تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في القياس
قال جمهور العلماء وجميع الصحابة: إن القياس بالرأي على الأصول
التي ثبتت أحكامها بالنصوص لتعدية أحكامها إلى الفروع حجة يدان
الله تعالى بها، وهي من حجج الشرع لا لنصب الحكم ابتداء.
وقال داود ومن تابعه من أصحاب الظواهر: إن هذا القياس ليس بحجة
لهذا الحكم.
وسلم إبراهيم النظام أنه خلاف إجماع السلف وطعن، وروى بعضهم
المذهب عن قتادة وابن سيرين ومسروق واحتجوا بكتاب الله تعالى:
{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} فأخبر الله
تعالى أن الكتاب كاف فمن لم يكتف به إلا بالقياس فقد خالف.
وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} والقياس
الذي نستنبطه من آرائنا ليس مما أنزل الله تعالى بل ذلك مما
ولده رأينا إنما المنزل كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه
وسلم، فإنه ما كان ينطق عن الهوى وما كان إلا عن وحي.
وقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لتبين للناس ما نزل
إليهم} أي من الوحي ولم يقل لتبين للناس ما يقع في رأيك.
وقال {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.
وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} فأخبر أن الكل
بيانه في كتاب الله تعالى إما في نصه أو إشارته أو اقتضائه أو
دلالته فإن لم يوجد ذلك فالإبقاء على الأصل الثابت من وجود أو
عدم فإن ذلك في كتاب الله تعالى.
قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم}
الآية، فالله تعالى أمره بالاحتجاج بعدم نزول التحريم في كتاب
الله لبقاء الإباحة لأنها أصل لنا
(1/260)
بقول الله تعالى: {هو الذي خلف لكم ما في
الأرض جميعًا} والإضافة بلام التمليك أبلغ جهتي الإباحة، فتصير
على هذا كل الأحكام من رطب ويابس ثابتة بما في الكتاب فيبقى
الرأي مستعملًا لتعرف الحكمة التي فيها علم المصلحة عاقبة.
وهي مما لا يوقف عليها بالرأي بالإجماع لأن المصلحة في أداء ما
شرع الله تعالى من الأحكام النجاة في الآخرة لا الفوز في
الدنيا، وبالآراء لا تدرك مصالح الآخرة وإنما تدرك مصالح
العاجلة التي وقف عليها بالحواس والتجارب فتعرف نظائرها
بالقياس.
وهذا كما قلتم إن تعليل النص بعلة لا تتعدى باطل لأنه لا يفيد
إلا ما أفاده النص من الحكم فتبقى الفائدة في بيان حكم المصلحة
فلم يثبت بالرأي.
وقال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} {ولا تقولوا على
الله إلا الحق} والقياس لا يوجب العلم.
وأما خبر الواحد فأصله كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه
يوجب العلم يقينًا، ويكون حجة وإنما دخل الشك والاحتمال في
الانتقال إلينا فلا يبطل بالاحتمال، وكان بمنزلة النص المؤول
بالرأي من كتاب الله تعالى على بعض ما يقتضيه لسان العرب، وأنه
حجة ولا يوجب العلم لأنه في أصله موجب.
والقياس في نفسه محتمل فلا يصير حجة مع الاحتمال، ولا يشكل
علينا تعرف جهة الكعبة وبيان قدر مهر المثل وقيمة المستهلك
بالرأي لأن معرفة جهات البلدان من مصالح الدنيا، ومما يوقف
عليها بالحواس، وكذلك قيمة الشيء تعرف بمعرفة النظائر، وطريق
العلم بها حس البصر، وهذا كما أن الله تعالى أخبرنا بإهلاك من
مضى بكفرهم وأمرنا بالاعتبار بهم، وذلك يكون بالرأي لأنه قد
عرف هلاك مثله بمثل ذنبه بحس العين أو السماع، فكان الاحتراز
عن مثل سببه من مصالح الدنيا وحل محل الاحتراز عن تناول ما
يتلفه مما وقف على ما تلف مثله بتناوله، ومحل الاحتراز عن سيف
يقع عليه لعلمه بقطعه بتجربة وعلمه أن القطع سبب تلفه فلم تكن
معرفة الجهة من أحكام الشرع إنما الحكم وجوب التوجه إلى الكعبة
بعد تبين الجهة.
فالله تعالى أكرم الآدمي بالرأي المميز ليستدرك به مصالحه
العاجلة ليبقى إلى حينه بتدبيره وجعل طريق الاستدراك به الوقوف
على نظير ما علمه سببًا لخير أو شر بحواسه، فكان الرأي حجة له
في مثلها.
فأما الشريعة فما شرعت إلا لأمور الآخرة، وإن تلك المصالح بنيت
على خلاف مصالح العاجلة وكل الدين مبني على خلاف العادة
الثابتة لتحري مصلحة عاجلة، فلم يكن الرأي فيها حجة.
ولأنا متى لم نصل إلى تلك المصالح بحواسنا، وهي طريق العلم لنا
في الأصل لم
(1/261)
نقف على النظائر بالرأي ولا يلزمنا وجوب
التأمل بالرأي في معاني النصوص لأن معانيها لغة من أمور
الدنيا، ومما يوقف عليها بحاسة السماع من أهلها ولم تكن من
الشريعة في شيء، فإنها كانت قبل الشرع وباقية في الكفار بعد
الشرع وإنما أنكرنا استنباط المعنى الذي تعلق به حكم الشرع
فإنه من أمور الآخرة فثبوت الحكم على ما يثبت من حظر أو إباحة
حق الله تعالى.
وما هو من معاني اللسان في شيء فنحمل الآيات الموجبة للتفكير
والاعتبار على هذا القبيل.
والنصوص التي نهت عن العمل بالرأي وألزمت اتباع الوحي على
أحكام الشرع.
وعلى هذا تحمل مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فإن الله
تعالى أمره بها في تدبير الحرب وشاورهم فيها والوقوف على جهة
الغلبة من مصالح الدنيا ما هو بحكم شرعي، وإنما حكم الشرع في
كونهم محقين.
وما شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه في تعرف كونهم محقين
بل الوحي إنما خص باب الحرب بالمشورة دون أحكام الشرع، وكذلك
الخصوص ظهر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه روى
الشورى في باب الحرب ولم يرو في شيء من الأحكام، علم بانسداد
باب الشورى في معرفة الأحكام.
واحتجوا أيضًا بالأخبار منها: ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى كثر فيهم
أولاد السبايا، فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "تعمل هذه الأمة برهة من الدهر بكتاب الله تعالى، وبرهة
بالسنة، وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك فضلوا وأضلوا".
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم
أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا
وأضلوا".
وعن ابن مسعود: "إياكم وأرأيت وأرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم
في أرأيت وأرأيت، ولا تقيسوا شيئًا بشيء فتزلوا قدم بعد
ثبوتها".
وقال عليه السلام: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من
النار" والمقايسة تفسير
(1/262)
بالرأي لأنه استنباط معنى لا يدل عليه
اللسان فيعلق به حكم الله تعالى.
فأما من الوجه الذي يدل عليه اللسان فحسن نحو اختلاف عبد الله
بن عباس وزيد رضي الله عنهما في زوج وأبوين؟ فقال عبد الله:
للأم ثلث المال كاملًا، لأن الله تعالى لم يقل: ثلث ما بقي.
وقال زيد: لها ثلث ما بقي لأن الله جعل للأم ثلث ما يرث
الأبوان، وإرث الأبوين في هذه المسألة بعد الزوج.
ووجه آخر أن الله تعالى جعل أحكام الشرع متباينة كمقادير
العبادات والعقوبات والكفارات ولم يشرعها نظائر ليبين لنا أن
الشرع باب لا مدخل للرأي فيه.
