تقويم الأدلة في أصول الفقه

باب

القول في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عن قصد على أقسام أربعة: واجبة، ومستحبة، ومباح، وزلة.
فأما ما كان يقع من الأفعال من غير قصد كما يكون من النائم والمخطئ ونحوهما فلا عبرة بها، لأنها غير داخلة تحت الخطاب على ما نذكر.
ثم الزلة لا تخلو عن القران ببيان أنها زلة إما من الفاعل نفسه كقول موسى عليه السلام حين قتل القبطي بوكزته {هذا من عمل الشيطان}، أو من الله تعالى كما قال في آدم عليه السلام {وعصى أدم ربه فغوى}، وحتى بين الله تعالى ما لولا عصمته لزلوا كما قال: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلًا} ونعني بالقصد في الزلة قصد الفعل لا قصد العصيان، وإذا لم تخل الزلة عن البيان لم يشكل على أحد أنه مما لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فيها فتبقى العبرة للأنواع الثلاثة.
وقد اختلف أهل العلم فيما يلزمنا منها؟
فقال بعضهم: يلزمنا اتباعه فيها ما لم يقم دليل المنع.
وقال بعضهم: نقف فيها حتى يقوم الدليل.
وقال أبو الحسن الكرخي: نعتقد الإباحة حتى يقوم دليل بيان سائر الأوصاف. وإذا قام الدليل على وصف زائد كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا به حتى يقوم دليل المشاركة.
وقال أبو بكر الرازي: نعتقد الإباحة ما لم يقم دليل البيان على صفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يلزمنا على ذلك الوصف حتى يقوم دليل اختصاصه به، وهو الصحيح عندنا.
فأما الأولون فإنهم احتجوا بالآيات الموجبة اتباع الرسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته والاقتداء به، وبقوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} فالمراد به السمت كما قال الله تعالى: {وما أمر فرعون برشيد}.
وأما الفريق الثاني فإنه زعم أن الاقتداء والاتباع والموافقة لا تحصل بنفس الفعل، ألا ترى أنك إذا حصلت مثله على سبيل المعارضة كنت منازعًا كسحرة فرعون مع موسى عليه السلام وإذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلًا. وفعلته أنت فرضًا كنت مخالفًا، وإنما الاقتداء في فعلك مثل فعله على صفته طاعة له، والصفة للفعل كانت محتملة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل

(1/247)


المباح والمستحب والواجب فيجب الوقف فيه حتى يتبين.
وأما أبو الحسن فإنه يقول: الإباحة لا بد منها في الأنواع كلها، وأما الزيادة فموقوفة على البيان، وبعد البيان لا يلزمنا إلا بدليل لأنه قد تبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيته في الأحكام، فهذا المطلق من فعله احتمل أن يكون من ضرب الخصوص واحتمل غيره فلا يعمل به إلا بدليل.
وأما أبو بكر فإنه يقول: إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أصل لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، ولقوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، وبقوله: {فاتبعوا} ولقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ولأن تمام الشرف في هذا، والخصوص كان بدليل عارض لمفارقة حال بيننا وبينه صار الصلاح لنا في المفارقة لمفارقة الحال، إلا أنا كنا لا نقف قبل البيان إلا في الإباحة لأن الإباحة ثابتة مع الأوصاف كلها أيها ثبت في وصف بعينه زائد عليها إشكال ولا موافقة إلا بعد الإيقاع بذلك الوصف الذي أوقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أزال الإشكال المانع لزمنا الاتباع.
وهذا كما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن وكل آخر في أموال أنه يصير وكيلًا بالحفظ لأنه احتمل أنواع تصرف فلا يثبت شيء بالاحتمال، لكن الحفظ ثابت مع كل تصرف فثبت قدر ما لا شك فيه، فكذلك أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس بزلة لا بد أن تكون مباحة.
وأما فوق الإباحة ففيه احتمال فنعتقد الإباحة لا مقصورة عليها قطعًا، ولكن على احتمال غيرها معنى ما يأتيك البيان، والله أعلم.

