تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في النسخ تفسيرًا وجوازًا
أما التفسير: فالنسخ هو التبديل والإبطال ونحو ذلك، تقول
العرب: نسخت الشمس الظل؛ إذا أبطلته، ونسخت الرياح الديار، إذا
أبطلت أعلامها، ونسخت الرسوم؛ إذا بدلت.
ومنه مذهب التناسخ وهو: تبديل جسم بجسم آخر بالروح الأول.
ومنه انتساخ الكتاب وهو: نقله إلى كتاب آخر نقل مثله، وهو نقل
مثل المكتوب الأول لا نقل الأول بعينه إلى الثاني لأنه لا
يتصور فسمي النقل بحسب الإمكان انتساخًا مجازًا.
ومنه نسخ الشرائع بتبديلها بشريعة أخرى، وقد نطق القرآن بالنسخ
{ما ننسخ من اية أو ننسيها}، ونطق بالتبديل {وإذا بدلنا أية
مكان أية}.
وأما الجواز: فقد قال به أهل الإسلام إلا قليلًا لا يعتد بهم
قالوا: إنه لا يجوز.
وقالت اليهود: النسخ باطل إلا أن منهم من أبى جوازه عقلًا،
ومنهم من جوزه عقلًا وأبى شرعًا فصاروا فريقين، وكذلك المسلمون
فريقان إلا أن من أنكر جوازه قوم لا يعتد.
فأما الذين أبوه شرعًا سمعًا فقد احتجوا بأنهم وجدوا في
التوراة (تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرضون) فثبت أنه
دائم بالنص إلى يوم القيامة، وفي تجويز النسخ ارتفاعه فيكون
بخلاف ما نص عليه وفيه تناقض، ولأنه لا خلاف أن وقت الثبوت متى
نص عليه لم يجز النسخ فيه قالوا: ولأنه بلغنا بالتواتر عن موسى
عليه السلام أنه لا نسخ لشريعته كما تدعون أنتم ذلك في شريعتكم
وتحتجون له بالتواتر.
وأما الذين قالوا: لا يجوز عقلًا، فقالوا: إن الله لا يشرع
شريعة إلا لحسنها ولا ينهى عن فعل إلا لقبحه، فلما دل الشرع
على الحسن لم يجز النسخ والرفع إلا للقبح، ولا يتصور القبح إلا
بتبين الغلط، ولا يجوز ذلك على الله تعالى، ولأن الأوامر
المطلقة ثابتة أبدًا ألا ترى أنها تبقى ما لم يظهر نسخها موجبة
كذلك كما كانت موجبة ابتداء فصارت بمنزلة ما لو نص على الأبد
ولو نص على الأبد فقال: افعلوا كذا أبدًا، لم يجز نسخه فكذلك
هذا.
وأما الفريق من المسلمين فقوم لا يمكنهم الخروج عما ثبت في
القرآن من النسخ
(1/228)
نحو قوله: {ما ننسخ من أية} الآية وقوله:
{وإذا بدلنا أية مكان أية} ونسخ بيت المقدس بالكعبة في باب
القبلة, ونسخ حد الزنا من الإيذاء والحبس بالجلد, ولا وجه
لقولهم مع الإقرار بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وانتساخ
سائر الشرائع بشريعته.
وأما الحجة للمسلمين: فهو أن النسخ عندنا إنما يجوز لأحكام
تحتمل أن لا تكون مشروعة ثابتة لولا الشرع, ويرد النسخ علي
البقاء ثابتًا فيما يحتمل أن تثبت مؤقتة بالنص وسكت النص عن
ذكر المدة على ما بيننا بعد هذا, لأن المدة لما لم تذكر
واحتملت البيان.
ولما كان بيانًا لما غاب عنها من قدر المدة وهي معلومة عند
الله تعالى من الابتداء لم يكن رجوعًا, ولا رفعًا لثابت تبين
الغلط فيه, وكان إحياء الله تعالى شريعته بأمره يحتمل التوقت
كإحياء الله تعالى إنسانًا أو تكوين العالم ثم كانت الإماتة
والإفناء في الحق الله تعالى بيانًا لمدة البقاء ولم يكن فيه
بد وغلط فيما أبرم وحكم فكذلك هذا لأن الله تعالى كما لا يأمر
إلا لحكمة حسنة فكذلك لا يخلق إلا لحكمة حسنة.
فإن قيل: لما لم يوجب شرع الأحكام بقاؤها كيف بقيت اليوم؟
قلنا: إن البقاء بدليل آخر كما في كل العالم, وكما قيل في
إحياء الشخص أنه لا يوجب البقاء بل هو بدليل آخر أو بعدم ما
يعدمه, وأنه في الجملة في زمان الوحي بمنزلة حي يغيب ولا يدري
حاله فإنه في نفسه على الحياة حتى يقوم دليل الممات لأنه في
نفسه يحتمل البقاء والموت, والأصل هو الحياة فاستصحبنا تلك
الحالة ولم نبدلها بالاحتمال فكذلك ما حسن من الأحكام بالنص
احتملت البقاء كذلك حسنة، واحتملت التبدل والزوال, ولا تبدلها
بالاحتمال.
فإن قيل: فعلي هذا لا يكون نسخًا للأمر.
قلنا: نعم ولا يجوز النسخ لأصله لأنه لا يجوز إلا بعد تبيين
الغلط فيه, ولكنه نسخ للبقاء في حقنا ظاهرًا لأنه ما ارتفع في
حقنا إلا بالناسخ فأما في حق الله تعالى فانتهاء كالقتل يجعل
قطعًا للحياة في حق العباد وهو نهاية في علم الله تعالى، وموته
بأجله المكتوب له فكان النسخ على الحقيقة بيانًا لمدة البقاء
كالموت للحي غير أن قدر المدة لما غاب عنا.
ولولا الناسخ لزمنا الحكم بالأول أبدًا, وبالناسخ رفع الحكم
فسمي نسخًا, ولا إشكال أن الأخت كانت حلًالا للأخ في شريعة آدم
عليه السلام, وبذلك تناسلوا, وأنه حرام في شريعة موسي عليه
السلام.
(1/229)
وأما الجواب عن السمع فإنه ثبت عندنا بكتاب
الله تعالى أنهم حرفوا ما في التوراة فلم يبق نقلهم اليوم حجة
دل عليه أن حواء خلقت من آدم وحلت له, واليوم حرام على الأب ما
خلق من الإناث, والله أعلم.