ووجه آخر أن أصل الشرع على ما هو من أحكام الله تعالى في
الإيجاب والإسقاط والإحلال والتحريم خالص حق الله وحق الله ما
ينبغي إلا بحجة فاصلة موجبة للعلم قطعًا لأن الله تعالى لا
يشتبه عليه حق والرأي لا يوصلنا إليه.
ولأن أكثر النصوص التي عللت بعلل مختلفة وحجج الله تعالى لا
تثبت مختلفة فإنها نتيجة الاشتباه، والله تعالى علي غني عن ذلك
ولا يلزم أخبار الرسول فإنها في الأصل غير مختلفة، وإنما
اختلفت الرواية، والحجة هو الخبر لا الرواية.
وهذا كما يشتبه علينا من كتاب الله تعالى ناسخه من منسوخه، وقد
يتعرف بالرأي ويعمل به ولا يكون قياسًا.
قالوا: وكان في حجرنا عن القياس أمران بهمل قوام الدين ونجاة
المؤمنين، فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص
والتبحر في معاني اللسان.
وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت.
وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع
بظهور القالب.
فعند ظهورها يتبين عنه الذي هو بدعة وفي حياة قالبه سقوط الهوى
لأن القالب لا يحيى إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص
ومعانيها غائرة جمة لم تنزف بالرأي.
وإن فنيت العمار فيها فلا نفضل الرأي للهوى فيتم أمر الدين
بموت البدع ويستقيم العمل بسقوط الهوى وفيها الفوز والنجاة
للناس، فهذا أعدل طريق لنفاة القياس وسنذكر أقسامهم من بعد إن
شاء الله تعالى.
وأما عامة العلماء فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {فاعتبروا يا
أولي الأبصار} أمر بالاعتبار، وأنه عبارة عن رد الشيء إلى
نظيره.
والعبرة أصل يرد إليه النظائر والقياس مثله، فإنه حذو الشيء
بنظيره، يقال: قس النعل بالنعل أي أحذه به.
(1/263)
وقال الله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض
فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وبصر القلب برأيه،
والعرب تقول وكانت على الجاهلية: السعيد من وعظ بغيره، ولا
إمكان إلا بعد استعمال الرأي والاعتبار بما كان، والانزجار عن
مثل سبب من هلك قبله به.
والله تعالى يقول: {ولكم في القصاص حياة} وفيه هلاك حسًا،
وإنما الحياة في الاعتبار له بمن قتل، فقتل لينزجر عن القتل
ابتداء فلا يقتل جزاء، وهذا ضرب من الرأي واستعمال الرأي لا بد
من القول به.
وكل إنسان إذا تأمل في حاله لم يجد لنفسه قوامًا إلا بهذا
الضرب من الاعتبار فما سخر الآدمي غيره مما في الأرض إلا
بالرأي.
وما تفاوتوا في درجاتهم العاجلة إلا بتفاوتهم في الآراء ومتى
ثبت هذا ثبت مثله فيما يختلف فيه فإن الله تعالى كما بين إهلاك
قوم بكفرهم وأمر الباقين بالاعتبار بهم لينزجروا عن الكفر فلا
يهلكوا فكان اعتبارًا واجب العمل به.
فكذلك إذا بين اسمًا أو صفة فعلق به حكمًا من أحكامه وجب
الاعتبار به في أصل آخر ووجب إثبات الحكم فيه متى وجد الوصف
فيه، فإنه لا فرق بين حكم هو تحليل أو تحريم تعلق بوصف هو كيل
وبين حكم هلاك تعلق بوصف هو كفر.
فإن قيل: نحن نستجيز ذلك إذا ثبت التعلق بالنص كما ثبت تعلق
الهلاك بالكفر نصًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهرة
ليست بنجسة لأنها من الطوافين والطوافات عليكم" ثم الحكم يثبت
في الفأرة اعتبارًا بالهرة.
وكذلك روى أن ماعزًا زنا وهو محصن فرجم، ثبت بالزنا في حال
الإحصان في غير ذلك الحكم لأنا عرفنا العلة سماعًا وإنما
أنكرنا إثبات العلة بالرأي نحو قولكم: إنما صار الفضل من
الحنطة بالحنطة ربا لعلة الكيل، والجنس على الخصوص من بين سائر
الأوصاف التي يشتمل عليها اسم الحنطة بالحنطة بالنص فإنكم ما
أثبتم الوصفين على الخصوص علة إلا بالرأي.
قلنا: إنا ما خصصنا إلا من الطريق الذي وجب تخصيص الزنا لإيجاب
الرجم من ماعز وإحصانه، فماعز كان موجودًا قبل الزنا وكذلك
إحصانه، ولا رجم فلما زنا ورجم عقيبه، والزنا معصية، والحد
عقوبة وقد ظهر أثر المعاصي في إيجاب العقوبات شرعًا وجب
الإحالة إليه وجعل قيام الإحصان شرطًا لأنه عبارة عن نعم حميدة
من الله تعالى على عبده، ولا أثر لنعم الله تعالى في إيجاب
العقوبة فلم تجعل علة بل أثرها في تغليظ
(1/264)
حكم المعصية، فكانت علة لغلظ حكم الزنا معه
فصار موجبًا رجمًا بعدما كان موجبًا جلدًا دونه.
وقد عرف هذا الأثر في التغليظ بالنص بأن توعد الله تعالى نساء
رسول الله -صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن- بالعذاب ضعفين بنعمة
القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكذا نحن خصصنا الكيل والجنس من بين سائر الأوصاف بإحالة
الحرمة إليهما من هذا الطريق.
وبيان ذلك: أن قوله: "الحنطة بالحنطة" عبارة عن بيعها بجنسها
وقوله: "مثلًا بمثل"، تفسير وبيان للشرط الذي يجوز معه،
"والفضل ربا" أي حرام، والفضل: مال مستحق بالبيع كسائر الأموال
فيلزمنا أن نعرف حرمته من الوجه الذي يحرم أصل المال بسبب
البيع لأن كل واحد مال مكتسب بالبيع، وإنما ظهر تحريم بيع
المال المكسوب به إذا ملكه بغير مال، كشراء مال بغير عوض أو
بعوض ليس بمال كالشراء بالحر فالحرمة للخلو عن المال بسبب أن
التملك كان بلفظ البيع فإنه لو ملك بلفظ الهبة يحل نحو أن يقول
ملكتك هذا العبد هبة بلا مال.
وكذلك الفضل في غير هذا البيع حلال كشراء عبد بعبدين وثوب
بثوبين ولؤلؤة بلؤلؤتين وقفيز بقفيزين حال اختلاف الجنس.
وكيف لا يحل والربح إنما يتحقق بالفضل والبيع، وهو تجارة وهو
سبب الاسترباح ولهذا الغرض فتحت الأسواق فوجب إثبات هذه الحرمة
بالبيع من الوجه الذي ظهر أثر البيع فيه بالنص والإجماع، وذلك
في إثبات حرمة الفضل للخلو عن العوض كما أحيل الحد في قصة ماعز
إلى الزنا.
وأيضًا لئلا يكون هذا الحكم مناقضًا لحكم فضول سائر البيوع
فإنها تحرم في البيوع كلها إذا أخذت بغير عوض، لأن السبب واحد
وهو البيع، والمال واحد وهو فضل ذات لأحدهما على الآخر وإنما
اختلف اسم المال ولم نر لاختلاف اسم المال وحده في سائر
الأموال أثرًا في تغيير الحكم، ولما وجب إثبات الحرمة بهذا
الوصف ولم يثبت الخلو عن العوض مع وجود المقابلة مالًا بمال في
أصل البيع إلا بتقييد بشرط المماثلة نحو أن يقول: بعتك هذا
المكيال من الحنطة بمثله على أن تسلم إلي مكيالين.