(1/248)


باب

القول في شرع الرسول صلى الله عليه وسلم من تلقائه بالرأي
قال بعض العلماء: لم يكن له إلا بالوحي.
وقال بعضهم: لم يكن له ذلك إلا بالوحي والإلهام.
وقال بعضهم: كان له ذلك بالوحي والرأي جميعًا.
والقصد عندنا أن نقول: لم يكن له الشرع بالرأي ابتداء حتى ينقطع طمعه عن الوحي فيما ابتلي به، ثم كان له العمل برأيه بعد ذلك.
فأما الأول فاحتج بقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى} وبقوله: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} ولأنه لا يجوز أن يخالف فيما يشرع من الأحكام، ولو كان يشرع برأيه لكان لا يؤمن من الغلط عليه فكان يجوز خلافه، كما كان يجوز ذلك في رأي الحروب والمعاملات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النزول دون الماء يوم بدر فقال له الحباب بن المنذر: أرأي رأيته أم وحي؟ فقال: "بل رأي" فقال: إني أرى أن تنزل على الماء، ففعل.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب أن يعطي الكفار شطر ثمار المدينة فقالت الأنصار: أرأي رأيته أم وحي؟ فقال: "بل رأي" فقالت: لا نعطيهم إلا السيف ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
ولما دخل المدينة نهاهم عن تأبير النخل ففسدت فأمرهم بالتأبير فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور دينكم"
فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومًا عن الغلط برأيه.
والدين في الأصل لله تعالى فما يجوز شرعه برأي لا يؤمننا عن الغلط إلا عن ضرورة، ولا ضرورة لصاحب الوحي وكان هذا كتحري القبلة بالرأي فإنه جائز لمن نأى عن الكعبة للضرورة، ولا يجوز لمن قرب لقدرته على العيان الذي لا شك فيه، ولأنا نحن اليوم لا ننصب شرعًا مبتدأ بالرأي وما يجوز لنا ذلك وإنما نعدي شرعًا ثابتًا في محل إلى محل آخر.

(1/249)


والخلاف في نصب ابتداء الحكم الشرعي بخلاف أمور الدنيا من الحروب والمعاملات والزراعات فإنها لنا، إما دفعًا عنا كالحروب، وإما طلبًا لما فيه بقاؤنا كاكتساب الأموال.
ولما كانت لنا كانت مفوضة إلى آرائنا إلا بما رأى الشرع الحجر ببيان شافٍ تتميمًا لصلاحنا، وأما الأحكام فلله تعالى فلم يكن لنا إثباتها ونفيها.
وأما الفريق الثاني فقرب من الفريق الأول لأن الإلهام وحي خفي، ومن له الوحي الجلي يكون له الوحي الخفي.
وحد الإلهام أن يؤخذ على قلبه حتى لا يرى إلا شيئًا واحدًا فيعرف صاحبه بقرار القلب عليه أنه من الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" وقال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {إذ يحكمان في الحرث} إلى قوله: {ففهمناها سليمان وكلًا أتينا حكمًا وعلمًا} غير أن الإلهام أمر خفي ما يبنى الأمر عليه، فإنا كلفنا البناء على الظاهر الذي نقف عليه وسيأتيك بيان الإلهام بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما القول الثالث: فالحجة له قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} من غير تفصيل بين الأمة والنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى لرسوله: {وشاورهم في الأمر} ولو لم يكن له فصل الأمر بالرأي لما أمره بالمشورة ولا ينال بها إلا بالرأي، وظاهر هذا الأمر لا يخص بابًا.
فإن قيل: يحتمل أنه أمر به تطييبًا لنفوسهم.
قلنا: ظاهر الأمر بخلافه، والصحابة ما كانوا يعلمون إلا الظاهر وكانوا يعتقدون ذلك فكان لا يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم عليه ولو بين لهم أنهم يشاورون، ولا يحل العمل برأيهم ما طابت به نفوسهم بل خبثت فإنه من باب الاستهزاء.
وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر أبا بكر وعمر وعمل بقول أبي بكر ثم نزل العتاب.
وروي أن خولة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظهار زوجها منها؟ فقال: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: أشتكي إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى آية الظهار.
وسأله عمر عن القبلة للصائم؟ فقال: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان

(1/250)


يضرك؟ فقال عمر: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ففيم إذًا".
وقال للخثعمية وقد سألته عن الحج عن أبيها؟ "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزيك؟ فقالت: بلى. قال: فدين الله أحق" فهذا فتوى بمحض القياس، فلا يجوز أن يحمل على نص لم يظهر لما مر أنه لو جاز ذلك لتعطلت الحجج، ولن نكلف إلى بالأخذ بما ظهر وما ظهر لنا من السبب إلا القياس الذي ذكره.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة في أمر جماعة الصلاة فلم يتفقوا على شيء حتى رأى عبد الله بن زيد الرؤيا وقصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وأمر بذلك فصارت شريعة. ولا يجوز أن يحمل على وحي لأنه لم يظهر ذلك.
ولأن عمر رضي الله عنه جاء وأخبر أنه رأى مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الله أكبر" وذلك أثبت فاستدل برؤيا عمر على الثبوت فلا يتوهم أن يكون عنده نص فيكتمه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان منهيًا عن كتمان الوحي وأمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.
وكذلك سليمان أفتى في غنم القوم بالرأي وداود معه وأصاب سليمان، وقوله: {ففهمناها سليمان} دليل مؤكد على أنه عمل بالرأي.
ولكن الصواب كله مضاف إلى الله تعالى وكذلك أفتى داود عليه السلام عن سؤال الخصمين في باب النعاج بالرأي فإنه أجاب كما سئل ولم ينتظر وحيًا.
وقال الله تعالى لرسوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} فتبين أنه كان أذن بالرأي.
وكذلك الإجماع قد انعقد على عمله بالرأي في باب الحروب.
وكذلك سائر الأبواب لأنه كان يوحى إليه في الأبواب كلها فعلم أن الوحي لا يسد باب الرأي بل يقويه.
وباب الحرب أصل الدين لأنا لم نؤمر به إلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
ولأن كون الرأي حجة لنا في باب الدين والأحكام من أشرف المراتب إذ باب الوحي متناهي وباب الرأي غير متناهي.
وفي قصر الأمر على الوحي ضرب حجر، وفي العمل بالرأي ضرب إطلاق فلا يجوز أن يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف الإطلاق وعموم الحجة، لكن فيه ضرب نقصان من حيث خوف الخطأ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مصونًا عنه فكان لا يقع رأيه الذي يقر عليه خطأ، لأن المشاهدة تحققت له حكمًا بالوحي، وكان هو من الله تعالى مثل صحابي يتكلم

(1/251)


بحضرته فلا يرد عليه فيكون تقريرًا على أنه صواب.
وأما قوله: {وما ينطق عن الهوى} فنزل في شأن القرآن، ولأن الهوى عبارة عن هوى النفس الباطل لا عن الرأي الصواب عن عقل، ونظر في أصل الشرع.
وأما قوله: الأحكام لله تعالى، فكذلك، ولا يحل لأحد وضعها اختراعًا ومشيئة، وإنما ذلك إلى الله تعالى يحكم ما يريد، وإنما يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يقر على الخطأ فيصير التقرير بمنزلة الوحي.
وأما القول الأخير الذي هو الصواب فبناء على أن الرأي كان حجة له، ولكن على الترتيب كما في حقنا نحن يلزمنا أن ننظر في كتاب الله ثم بسنة الرسول ثم بالرأي، إلا أنا إذا علمنا أن الحادثة غير منصوص عليها اشتغلنا بالرأي ولم نقف ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف متربصًا للوحي لأنه صاحبه، وكان تربصه للنزول بمنزلة تربصنا للتأمل في المنزل.
وأما قوله: بأنه كان صاحب الوحي، فلا يحل له العمل بالرأي الذي لا يوجب العلم. فالجواب: أنا لا نبيح ذلك إلا إذا عدم الوحي، ووجب العمل، ولأنه كان يعلم أن رأيه الذي يقر عليه يوجب العلم يقينًا كالوحي بخلاف غيره، والله أعلم.