(1/230)
باب
القول في أقسام النسخ في نفسه
أقسام النسخ نفسه في أربعة:
نسخ الحكم مع تلاوة نظمه.
ونسخ الحكم كله أو بعضه دون تلاوة النص برسمه.
ونسخ تلاوة النص دون حكمه.
ونسخ بزيادة على النص برسمه.
وهذا مذهبنا إذا كان الثابت بالنص سببًا للحكم أو حكمًا.
وقال الشافعي: الزيادة على النص بيان, وليس بنسخ.
وقال يعضهم: لا يكون النسخ للتلاوة دون الحكم, ولا للحكم بدون
التلاوة, لأن النص متلو هو الموجب للحكم, فلا يجوز أن يبقى
السبب الموجب بلا وجوب أصلًا لأن الأسباب لا تبقى بدون أحكامها
مقصودة, وكذلك الحكم لا يبقى بنفسه بلا سببه.
وأما نسخ التلاوة مع الحكم فنحو صحف إبراهيم التي أخبر بها
الله تعالى, وما بقي منها أثر, وذلك بأحد طريقين إما بصرف الله
تعالى القلوب عن حفظها ورفع ذكرها عن القلوب أو بموت العلماء
بلا خلف, وهذا الضرب كان جائزًا على القرآن ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم حيًا فأما بعد وفاته فممتنع لأنه لو جاز
ذلك في البعض لجاز في الكل والله تعالى يقول: {إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون} ولم يرد الله حفظه لديه فإنه مما لا
يجوز أن يتصف الله بنسيان أو غفلة.
فثبت أنه أراد حفظه لدينا فإنه مما يحتمل ضياعه بتبديل منا
قصدًا كما فعل أهل الكتاب أو بنسيان.
ولأن الله تعالى ما أخلى عباده فيما ابتلاهم به من أداء
أماناته عن الوحي, وما تركهم ومجرد العقول.
ولو احتمل ذهاب القرآن ولا وحي يتجدد بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم لخلو عن الوحي في مدة الابتلاء, ولم يوجد ذلك من
الله تعالى فيما مضى قبلنا, وغير جائز ذلك مع قيام الابتلاء
بهذه الحدود من العبادات, لأنا لاننالها بمجرد العقول, ولا
انتساخ لهذه الشريعة فعلم ضرورة بقاء الوحي كما أنزل معنا إلى
وقت ارتفاع الخطاب بالابتلاء بآيات القيامة
(1/231)
التي {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن ءامنت
من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرًا}.
والدليل على الجواز نسخ التلاوة دون الحكم, أو الحكم دون
التلاوة أن حد الزنا كان هو الحبس والإيذاء باللسان بنص الكتاب
ثم نسخا بالجلد والرجم, والتلاوة باقية غير منسوخة, وهذا لأن
للتلاوة أحكامًا أخر غير ما يثبت به من حكم عرف لغة نحو تعلق
جواز الصلاة بها وثبوت الإعجاز على أن بقاء الحكم لو لم ينسخ
ما كان يضاف إلى النص فإن الأمر بفعل مطلق لا يوجب إلا ثبوت
ذلك الفعل المأمور به.
وأما بقاؤه كذلك ثابتًا فلا يضاف إليه على ما بينا في الباب
الأول, بل ما ثبت يبقى كذلك بلا دليل حتى يقوم دليل الزوال.
وإذا لم يضف إليه لم يتبدل حكم النص في نفسه بانتساخ الحكم
كالبيع يوجب الملك لا دوامه فإن فسخ المشتري ملكه ببيع أو
إعتاق لم يتدل به حكم البيع الأول فيما أوجب له من الملك,
وإنما يتبدل ما لم يجب به, وإنما يحتج بالآيات للأحكام لبيان
ثبوتها بها ابتداء لا لبقائها فينا اليوم.
وأما نسخ التلاوة دون الحكم فجائز لما ذكرنا أن التلاوة حكم
زائد غير العمل بموجب النص, وذلك لن الأحكام مرة تثبت بوحي
متلو كالقرآن, ومرة بوحي غير متلو مما أوحى الله إلى النبي صلى
الله عليه وسلم لا قرآنًا, فكان وجوب التلاوة للقرآن حكمًا
زائدًا مخصوصًا به للتشريف والإظهار من حيث أنه معجز تم البقاء
كما ثبت بحكم لا دليل على زواله, فإذا قامت الدلالة زالت وتبين
بها مدة البقاء محتملة للثبوت, ولضده. وكذلك التلاوة كانت
سببًا لجواز الصلاة فيبقى كذلك سببًا حتى يقوم دليل الزوال.
قال علماؤنا: إن صيام كفارة اليمين متتابعة لأن في قراءة عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه {فصيام ثلاثة أيام متتابعين}
فمتتابعات نسخت تلاوتها وبقي حكمها وهذا صحيح. لأن التلاوة متى
نسخت بقيت وحيًا غير متلو. فالحكم مما يجب به وقد مر أن نفس
التلاوة حكم مقصود, يجوز ثبوتها بنفسها, وانتساخها كذلك.
فإن قيل: وبم يعرف الانتساخ للتلاوة فيما ذكرت؟
قلنا: لأن عبد الله كان يرويها وهو عدل, فلا يبقى لتصديقه وجه
سوى أنها كانت ثابتة, غير أن الله تعالى لما نسخها دون حكمها,
رفع ذكرها عن القلوب إلا عن قلب عبد الله, ليبقى الحكم
بقراءته. ولا تثبت التلاوة بروايته.
وأما الزيادة على النص فقال الخصم: إنها بيان لآن النسخ تبديل
على ما مر, وفي الزيادة تقرير لما كان ثابتًا , وضم آخر إليه.
نحو آية الزنا أثبتت الجلد مئة والسنة أثبتت النفي معه حدًا,
وآية كفارة اليمين رقبة مطلقًا, والآية المقيدة أثبتت زيادة
الإيمان عليه.
(1/232)
ولأن بني إسرائيل أمروا بذبح بقرة
فاستوصفوا فوصفت لهم بما لم تكن ثابتة بمطلق البقرة وكان
بيانًا.