فإنه متى قال هذا صار الزائد على المكيال بلا عوض.
أو يقول: بعتك هذا العبد بهذا العبد على أن تسلم إلي العبد مع
عبد آخر أو ثوب فإنه يصير ربا لأنه لم يبق للزائد عوض لما قصر
المقابلة بالنص على العبد بالعبد، وشرط المماثلة لم يوجب من
المتعاقدين لتجب القسمة كذلك فيخلو الفضل عن العوض فعلم أنه
موجود من الشرع كما قال: "الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل" أي: حلًا
له مقصور على شرط
(1/265)
المماثلة، وأنه واجب شرعًا للحل والواجب
شرعًا فوق الواجب شرطًا منا.
وهذا كما يرد المبيع بالعيب لأن الشرع أوجب له بشرط السلامة عن
العيوب لئلا يغبن فوجب كذلك كما لو شرط بنفسه فاشترى عبدًا على
أنه كاتب أو تركي فإذا هو ليس كذلك.
وهذه معان وأحكام أثبتناها بتعرف معاني اللغة فقول الرجل: بعتك
هذا بهذين إثبات المقابلة بين الجميع لغة.
وإذا قال هذا بمثله على أن تسلم زيادة قصر للمقابلة على البعض
دون البعض وإن حرم بغير مقابلة عرف بالنص والإجماع لا بالرأي
وإن المماثلة مشروطة للجواز ثابتة نصًا لا بالرأي، فبقي بعد
هذا أن شرط المماثلة لأي علة وجبت للجواز في الحنطة بالحنطة
فقلنا: وجبت لأن الحنطة بالحنطة مثلان متساويان في المالية
قطعًا ويقينًا بذاتيهما لأنهما متى تساويا مالية قطعًا ويقينًا
بالذاتين لم تثبت المقابلة بينهما مالًا إلا بثبوت المقابلة
ذاتًا لأن المالية معه وقيام المقابلة بين الذاتين يعرف عيانًا
لا بالرأي، وهو أن يكون كل واحد بقدر الآخر كالمقابلة بين
الحنطتين، وكل شيء له طول وعرض فمتى لم تثبت المقابلة في قدر
الذات يثبت الزائد بلا مقابلة ذاتًا فيبقى بلا مقابلة مالًا
لما كانت ماليته مع ذاته، فثبت أن الفضل بلا عوض يعرف عيانًا
لا بالرأي بعد ثبوت المماثلة بين الذاتين في المالية قطعًا
فنحتاج الآن إلى معرفة ثبوت المماثلة بين الحنطتين في المالية
قطعًا.
فنقول: أما أصل المماثلة بين الحنطتين بصفة الكيل والجنس
بالإجماع، والنص، واستعمال التجار، وذلك لأن التجار لا يعدونها
أمثالًا بحباتها ولا حفناتها بل بمكاييلها، وكذلك الشرع فإنه
علق الجواز بالمماثلة ولا يجوز بالمماثلة حبة بحبة، ولا حفنة
بحفنة بل يجب كيلًا بكيل وكذلك في ضمان الإتلاف لا يجب حفنة
بحفنة ويجب كيلًا بكيل، وعليه نص النبي صلى الله عليه وسلم:
فقال: "الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل كيل بكيل" فصار الكيل والجنس
علة المماثلة بالنص ووضع التجار والشرع.
وكذالك بالمعقول من معنى اللغة لأن المماثلة لغة: عبارة عن
المساواة، ومثل الشيء: نظيره مساويًا له، والمالية تكون بالعين
ومعناه.
والمعاني تختلف بالأجناس فباتفاق الجنس تساوى معنى المالية
وبالكيل تساوى قدر الذات فإنه ما وضع عرفًا ولا شرعًا إلا
لتعريف قدر الحنطة فثبت أنا لم نجعل الكيل والجنس علة لحكمها
وهو تماثل الحنطة بالرأي ثم جعلنا ثبوت المماثلة علة لوجوب شرط
أن يقابله مثله شرعًا كما لو شرطا شرطًا في حال سقوط عبرة
مالية الصفة بأن لا تبقى لها قيمة لأنه ما دام يبقى للوصف
قيمة.
(1/266)
ولا بد من أدنى تفاوت وصف بين الحنطتين لم
يجب معرفة مماثلة المال بالمال بين العوضين بمقابلة الذات
بالذات لأن قدر المالية ليس معه ليعرف به.
وإنما يصير قدر المالية مع قدر الذات إذا لم يبق للوصف
بانفراده قيمة لأنه لا يتوهم بعد اتفاق الجنس تفاوت قدر
المالية بغير قدر الذات إلا بتفاوت الوصف.
وإنما أثبتنا هذا الشرط وهو سقوط قيمة مالية الوصف بانفراده في
مسألتنا بالنص، وتعرف حكم النص لا بالرأي.
أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديئها سواء" ولا
يتساويان حتى يصير قيام الجودة عدمًا حكمًا.
وأما حكم النص فلأن الشرع حرم الاعتياض في بيع القفيز الجيد
بالرديء على الجودة فإنه لو شرط زيادة بإزاء جودة حنطته لم
يحل، وفضل وصف المال بأن يحل الاعتياض عليه مع الأصل كأصل
المال ألا ترى أنه كيف يحل إذا اختلف الجنس وفي غير مال الربا
ثم أصل المال من حيث أنه مال لا أثر له في تحريم الاعتياض ما
دام متقومًا، وإنما يؤثر فيه إذا سقطت قيمته، إما شرعًا كالخمر
وإما عرفًا كحبة حنطة أو قطرة ماء ونحوهما مما لا يتحول ويهان
عادة.
فكذلك الوصف مع الأصل لا يحرم الاعتياض عليه إلا إذا لم يبق له
قيمة فلما حرم الاعتياض حال المقابلة بجنسه.
وانفراد الوصف فصلًا في أحدهما علم أنه حرم لأن الشرع أسقط
قيمته في هذه الحالة فيكون معلومًا هذا بتعرف أثر علمنا للمال
في تحريم الاعتياض عليه بالنص والإجماع لا بالرأي.
ولا يلزم بيع المحرم صيدًا في يده فإنه لا يحل وهو مقتول لأنه
حرم بحق أمن ثبت للصيد عن استيلاء الناس بطريق لم يكن ثابتًا
حال كونه صيدًا غير محرز لما يحرم بيع الرهن بحق ثابت للمرتهن،
وبيع المدبر بحق عتق ثابت للمدبر عندنا وما لفضل الوصف حق أمن
عن الاستحقاق بيعًا أو الإتلاف تناولًا.
فثبت أن الحرمة محالة إلى سقوط القيمة في هذه الحالة شرعًا
كالخمر وكما سقطت قيمة الجودة من الفلوس الرائجة باصطلاح الناس
على تقدير ماليتها بأعيانها ما دامت رائجة.
فثبت أنا لا نخص وصفًا من بين الجملة بكونه علة إلا بأن عرف
أثره في ذلك الحكم بعينه أو مثله ولا يعرف الأثر إلا بالنظر
فيما سمعنا من النصوص أو عاينا من الأوضاع.
(1/267)
وكان النظر بالرأي لنعرف الحكم بحده من
الحجج الشرعية، بمنزلة النظر في الأسامي اللغوية لنعرف المسمى
بوصفه، ما بينهما فرق إلا من حيث أن الأسماء مما تعرف مسمياتها
من جهة واضعيها.
والحجج مما تعرف أحكامها من جهة شارعيها.
فالحجج نصوص عربية.