(1/252)


باب

القول في شريعة من قبلنا
اختلف أهل العلم في شريعة من قبلنا؟
فقال قائلون: الشريعة إذا ثبتت لنبي عليه السلام بقيت له كذلك ما لم تنسخ.
وقال بعضهم: تنتهي شريعته إذ بعث نبي آخر إلا فيما لا يقبل النسخ والتوقيت.
وقال بعضهم: لا تنتهي وتبقى حقًا، ولكن شريعة للنبي الذي بعث بعده.
والقول القصد أن ما حكى الله من شرائع سائر الأنبياء لنبينا ولم يعقب بنسخ بقيت حقًا شريعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما لم يحكها، وقد احتج محمد بن الحسن رحمه الله بقسمة الشرب بقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}، وبقوله: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.
فأما الأولون فقد ذهبوا إلى أن التوقيت لا يثبت إلا بالنص.
وأما الحجة للقول الثاني فإن الله تعالى كان يبعث الرسول إلى قوم دون قوم في زمنه وكانت الرسالة وشريعته تختص بالمكان فجاز مثله في الزمان، فلا تعم شريعته الأزمنة إلا بزيادة دلالة كما لا تعم الأمكنة إلا بزيادة دلالة، ولأنه قد كان في زمان واحد نبيان في مكانين ولم يكن يلزم شريعة كل واحد منهما صاحبه فكذلك في الزمانين قال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}، وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} فجعلهم بعد مبعث نبي آخر بمنزلة أمته فثبت أن شريعتهم انتهت به.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صحيفة في يد عمر فقال له: "ما هذه الصحيفة؟ " فقال: التوراة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلى اتباعي" فبين أنه كان يصير بمنزلة واحد من أمته وأن شريعته قد انتهت به.
ولأن النبي الثاني يدعو الناس إلى شريعته لا محالة فلم يجز أن تبقى الشريعة الأولى معه، وهو كان يدعوهم إلى نفسه لأنه لا يجوز أن يدعى واحد إلى نبيين مختلفين كل واحد منهم يدعي الاختصاص بالاتباع إياه لما فيه من التعارض ألا ترى أنه لما تصور

(1/253)