ولأن زيادة القيد على المطلق تجري مجرى التخصيص من العموم لأن
الرقبة متى قيدت بالإيمان صارت الكافرة مخصوصة من بين الجملة.
ولعلمائنا رحمهم الله أن الذي ذكرتم صورة, وأن الزيادة نسخ
معنى لأن الآية جعلت الجلد مئة حد الزنا, ومتى كان الجلد حدًا
مع النفي لم يكن المذكور في الكتاب حدًا بنفسه لأن حقوق الله
تعالى من عبادة أو عقوبة أو كفارة لا يتجزأ ثبوتها ولا أداؤها,
ومتى عدم شيء منها لم يكن للباقي حكم الجواز بحال, كالركعة من
الفجر, والركعتين من الظهر, إذا فصلت عما بقيت لم يكن ظهرًا
ولا بعضها. وكذلك صوم نصف يوم, وكذلك من صيام شهرًا عن كفارة
القتل ثم مرض, فأراد أن يتمه بالإطعام لم يجز, لأن المشروع
كفارة صوم شهرين, فلا يكون لأحد الشهرين قبل الإتمام بما بقي
حكم الأداء.
وكذلك قال علماؤنا: إن الشهادة في حد القذف تبطل بناء على
إقامة الجلد, ولو جلد إلا سوطًا لم تبطل الشهادة, وكانت في
أنها لا تتجزأ ثبوتًا بمنزلة العلل.
والعلة متى عدم بعض منها لم يكن للموجود منها حكم الوجود بحال.
وإذا لم يكن الباقي دون الزيادة حدًا كان نسخًا.
وكذلك كفارة اليمين متى جعلت رقبة مؤمنة, لم تبق المطلقة عن
هذا الوصف كفارة بوجه.
وكذلك ركن القراءة في الصلاة, متى كانت فاتحة الكتاب لم تبق
قراءة القرآن مطلقًا على ما قال الله تعالى ركنًا.
وكذلك حكم كل علة لا يتجزأ ثبوته فثبوت بعضه دون بعضه لا يكون,
إلا بعلة أخرى وإن كان حكمها بعض حكم تلك العلة.
وكذلك بقرة بني إسرائيل فقد ذكرنا فيما مضى أن الوصف لم يكن
بيانًا بل كان نسخًا بزيادة.
وأما التخصيص عندنا فيكون بيانًا إذا جاء مقرونًا بالنص, وأما
طارئًا فلا يكون بيانًا ولا تخصيصًا, على أن الزيادة ليست
بتخصيص.
فإن حكم العموم إذا خص منه بقى الحكم فيما لا يخص بالنص العام
بعينه لا بشيء آخر فلم يكن نسخًا, لما بقي من الحكم بقدر ما
بقى على ما كان. ومتى زيدت لم يبق للنص الأول حكم.
فإن نص الزنا جعل الجلد حدًا ولا يبقى حدًا بنفسه بعد ثبوت
النفي حدًا معه.
وآية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الإيمان كفارة, ولا تبقى
بعد قيد الإيمان
(1/233)
كفارة, لأن الكافرة تخرج من الجملة
والمؤمنة تجوز, لا لأنها رقبة على ما قال الله تعالى, بل للوصف
الزائد الذي ليس في الكتاب, وبدونه لا يكون ما يبقى كفارة ولا
بعضها, فالزيادة نسخ معنى, وبيان الصورة. ولأن البيان اسم لما
يحتمله اللفظ, ولما ينتظم عليه الاسم والرقبة لا تنتظم على
الأوصاف.
والجلد مئة لا يحتمل النفي فلا يكون إثبات هذه الزيادة بيانًا
بل رفعًا لذلك, الحكم عن القدر المذكور, وتعليقًا بالزائد
كالتحرير المرسل إذا علق بالشرط تبدل الإرسال ويصير شيئًا آخر
معنى, بل يسقط حكم العلة أصلًا إلى أن يوجد الوصف الآخر, فيصير
جملته علة فكأن الخصم اعتبره بحقوق العباد, فإن الزيادة من
جنسها لا توجب تغيير ما كان, لأنها تتجرأ ثبوتًا وأداء, فيصير
بين الزيادة والأصل مجاورة, وبالجوار لا يصير الجار شيئًا آخر.
وأما في أحكام الشرع وأسبابها فيصير ما كان مع الزيادة شيئًا
واحدًا, إما علة واحدة أو حكمًا واحدًا, وإذا كان يصير شيئًا
واحدًا والاسم تعلق بما زيد ذهب ما دونها, ولهذا قال أبو
حنيفة, وأبو يوسف: إن الطلاء إذا اشتد لم يحرق قليله, وإن حرم
كثيره بصفة الإسكار, لأن القليل غير مسكر وماله حكم السكر
بوجه, لأن السكر حكم والشراب بقدر معلوم علته, فلا يكون لبعضه
حكم العلة.
قال علماؤنا: فيمن وجد ماء لا يكفيه لوضوئه لم يلزمه استعماله
ويباح له التيمم, لأن الماء لما لم يجب استعمال لنفسه بل لحكم
وهو إباحة الصلاة, والإباحة حكم علق بماء يكفي الأعضاء كلها,
فلا يكون لبعضه حكم ذلك القدر بحال, وكان كالنجاسة إذا كثرت
منعت الصلاة, فلا يكون لما دون المقدار حكم تلك النجاسة بوجه.
والأربع من النساء علة لتحريم النكاح عليهن, ولا يكون للواحدة
من الأربع حظ في التحريم, وشطر البيع علة لإيجاب الملك, فلا
يكون لأحد شطريه أثر في الإيجاب.
ولهذا أبى علماؤنا رحمهم الله تعالى إثبات الفاتحة ركنًا في
الصلاة بخبر الواحد لأنه نسخ.
وزيادة النفي حدًا في الزنا بخبر الواحد.
وزيادة الطهارة شرطًا أصليًا في الطواف يخبر الواحد.
وزيادة صفة الإيمان على الرقبة للكفارة بخبر الواحد, أو
القياس.
وقد قالوا: أن شاهدين لو شهد أحدهما لرجل ببيع عبد له بألف,
والآخر بألف وخمسمائة بطلت الشهادة. وكانا غيرين, لأن الشراء
جعل سببًا للوجوب بالثمن والمثمن فكان شرطين لصيرورته بيعًا,
فيكون زيادة القدر في الثمن بمنزلة زيادة شرط والمعلق بشرطين
غير المعلق بشرط والله أعلم.