والأحكام كذلك لها أسماء عربية.
وكان النظر لتعرف الوصف المؤثر في الحكم من النص ليمكن
استعماله في غير المنصوص عليه بمنزلة تعرف جهة استعارة الأسماء
لغير ما وضعه واضع اللغة ليمكننا الاستعمال في غير ذلك، لأنا
لا نعرف المؤثر إلا بالعيان أو السماع من صاحب الشريعة على ما
مر، كما لا نعرف طريق الاستعارة إلا من العرب فكان البابان
واحدًا إلا أن المصير في أحد البابين إلى سماع العرب وفي الآخر
إلى سماع صاحب الشريعة فيما نعرفه سماعًا.
وفيما نعرفه عيانًا فهو كاستعمال الرأي في قدر قيم المتلفات
بنظائرها التي عرفت نظائر بالعيان وجهة الكعبة التي عرفت
أعلامها بالعيان.
وتبين أن قولنا: إن الكيل والجنس علة لصيرورة الحنطة أمثالًا
متساوية إثبات بوصفين ظهر أثرهما في المساواة والتماثل شرعًا
وحسًا، فوق أثر الزنا في إيجاب الرجم.
وإن قولنا: إن سقوط قيمة مالية وصف الحنطة بانفراده شرط ليبقى
قدر المالية في الحنطة مع قدر ذاتها معنى معقول حسًا لأنه ما
بقي متقومًا ازداد الجيد الأقل في قدر الذات على الأزيد بذاته
بزيادة الجودة، كقولنا: إن الإحصان سبب لتغليظ حكم المعصية،
قول عرف ذلك شرعًا بل فوقه لأن المعقول عيانًا وحسًا فوق
المعقول سماعًا.
وإنما اشتبه على مخالفينا لقلة تأملهم في الأحكام ليعرفوها
بأوصافها وترتيبها بعضها على إثر بعض بعلل مترتبة، حتى وقع
عندهم أن الذي ثبت بناء على غيره، ثابت بالعلة التي ثبت الأول
فلم يجدوه مؤثرًا بالشرع فيه فأنكروا، وظنوا أنا جعلناه حجة
باقتراح الرأي الذي جاء الشرع بذمه وجعله مدرج الضلال. ثم
نسبنا بأن فهم أنا ننصب عللًا وحججًا باقتراح الرأي إلى الغفلة
عن النصوص لاستغنائنا بالرأي عنها.
ولم يعلم أنا لم نجعل الرأي حجة إلا عند عدم النص والعدم لا
يثبت من حيث يصير العبد معذورًا إلا بعد الجد في الطلب من
أهلها والمحافظة عليها بعد الطلب.
ثم لم نطلق له القياس إلا بأوصاف مؤثرة ثبت تأثيرها شرعًا، ولم
يعرف ذلك إلا بتتبع معاني النصوص، وطرق تعليلات صاحب الشرع بعد
المحافظة على النصوص إلا أنا
(1/268)
بالقياس أحيينا الحجج حتى عمت بالتعليل
فأمكن العمل بها في غير ما تناوله النص لغة كما أحيا هو.
ونحن معه حقائق النصوص بالوقوف على طريق المجاز والاستعارات
فأمكننا العمل بها في غير ما وضعها واضع اللغة في الأصل ولم
يكن ذلك اقتراحًا على اللسان ولا وضعًا من عند نفسه وكذلك هذا.
بل نفاة القياس لما حجروا عنه ألزموا العمل بلا دليل فيما عدا
النصوص ولا دليل حكمه الجهل.
والعمل بالجهل هو طريق البدعة وعمل بالهوى على ما نذكره في
بابه وأنه حرام في أصله إلا عند الضرورة كالميتة حرام إلا عند
الضرورة، والضرورات لا تقع على ما بنى الله الأمر عليه إلا
نادرًا.
وأكثر المسائل الشرعية مما صنفها الناس مما لا نص فيها.
ولا يجعل مما يعمل فيها بالضرورة بل دلت على غير حال الضرورة
وأن العمل حرام بأحكامها إلا بحجة شرعية وما هو إلا بالقياس
الذي قلناه، إلا أنه غير موجب للعلم كخبر الواحد والآية
المؤولة لأنا عرفنا حد صحته بغالب الرأي، وإن كان أصله سماعًا
فكذا هذا وأنه مما أنزله الله تعالى في كتابه ودخل تحت قوله:
{فاعتبروا يا أولي الأبصار} لا أنه حجة صير إليه لضرورة عدم
الأدلة وهذا ليكون العمل بالدليل والعلم أبدًا إلا في أحوال
نادرة فيكون من جملة ما يباح بالضرورة.
وثبت أن القرآن تبيان لكل شيء وكاف بنصه، ودليل نصه ومقتضاه
وإشارته والاعتبار به قياسًا ثم باستصحاب الحال حال عدم الأدلة
كلها وهي: حال ضرورة وجوب العمل مع عدم الأدلة.
وثبت أن الذم عن الرأي راجع إلى نصب العلة باقتراح الرأي أو
العمل به في المنصوصات بخلاف النص.
وهذا كما ذم من فسر القرآن برأيه، ويجوز تفسيره بالرأي تخريجًا
على أصول اللغة والشرع، وإنما يحرم على سبيل الاقتراح من عند
نفسه ثم سقوطه بخبر الواحد لا يدل على أنه ليس بحجة كالآية
المؤولة تسقط بالمحكم والخبر يسقط بالآية.
ووجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كما علمنا الأحكام علمنا
القياس فقال لعمر وقد سأله عمر عن القبلة وهو صائم: "أرأيت لو
تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ " فقال: لا، قال: "ففيما إذً"
أي أن القبلة مبدأ الجماع كالمضمضة مبدأ الشرب ثم الفطر لم
يتعلق
(1/269)
بمبدأ الشرب حتى يقضي به شهوة البطن، فكذلك
هذا لا يضر ما لم يقض به شهوة الفرج.
وقال للمرأة التي سألته عن الحج عن أبيها: "أرأيت لو كان على
أبيك دين فقضيته أما كان يجزيك؟ " فقالت: بلي، قال: "فدين الله
أحق" يعني لما سقط دين العبد الذي يحتمل النيابة في القضاء
بأمر من عليه، فكذلك بغير أمره احتمل فدين الله أولى بأن يجوز
بغير أمر من عليه، كما يجوز بأمره لأن الواجبين قد استويا من
حيث احتمال النيابة مع الأمر.
وإنما اختلف المستحق والقبول من غير من عليه ضرب من المساهلة
والله تعالى أولى بالمساهلة.
وعلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقال للمستحاضة:
"إنه دم عرق انفجر توضئي لكل صلاة"، فعلل لإيجاب الوضوء بسيلان
دم العرق لأنه متى سال أوجب حكمه من النجاسة حتى يجب غسله عن
محله فاستقام إحالة وجوب الطهارة إلى ما ظهر أثره في التنجيس.
وقال: "الهرة ليست بنجسة لأنها من الطوافين والطوافات عليكم"
فأسقط نجاستها بصفة مؤثرة في السقوط وهو ضرورة الطواف علينا
وتعذر الاحتراز عنها فللضرورات تأثير في الإباحات.
ووجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين لنا الأحكام
المشروعة، بين لنا أن العمل بالرأي مشروع كما هو بالنص فإنه
قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "بما تقضي؟ " قال: بكتاب الله
تعالى، فقال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: "فإن
لم تجد؟ " قال: أجتهد فيه رأي، فقال صلى الله عليه وسلم:
"الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله".