نبيان في زمان واحد في مكانين كانت شريعة كل واحد منهما متناهية بمكانه أو كان يكون أحدهما تبعًا للآخر كلوط تبع إبراهيم عليهما السلام على ما قال الله تعالى: {فآمن له لوط} وكموسى وهارون صلوات الله عليهما فكذلك يجب أن يكون في زمانين.
أما القول الثالث: فالحجة له قوله تعالى: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا} فثبت بالنص أن هذه الشريعة ملة إبراهيم، وقد امتنع بثبوتها ملة له للحال لما ذكرنا في القول الثاني، فثبت أنها ملته على معنى أنها كانت له فبقيت حقًا كذلك، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالمال الموروث مضاف إلى الوارث للحال، وهو عين ما كان للميت لا ملك آخر لكن الإضافة إلى المالك تنتهي بالموت إلى من خلفه فكذلك الشريعة في حق الأنبياء ودل عليه قوله: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} فقوله مصدق دليل على بقاء تلك الشريعة حقًا وقوله: {لتؤمنن به} دليل على صيرورة الشريعة بالآخر منهم.
وقال الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} والهدى اسم للإيمان والشرائع جميعًا لأن الاهتداء إنما يقع بها كلها.
وقال الله تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب} والاتقاء المطلق بالشرائع ما يكون مع الإيمان.
ولأنه سمى الكتاب هدى وفيه الإيمان والشرائع وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} والحكم بالشرائع ما يكون وسأل عبد الله بن عباس عن سجدة "ص" فقال: سجدها داود، وهو ممن أمر نبيكم بأن يقتدي به صلوات الله عليه وقال: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} والدين اسم لما يدان الله تعالى به من الإيمان والشرائع، وأول ما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم بالتوراة.
فإن قيل: كيف يستقيم وفيها ناسخ ومنسوخ؟
قلنا: كما استقام في شريعتنا القول ببقائها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفيها ناسخ ومنسوخ.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} وفيهم من لم يكن نبيًا ولا شريعة له ثم أمرنا بالاقتداء بهداهم، فعلم أن المراد به الإيمان الذي لا يختلف حكمه.
قلنا: وليس في الآية أنهم لم يكونوا أنبياء، وقد احتمل ذلك فلم يترك عموم الهدى بكلام محتمل على أنه لم يدخل تحت الآية إلا نبي أو ولي والوالي لا يكون وليًا إلا باتباع شريعة نبي فيجب الاقتداء بهداه، وشريعته التي ثبتت بها ولايته قال الله تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} وقال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} وقال {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة

(1/254)


فيها حكم الله} ولو انتهت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن للحال فيها حكم الله، ولما صاروا كافرين بالتولي عنه إلا أنا نقول أن الصحيح منها هذا القول إلا أن البقاء لا يثبت بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحكايته أنها ثابتة لأحد طرق:
أما لأن الله تعالى أنبأنا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وخانوا في النقل فصاروا مردودي الشهادة.
أو لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحكى لنا منزه عن تهمة الكذب من كل وجه، ولا يخلو نقلهم، وإن كان عن تواتر للحال عن ضرب شبهة حتى يصير متواترًا على حده من الأصل فيجب ترك ما فيه شبهة بما لا شبهة فيه.
أو لأن عداوة الدين كانت ظاهرة فاتهموا بالحيل واللبس في إظهار شرائعهم فلم يصر كلامهم حجة علينا إلا ما نقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنها ثابتة بوحي متلو أو غير متلو فثبت أن الشرائع تبقى حقًا في أنفسها لعدم التوقيت من الله تعالى بمبعث نبي آخر.
ولكن يجعل للثاني من حيث الإضافة ولا يثبت إلا بنقل الثاني.
وفيه كمال شرف محمد عليه السلام حيث لم يصدق غيره عليه ولزم الماضين من الرسل اتباعه لو كانوا أحياء، كما قال لعمر، بأن صارت الشرائع كلها له، ثم ختمت عليه حتى لزم الباقين إلى يوم القيامة اتباعه فصار كالقلب يطيعه الرأس وتتبعه الرجل.
وأما قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} ففيه دليل على جواز النسخ في الجملة ولا دليل فيه على انتساخ الكل فإن تبدل الطريقة يثبت بتغيير بعض الأحكام ألا ترى أنهم أجمعوا كلهم على طريقة واحدة في الإيمان بالله تعالى والطاعة إياه على أوامره، والله أعلم.

(1/255)


