وبقول الواحد
لا يقع العلم.
والثاني: أن تواترهم أوجب العلم بقتل من علموه عيسى ولم يكن
وكان شبيهه على ما قال الله تعالى: {ولكن شبه لهم} , وروي
أيضًا: أن اليهود لما دخلوا عليه فال عيسى لأصحابه: من يريد أن
يلقي الله عليه شبهي فيقتل وله الجنة, فرضي به واحدًا منهم,
فقتل ورفع عيسى من بينهم فلم ير.
فإن قيل: هذا أنكر من الأول, فإنه باب يبطل المعارف أصلًا,
ويكذب العيان, ويبطل أخباركم المتواترة عن النبي صلى الله عليه
وسلم لجواز أن يكون قد شبه لهم, ويبطل الإيمان بالرسل لجواز أن
غيرهم تشبهوا بهم, وكيف يجوز ذلك والإيمان بعيسى كان واجبًا,
وما كانوا يعرفونه إلا بالعيان, فكان يجب بعد التشبيه, الإيمان
بالشبه, وأنه كفر, وما جائز من الله سبحانه وتعالى إلزام الكفر
بالحجة.
قلنا: أما التشبيه من الله تعالى غير منكر قدرة, ولا ينكر
أيضًا حكمة إذا ألقى شبهه على غير حال دفع القتل عنه, ففي
الدفع حكمة عظيمة, والتشبيه دفع لطيف, ولله تعالى لطائف في
الدفاع عن الرسل عليهم السلام وعنا. وإنما يستنكر هذا حال
الإيمان به فيؤدي التشبيه إلى التلبيس, والله تعالى كان علم
منهم أنهم لا يؤمنون به, فشبه لهم وزادهم مرضًا وطغيانًا, ودفع
عن عيسى عليه السلام.
وهذا كما تحول إبليس في صور شيخ من نجد مرة, ومرة في صورة
سراقة بن جعثم وكلم الناس إغواء للكفرة فلم ينكر, فكذلك تحول
عيسى بأقدار الله تعالى عليه.
وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رأى جبريل صلوات الله
عليه في صورة دحية الكلبي واعتقده ولم يكن كذلك, وعذر لأنه عمل
بما في وسعه ولم يكن كلف غير ما علم حينئذ.
وكذلك الله تعالى قلل المؤمنين في أعين الكفار, وقللهم في
أعينهم وصح ذلك للتحريض على القتال, ليقتل المسلمون الكفرة
ويشفوا صدورهم منهم فلو كثر المسلمون في أعينهم لرجعوا ما
قتلوا, فلما أثبت الله تعالى تقليل المسلمين في أعين الكفار
تحريضًا على القتال ليقتلوا, جاز تشبيه غير عيسى به ليصان.
ثم هذا الاحتمال لا يبطل المعارف لأنه يكون معجزة, ونحن خوطبنا
بالعمل على ما يكون في العادات الجارية دون البناء على ما يجوز
في قدرة الله تعالى وهذا التشبيه كان من قدرة الله تعالى لا من
قدرتنا فلا يبتنى عليها الأحكام.
ولأنا لا نجوز هذا الحال الإيمان بالرسول أو النقل عنه فيصير
إضلالًا بالحجة, والله تعالى غني عنه.
ولأن الجواب عنه يلزم الجميع فقد سلم لنا مثله فيما نقلنا.
وأما خبر زرادشت فتلك مخاريق أظهرها بحيل على سبيل عرفها
المتأملون من ذوي البصائر وقدروا على مثلها إلا ما يحكى أنه
أدخل قوائم فرس الملك في البطن ثم أخرج.
(1/210)
وهذا يحكى انه فعله بين يدي الملك في خاصته
والنقل عن مثلهم لا يكون حجة متواترًا, فقد روي أن الملك لما
رأى شهامته بايعه على أن يظهر الإيمان به فيكون زرادشت اللعين
معه برأيه وهو وراءه بسيفه فيملكوا وجه الأرض, فظهر عقيب ذلك
مخاريق حكوها عن فعله في مجلس الملك أو كان عن تواطىء منهم على
ما حكينا.
فإن قيل: كيف أنكرتم ذلك؟
قلنا: نحن أنكرنا الكتمان من قوم يتعذر تواطؤهم على الكذب
والاتفاق عليه عادة لا على ملك بخاصته فإنهم رصد لحفظ الأسرار,
وعليه بناء أمر الملك ومن حكمة خلق الله تعالى الخلق أطوارًا
على همم شتى, وهي سبب الاختلاف أن يعلم باتفاقهم على نقل
الشرائع تواترًا أنها ثابتة كما يكون بالعيان حتى لا تبطل
الشريعة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تبقى بعده على
وجهها إذا صار المتواتر كالمسموع من النبي صلى الله عليه وسلم
فلا يبقى الناس وعقولهم سدى عن عون الشرع فما بالعقل كفاية
لتمام الهداية.
فإن قيل: أرأيت القاضي لو بلغه خبر بالتواتر أو شهادة فساق
كثيرين بملك في يد رجل أنه لغيره أيقضي به كما لو عاين أم لا؟
قلنا: يجوز أن يقضي به ويحتمله, ويجوز أن لا يقضي, كما لا يقضي
بعلم ثبت له عيانًا قبل القضاء فمن شرطّ علمًا بالحادثة بعد
القضاء جاز أن يشترط العلم بلفظة: أشهد, دون الخبر, وجاز أن
يشترط العلم بخير عدول دون فساق واحتياطًا لأمر القضاء.
وأما المشهور: فحده ما كان وسطه وآخره على حد المتواتر وأوله
على حد خبر الواحد.
وقد اختلف العلماء في حكمه؟
قال أبو بكر الرازي: هو أحد قسمي المتواتر, لأنا نجد في أنفسنا
العلم بكل واحد منهما بلا اضطرار, إلا أن العلم بالأول يقع عن
اضطرار لا مرد له في النفوس, وبالثاني
(1/211)
يقع عن استدلالٍ كما يكون مثله عن العقليات
الموجبة للعلم يقينًا فإن العلم بحدوث المحسوسات يقع عن اضطرار
يعرفه كل إنسان ذي بال والعلم بالصانع يقع عن استدلال.