(1/234)
باب
القول في البيان ما يحتمل النسخ من
الأحكام وما لا يحتمل
وقد ذكرنا أن النسخ بيان لمدة بقاء المشروع مشروعًا, فلا بد أن
يكون المشروع مما يحتمل الثبوت مؤقتا بالنص حتى يقبل النسخ.
فإما ما لا يحتمل التوقيت بالنص فلا يقبل النسخ. كوجوب الإيمان
بالله تعالى, وبصفاته, وبكتبه وبرسله, لأن الله تعالى بصفاته
كان لم يزل ويكون لا يزال ومن صفاته أنه مطاع, وأنه صادق.
وإنما يجوز فيما لو قال الله شرعت هذا إلى وقت كذا لصح ولم يبق
بعده, وهو شرع الفروع التي لم تكن, ثم شرعت وما كانت تكون
ثابتة لولا الشرع, لأنها لم احتملت أن لم تكن حقًا لله تعالى
احتملت أن لا تبقى ثم هذه الأحكام في ثبوتها في حق الوقت أقسام
أربعة:
1 - إما أن تكون ثابتة أبدًا بدلالة موجبة اقترنت به, كشريعة
محمد صلى الله عليه وسلم بعده ثابتة أبدًا لأنه لا نسخ إلا
بخبر عن الله تعالى. وثبت بالنص أنه خاتم الأنبياء فعرف دوامه
بدلالة أن لا نبي بعده, وكانت كالمخلوق الذي نص على بقائه
أبدًا كالدار الآخرة وقد شرع الله تعالى علينا أن نعتقده كذلك.
2 - وإما أن تكون ثابتة أبدًا بالنص كقوله تعالى: {وجاعل الذين
اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}.
3 - أو تكون ثابتة إلى وقت معلوم بالنص كقول القائل: حرمت كذا
سنة, أو أحللت سنة, أو جعلت لك كذا أو كذا عملًا تعمله عشر
سنين, ومالها مثال من المنصوصات شرعًا.
4 - أو كان مطلقًا عن ذكر الوقت من حكم وسبب لحكم كالوقت لوجوب
الصلاة والصيام, والزنا لوجوب الحد, واليمين لوجوب الكفارة.
والنسخ لا يرد إلا على القسم الرابع:
أما الذي نص الله عليه وقته أبدًا, أو شهرًا, أو يومًا, فلأن
الله تعالى أخبر أنه مشروع في ذلك الوقت كله فلا يجوز أن يصير
غير مشروع إلا بغلط, فيما أخبر أو فيما قدر حتى رجع عنه
وكلاهما لا يجوز على الله تعالى.
(1/235)
وأما المطلق عن الوقت فلأن المشروع بالشرع
هي الأسباب. والأحكام وجبت بناء عليها لما ذكرنا في أول الكتاب
في باب بيان أسباب الشرائع, فكان حكم الجعل الذي هو شرع أن
تصير تلك الأسباب أسبابًا موجبة.
ولا يجوز أن يرد النسخ على أنها لم تكن أسبابًا, وإنما يرد على
البقاء سببًا. لأن البقاء كذلك سببًا لم يثبت بنص على البقاء
والنص الجاعل سببًا لا يوجب البقاء كالأمر الذي أوجب كون
العالم ما أوجب البقاء.
وكالإحياء الذي أوجب حياة الأرض بالنبات, وحياتنا بالقدرة على
الأفعال الاختيارية لم يوجب البقاء.
وكالبيع الذي يوجب الملك لا يوجب البقاء.
ولما لم يجب البقاء بما شرعها أسبابًا لم يكن رفع البقاء
تعرضًا لما وجب بالأول بل كان بياتًا لمدة البقاء التي كانت
محتملة للتوقت والتأبد كإماتة الأحياء.
وإفناء العالم يوم القيامة يكون بيانًا لمدة البقاء الثابتة
بحكم الله تعالى لما خلقها لعباده, فثبت أن النسخ بيان لمدة
البقاء التي كانت مجهولة في حقنا ولم تكن ثابتة بالنص.
ثم الحكم بعده يرتفع لزوال سببه كما لا يبقى صوم بمجيء الليل
لانتهاء الصوم بالليل.
وكذلك جعل الموت سببًا لحرمة ما يؤكل ثم حرمت الميتة بوجود
سببه ثم بقاء الموت سببًا لذلك ليس بالنص بل لعدم ما يزيله
كبقاء الملك في المبيع بعد الشراء.
وكبقاء الدين واجبًا على العبد بعد سبب الإيجاب عليه.
وهذا لأن الله تعالى ابتلانا بما شرع لصلاح لنا فيه إما عاجلًا
وإما آجلًا, أو لحكمة علم الله تعالى فيها.
ثم تلك الحكمة والصلاح مما يختلف باختلاف الأزمنة والقرون فحسن
التبديل فيما احتمل التبدل والتوقت بتبدل الحال كالطبيب يأمر
المريض بغذاء أو دواء ثم يأمره بغيره بعد حين إذا تبدل حاله
بلا غلط ولا مناقضة.
وعلى هذا يجب أن يقال: أن الله تعالى إذا أمر بأمر وجعل
المأمور به حسنًا منا فعله غير معلق بشرط أن لا يرد عليه نسخ
بعينه بحال, لأنه بعينه متى صار حسنًا بالنص لم يجز أن يكون
قبيحًا, وهو شيء واحد إلا بغلط من المخبر, وفي النسخ إثبات
قبح.
فإن قيل: إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه, وكان
ذبحًا واحدًا ما كان يبقى بعد الامتثال به فثبت أن النسخ فيه
جائز والدليل على أنه نسخ أن الذبح بعد الفداء حرم في الولد.
(1/236)
قلنا: الذبيح جعل محلًا للذبح لحكمة أن
يصير الذبح قربانًا لله تعالى, والأب متقربًا به بذبحه فصار
كذلك ثم حسن ذبحه بأن صار محلًا كما يحسن التضحية بالشاة
اليوم, ثم النسخ ورد على بقائه محلًا على صيرورته محلًا فكان
من قبيل ما ذكرنا, ولما انتسخ المحل لم يبق الذبح حسنًا في غير
محله لأنه لم يحسن ابتداء إلا بمحله فلا يبقى إلا معه.