باب

القول في تقليد الصحابي والتابعي
قال أبو سعيد البردعي: تقليد الصحابي واجب يترك بقوله القياس، وعليه أدركنا مشايخنا.
وقال أبو الحسن الكرخي: لا يجوز تقليده إلا فيما لا يدرك بالقياس.
وذكر محمد بن الحسن: أن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن لا يجوز، واحتج بأثر عائشة والقياس يجوزه.
وقال بعضهم: لا يقلد الصحابي، وهو قول الشافعي.
وقال بعض مشايخنا: يقلد التابعي الذي انتصب مفتيًا في زمن الصحابة.
وليس عن أصحابنا المتقدمين مذهب ثابت، والمروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "إذا اجتمعت الصحابة سلمنا لهم، وإذا جاء التابعون زاحمناهم". لأنه كان منهم فلا يثبت لهم بدونه إجماع.
وقد ذكر محمد بن الحسن: أن الحامل لا تطلق ثلاثًا للسنة، وروي ذلك عن جابر وابن مسعود، وخالفه أبو حنيفة وأبو يوسف وما لقولهما قول في الصحابة.
وقال أبو حنيفة: إعلام قدر رأس المال شرط لجواز السلم، ورواه عن ابن عمر في الأصل. وخالفه أبو يوسف ومحمد بالرأي.
وقال أبو يوسف ومحمد: الأجير المشترك ضامن لما ضاع عنده، ورويا ذلك عن علي وخالفهما أبو حنيفة بالرأي.
وأما أبو سعيد: فإنه يحتج له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي" وقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فقد صار قول الصحابي حجة كرامة له لصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن احتمل الغلط كما صار إجماع هذه الأمة حجة كرامة لهم بالنص وإن احتمل الغلط على ما مر لولا النص والكرامة.
وأما الذين جعلوا قول التابعي حجة فذهبوا إلى أنهم لما قرروه على الفتوى بينهم

(1/256)


صار كواحد منهم بتقريرهم.
وأما أبو الحسن فإنه يقول: قول الصحابي ليس بحجة إذ لو كان قوله حجة لدعى الناس إلى قوله كالنبي صلى الله عليه وسلم، وكالأمة لما كان إجماعهم حجة دعوا سائر الأمم إلى ما أجمعوا عليه.
وروي عن عمر أنه كتب إلى شريح: "أن اقض بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم برأيك". ولم يقل بقولي.
ولا معنى لقولهم: إن معناه برأيك في أقوالنا، لأنه حمل على زيادة قيد لم يذكر وهذا عندنا نسخ وليس بتأويل. ولأن الرأي واحب استعماله في آيات الكتاب، وأخبار الرسول عليه السلام وقد تقدم ذكرهما فصار كأنه قال: برأيك فيهما.
ولأنه ظهر من شريح الحكم بخلاف رأي علي رضي الله عنه بين يديه.
وعن مسروق أنه أفتى فيمن نذر أن يذبح ولده بذبح شاة، وخالف فيه ابن عباس، ورجع ابن عباس رضي الله عنه إلى قوله.
ولأن رأي الصحابة كان حجة بالنظر في أصول الشرع الثابتة بالنص لا بالوحي وكان يحتمل الغلط، ولهذا كان يخالف بعضهم بعضًا ويرجع الواحد منهم عن فتواه إلى فتوى غيره وكان يقول المجتهد منهم: إن أخطأت فمن الشيطان، ولما احتمل الخطأ لم يصر حجة يجب تقليدها لا محالة.
ولما ساغ لهم ذلك بالنظر في النصوص وهم وغيرهم إذ بلغهم النصوص وعقلوا معانيها سواء إذا استوت آراؤهم.
ألا ترى أنهم إذا اختلفوا في تأويل النص ساوى تأويل غير الصحابي الصحابي لأنه يصار إليه بالوقوف على معنى اللغة وهم وغيرهم فيه سواء.
فكذلك إذا اختلفوا في التعليل وذلك يعرف بالوقوف على المعاني التي عرفت بالشرع أعلامًا على الأحكام، ولا معنى لترجيحهم على غيرهم لسبقهم في الفتوى واختصاصهم بزيادة توفيق من الله تعالى لأن مثله ثابت بين التابعي ومن بعده، وللصالحين من بعدهم، وهذا لأنه أمر باطن ولم نتعبد بالبناء على البواطن وإنما تعبدنا بما نقف عليه مما يظهر لنا من علم الرجل بأصول الشرع وحسن قياسه على النظائر بعبارة لسانه، عما أحاط علمه به.
ولا يجوز أن يقال إنه كرامة تثبت نصًا على ما رووا لأن النص عم الصحابة، وفيهم من لا يجوز تقليدهم بالإجماع كالأعراب فثبت أنه أراد به أهل البصر منهم، وأهل البصر عملوا بالرأي بعد الكتاب والسنة فيجب الاقتداء بهم في ذلك.