قال عيسى بن أبان: الأخبار ثلاثة أقسام:
أقسم يضلل جاحده، كخبر الرجم.
ب وقسم يخشى المأثم على جاحده، ولا نضلله كخبر المسح بالخف.
جـ- وقسم لا يخشى المأثم على جاحده كالأخبار التي اختلف
العلماء فيها في مسائل خلافهم.
فلم يكفر عيسى من جحد المشتهر.
ثم جعل المشتهر بعضه فوق بعض في الرتبة وهو الصحيح عندنا.
ويسمى العلم عن الخبر المتواتر علم يقين وعن الخبر المشتهر علم
طمأنينة، وعن الخبر الغريب علم غالب الرأي، وعن الغريب
المستنكر علم ظن.
فهذه المراتب أربعة للعلوم ثبتت بمراتب الأخبار، والدليل على
ذلك: أن المشتهر لما لم يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم
بالتواتر، ولكن بالآحاد تمكنت الشبهة في الاتصال برسول الله
صلى الله عليه وسلم على نحو ما ذكرنا في أخبار اليهود والنصارى
والمجوس إلا أنها لما اشتهرت في السلف وتواترت ولم يظهر منهم
رد اطمأنت النفوس إلى قبولها والعمل بها، لأنها شاهدت قرنهم لا
من قبلهم فاطمأنت النفوس إلى ما شاهدت، والعادات تثبت بالحواس
لا بالاستدلال، ولهذا تتبدل الشرائع بالبدع إذا اشتهرت في
الناس لأن الحواس تشاهدها، ولا يمكن ردها إلا بالاستدلال، ألا
أنا جعلنا المشتهر حجة شرعية يجوز بمثلها الزيادة على كتاب
الله تعالى، ونسخ الآيات أيضًا لأن السلف كانوا أئمة الدين
وكان إجماعهم حجة، وما كان فيهم تهمة فلما تواتر النقل فيهم
ولم يظهر رد منهم صار حجة من حجج الله تعالى حتى زدنا على كتاب
الله تعالى الرجم.
وزدنا تحريم عمة المرأة على الكتاب.
وزدنا على أعضاء الوضوء الخف بالسنة.
والتتابع على صوم كفارة اليمين.
والزيادة عندنا تجري مجرى النسخ إلا أنا أبقينا مع هذا شبهة
الآحاد الثابتة في الطرف الأول فلم نكفر جاحده، وحططنا رتبته
عنه رتبة المتواتر، وهذا لأن الله تعالى كما لا يكلفنا ما ليس
في الوسع وما جعل في الدين من حرج بنص الكتاب وكما لا نجد في
الوسع، رد العلم بالمتواتر يخرج برد المشتهر فإنا لا يمكننا
الفرق بينهما على ما عليه الجبلة إلا بحد استدلال.
(1/212)
ثم الاستدلال فيما نحن فيه يوجب القبول
فلزم القول به شرعًا ما لزم طبعًا لكن على ضرب شبهة بيناها،
وظهرت الشبهة في حق التكفير دون العمل فصار المتواتر موجبًا
علمًا يزداد يقينه بالتأمل في سببه الداعي إليه من طريق
الضرورة على ما عليه جبلة النفوس، وإنما الشك يعتري القلب بضرب
وسواس كما يعتري بعض الناس فيما يدرك بالحواس، وصار المشتهر
موجبًا علمًا بمنزلة المتواتر بقلة التأمل، ومتى تأمل السامع
حق تأمل، وجد في أوله ما يوجب ضرب شبهة في آخره فيكون العلم به
لسكون النفس إلى ما ظهر له به، فلذلك سميناه علم طمأنينة.
فإن قيل: فكيف لم يجب العلم بخبر اليهود، وقد اشتهر؟
قلنا: بمعارضة ما هو فوقه سقط اعتباره، وكذلك سبيل كل حجة.
وأما الغريب المقبول: فما اختلف العلماء خلفًا وسلفًا من أحكام
الحوادث على ورود أخبار فيها متعارضة قبلها بعضهم وردها بعضهم
بلا إنكار ولا تضليل حسب اختلافهم في مثلها بالمقاييس
المتعارضة، فيكون العلم به علم غالب الرأي على نحو ما يقع
بالمقاييس المتعارضة.
وأما الغريب المستنكر: فنحو ما ذكرنا من الوجوه التي رد السلف
بها الأخبار، وربما نخشى الإثم على العامل كما خشينا الإثم على
تارك المشتهر لأنه قرب من اليقين، وهذا قرب من الكذب فيكون
العلم به علم ظن على تحري الحق كالذي تشتبه عليه القبلة فيتوجه
إلى جهة بتحري قلبه بلا دليل.
(1/213)
باب
القول في بيان المعارضة من تفسيرها
وركنها وشرطها وحكمها
أما المعارضة فتفسيرها: الممانعة على سبيل المقابلة، يقال: عرض
لي أمر أي استقبلني فمنعني، والعوارض في اللغة الموانع.
وسميت المعارضة بين الحجج معارضة لأنها تقوم متقابلة متمانعة
لا يمكن الجمع بينهما.
أما شرط المعارضة: فاجتماع الحجتين المتدافعتين بإيجاب كل
واحدة منهما ضد الأخرى في محل واحد ووقت واحد كالتحليل
والتحريم والإثبات والنفي، وهما متساويتان في القوة لأن الضعيف
لا يقابل القوي.
وإنما قلنا في وقت واحد ومحل واحد لأن الضدين إنما يستحيل
ثبوتهما لمحل واحد لتنافيهما بذواتهما.
فأما في محلين فجائز لارتفاع التنافي كالليل جائز في بعض ساعات
الزمان والنهار في بعضها.
وكذلك سواد العين وبياضها اجتمعا في العين في مكانين منهما،
فاتحاد المحل شرط قيام المعارضة لأنها لا تعمل عملها إلا عند
اتحاد المحل، ولا تعمل بالمحل وهذا آية الشرط على ما يأتيك
بيانه.
وكذلك اتحاد الوقت شرط لجواز اجتماع الضدين في محل واحد في
وقتين على التعاقب كالحياة والممات في شخص واحد في وقتين.