فإن قيل: فما الحكمة في جعله محلًا للذبح سوى إقامة القربة
بالذبح فيصير النسخ قبل الإقامة عبثًا بالخلو عن الفائدة.
قلنا: إنه لا يجوز النسخ عندنا إلا بعد التمكن من الفعل فإن
اشتعل العبد بالإقامة, وعجز لمانع حتى نسخ أثبت على جهاده
وإسلامه للطاعة بقدر الوسع وإن أعرض مع التمكن حتى ذهبت مدة
بقائه صار آثمًا, وصار بعد النسخ وبعدما ثبت مدة بقائه كما لو
وقت الله تعالى في النص.
وقال: أوجبت هذا الفعل عليك, وجعلته حسنًا يومًا ثم إنه قبح
بعده, ولم يفعل العبد إما معذورًا أو غير معذور لم يكن الشرع
عبثًا فحكمة الشرع تنتهي إلى وجوب الجزاء, إما بالجنة أو
بالنار أو بالعفو والجزاء وجب, قصر أو لم يقصر.
وإن لم يفعل ما أمر. على أن الله تعالى في ذبح الولد ما في نسخ
الذبح بل نقله إلى الشاة, وجعله قائمًا مقام الولد فداء عنه
محلًا لإقامة ما وجب بإيجاب الذبح المضاف إلى الولد حتى سلم
الولد, وصار قربانًا لله تعالى بالشاة والأب متقربًا بذبحها.
وهذا كما جعل الأضحية محلًا لإقامة القربة بالذبح أيام النحر
ثم تبطل بمضيها, ولا تتأدى القربة إلا بالصدقة بعدها ولا يصير
الجعل عبثًا.
فكذلك الرمي في الحج لا يقضي بعد أيامها ولم يصر عبثًا.
وكذلك إقامة الجلد على الزاني فرض حسن, وإذا مرض مرضًا شديدًا
يخاف عليه التلف إن ضرب فيه قبح لتغير صفة المحل لأنه حسن
ابتداء لأنه يحتمله فإنه حد زاجر لا متلف, فإذا صار بحيث لا
يحتمله قبح.
فإن قيل: كيف يستقيم تصوير هذا في وقت الصوم فإنه متى جعلنا
السبب رمضان بعينه لم يتصور وجوده بعد مضيه, وإن جعلنا السبب
كل شهر هو رمضان كان الكل سببًا بالنص؟
قلنا: أن الله تعالى لم يذكر كل رمضان, فإنه لم يقل: كلما
شهدتم رمضان فصوموه, بل قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا
لا يتناول إلا واحدًا من سنته, كمن شهد منكم رجبًا فليتصدق
يدرهم من ماله, لم يملك إلا مرة واحدة برجب تلك السنة.
(1/237)
فلما تكرر وجوب صوم رمضان علم أنه تكرر لأن
الوقت المسمى برمضان جعل سببًا للوجوب باسمه.
كما جعل الفعل المسمى بأنه الزنا سببًا للحد ثم بقي كذلك, ولما
بقي الاسم سببًا عمل متى وجد, إلى أن تنتهي مدة بقائه بالنسخ,
ويصير بعد التبين بالنسخ, كأنه قال حين شرع: أنه سبب إلى وقت
كذا.
فإن قيل: لو كان البقاء مشروعًا بعدم دليل الزوال لما بقيت
الشرائع قطعًا كحياة المفقود.
قلنا: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الحكم بالبقاء
قطعًا, لتيقننا بأن لا نسخ بعد انقطاع الوحي, فأما زمان الوحي
فالبقاء غير يقين حتى كان تركه جائزًا بخبر الواحد, الذي لا
يقين فيه كأهل قباء تركوا قبلة بيت المقدس بخبر الواحد وصوبهم
الرسول صلى الله عليه وسلم, فصار على هذا سقوط الحكم بالنسخ
سقوطًا بانتهاء مدة الوجوب في الباطن وبالرفع في الظاهر, والله
أعلم.
(1/238)
باب
القول فيما يجوز النسخ به
قال علماؤنا: يجوز نسخ الكتاب بالكتاب, ونسخ السنة بالسنة,
ويجوز نسخ الكتاب بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم, ونسخ السنة بالكتاب.
وقال الشافعي: القسمان الأخيران لا يجوز.
قال الشافعي في كتاب (الرسالة): وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا ينسخها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلو أحدث
الله لنبيه في أمر سن فيه غير ما سن رسول الله لبين فيما أحدث
الله تعالى إليه, حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها
مما يخالفها.
وبالإجماع لا نسخ بالرأي لما ذكرنا أن النسخ لا يجوز إلا على
طريق بيان مدة بقاء الأول حسنًا عند الله تعالى, وهو غيب عنا
كمدة حياة الحي.
احتج الشافعي لقوله: الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب في كتاب
(الرسالة) بقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال
الذين لا يرجون لقاءنا اثبت بقران غير هذا أو بدله قل ما يكون
لي أن أبدله من تلقاء نفسي} والنسخ بالسنة تبديل من تلقاء
نفسه.
وقد يحتج له بقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما
نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فأخبر الله تعالى أن النبي صلى الله
عليه وسلم مبين لما نزل إليهم, والنسخ تبديل.
ولأنه قال: {ٍولعلهم يتفكرون} أي فيما تبين لهم, والتفكر إنما
يقع في معنى ما بين لهم, ولا يقع في مدة الأول بالنسخ لأنه
تاريخ, والتواريخ تحفظ لا أن يتأمل تفسيرها.
ولأن مدة البقاء لم تنزل إليهم لما ذكرنا أن الثبوت كما بالنص,
والتنزيل.
فأما البقاء فثابت بلا دليل ويحتج له أيضًا بقوله تعالى: {ما
ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} والسنة لا تكون
مثلًا للآية وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا روي لكم عني حديث
فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق فاقبلوه وما خالف فردوه)
, والناسخ مخالف لما في الكتاب فيجب رده بهذا الحديث.
فتبين بهذه الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق من
قبله بمخالفة الكتاب, وكان من
(1/239)
شريعته أن الله لا ينسخ الكتاب بلسانه كي
لا يظهر عليه ما يؤدي إلى مخالفة الكتاب سدًا لباب الطعن عليه.