ووجه آخر أن الصحابة أجمعوا على صحة القياس، وإجماعهم حجة كآية
من كتاب الله تعالى على ما مر والدليل على ذلك أنهم اختلفوا في
مسألة الجد اختلافًا ظاهرًا، ولم يحتج أحد بالنص وإنما مثلوا
أمثلة بالرأي بالوادي يتشعب منه أنهار والشجر يتفرع منها فروع،
واختلفوا في مسألة العول بالرأي؟
وكان عمر رضي الله عنه يكتب إلى العمال: عليكم بكتاب الله
تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بالأمثال
والأشباه. وقال لشريح: اقض بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم برأيك.
وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عمن تزوج امرأة ولم يسم لها مهرًا
ثم مات عنها
(1/270)
قبل الدخول بها؟ فلم يجب شهرًا، ثم قال:
أجتهد فيها رأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن ابن
أم عبد، أرى لها مهرًا مثل نسائها، لا وكس، ولا شطط. وخالفه
علي بالرأي، ولو كان عنده خبر لرد عليه.
وقال عبد الله بن مسعود في دم بين اثنين عفا أحدهما: أرى هذا
إحياء بعض النفس، وقال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك.
وأجمع عمر وعلي رضي الله عنهما على فساد بيه أمهات الأولاد
بالرأي ثم رجع علي وأفتى بالجواز، وعقد مجالس الشورى مشهور من
عمر ليعرف أحكام الحوادث، وكذلك من غيره، ولم يرو عن أحد خلاف
ذلك.
والنهي عنه محمول على ما حملنا عليه نهي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو عن "أرأيت" على سبيل التعنت، أو ترك الاكتفاء
بالمشروع مع الغنية عن الزيادة كما قال الله تعالى: {لا تسألوا
عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اتركوني على ما تركتكم عليه فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة
سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" أو المراد به النهي عن
المقايسة بالصور دون الاستدلال بالمعاني كما ظهر اليوم من
أصحاب الطرد ألا ترى أن النهي يروى عن عمر وعن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنهما والقول بالرأي منهما أظهر من الشمس.
ووجه آخر: أن الله تعالى سمى هذا الدين نورًا، وشرحًا للصدور
فقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وفي
إلزام العمل بالنص على حجر عن التأمل في العلل المعقولة بالرأي
ضرب حرج، وهذا مما يعرفه كل عاقل من نفسه إذا تأمل في حاله.
ولأن القلب يبصر بالغائب كالغيب بالحاضر، ومعقول القلب بالرأي
كمرئي العين بالبصر، وإنا نرى ضال الطريق حرجًا صدره وينشرح
بعض الانشراح بقول الهادي إذا عرفه صادقًا، ويتم الانشراح
ببصره بعينه الطريق العادل وإعلامه، فكذلك القلب إذا عقل الحكم
برأيه انشرح الصدر به غاية، وإذا قلد الحاكي بقي معه بعض الحرج
وإن اعتقد صدقه ولا اختلاف أن الدين يشرح الصدور بأتم ما يكون
من النور.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا والشرع ما جاء إلا بخلاف معتاد الصدور
مما عقلته من الأمور؟.
قلنا: نعم جاء هذا بخلاف معتاد المعقول بهوى النفس وإشارته لكن
بمعقول خير منه ما كان القلب يعقله بدون الشرع وعباراته، فكان
خلاف المعتاد قبل البيان ووفاقًا بعد
(1/271)
البرهان ليصير الشرعي بعد التأمل طبيعيًا
فيعتقده العبد على طمأنينة قلب، وانشراح صدر فكان في وجوب
الإسلام لقالب الشريعة حسن الطاعة والانقياد لله تعالى وفي
المصير إلى القياس والمعاني المعقولة طمأنينة القلوب بالوقوف
على الحجج من الطريق الذي هو معتادها في مصالح الدنيا،
والإسلام لله تعالى حق، وطلب ما تطمئن إليه القلوب حسن، قال
إبراهيم صلوات الله عليه: {بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
فأما الجواب عن الأول فإن الكتاب كاف وهذا القياس منزل في كتاب
الله تعالى دلالة، وإن لم يكن نصًا على ما بينا أنه نظير
الاعتبار الذي ثبت نصًا بكتاب الله تعالى، وكان الحكم به حكمًا
بما أنزل الله تعالى فإن الله تعالى أمرنا به، ولأنا نعرف
بالرأي ما أثر في الحكم شرعًا لا أن نجعله مؤثرًا بالرأي.
وأما قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فقد بين رسول الله صلى
الله عليه وسلم المقايسة فعلم أنها مما أنزلت إلى الناس.
وأما قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فحجة لنا لأنه نهي عن
قفو ما ليس لك به علم، وأنه يقتضي كل علم لأنه نكرة في النفي،
والقياس يوجب ضرب علم من الطريق الذي يوجبه خبر الواحد وإنما
لا يوجب العلم من كل وجه، وهذا كما لا يقبل العاقل على ما أمر
بقصده من مصالحه بغير علم ويقبل عليه بغالب رأيه وإن لم يعلم
يقينًا ويعد ذلك إقبالًا بعلم.
فثبت أن العلم ضربان: علم يقين، وعلم غالب الرأي.
والعمل بكل واحد منهما جائز للدين والدنيا ألا ترى أنهم جوزوا
العمل باستصحاب الحال وأنه دون القياس.
وأما قوله: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} فكذا نقول والقول
بالقياس حق من الوجه الذي قلناه، ولأن الحق نوعان كالعلم:
أحق ما هو حق من كل وجه ظاهرًا أو باطنًا.
ب وحق عند العبد وليس بحق عند الله تعالى. والمراد به ما عند
الله تعالى فيما يرجع إلى الله وصفاته، فأما فيما تعبدنا من
أحكامه التي يجوز القياس بها فالمراد به الحق عندنا على ما
يأتيك شرحه في باب الاجتهاد، ألا يرى أنه يعمل بخبر الواحد
واستصحاب الحال.
وأما الجواب عن استدلالهم بالأخبار فما ذكرنا أن النهي منصرف
إلى العمل برأي الهوى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح
العالمين بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والقياس من كتاب الله وسنة رسوله فإنه قاس وأمر به وعلمه، وأما
الجواب عن استدلالهم باختلاف الأحكام: فإن منها ما لا يعقل،
ومنها ما يعقل، ونحن لا نستجيز القياس إلا لما يعقل،
(1/272)
وهذا ليتحقق الإسلام لأمر الله تعالى بما
لا يعقل، ويتم شرح الصدور بتعليل ما يعقل.
وأما قولهم إن حجج الله موجبة قطعًا؟ فكذلك في إظهار الحق عند
الله تعالى فأما حق يلزمنا العمل به فلا كذلك على ما مر، ألا
يرى أنا نجعل خبر الواحد حجة ولم يظهر الحق يقينًا إلا على
الوجه الذي بلغنا عنه فإنه صار حجة علينا برواية الراوي، وأنها
لا توجب إلا غالب الرأي ولا فرق بين الخبر والعلة فإن الخبر
أصله حق موجب للعلم بلا تعارض وبلغتنا الأخبار بالرواية
متعارضة غير موجبة للعلم قطعًا.
وكذلك الوصف الذي هو علة هو واحد عند الله تعالى موجب للعلم
قطعًا، ويبلغنا بآرائنا متعارضة.
فالتعليل منا كالرواية.
والوصف كالخبر.
وكما احتملت الرواية الغلط ولم يجب العمل بها قطعًا احتمل
تعليل المعلل الغلط فلا فرق بين الأمرين.