وأما الركن: فالحجتان فيهما تقوم المعارضة وركن كل شيء ما يقوم
به الشيء.
فإن قيل: لما كانت المعارضة لا تثبت إلا بالتراد، كيف استقامت
في حجج الله تعالى الثابتة يقينًا.
قلنا: لا تثبت بين الحجج الثابتة يقينًا لأن التعارض بين آيتين
أو سنتين لا يثبت إلا بحيث لو علم تاريخهما لكان الآخر ناسخًا
للأول، والأول منسوخًا به فتكون الثابتة أحديهما إلا أنا جهلنا
الآخرة فيثبت التعارض.
وأما القياسان إذا تعارضا فالذي معه الحق عند الله، وحجته على
الحق الذي عنده
(1/214)
واحد منهما إلا أنه جوز لنا العمل بما نصيب
به الحق عند الله وبما لا نصيب بحكم العجز على ما بينا في باب
الاجتهاد فصار أحد القياسين حجة يقينًا، والآخر حجة ظاهرًا في
حق جواز العمل به تيسيرًا علينا لا فيما عند الله تعالى فيصير
الأول أولى ومتى لم نعلم جاءت المعارضة.
فأما الحكم: فإن كان التعارض بين الآيتين فالميل إلى السنة وإن
كان بين السنتين فالميل إلى أقوال الصحابة ثم إلى الرأي لأن
التعارض بين الحجتين متى ثبت تساقطا لاندفاع كل واحدة بالأخرى
وامتنع العمل بهما، وبأحديهما عينًا لأنها ليست بأولى من
الأخرى، فإذا تساقطتا وجب المصير إلى ما بعدهما من الحجة
والحجج شرعت على هذا الترتيب.
وأما التعارض: إذا ثبت بين القياسين، فكذا كان يجب أن يتساقطا
ويتوقف عن العمل إلا أنه قيل: يعمل المجتهد بأيهما شاء ثم لا
يكون له العمل بالآخر إلا بفساد يظهر في الذي عمل به بضرب دليل
لأنه اضطر إلى العمل بحكم الحادثة الواقعة، ولا يمكنه إلا
بدليل، ولم يشرع الله لنا دليلًا بعد القياس إلا الحال، وأحد
القياسين معه الحق عند الله تعالى لا محالة، وحجة يقينًا فكان
العمل بأحدهما على احتمال أنه الحجة حقيقة أولى من العمل
بالحال، فإنه عمل بلا دليل فجاز له العمل بالمحتمل لهذه
الضرورة ولما اندفعت الضرورة به وجعل عمله بما عين صوابًا لم
يجز العمل بالآخر إلا بدليل غير محتمل.
ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله: في إنائين ماء أحديهما نجس،
والآخر طاهر فأشكل الأمر علينا فإنه لا يجوز استعمال ماء
أحديهما بالتحري لطهارة الصلاة، ويجوز للشرب لأن التراب طهور
بيقين خلفًا عن الماء في حق الصلاة فوجب الميل إليه عند
التعارض بين الماءين، ولا خلف للماء في حق الشرب فجاز تعيين
أحديهما للشرب مع الاحتمال.
وقال علماؤنا في سؤر الحمار: أنه مشكل لتعارض الأدلة، فقالوا:
لا ينجس العضو الطاهر باستعماله، ولا يرتفع به الحدث للصلاة
لأنه مشكل في نفسه فلا يزول به ما كان ثابتًا قبله من نجاسة أو
طهارة، ولم يجوز تعيين أحد الحكمين بلا دليل ولا ضرورة فإنها
ارتفعت بهذا التقسيم.
وكذلك قالوا في الخنثى: أنه مشكل أمرها ما لم تترجح إحدى
حالتيها بدليل، ومتى لم يتبين لم تترجح بلا دليل بل رد إلى
الرجل من بعض الأحكام وإلى المرأة في البعض على حسب الثبوت
يقينًا.
ووجه آخر أن النصين لا يتعارضان إلا والأول منهما منسوخ إلا
أنا جهلناه، والجهل لا يطلق عملًا شرعيًا والاختيار عمل شرعي.
(1/215)
وأما القياسان فيتعارضان على طريق أن كل
واحد منهما صحيح العمل به لأنه جعل حجة يعمل به أصاب المجتهد
به الحق عند الله تعالى أو أخطأه، ولما كان كل واحد منهما حجة
لم يسقط وجوب العمل، ولكن الحكم عند الله واحد فثبت له تحري
الذي الحق عند الله معه لأنه أولى من الآخر لا محالة فإذا تحرى
وعمل به، وجعل التحري حجة له ضرورة صار الذي عمل به هو الحق
عند الله تعالى بدليل التحري والآخر خطأ فلا يجوز نقضه إلا
بدليل فوق التحري.
ومثاله في مسائل الفقه: رجل طلق إحدى امرأتيه فإن له خيار
التعيين لأن التطليق كان حقه، وكذلك تعيين المطلقة فإذا لم
يعين بقي التعيين ملكًا له فإذا عين لم يبق له الرجوع.
ولو طلق إحديهما بعينها ثم نسيها لم يكن له خيار بالجهل لأن ما
كان له خرج من ملكه إلا أنه جهل المحرمة فلم يثبت له خيار شرعي
بالجهل.
فإن قيل: لما كان كل واحد من القياسين حجة يجوز العمل به وجب
أن يثبت خيار التعيين مطلقًا، لا لضرورة الجهالة فإنه لا جهالة
لما صار كل واحد منهما حجة، ألا ترى أن الخيار لما ثبت في
تعيين كفارة اليمين لثبوت كل نوع مشروعًا كفارة ثبت مطلقًا ولم
يرتفع بتعيين العبد نوعًا مرة.
قلنا: إن القياسين ليسا بحجة في حق ما عند الله تعالى فإن الحق
عند الله واحد على ما نذكر، ولكن جعلا حجة في حق جواز العمل
لنا بالقياس أخطأنا أو أصبنا لفقد الدليل الذي هو فوقه، والذي
هو حق عند الله فوق الذي ليس بحق ولا دليل معه للتمييز إلا
التحري بقلبه فأمر بتعيينه بدليل التحري وللقلب فراسة، ونظر
بنور الله تعالى على ما جاءت به الأخبار فإذا عين تعين وبقي
الآخر خطأ ما لم يتبين خطاؤه بدليل آخر فوق التحري.