وأما النسخ السنة بالكتاب: فيحتج له بقوله تعالى: {ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89] وإذا صار القرآن تبيانًا
لكل شيء, والسنة شيء فيكون الناسخ بيانًا لحكم تلك السنة أنه
كان غلطًا, كما لو نزل مقارنًا, وما يجوز ذلك إلا حين الوقوع
لأن تصديقنا إياه كان يفترض علينا من جهة الله تعالى بعد
التمكن فيصير أمره بعد القرار كأمر الله تعالى فلا يجوز الغلط
بعد القرار.
وما كان جائزًا أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطأ,
ولأن الله تعالى أمرنا في غير موضع من كتابه باتباع الرسول.
وفي نزول الكتاب بخلاف السنة أمر بمخالفته إما حقيقة وإما
ظاهرًا, فيكون فتحًا لباب الطعن على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسد الله تعالى هذا الباب إكرامًا لرسوله وصيانة لشريعته
فلم ينزل كتابًا إلا مصدقًا لما بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم, ولم ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متبعًا لما
في الكتاب مبينًا له أو زائدًا ما ليس فيه ليزداد علم ما في
الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ويزداد ثبوت صدق
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته بتصديق الكتاب إياه.
فتكون السنة مع الكتاب مما يتأيد كل واحد منهما بالآخر إذ كل
واحد منهما حجة من حجج الله تعالى, وحجج الله تعالى لا تتناقض
ولا تتراد بل تتأيد.
وهذا كما قيل: أن الشرع حجة والعقل حجة من حجج الله تعالى,
وإنهما لا يستدل بهما إلا على سبيل التعاون والتأييد على ما
بيناه في آخر الكتاب.
وأما علماؤنا رحمهم الله فمن مشايخنا من احتج عليهم بآية
الوصية "للوالدين والأقربين" حيث نسخت بقوله النبي صلى الله
عليه وسلم "لا وصية لوارث".
فإن قيل: إنما نسختها آية المواريث.
قلنا: آية المواريث أوجبت لهم مالًا بسبب آخر, والإيجاب بسبب
لا يرفع إيجابًا كان بسبب آخر قبله, ولأن آية المواريث توجب
إرثًا بعد وصية أو دين فيوجب تقريرها ولا يوجب رفعها.
فإن قيل: يحتمل أن الله تعالى أنزل آية أخرى ناسخه إلا أنها لم
تبلغنا لأنها نسخت تلاوتها وبقى حكمها؟
قلنا: لا يجوز الإحالة إلى دلائل محتملة الثبوت لم تظهر, لأنه
لو صح هذا الباب
(1/240)
لتطرق به الوقف عن العمل بالكتاب كله
لاحتمال كل نص أن يكون منسوخًا بآية أخرى لم تبلغنا أو محمولًا
على وجه آخر لم نعقله وعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم
ببيان خفي.
وذكر أبو بكر الجصاص: أن استدلالنا بهذه الآية لا يستقيم لأن
الله تعالى قال: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} رتب الإرث على
وصية نكرة فكانت غير الوصية المعهودة الواجبة للوالدين
والأقربين بهذه الوصية فتكون هذه النكرة هذه الوصايا المشروعة
اليوم، لا تلك الوصية الواجبة، ولو بقيت الوصية الواجبة لكان
الإرث مرتبًا على تلك الوصية أولًا ثم الوصية النافلة.
فلما رتب هذه على النافلة كان الترتيب بيانًا على أنه لا يزاد
عليه ترتيب آخر أولى منه لأن الزيادة كالنسخ على أصلنا، ودل
الإطلاق عن الترتيب على الوصية الواجبة؛ على نسخ القيد كما يدل
القيد على نسخ الإطلاق على أصولنا.
قال القاضي رضي الله عنه: وإني أقول أن الاستدلال بهذه الآية
لا يستقيم من وجه آخر، لأن الله تعالى بين أحكامًا ابتداء
للشرع، وقد بين أحكامًا على سبيل الإقامة مقام أحكام كانت
فتحولت إلى الثانية لقيامها مقامها، وانتسخت الأولى بها على
سبيل الإحالة كما شرع الكعبة قبلة فانتسخ بيت المقدس به على
جواز أن يكون للصلاة قبلتان، لأن الله تعالى شرع الكعبة قبلة
على سبيل حوالة القبلة عن ذلك البيت إلى هذا البيت.
وإنه في المعاملات كحوالة الدين توجب براءة الأصيل لأن الذمة
الثانية اشتغلت به على سبيل الحوالة إليه.
والحوالة توجب البراءة كالعين تحول من مكان إلى مكان فانتسخ
الشغل في حق الذمة الأولى مع إمكان الجمع بينهما كما في
الكفالة.
وكما لو أدان المحتال عليه دينًا مبتدًأ فكان إيجاب الإرث
للأقارب والوالدين محتملًا ابتداء حتى أوجب لهم، ومحتملًا نقل
ما جعل لهم بالوصية إلى الإرث، ولما احتمل هذا كان قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا
وصية لوارث" بيانًا أن هذا الإعطاء على سبيل التحويل دون
الابتداء.
ولأن الله تعالى كان فوض ابتداء الإيجاب إلى العباد ثم تولى
بيانه بنفسه فبطل ما فوض إليهم فجرت آية الإرث على هذا مجرى
تفسير ما أثبت لهم من الحق بالوصية كالرجل يأمر رجلًا بإعتاق
عبد له بعينه ثم يعتقه بنفسه فإنه تضمن بطلان تلك الوكالة
لحصول ما أمر بتحصيله بتوليه، وإليه وأشار النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله: "أعطى كل ذي حق حقه" أي الحق الثابت بالوصية لهم
صار معطى بالإرث.
(1/241)
ومنهم من احتج أن الله تعالى شرع حد الزنا
الإمساك بالبيوت، ونسخته سنه الرجم إلا أنه غير صحيح لأن عمر
رضي الله عنه أخبر أن آية الرجم كان مما يتلا في القرآن، ولأن
الله تعالى شرع الإمساك حدًا إلى غاية وهو أن يجعل الله لهن
سبيلًا، وهذه الغاية مجملة لأن السبيل غير معلوم معناه فبينه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته فقال: "خذوا عني خذوا عني
فقد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام
والثيب بالثيب رجم مئة ورجم بالحجارة".