وإنما جعلنا ما ليس بيقين حجة في حقنا كما جعل في مصالح الدنيا
ليكون التكليف بقدر الوسع أو بما لا يخرج فيه من لزومنا إصابة
ما عند الله في كل الأمور أليس قد جوز التمسك بالأصل الثابت
حال عدم الأدلة عندنا، وإن احتمل قيام الليل على زواله إلا أنه
لم يبلغنا بعد فثبت أن ترك القول بالقياس خروج على العقل
والشرع وعلى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
ثم من نفاة القياس من طعن على الصحابة، وأنه منكر من القول
وزور، فغن الله تعالى أثنى عليهم، وكذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم" والآيات
كثيرة في إبانة فضل الصحابة وسبقهم بحيث لا خفاء لها، ولأنا
متى اتهمناهم لن تثبت شريعة لأنها لم تبلغنا إلا من قبلهم.
ومنهم من أول فزعم أنهم كانوا مخصوصين بأن جعلت آراؤهم حجة،
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بكرامة أن جعل
قوله حجة؟.
قالوا: والدليل عليه أنا لا نجيز من أحد بعدهم استعمال الرأي
بخلاف النص وهم كانوا يستعملونه وكانت آراؤهم حجة بخلاف النص
كرامة لهم على الخصوص فإن السنة كانت للمسبوق بشيء من صلاته أن
يصلي ما فاته ثم يتابع الإمام فيما بقي حتى دخل معاذ المسجد
وقد سبق بشيء من الصلاة فتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قام إلى القضاء فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
فقال: يا رسول الله كرهت أن أصادفك على شيء فأخالفك فيه،
(1/273)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سن
لكم معاذ سنة حسنة فاستنوا بها" فهذا معاذ ترك السنة برأي نفسه
وحمد عليه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خرج لصلح بين الأنصار،
فصلى أبو بكر بالناس فقدم رسول الله، وأبو بكر في الصلاة فصفق
الناس وأبو بكر لا يلتفت فلما أكثروا التفت فرأى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث
مكانك فرفع أبو بكر يده وحمد الله ثم استأخر فكان التأخر
بالرأي على خلاف الأمر والرفع والحمد بالرأي بخلاف النهي.
وكذلك الإمامة كانت بالرأي وكانت السنة في الإمامة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًا رضي الله عنه
بكتاب الصلح عام الحديبية فكتب: هذا ما عهد رسول الله وسهيل بن
عمر، فقال سهيل: لو علمنا انك رسول الله ما كذبناك، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعلي: امح رسول الله، فقال علي: ما
أنا بماح. فمحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فخالف علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، ولم يكن خطأ.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنافق فجر
عمر رضي الله عنه رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعه من
الصلاة، وإنما فعل برأيه بخلاف فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فنزلت الآية على موافقة رأيه.
وكذلك حد شرب الخمر ثبت باجتهادهم وإنه باب لا يعرف بالاجتهاد،
وهذا القول قريب من الأول لأن شرف الأمة بقدر طاعة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيلزمنا بقولنا: إنهم خير القرون، أنهم
كانوا أطوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا.
ومن قال غير هذا كان منكرًا من القول وزورًا، ولم يكن إثبات
كرامة لهم، بل كان طعنًا فيهم أشد طعن بلا شك.
فكيف يقال غير هذا وهم كانوا قدوة الأمة بالكتاب والسنة
المشهورة فلو جاز لهم الخلاف بالرأي لجاز لنا، بل كان الواجب
إذا أجمعنا أنهم خير الأمة أنهم كانوا أشد طاعة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم منا، ولزمنا طلب تأويلات ما تصور خلافًا ظاهرًا
حتى يصير طاعة وتعظيمًا باطنًا.
ووجه ذلك من طريق الفقه أن يكون الأمر محتملًا جهة الرخصة أو
الإكرام على وجه يجوز ولا يجب، ومحتملًا جهة العزيمة فكان
الترك من الصحابي على تأويل جائز الترك به كان تبين له ذلك
الوجه بدلالة حال أو بغيرها من الدلالات، نحو صنيع معاذ في
متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسبوقًا في صلاته لأن
النصوص باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كانت نازلة قطعًا
فحمل معاذ ما أمر به من فعل ما سبق به أولًا على الرخصة فإنها
أيسر والاتباع عزيمة فكانت سنة حسنة.
(1/274)
وكذلك أبو بكر صلى بالناس ولم يكن نهي عنها
لأنه رأى تقديم حق الله تعالى في إقامة الصلاة لوقتها أولى من
الانتظار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأخر وقد أمر
بالتقدم لأن الحالة دلته على أنه أمر توقير وإكرام لا أمر
إلزام فرأى توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب فتأخر.
وكذلك علي أمر بمحو اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن علم
أنه لم يؤمر به لغلطه فيما كتب بل تيسيرًا لأمر الصلح فرأى
الكف وإظهار الصلابة للكفار عزيمة، وما أمره رسول الله صلى
الله عليه وسلم رخصة.
ولأن الصلح لا يجوز مع الكفرة إلا لنفع عائد إلى الإسلام
والأعود أن يكون صاحب الأمر على سبيل الإحسان إليهم والفضل عن
شدة في قومه لا عن ضعف في قومه، وذلك المعنى فيما أبداه علي
رضي الله عنه وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عمر رضي الله عنه رأى ترك الصلاة على المنافق وإظهار
العداوة هزيمة والصلاة وإظهار حسن المعاشرة على قصد تأليف
القلب رخصة.
وأما حد السكر فإنما أجمعوا عليه استدلالًا بحد القذف، فإن عبد
الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين إنه إذا سكر
هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى لزمه حد الفرية، وحد الفرية
ثمانون. فأخذوا بقوله، على أن الإجماع ليس من قبيل القول
بالاجتهاد بل يحل الرأي محل النص إذا تأيد بالإجماع، والله
أعلم.
وجواب آخر عن كل ما يتصور خلافًا للأمر من حيث أنه لا يوجد له
تأويل نحو صنيع موسى صلوات الله عليه حين أخذ بلحية أخيه ورأسه
يجره إليه على ما قال الله تعالى: {وأخذ برأس أخيه يجره إليه}
وهذا استخفاف ظاهر، وإنه حرام بالمؤمن لا ريب وبالنبي كفر أن
موسى أخذ منه نفسه بفرط الحمية لدين الله تعالى، وشدة الغضب في
الله تعالى فسقط عنه خطاب الكف عما لا يحل كما سقط بالنوم
والإغماء فوقع الفعل هدرًا والحمية محمودة.
وهذا كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه نفسه حال
ما يوحى إليه حتى كان لا يدرك شيئًا إلا الوحي وكان يتراءى
للناظر إليه مغشيًا عليه، وكان لا يسرى عنه إلا بعد إبلاغ
الوحي إليه فكان يسقط الخطاب عنه وراء حفظ الوحي في تلك
الساعة.
وعلى هذا يجوز تأويل صنيع عمر رضي الله عنه في جر رداء رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله في سكر حمية الدين.
وكذلك علي رضي الله عنه.
وكذلك أبو بكر رضي الله عنه كأنه سكر في تعظيم رسول الله صلى
الله عليه وسلم إياه فغفل عن حد الائتمار فكان معذورًا، وكذلك
معاذ أخذته شدة حالة في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
اتباعه فغفل عن الأمر الأول كما يغفل الإنسان بالنوم والنسيان
فيكون معذورًا ثم نزل
(1/275)
الوحي على موافقة صنيعه لما كان سببه أمرًا
محمودًا شرعًا، كما نزل الوحي على موافقة صنيع عمر: {ولا تصل
على أحد منهم مات أبدًا} ولو تصور لأحد بعدهم مثل هذه الحالة
فخالف الأمر فيه عذر، والله أعلم.
(1/276)
باب
القول في أقسام نفاة القياس
نفاة القياس أربعة أقسام:
أ- قسم منهم لا يرى دليل العقل حجة والقياس منه.