قال علماؤنا فيمن أدرك الظهر ومعه ثوبان أحدهما نجس ولا يدريه:
أنه يتحرى ويصلي في أحدهما الظهر فيجوز فإن صلى العصر في الآخر
لا يجوز حملًا على أنه نجس لأن كل ثوب منهما حال وجوب الظهر
مما تجوز الصلاة فيه لوجوب الصلاة وما عنده ثوب طاهر يقينًا
وحكم النجاسة سقط بالعجز، والذي هو طاهر منهما هو الحق في
الأصل ولا دليل معه عليه غير التحري بقلبه فأمر به فإذا تحراه
جعل طاهرًا بدليله فبقي الآخر نجسًا، ولم يتبدل إلا بدليل آخر
فوق التحري.
وقولا الصحابة مثل القياسين لأنهما يقولان عن الرأي، ولا يجوز
العدول بالرأي عن قولهما جميعًا- على ما نذكر- فحلا محل
القياسين اللذين لا حجة بعدهما، والله أعلم.
(1/216)
باب
القول في بيان المخلص من المعارضات
بين النصوص
المعارضة إنما تكون بين آيتين، أو آية قرأت بقراءتين، أو آية
وسنة ثابتة، أو خبرين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
راويين، أو راوٍ واحد.
لما ذكرنا أن المعارضة بين النصوص إنما تثبت إذا كانا بحيث لو
علم المتأخر منهما كان ناسخًا للأول، والنسخ يثبت بهذه الطرق
على ما نذكر.
فأما المخلص منها فأول ما يطلب من جهة الحكم لأن التعارض إنما
يكون بتدافع الحكمين فلا بد أن يكون المدفوع بالآخر ما كان
ثابتًا بالأول لتتصور المعارضة، فإذا أمكنك بيان أن الذي تصور
مدفوعًا ظاهرًا غير ثابت بالنص بل هو غيره بطلت المعارضة كما
في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن} فإنه عندنا عبارة عن عقد اللسان دون
القلب وقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} لا يدفع هذا وإن
نص على القلب لأن حكم العقد مؤاخذة معجلة في الدنيا، وحكم كسب
القلب مطلق المؤاخذة والمطلق ما يكون في الآخرة لأنها خلقت
للجزاء الوفاق فأما الدنيا فقد يؤاخذ فيها وقد لا، لأنها خلقت
للابتلاء لا للجزاء فيكون الكسب بالقلب علة لحكم لم يتعرض له
عقد اللسان فلا يجوز حمل أحدهما على الآخر لما بطل التدافع.
فإن لم يوجد ذلك يتخلص بالحال نحو قوله تعالى: {ولا تقربوهن
حتى يطهرن} بالتخفيف ويطهرن بالتشديد والأطهار: الاغتسال،
والطهر انقطاع دم الحيض في اللغة، والتحديد بكل واحد غير ممكن
فيتخلص عنه بالحال فتحمل الآية المخففة على أكثر أيام الحيض،
والمشددة على ما دون أيامها فيبطل التعارض باختلاف الحالين،
وصيرورة هذا في حالة غير الأولى فإن لم يوجد ذلك وجب التخلص
بالتاريخ إن عرف فيجعل آخرهما أولى لما ذكرنا أن المعارضة إنما
تثبت إذا كان الآخر مما ينسخ الأول فإذا عرف الناسخ بطلت
المعارضة.
فإن لم يوجد ذلك وجب التخلص بتعيين الناسخ منهما بظاهره نحو أن
تثبت إحدى الحجتين حكمًا، كان عرف ثبوته والأخرى رفعًا لذلك
الحكم فالرافع يكون أولى ويجعل الذي يبقى ما كان إذا جهل
التاريخ متقدمًا والآخر متأخرًا.
(1/217)
لأنا لو لم نجعل هكذا نسخنا الأصل، ثم
نسخنا الرافع بما أعاد حكم الأصل ولا يصار إلى النسخ ما أمكن
نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح الضب، وروي
أنه كرهه وروي أنه أباح الضبع وروي أنه نهى عنه، فكان التحريم
أولى.
ولأن المحرم بالإجماع ناسخ والآخر احتمل أن يكون ناسخًا لو
تأخر وأن لا يكون لو تقدم فلم يقابل المحتمل المحكم فإن لم يكن
قامت المعارضة وإن كانت إحدى الحجتين نافية والأخرى مثبتة،
ويحكى هذا القول عن عيسى بن أبان، وعن أبي الحسن الكرخي أن
المثبت أولى.
وقد ذكر محمد بن الحسن رحمه الله في كتاب "الاستحسان" في ماءٍ
أخبره مخبره بنجاسته والآخر بطهارته، ولم يترجح قول أحدهما على
الآخر في رأي السامع. فقال: إنهما يتساقطان، ويبقى الماء على
ما كان قبل الخبرين والنجاسة إثبات حكم جديد.
وعن ابن عمر وابن عباس أنهما سألا عن الفجر فاختلف رجلان فقال
أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع فشرب الماء.
وفرع محمد بن الحسن في كتاب "الاستحسان" إذا كان المخبر بأحد
الخبرين اثنين عدلين، ومن الجانب الآخر واحد، قال: خبر الاثنين
أولى وإن كان من جانب عبدين، ومن جانب حرين فالحران أولى فرجح
بمعاني في الحجة لا بالحكم، وهذا لأن الخبر حجة في النفي كما
في الإثبات بخلاف الشهادات.
فإن قيل: خبر المثبت أصدق!
قلنا: لا كذلك فإن طهارة الماء تعرف يقينًا كنجاسته باغتراف
الماء من وادٍ جارٍ في آنية طاهرة وحفظها كذلك عن النجاسات.
ومثال ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو
حرام، وروي أنه تزوجها وهو حلال، ولا يرجح الحلال بكونه طارئًا
فإنهم أجمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوجها قبل
الإحرام وإنما تزوجها بعد الإحرام.
واختلفوا في أنه تزوجها قبل أن يحل أو بعدما حل.