ومنهم من احتج بقوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزوجكم إلى
الكفار} الآية وهذا الحكم منسوخ اليوم ولم يظهر نسخه بالكتاب.
إلا أنه يقال ولم يظهر لها سنة ناسخة أيضًا، فإن جاز لكم الحمل
على سنة لم تظهر جاز لنا الحمل على كتاب لم يظهر وإن لم يجز
الحمل على دليل لم يظهر حمل على استقرار حكم الاستغنام، فإنه
في الابتداء لم يكن على ما عليه اليوم وكان لأموال الكفرة ضرب
حرمة ابتداء، ولدمائهم، ورد النفقة عليهم احترامًا لما لهم، ثم
استبيحت دمائهم وأموالهم من بعد فانتسخ ذلك فثبت أنه لا يوجد
في كتاب الله تعالى ما نسخ بالسنة، ولا في السنة ما نسخ
بالكتاب إلا من طريق الزيادة على النص بالسنة، أو السنة
بالكتاب كما زاد الشافعي على آية الجلد النفي بالسنة.
وزاد تعيين الفاتحة في باب الصلاة على مطلق القراءة التي نص
عليها كتاب الله تعالى.
وقد ثبت عندنا أن الزيادة في حكم النسخ.
وعنده الزيادة في حكم البيان.
فاضطررنا بهذا السبب إلى القول بجواز ذلك فتوى فقد صارت
المسألة واقعة.
ثم الدليل على الجواز ابتداء قول الله تعالى: {وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} فإذا أنزل الله تعالى نسخ ما
في القرآن بحكم آخر بوحي غير متلو في القرآن صار الحكم الثاني
مما نزل إلى الناس، ويلزم النبي صلى الله عليه وسلم بيانه
للناس بحكم هذه الآية فإنه ألزمه بيان ما نزل إلى الناس من
الأحكام وصار قوله: {وأنزلنا إليك الذكر} في معنى إنا أرسلنا
إلى الناس، وجعلناك رسولًا بما أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم من الأحكام، ولو كان المراد ما قاله الخصم لكان
من حق الكلام لتبين للناس ما أنزل إليك.
وقوله: {ولعلهم يتفكرون} يعني: يتفكرون فيما تبين لهم من الحكم
الثاني فيعرفون الحكمة في التبديل فإنا لا نبدل في الأكثر إلا
بخير.
(1/242)
ولأن من تفكر في أحكام الشرع ناسخها
ومنسوخها علم يقينًا أن شارعها علام الغيوب لأنه يجدها جامعة
لمصالح الدين والدنيا لا يصل إليها العباد باجتهادهم بحال.
وقد دلت عليه هذه الآية التي تلاها الشافعي رحمه الله فإنه قال
في آخرها {إن أتبع إلا يوحى إلى} فإذا أوحى الله تعالى إليه
نسخ آية لزمه اتباعه عملًا به وإن لم ينزل قرآنًا وإنما حرم
عليه التبديل من تلقائه.
وعندنا النسخ ممتنع بسنة من تلقاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم بل بما أوحي إليه مما ليس بكتاب حتى كان اللفظ لرسوله
الله صلى الله عليه وسلم, والحكم مضاف إلى الله تعالى لا إلى
ما أنزل إليه فإنه باطن وإنا لا نضيف إلى ما هو باطن, ولذلك
نسميه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن تكون السنة كلها
اسمًا لما كان برأيه.
ولأن كتاب الله تعالى مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
كانا حجتين فكذلك آيات الكتاب كلها حجج الله تعالى ثم جاز
التناسخ بها, وكان بيانًا لمدة البقاء لا تناقضًا واختلافًا.
فكذلك بين الكتاب والسنة.
وجائز أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم بيان مدة بقاء ما ثبت
بالكتاب بلفظه كما جاز أن يبين مدة حي حيي بإحياء الله تعالى,
ويتولى الله بيان مدة بقاء ما سنه بلسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم بكتابه.
وقولهم بأن هذا يوهم الاختلاف فغلط فإنه غير جائز ذلك على كتاب
الله تعالى بعضه بعضًا بل يوجب قرب المنزلة حيث جوز له نسخ ما
ثبت بالكتاب بلسانه من غير إضافة إلى الله تعالى.
والذي يوضحه أنه جائز نسخ التلاوة دون الحكم بغير كتاب الله
تعالى فإنا قد ذكرنا أن التلاوة لا تنسخ إلا بمحو الحفظ عن
القلوب إما رفعًا, وإما بانقراض القوم عن غير خلف علمًا, كما
انتسخت تلاوة صحف إبراهيم.
وما معنا دليل سوى أنها اندرست ولم يبق آثارها فلما جاز من هذا
الطريق جاز بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحي الله إليه
فإنهما سواء في أن النسخ كان بغير كتاب.
وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فنسي آية فلما
فزع قال: (ألم يكن فيكم أبي)؟ فقال أبي: نعم, ولكن ظننت أنها
نسخت, ولم ينكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما ظن
نسخها من غير كتاب سمع بترك النبي صلى الله عليه وسلم القراءة.
ولما جاز ذلك في التلاوة فكذلك في الحكم لأن التلاوة وجوبها
حكم مخصوص بالكتاب كسائر الأحكام.
فإن قيل: أخبر الله تعالى أن رسوله مبين, ولو جاز النسخ على
لسانه لكان مبينًا للحكم الأخير رافعًا للحكم الأول.
(1/243)
قلنا: إنه بين الأول بتأويله وتبليغه.
وبين الثاني بتبليغه وتأويله.
وإنما رفع بقاء الأول ظاهرًا، وإنه بيان أيضًا لمدة البقاء
حقيقة على ما مر وهذا الذي يتصور رفعًا ليس برفع لما ثبت بالنص
على ما مر أن البقاء حكم ثبت بلا دليل، فثبت أنه مبين محض لما
نزل إلينا.
وإنما رفع ظاهرًا ما لم يثبت بالتنزيل.