ب- وقسم لا يراه حجة إلا في موجبات العقول والقياس ليس من تلك
الجملة.
ج- وقسم لا يراه حجة لأحكام الشرع.
د- وقسم لا يراه حجة في الأحكام إلا عند الضرورة، ولا ضرورة
لأنا نحكم فيما نص فيه باستصحاب الحالة الأصلية، فيقدم القول
باستصحاب الحال على القياس.
وإنه أقرب الأقوال إلى القصد.
فأما القسمان الأولان: فسنذكر وجوه ذلك في أبواب العقليات آخر
الكتاب إن شاء الله.
وأما القسم الثالث: فقد أبطلناه في باب إثبات القياس.
وكذلك الرابع لأنا قد بينا رجحان القياس على استصحاب الحال،
وبينا أنه حجة أصلية لا حجة ضرورية، والله أعلم.
(1/277)
باب
القول في بيان ما لا بد للقياس من
معرفته
للقياس معنى لغة، وركن يقوم به، وشرط لا يعمل به إلا عنده،
وحكم يثبت به وهو أثر علمه، ولا بد من معرفتها، لأن الاسم بلا
معنى فاسد من الدعوى فلا بد فيه من معرفة المعنى، ولا قوام
لشيء إلا بركنه، ولا عمل إلا عند شرطه، ولا يخرج من الفعل عن
حد السفه والعبث إلا بفائدته، وذلك حكمه الثابت به.
فأما القياس لغة: فإنه اسم من قاس يقيس، وتفسير قاس الشيء
بالشيء، جعله نظيرًا له، يقال: قس النعل بالنعل أي احذه به
واجعله نظيرًا للآخر.
وقد يكون القياس مصدر قايس يقايس مقايسة وقياسًا.
ونظير القياس العبرة وهي الأصل الذي يقاس به غيره.
وسمي القياس الشرعي نظرًا لأنه بنظر القلب يصاب.
ويسمى اجتهادًا لأنه باجتهاد القلب أي ببذله مجهوده في معرفة
النظير يصير قياسًا.
فأما الركن: فالذي يصير به الفرع نظيرًا للأصل بما تعلق به حكم
الأصل لأن القياس والمحاذاة به تقوم.
وركن الشيء ما يقوم به الشيء كأركان البيت اسم لما يقوم به
البيت من البناء.
وأما الشرط فما لا يعمل الركن عمله إلا معه لأن الشرط علامة في
الأصل على ما يأتيك تفسيره وحده، فتكون العلامة على الشيء ما
يظهر عندها لا أن يوجد بها كالشهود في النكاح لا يثبت النكاح
موجودًا بهم بل بالإيجاب، والقبول لكن لا يوجد على ما شرع
النكاح له إلا معهم.
وكشرط الطلاق علم على وجوده فأما الوجود فمضاف إلى تطليق
الزوج، والله أعلم.
(1/278)
باب
القول في بيان الشروط
قال القاضي رحمه الله: نبدأ بالشروط لأن الركن لا يعمل إلا
معها وهذا كالرجل يريد النكاح فسبيله أن يبدأ بإحضار الشهود،
وكذلك من يريد الصلاة فسبيله أن يقدم الوضوء ويستر العورة.
وجملة شروط القياس الصحيح أربعة.
أن يكون الأصل غير مخصوص بحكمة بنص آخر.
وأن لا يكون الحكم معدولًا به عن القياس.
وأن يتعدى الحكم الشرعي بنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص
فيه.
وأن يبقى حكم الأصل المعلول بعد التعليل على ما كان قبل
التعليل.
أما الأول: فلأنه متى ثبت اختصاص الحكم بنص آخر لم يجز إبطال
الخصوصية الثابتة بالنص الآخر بالقياس لأن القياس ليس بحجة في
معارضة النص على ما مر.
وأما الثاني: فلأن حكم النص متى ثبت على وجه يرده القياس
الشرعي لكنه ترك بمعارضة النص إياه ومجيئه بخلافه لم يجز
إثباته في الفرع بالقياس كالنص إذا جاء نافيًا لحكم لم يجز
إثباته به، وكذلك لا يجوز إثبات التحريم في عين بنص جاء محللًا
إياه.
وأما الثالث: فلأن المقايسة هي المحاذاة بين الشيئين فلا يتصور
ثبوتها في شيء واحد ولا إذا لم يكن نظيرًا، ومتى لم يتعد الحكم
إلى فرع بقي الأصل وحده، ولا يكون النظر لإثبات الحكم فيه
مقايسة فعلمت أن محل المقايسة حادثتان ليسوى بينهما بالمقايسة،
ومحل ما ينفعل فيه الأقوال والأفعال شرط لصحتها في كل باب
كالحي شرط ليكون صدمته ضربًا، وقطعه قتلًا.
فأما كون الحكم شرعيًا فلأن الكلام مفروض في القياس على أصول
ثابتة شرعًا، ولا يعرف بالتأمل فيها ما كانت ثابتة لا شرعًا
كما لا يعرف بالتأمل في أصول الشرع أحكام الطب واللغة.
وأما الرابع: فلأن النص فوق القياس فلم يجز استعمال القياس
لتغيير حكمه بوجه، ولأن الرأي مشروع حجة بعد النص فلم يبق حجة
حيث ثبت فيه النص على سبيل المعارضة بحال ما.
(1/279)
وقال الشافعي: يجوز أن يكون الفرع حادثة
فيها نص فيزداد بالقياس بيان ما كان النص ساكتًا عنه، ولا يجوز
إذا كان مخالفًا للنص لأن الكلام وإن ظهر معناه يحتمل البيان
الزائد ولا يحتمل الخلاف فيبطل القياس إذا جاء مخالفًا.
وقال أيضًا: يجوز تعليل النص بالرأي بما لا يتعدى حكمها إلى
فرع ومثل هذا التعليل لا يكون مقايسة.
وعندنا لا يجوز متى لم يكن مقايسة ولم يتعد فإذا صار من شرط
صحته تعليل النص أن يتعدى حكمه إلى فرع لا نص فيه عندنا.
وعنده لم يكن شرطًا وتبين بهذا الحد أن حكم العلة عندنا تعدي
حكم النص إلى الفرع.
وعنده تعلق الحكم في النص المعلول بتلك العلة لا التعدي واحتج
بأن العلة المستنبطة بالرأي نوع حجة من حجج الله تعالى لوجوب
العمل بها على ما مر.
والحجج الشرعية اسمًا لما تعلق وجوب الأحكام التي ابتلينا
بإقامتها بها فكذا العلة يجب أن تكون اسمًا لما تعلق وجوب
الحكم بها إلا أنا كنا لا نقف عليها بالنص ووقفنا عليها
بالرأي.
وإذا وقفنا وجب تعليق الحكم بها ولزمنا أن نعرفها علة بهذا
الحكم لا بالتعدي.
ولأن الوصف من بين الجملة إنما يصير علة للنص إذا تعدى بدليل
أوجب التمييز بينه وبين سائره لا بالتعدي.
ومتى قام ذلك الدليل بعينه ثبت الوصف علة فإن تعدى كان عامًا
وإن لم يتعد كان خاصًا فإن لم يقو بأن كان خاصًا لم يبطل كالنص
قد يكون خاصًا وقد يكون عامًا ولا يضعف بكونه خاصًا.
والجواب عنه وهو الحجة لنا: أن التعليل إنما يصار إليه ليكون
حجة زائدة بعد النص، وحجج الله تعالى إما أن تكون حججًا لإيجاب
العلم أو لإيجاب العمل والتعليل بالرأي لا يكون حجة موجبة
علمًا.