والذي يروي الحل روى أمرًا طارئًا ولم نره ترجيحًا وقد اجتمعا
في حادثة واحدة، بل رجحنا الحرام لأن رواية عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما وهو أثبت من يزيد بن الأصم راوي الحلال.
وروي أن بريرة أعتقت وزوجها عبد، وروي: وزوجها حر، وزوج بريرة
كان عبدًا ثم أعتق فكانت الحرية طارئة وأخذ بها علماؤنا رحمهم
الله فثبت أنهم طلبوا الترجيح من وجوه أخر لا بالطريان
واستصحاب الحال.
(1/218)
وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد
زينب على أبي العاص بالنكاح الأول وروي بنكاح جديد ورجحوا هذا
الخبر فلما اختلف عمل علمائنا في هذا الباب علم أنهم رجحوا
بوجه آخر غير الإثبات.
والوجه الصحيح في ذلك أنا نستفسر النافي للحادث فإن أخبر عن
سبب علمه بالنفي على وجهه صار هو والمثبت سواء.
وإن قال: لم أعلم بما يزيله كان المثبت أولى، لأنه إذا أخبر عن
دليل النفي ساوى المثبت في العلم بما أخبر على ما بيناه في
مسألة طهارة الماء ونجاسته فإذا لم يخبر عن دليله، ولكن قال لم
أعلم بما يزيله فقد أخبر أنه بقي على ما كان يجهله عما يزيله
لا بعمله حجة تنفي الثبوت للحال، فلم يصر خبره عن جهل حجة في
مقابلة الخبر عن علم، وإنما لا يكون هذا حجة بعذره في التمسك
بما كان علم على ما نشرحه في باب استصحاب الحال، ولأن السامع
يساويه في ضرب هذا العلم لأن علم بثبوت الأول ولم يعلم بزواله
مثل الذي أخبره به.
فلو كان هذا الخبر حجة دافعة لخبر المثبت لصار علمه بنفسه
دافعًا، وكانت الأخبار أكثرها تبطل بهذا الطريق لأن أكثر
الشرائع مما تبدلت، والتي كانت ثبتت يقينًا قبل التبدل فكان
ثبوتها من قبل يعارض ما يرفعها فلا يثبت الرفع، وإلى هذا
التفسير أشار محمد بن الحسن رحمه الله.
وعلى هذا رجح علماؤنا خبر حرية زوج بريرة ونكاح جديد لزينب لأن
الذي نفى الحالة الأولى لم يبلغنا منه ما نعلم به سبب شهادته
بالحالة الأولى، فقبل التفسير الشهادة بالحادث أولى وبلغهم في
خبر نكاح ميمونة بسبب شهادة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
فإنه نقل القصة على وجهها فتساويا في حق المشهود به، ثم ترجح
عبد الله لإتقانه.
ومن أهل النظر من تخلص عن المعارضة بزيادة عدد الراوي وقال: إن
خبر الاثنين أولى من خبر الواحد كما قاله محمد بن الحسن رحمه
الله في باب طهارة الماء ونجاسته لأن في الصحابة من لم يقبل
خبر الواحد حتى شهد معه آخر، ولأن القلب أميل إلى خبر الاثنين.
وتخلص أيضًا بحرية الراوي لأن الحرية تجعل خبره حجة في باب
الشهادات فيوجب ترجيحًا كزيادة العدد وكما رجح محمد بن الحسن
في باب خبر نجاسة الماء وطهارته.
قال القاضي رضي الله عنه: والذي ثبت عندي من مذاهب علمائنا أنه
لا مخلص بهذا لأن خبر الواحد لما ثبت حجة لم يترجح بزيادة
العدد من جنسه كما لا تترجح الشهادة بزيادة الشهود، وإن كان
القلب إلى شهادة العشرة أميل وكما لا يترجح بالأربعة،
(1/219)
وهي حجة في باب الزنا دون الاثنين فعلم أن
الرجحان لا يطلب لباب بباب آخر، ولا بميل القلب، بل بمعاني في
الحجة ألا ترى أن خبر المرأة والرجل سواء، والقلب إلى شهادة
الرجل أميل.
وشهادة النساء ليس بحجة في بعض الأبواب بخلاف المشهور لأنا لم
نرجح بزيادة العدد بل بدخول الخبر في حد العيان، وصيرورته
بابًا آخر حكمًا على ما مر، ولأن المناظرات من لدن الصحابة إلى
يومنا هذا جرت بأخبار الآحاد ولم يرو في شيء منها اشتغالهم
بالترجيح بزيادة عدد، ولو كان صحيحًا لقالوا، ولو قالوا لنقل
كما نقل في ابتداء قبول أخبار الآحاد، والله أعلم.
(1/220)
باب
القول في البيان
البيان في اللغة: عبارة عن الظهور, يقال: بان لي معنى هذا
الكلام أي: ظهر بيانًا, وبانت المرأة عن زوجها بينونة أي:
حرمت, وبان الحبيب بينًا أي: بعد وكلها ترجع إلى معنى واحد
وهو: الامتياز, ولكن على أنحاء مختلفة ففرق بين أنواعها
بالمصادر.
وأكثر ما يستعمل البيان في باب اللسان, وأنه على أربعة أوجه:
بيان تقرير, وبيان تفسير, وبيان تغيير, وبيان تبديل.
فأما بيان التقرير: فنحو قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم
أجمعون} فقوله تعالى كلهم قرر معنى العموم من الملائكة حتى صار
لا يحتمل الخصوص.
وأما بيان التفسير: فنحو بيان المجمل والمشترك والمشكل وما لا
يمكن العمل به إلا بدليل, فذلك الدليل بيان تفسير فإنه عبارة
عن الكشف, وبه انكشف المعنى لأنه كان معقولاً فتقرر به.
وأما بيان التغيير: فنحو الاستثناء {فلبث فيهم ألف سنه إلا
خمسين عاما} لأن قوله إلا خمسين ليس بتفسير للألف بل رد لبعضه
فمن حيث قرر البقية كان بيانًا ومن حيث رفع بعضه كان تغييرًا.
وأما بيان التدليل: فكالتعليق بشرط نحو قوله الله تعالى: {فإن
خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} لأن
لا جناح لإزالة الحرج للحال, ولما علق بشرط, تبدل أصله فلم
يوجب إزالة حتى يوجد شرطه.