والذي يوضحه أنا وإن سلمنا أن البقاء من حكم الكتاب فالبقاء
يكون أبدًا، ويكون مؤقتًا، فيكون بيان الوقت بيانًا لأحد
وصفيه، فأما قوله: {ما ننسخ من أيه أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها} [البقرة: 106] فليس فيه أن الله تعالى يأتي بخير، أو
بالمثل بوحي متلو أو غير متلو.
وعندنا لا يجوز إلا بوحي على ما مر.
وقد يكون ما يبينه بوحي غير متلو خيرًا من الأول وأجمع لمصالح
الناس، أو أيسر عليهم فعلًا وأكثر أجرًا، وإن لم يكن خيرًا من
حيث التلاوة والإعجاز، على أن الخلاف ثابت في نسخ الحكم مع
بقاء التلاوة غير منسوخة فيكون ما ثبت بالنسنة مثل الأول أو
خيرًا إذ من حيث الحكم لا يفترق المتلو وغير المتلو.
فإن قيل: غير المتلو يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: يضاف إلى رسول الله ظاهرًا وإلى الله حقيقة، كما قال
الله تعالى: {أفرءيتم ما تمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن
الخالقون}.
وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا روي لكم عني حديث
فاعرضوه على كتاب الله" فحكم أثبته رسول الله صلى الله عليه
وسلم عند التعارض والتباس التاريخ والأولى في مثل ذلك ترتيب
الخبر على الكتاب، وتقديم الكتاب.
فأما إذا ظهر تأخر الحديث فلا كذلك على أن هذا الحديث في خبر
الواحد وظاهر النص يدل عليه لأنه قال: "إذا روي لكم عني حديث"،
وبنفس الرواية لا يقبل الخبر بخلاف الكتاب بل يرد به ما لم
يثبت تواتره ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
سمعتموني، ليكون بيانًا أنه محجور عن مثله ويدل عليه أن الله
تعالى أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر
ونهى، من غير قيد العرض على كتاب الله تعالى.
فثبت أن العرض فيما يروى عنه من طريق الآحاد بعد موته.
وقد روى ابن عمر عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يمت حتى أباح الله تعالى له من النساء ما يشاء
فيكون نسخًا لما في الكتاب، والناسخ ليس فيه.
(1/244)
وأما قوله: {ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل
شيء} فحجة لنا على جواز نسخ السنة بالكتاب لأن النبي صلى الله
عليه وسلم إذا سن سنة ولم ترد عليه كان تقريرًا من الله تعالى
عليه كما لو ثبت بالكتاب، فجاز ظهور بيان مدة البقاء بالكتاب
لأن بقاءه من جملة الأشياء، ولم يكن بيانًا لغلط رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما في حق الكتاب بالكتاب.
ولأن نسخ السنة بالسنة جائز ولا يجوز إلا بوحي غير متلو لما
ذكرنا أن انتهاء مدة الحسن عند الله لا يعرفه إلا الله لأن
انتهاءها بأن تصير حكمة الشرع في غيرها، وتلك الحكمة مما نقف
عليها، ولا نقف، ومما يتعجل، ومما يكون في الآخرة.
ولما جاز بوحي غير متلو فالمتلو أولى ولأن الصلاة إلى بيت
المقدس ما كان بالكتاب وإنما كان بفعل النبي صلى الله عليه
وسلم ثم نسخ بالكتاب.
ولا يقال إنه كان شريعة من قبلنا لأنه لم يتبين أنه كان شرعًا
بكتاب.
ولأن المذهب عنده أن شريعة من قبلنا لا تلزمنا إلا بتقرير في
شرعنا فيصير ابتداء لا بقاء للأول، وما ثبت التقرير في شريعتنا
إلا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولئن كانت القبلة الأولى
ثابتة بالكتاب فأهل قباء تركوها بخبر المخبر أنها حولت إلى
الكعبة من غير سماع كتاب الله ولم ينكر عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا
على أن يرد عليهم من جاءه من نسائهم ونسخها قوله تعالى: {فإن
علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}.
فإن قيل: يحتمل أن تكون لهذه السنن دلائل من الكتاب لكنا لا
نقف عليها.
قلنا: قد ذكرنا أنه لا يجوز التأويل بما يجوز مما لا نقف عليه
لأنه يؤدي إلى تعطيل الشرائع، وهل يجوز أن يقال أن لكل ملة
ودين باطل حجة لكنا لا نقف عليها ومعجزة لكنها باطنة.
وأما نسخ الكتاب بالكتاب: فكقول الله تعالى: {فأذوهما} في باب
الزنا، ثم قال: {فأمسكوهن في البيوت}، ثم قال: {فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة}، وقال: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا
ألفا}، ثم قال: {الئن خفف الله عنكم} إلى قوله: {وإن يكن منكم
ألف يغلبوا ألفين بإذن الله}.
وأما نسخ السنة بالسنة: فنحو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا،
وكنت نهيتكم عن الشرب في الدباء والنقير والحنتم والمزفت
فاشربوا ولا تسكروا، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروها
فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم". فثبت أن نسخ الكتاب
بالكتاب جائز وكذلك بالسنة، وكذلك
(1/245)
نسخ السنة بالسنة وبالكتاب، وإنما يجوز نسخ
الكتاب بالسنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت
مسموعة أو مروية من طريق التواتر والآحاد لأن بقاء الثابت في
زمنه كان على احتمال الزوال كل ساعة، لأنه زمان نسخ فلما احتمل
الثابت البقاء والزوال صلح العمل بخبر الواحد كما في موت
المفقود.
فأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إلا بسنة
متواترة أو مشهورة بمنزلتها لأنه لا نسخ على سبيل الابتداء بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائعه بعده باقية أبدًا بالنص
والإجماع، وإنما يزول هذا اليقين بثبوت ناسخ بزمن النبي صلى
الله عليه وسلم، ولا يثبت إلا بالإسناد إلى زمن الوحي كما لم
يثبت الأول إلا به، ولما لم يثبت ناسخًا إلا بالإسناد لم يثبت
إلا بالإسناد مثل الأول فإنه لا معارضة إلا بعد المساواة ولا
نسخ إلا بما لو جهل التاريخ كان معارضًا ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم كما يلزمه تبليغ الناسخ يلزمه تبليغ مثل الأول في
الظهور لأن لا يبقى أحد على المنسوخ فيدل خفاء الناسخ على
بطلانه، والله أعلم.
(1/246)
|