(1/257)


وكذلك قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي" أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في أنهما عملا بالرأي بعد الكتاب والسنة فثبت أن معنى الاقتداء الاهتداء بهم، والاهتداء يكون على معنى طلب الصواب بالرأي من أقوالهم دون التقليد، ألا ترى أنه شبههم بالنجوم وإنما يهتدى بالنجم بعد الاستدلال بالرأي بناء عليه، فكذلك الاهتداء بهم إنما يكون بالرأي بناء على أقوالهم لا بنفس القول.
وعن أصحاب عبد الله بن مسعود أن ابن عباس كان يدعونا إلى الطعام وكان يجري المسائل وربما كان يخطئ وما كان يمنعنا من الرد عليه إلا أنا كنا على طعامه ولو وجب تقليده لما كان المانع طعامه إلا ما لا يعرف بالقياس، لأنه لا يظن بهم القول جزافًا، فإذا بطل الرأي لم يبق إلا السماع إلا أنه يشكل عليه قول التابعي بخلاف القياس.
وكذلك قول من بعده إذا كان فقيهًا عدلًا وليس هذا كالراوي إذا عمل بخلاف ما روى فإنه يحمل على أنه علم بانتساخ ما روى، وإن لم يرو حملًا لأمره على الصلاح لأنه لو لم يحمل عليه لكنا فسقناه وأبطلنا روايته كما أبطلنا بالوجه الأول فلم نصر إلى التفسيق بلا فائدة.
فأما ههنا فنحتاج إلى رد القياس متى حمل قوله عن سماع فلم يجز رد الدليل بموهوم حال.
ويمكن أن يقال: قد ثبت بالنص أنهم كالنجوم يهتدى بهم فثبت في الجملة أن قول من هو من أهل الاجتهاد منهم لا يخرج عن الصواب بل يكون بحيث يهتدى به وذلك بقياس أو نص.
فإذا بطل أحدهما تعين الآخر بخلاف من بعده لأن الصحابي أصل علمه من صاحب الوحي فلا تجعل فتواه منقطعًا عن السماع إلا إذا ظهر دليل غيره، وهو الرأي ولا يحكم بالانقطاع بالاحتمال فأما غير الصحابي فعلمه منقطع عن السماع إلا بواسطة فلا يحكم بالاتصال مع عدم الواسطة بالاحتمال، أو نقول: معناه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجب الوقوف بحكم التعارض كما في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب، بل بأي قول عمل به وقع الاهتداء.

[فصل]
ولهذا لم تحمل أقوال الصحابة إذا اختلفت بعضها على بعض بخلاف آيات الكتاب لأن الصحابي كان يفتي عن الرأي، وكان يجوز للآخر خلافه برأيه مع علمه بالأول، وكان قول كل واحد منهما حجة يعمل بها فلم يطلب جهة التوفيق بينهما لثبوتهما كالمقاييس اليوم إذا تعارضت عمل بواحد منها ولم يجب الوقف.

(1/258)


فأما الآيتان فلا تردان إلا والحجة أحدهما وهي الأخيرة فإذا لم يعرف التاريخ وجب حمل إحديهما على الأخرى ليمكن العمل بإحديهما إذا لو لم يحمل لتعارضتا وتساقطتا، ولكن يجب في أقاويل الصحابة ترجيح واحد منهما بالرأي إن أمكنه ثم العمل به ولا يجوز العدل بالرأي إلى قول ليس في أقوالهم لأن اختلافهم فيها إجماع على بطلان ما عداها لأن الحق ما كان يعدو إجماعهم، والله أعلم.

(1/259)