فبيان التقرير والتفسير: بيان محض ما فيه تغيير, ولا تبديل
بوجه فيصبح مقارنًا وطارئًا.
فإن قيل: كيف صح تأخير بيان المجمل, ولا يمكن العمل به قبل
البيان فيكون تكليف ما ليس في الوسع؟
قلنا: قبل البيان لا يلزمنا العمل بل يلزمنا أن نعتقد أن الله
تعالى أراد به حقًا فيكون ابتلاء بمجرد الاعتقاد, وأنه صحيح
فإنه أعظم من الابتلاء بالفعل ألا ترى أن من النصوص ما هو
متشابه أيسنا عن بيانه, وقد صح وروده لإيجاب اعتقاد الحقيقة في
الجملة, قال علماؤنا فيمن اقر أن لفلان عليه شيئًا: إن البيان
متصلًا منفصلًا لأنه تكلم بكلام مجمل.
(1/221)
وإذا قال: لفلان علي ألف درهم، وفي البلد
نقدي مختلف كان البيان إليه متصلًا ومنفصلًا لأن الاسم يحتمل
ضروب دراهم.
وإذا قال لامرأته: أنت بائن فالبيان إليه متصلًا ومنفصلًا لأنه
يحتمل ضروب بينونات.
وإذا قال: أنت طالق، وقال: عنيت الطلاق للنكاح كان صحيحًا لأنه
تقرير فعلمت أن هذين النوعين يصحان بوصل وفصل.
وأما بيان التغيير والتبديل: فيصح موصولًا، ولا يصح مفصولًا
لأنه يتمحض نسخًا للكل أو للبعض مفصولًا والنسخ رفع وليس ببيان
على ما نذكر، ولأن حكم الكتاب كان ثابت قبل النسخ فلو كان
بيانًا لتأكد ثبوته وما انقطع، وإنما قلنا: أنه يتمحض نسخًا مع
الفصل لأن الألف اسم علم لعدد معلومات على سبيل القطع لا
احتمال فيه لما دونه، فلا يصير تسعمائة إلا برفع مثة منها وكان
نسخًا لبعضها فكان تغييرًا، وإذا قلت: أنه حر، كان إعتاقًا لا
يحتمل غيره بوجه، فيكون تعليقه بشرط رفعًا بعد ثبوته لا محالة
كالقنديل يوضع ثم يعلق، وكإرسال التوكيل للحال ثم العزل إلى ما
بعد شهر فيكون التعليق تبديلًا من الأصل.
ولا يكون بيانًا بوجه إلا أن يكون موصولًا بالكلام الأول لأن
الكلام كما لا يتم مفهمًا للغرض منه إلا بنظم الحروف وتأليفه
فكذلك الكلمة بنفسها لا تفهم المراد إلا بنظم كلمات أخر إليها،
وإذا كان كذلك لم يجز الحكم بأول الكلمة حتى ينقطع النظم
بالسكوت أو الانتقال إلى ضرب آخر من الكلام والاستثناء ليس
بانتقال، لأنه دون المستثنى منه لا يكون كلامًا مفهمًا، وإذا
لم يكن انتقالًا اعتبر جملة واحدة، وإذا اعتبر جملة والاستثناء
لو طرأ كان رفعًا للبعض فإذا قارن منع الثبوت بقدره، وكان
تكلمًا بما بقي بعده على ما قررنا في مسائل الاستثناء.
وكذلك التعليق بالشرط لو طرأ بعد الثبوت وصح اقتضى انعدام ذلك
المرسل قبل الشرط لأن الشيء الواحد لا يوجد ابتداؤه في زمانين،
وكما في المحسوس إذا أرسل القنديل استقر بالأرض، وإذا علق
انعدم في مقره وإذا قارن التعليق الإرسال منع الوجود بالمقر
أيضًا فكانا متصلين بيانًا يمنع اللفظ أن يعمل عمله على حسابه
لولا المانع.
فمن حيث ما فيه من المنع لم يكن بيانًا.
ومن حيث لا رفع بعد الثبوت لم يكن نسخًا.
ومن حيث غير الكلام من جهة إلى جهة أخرى بالنظم كان بيانًا لما
صار إليه فسميناه بيان تغيير وتبديل لاجتماع المعنيين فيه،
وهذا مما لا خلاف فيه.
فإن من قال: لفلان علي ألف درهم إلا مئة، كان بيانًا ولا يلزمه
المئة.
(1/222)
ولو سكت ثم قال: إلا مئة كان رجوعًا ويلزمه
الألف كلها.
وكذلك إذا قال: لفلان علي ألف درهم وديعة صدق فيما بين إذا
وصل، ولا يصدق إذا فصل لأنه بيان تغيير، فإنه غير حكم الالتزام
عن الدراهم إلى الحفظ ألا ترى لو سكت على ألف درهم كان المضمون
عين الألف لا الحفظ فالصرف إلى الحفظ تغيير، ولكن فيه معنى
البيان على معنى التغيير كأنه يقول: لفلان علي ألف درهم، فكان
بيانًا من حيث النقل إلى مجازه، وإذا قال: لفلان علي ألف درهم
من ثمن جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها.
قال أبو يوسف ومحمد: إن صدقه المقر له في الجهة صدق المقر، وصل
أم فصل لأن السبب لما ثبت بالتصادق صار القبض محتملًا لا موجب
للإقرار فيه فيكون قوله قبضتها أو لم أقبضها بيانًا محضًا.
وإذا كذبه المقر له في الجهة صدق إذا وصل ولا يصدق إذا فصل لأن
قوله: لفلان علي ألف درهم إقرار بمال صحيح لو سكت عليه من ثمن
جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها بيانًا فيه معني الإبطال،
لأنه متى ثبت هذا لم يبق للمقر له قبله مطالبة إلا بتسليم
الجارية، ولا جارية هناك، ولكن في الجملة يجوز أن يكون الوجوب
بهذا السبب فكان بيانًا فيه معنى الإبطال فأشبه الاستثناء.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصح إن وصل لأنه رجوع عن
القبض بعد الإقرار به، وما فيه معنى البيان من وجه لأن البيع
يوجب مطالبة المشتري بالثمن حالًا قبل تسليم الجارية لا براءة
له عنها إلا بعارض فلا يكون دعوى العارض بيانًا بل البيان بما
يكون مقارنًا للعلة على سبيل المنع.
فأما إذا لم يصدق في دعوى العارض المسقط للمطالبة، ولا مطالبة
والجارية غائبة إلا بعد القبض صار إقرارًا بالقبض ثم رجوعًا.
وإنما الاختلاف بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص.
قال علماؤنا رحمهم الله: هو من قبيل بيان المحتمل فيصح مقارن
وطارئًا.
قال أصحابنا فيمن قال: أوصيت لفلان بهذا الخاتم، ولآخر بفصه
بكلام متصل: أن الفص كله لصاحب الفص والتخصيص يصير بيانًا
كالاستثناء.
ولو فصل فقال: أوصيت لآخر بفصه، كان الفص بين الأول والثاني
ولا يصير بيانًا مع الفصل كالاستثناء.
وإن كان خاصًا فعلم أنهم لم يروا التخصيص بيانًا إلا مقارنًا
ولا كلام في المسألة
(1/223)
من حيث المعنى ابتداء بل يبتنى على ما مضى
من حكم العموم، فإن حكمه عندنا عموم على سبيل القطع بلا احتمال
خصوص كالألف اسم لكل ذلك العدد على سبيل القطع بلا احتمال خصوص
لغيره فيكون التخصيص رفعًا للحكم عن بعضه بعد ثبوته كما في
الألف مع الاستثناء فيكون بيان تغير.
والمذهب عنده أن العام ظاهره التعميم مع احتمال الخصوص.
وإذا كان ثبوته على هذا الاحتمال كان التخصيص بيانًا لما كان
يحتمله ولم يكن رفعًا، وكان من قبيل بيان المحتمل وقبيل العام
الذي ثبت خصوصه.
فإن القول بعمومه واجب بعد الخصوص على اعتقاد احتمال الخصوص
وجواز الخطأ فيما قال به من العموم، وكآية إحلال البيع فإنها
عامة يقال بعمومها وأبواب الربا بيان أنها لم تدخل تحته وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الأبواب واحداً بعد واحد.
وكما يجب العمل بالقياس على احتمال أنه خطأ وأنه يجوز أن يتبين
بالخبر فساد قوله، فثبت أن البيان مما يجوز وروده مقارنًا
ومتراخيًا بلا خلاف.
وإنما الاختلاف فيما ليس ببيان محض إذا كان مقارنًا، ولكنه
تبديل فيكون الاختلاف بعد هذا في تمييز البيان عن التبديل لا
في جواز تأخير البيان.
واحتج الخصم بنصوص منها قوله تعالى: {فإذا قرأنه فاتبع قرءانه*
ثم إن علينا بيانه} ضمن البيان بعد إلزام اتباع الظاهر لأن
كلمة ثم للتراخي.
وقال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وكان المراد بها
الأصنام دون عيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام، وإنما يتبين
ذلك ببيان متراخ بقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
أولئك عنها مبعدون} فإنها نزلت بعدما عارض الكفرة منهم ابن
الزبعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيسى والملائكة صلوات
الله عليهم.
وقال الله تعالي: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} والمراد بها غير
لوط وأهله. وتأخير البيان إلى أن سأل إبراهيم عليهم السلام أن
فيها لوطًا {قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله}.
وكذلك قال الله تعالى لنوح: {قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين
وأهلك} والمراد غير ابنه، وتأخر البيان إلى أن سأل نوح {إن
أبنى من أهلى} فقال الله تعالى: {إنه ليس من أهلك}.
وقال في خمس الغنائم: {ولذى القربي} والمراد بالقربى بنو هاشم
وبنو المطلب دون غيرهم وتأخر البيان إلى أن سال عثمان وجبير بن
مطعم، وأمر الله
(1/224)
تعالى بني إسرائيل بذبح بقرة وتأخير بيان
أوصافها إلى إن سألوا ولأن البيان مرة يكون بالقول ومرة يكون
بالفعل كما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
والبيان بالفعل لا يكون إلا متراخيًا.
وقال الشافعي: الله تعالى أثبت المواريث بين الناس ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم يبن أن لا ميراث بين أهل الكفر والإسلام،
وأثبت الميراث بعد الوصية مطلقًا، ثم بين النبي صلى الله عليه
وسلم أن المراد به وصية من الثلث فما دونه.
فأما الجواب عن الأول: فإنا نجوز البيان متراخيًا كما قال الله
تعالى، ولكن نقول: ما فيه رفع أو تغيير لا يكون بيانًا إلا
متصلًا وإذا جاء متراخيًا كان نسخًا، والنسخ لا يكون بيانًا
ألا ترى أن من الآيات ما هي محكمات كآيات صفات الله تعالى لا
تقبل النسخ، وهي قابلة للبيان والتقرير فثبت أنهما مختلفان
وعلى ما نبينه بعد هذا في باب النسخ.
وعن الثاني: أن عيسى والملائكة عليهم السلام لو يكونوا دخلوا
تحت قوله: {وما يعبدون} بطريقين:
أحدهما: أن الله تعالى خاطب قريشًا بذلك وهم كانوا عبدة أوثان.
والثاني: أن كلمة ما عام فيما لا يعقل ولا يدخل تحتها من يعقل
إلا على سبيل المجاز، وكان الكفر متعينين بمعارضتهم متكلمين
بلبس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت عن جوابهم
إعراضًا عن اللغو كما قال الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو
اعرضوا عنه}، {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} ثم إن الله تعالى
تولى الجواب ببيان شاف يرد لبسهم فقال: {إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون} فكان بيانًا زائدًا لا واجبًا كما
قال الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس} وهو
لم يكن منهم فكان الاستثناء بيانًا صورة، وهو استثناء مقطوع عن
الأول معنى.
وكذلك قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما* إلا قيلا سلاما
سلاما} فهذا بيان ما فيه تغيير للأول ولا تقرير بل زيادة حكم
على سبيل الابتداء غير متصل بالأول حقيقة وإنما يتصل به صورة
فكذا فيما نحن فيه.
ونظير ذلك محاجة إبراهيم نمرود اللعين حيث قال: {ربي الذي يحي
ويميت} وكان
يحاجه بإحياء حقيقي فقال اللعين: {أنا أحى وأميت} وإنما أراد
إحياء مجازا بدفع سبب الهلاك عن حي فأعرض إبراهيم عن جوابه
وجاء بما يزيل اللبس عن العامة فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من
المشرق فأتب ها من المغرب}
(1/225)
ولم يكن هذا بيان الأول بوجه بل كان كلامًا
مبتدأ جاء به لإزالة اللبس وأعرض عن الأول من غير إفحام.
وأما قصة لوط: فكان البيان فيها مقرونًا بالنص: فإن الرسل
عليهم السلام قالوا: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها
كانوا ظالمين} فأخبروا بالهلاك بسبب الظلم فكان لوط عليه
السلام وأهله لا يدخلون تحت هذا النص، إلا أن إبراهيم عليه
السلام اغتم للوط عليه السلام وإن لم يدخل تحت النص فإن العذاب
قد ينزل خاصًا بالظالمين، كما كان بأصحاب السبت.
وقد ينزل عامًا كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة} ولما كان السؤال لإشكال ثبت له باحتمال الحال
دون النص صح ورود البيان متراخيًا للحال دون النص، ويحتمل أنه
سأل عن حال لوطًا عليه السلام وإن علم بنص الملائكة على سبب
الهلاك؛ أن لوطًا عليه السلام غير داخل تحتهم ليزداد علمًا بنص
خاص في لوط ليزداد به طمأنينة القلب كما سأل ريه فقال: {رب
أرنى كيف تحى الموتى}، وإن كان علم تلك القدرة، ولكن قال
ليطمئن قلبه بزيادة البصيرة بالمعاينة على أن الملائكة كانوا
نصوا على استثناء لوط إنا لمنجوهم أجمعين* إلا امرأته} إلا أن
الله تعالى لم يحك الاستثناء في بعض القصص اختصارًا أو اكتفاء
بما دل عليه اللفظ.
وأما قصة نوح فكان بيان الابن مقرونًا بالنص فإنه قال: {وأهلك
إلا من سبق عليه القول منهم} فكان استثنى من أهله من سبق عليه
القول غير أن نوحًا عليه السلام لم يتيقن بالاستثناء بلا نص
على ابنه أنه ابنه وظن- والله اعلم- أنه استثنى من سبق عليه
القول من الكفرة، فإن الاستثناء يحتمل ما ذهب إليه نوح بين
الله تعالى لنوح فقال: {إنه ليس من أهلك} بل هو ممن سبق عليه
القول فكان تقريرًا لظاهر الاستثناء وصح متراخيًا.
ويحتمل أن نوحًا عليه السلام لما دعاه بعدما نزل العذاب وقال
له: ولا تكن مع الكفرين} ظن إجابته بعدما غاب عنه بسبب تلك
الأهوال فسأل ربه بناء على ظنه فقال الله تعالى: {إنه عمل غير
صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم} وإنه لم يؤمن وإنه ليس من
أهلك معنى، وكان اعتقاد نوح إنه من أهله على ظنه الإجابة لا عن
نص الله تعالى على أهله، فإن الله تعالى كان استثنى من النص من
سبق عليه القول وكان الجواب من الله تعالى بيانًا لما تخيل
لديه لا للنص.
(1/226)
وهذا كما استغفر إبراهيم لأبيه عن موعدة
وعدها إياه حتى بين الله تعالى له أنه لم يؤمن فتبرأ منه.
وأما قصة بقرة بني إسرائيل فذلك الوصف عندنا زيادة على الإطلاق
ولم يكن له حكم النسخ على ما مر بيانه، والنسخ لا يكون إلا
طارئًا.
وهكذا روي عن ابن عباس: أنهم لو عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها
لكفاهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. اللفظ كما هو.
وأما آية (ذوي القربى) فلا عموم لها، لأن القربى تحتمل ضروب
قرب، وضروب قرابات بنفسه وبأبيه وجده وجد جده إلى آدم عليه
السلام فلا يمكن تعميمها، وكل لفظ لا يمكن إثبات عمومه يجب
التوقف فيه كقول الله تعالى: {وما يستوى الأعمى والبصير} فصح
البيان متراخيًا فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال
لهم أن المراد بها القربى بنصرتي لا بنفس النسب، أو المراد بها
قربى عمومتي من بني هاشم دون غيرهم إلا أن بني المطلب التحقوا
بهم بسبب النصرة.
وأما البيان بالفعل متراخيًا فلا يصح بخلاف عموم وجب القول
بظاهره، وإنما يجوز على الوجه الذي يجوز بالقول، وإنما لا ننكر
تأخير البيان قولًا، وفعلًا على ما بينا وإنما ننكر أن يكون
التخصيص الطارئ بيانًا للعموم بل نقول إنه بمنزلة النسخ إلا
عمومًا ثبت خصوصه بدليل مقارن، فتكون زيادة التخصيص بعد ذلك
بيانًا لما ثبت من التخصيص بالدليل المقارن من حيث إنه يجعله
من قبيله، لا أن يكون بيانًا للعموم بحال فإن البيان حده ما
ذكرنا من تفسير الكلام على محتمله وضعًا أو معنى أو تقريرًا
لما ثبت منه بزيادة بيان فأما معنى لا يثبت منه إلا بدليل يصده
عن وجهه إلى غيره، فلا يكون بيانًا إلا على سبيل المقارنة لأن
الصاد متى اقترن به منع عمل مطلقه فأما إذا لم يقترن به عمل
اللفظ عمله عند عدم المانع فيصير المانع بعده رافعًا لا محالة
فلا يكون بيانًا، والله أعلم.
وأما الجواب عن فصل الميراث والوصية: أن شرط الإسلام في باب
الميراث من باب الزيادة على المطلق، وذلك من النسخ عندنا دون
التخصيص، وقد ثبت بخبر اقترن به الإجماع أو بآية قطع الولاية
بيننا وبينهم وقد احتمل أن آية قطع الولاية كانت قبل آية
المواريث، وأما الوصية فتحتمل أن السنة في الثلث كانت قبل
الآية فكان البيان مقارنًا، والله أعلم.
(1/227)
|