وإنما يصير إليه لفائدة العمل فإذا لم يتعد لم يفد عملًا فيما
لم يتناوله بالنص، ولا فيما تناوله النص لأن النص فوق العلة.
ولأنه بالإجماع لا يجوز تغيير حكم النص المعلول بعلته فإذا لم
يتغير وبقي الأول بعينه والنص فوقه في الإيجاب وجب إضافة الحكم
فيما تناوله النص إليه دون العلة، وإذا لم يبق لها حكم لغت.
فإن قيل: يثبت بها اختصاص الحكم بالنص فالنصوص ضربان: ما يقاس
عليه غيره، وما يختص الحكم به.
(1/280)
قلنا: هذه الفائدة حاصلة متى لم يعلل النص
وعلق الحكم بعين النص، ولأن تعليل النص بعلة خاصة لا يمنع
التعليل بعلة أخرى عامة كما يجوز التعليل بعلتين متعديتين
أحدهما أكثر تعديًا من الأخرى دل عليه أن عدم العلة لا يوجب
عدم حكمها على ما تأتيك المسألة، وإذا لم يوجب العدم لم يوجب
قصر الحكم بوجودهما فلا يثبت ما ادعيت.
فإن قيل: تبقى العلة لإفادة معرفة الحكمة من المشروع.
قلنا: الحكمة مقصورة فيما ابتلينا بها من الأحكام على العاقبة
التي بها تثبت حكمة التخليق والاستعباد، وهي من باب العلم
والاعتقاد لا من باب العمل، والرأي لا يوجب العلم وإنما يصح
القياس لبيان حكمة يتعلق بها العمل فيلغو، إلا على سبيل أن
يقال يحتمل أن يكون لحكمة كذا.
ويحتمل كذا فيخرج عن حد الحجة وبهذا الحد يفرغ المرء عن
التكليف بمعرفة كثير من الأدلة المنقولة من أخبار الآحاد
والنظر بأغلب الرأي فإنهما ليسا بحجة في إفادة العلم.
فمتى لم ترد موجبة عملًا وجب الإعراض عنها بالنظر فيما كلفنا
العمل به أو فيما يفيد العلم.
ومثال ما لا يتعدى من العلة تعليلهم الذهب بالذهب مثلًا بمثل
بالثمنية، فإنها لا تعدو الذهب والفضة والشرع نص عليها.
وأما الفصل الثاني وهو التعدي إلى حادثة منصوص عليها فلأنا إن
عدينا إليها حكم ذلك النص بعينه فما أفاد التعليل شيئًا فأشبه
الذي لا يتعدى.
وإن عدينا حكمًا يخالفه بأصله لم يجز بالإجماع لأنه رفع لحكم
النص بالقياس.
وإن عدينا حكمًا بوصف زائد فهو أيضًا تعرض لحكم ذلك النص
بالرأي.
وكما لم يجز أن يتعرض لحكم النص المعلول بالرأي بتغيير وصف أو
زيادة وصف أو تخصيص لم يجز التعرض لحكم النص الآخر بمثله
لأنهما مثلان ولأن النص أولى بالعمل به من القياس.
ولأنا متى زدنا على حكم النص زيادة لم يتناولها النص كان
بمنزلة النسخ والرفع على ما مضى وأنه في الحقيقة يبتنى على تلك
المسألة فالزيادة عنده بيان، وعندنا نسخ وهو من جملة ما جوز
تخصيص العام بالقياس والمسألة قد مرت.
وأما التخريج على الشروط المتفق عليها بأن نقول: أما فصل الحكم
المخصوص بالنص فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة
خزيمة وحده، وكان مخصوصًا به وقد اشتهر بين الصحابة بهذه
الفضيلة وبدليل أن كتاب الله تعالى قصر تفسير الاستشهاد الذي
شرعه حجة على الشاهدين، وفسر أنهما رجلان أو رجل وامرأتان
فيصير قبول شهادة خزيمة، وحده مخصوصًا لأن النص يرده في غيره.
(1/281)
وكذلك حل تسع نسوة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم لأن الله تعالى قصر الأمر في الأمة على الرباع.
وكذلك حل البضع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغير مهر بقوله:
{خالصة لك من دون المؤمنين} هذه متفق عليها، وجواز النكاح بلفظ
الهبة ثابت عندنا استدلالًا بنكاح رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وعند الشافعي لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
مخصوصًا به بقوله: "خالصة لك من دون المؤمنين".
وتفسيرها عندنا: هبة خالصة لك بلا عوض، أو نفسها خالصة لك لا
تحل لغيرك بعدك، لأن الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما تصح شرعًا بما فيه ضرب كرامة ولا كرامة في الاختصاص
بالتكلم بلفظ دون لفظ، وإنما الكرامة في أن لا يجب المهر ولا
تحل هي لغيره.
وكذلك كل حكم جاز رخصة لعذر يختص به ولم يجز تعديه بالرأي كحل
الميتة عند الضرورة.
وجواز السلم بأجل فإنه لا يجوز تعليله لأنه بيع سلم فيجوز
حالًا كبيع العين بدراهم لأن الأصل الثابت شرعًا حرمة بيع
الشيء ما لم يكن عينًا مملوكًا مقدورًا على تسليمه كما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان".
وكذلك بالإجماع من باع شيئًا ثم اشتراه وسلم لم يجز وإنما جاز
السلم وهو بيع ما ليس في ملكه ولا في يده، ولا عين رخصة لعذر
العدم على ما روي ورخص في السلم وذلك لأن المعدم يحتاج إلى
النفقة ولا يجد عينًا حاضرًا، وربما يكون بحيث يأتيه البيع في
الثاني على ما عليه عادات الناس فلو لم يجز له بيع ما يأتيه
لحرج وبقي في عذاب العدم فرخص الشرع له البيع سلمًا لعذر
العدم.
ورخص بأجل لأن المعدم لا يقدر على التسليم إلا باستحداث سبب
الملك فيما باع، وبسبب عجزه في الحال جوز البيع سلمًا فأبيح
بأجل ليتمكن من ملك ما باع فيه على ما عليه تبدل الأحوال في
الوجود باختلاف المدد فاختص الجواز بالأجل الذي هو الممكن إياه
من التسليم حين وجوب التسليم بالعقد ومانع للعقد من إيجاب
التسليم حال العدم فالعجز عن التسليم حال الوجوب بالبيع مفسد
للبيع.
وكذلك المنافع جعلت أموالًا كالعيان في التجارات، ولم تجعل
عندنا كذلك في الإتلاف والغصب وكانت ماليتها معادلة لمالية
الأعيان مخصوصة بالتجارات عندنا لأن
(1/282)
الأصل فيها أن ماليتها دون مالية الأعيان
بدرجات لأن المنافع أعراض لا تبقى زمانين والأعيان جواهر تبقى
أزمنة، وتفاوت ما بين الجوهر والعرض بحيث لا يخفى.
وكذلك ما يبقى وما لا يبقى إلا أن الشرع سوى بينهما في
التجارات لحاجة الناس إلى المنافع حسب حاجتهم إلى الأعيان
لإقامة المصالح وتعذر وصول المحتاج إلى المنفعة إلا بمال هو
عين وهذه الضرورة غير ثابتة في الإتلافات لأنه منهي عنها،
والسبيل أن لا توجد فلم تلتحق في حق الإتلاف بالعين وكذلك جواز
بيع المنفعة قبل الوجود، والملك ثابت لضرورة أنها لا تبقى
موجودة فلا يمكن بناء البيع على الوجود وهذه الضرورة معدومة في
الأعيان، فصار حكمها مخصوصًا بموضع الضرورة.
وأما فصل الحكم المعدول به عن القياس فنحو بقاء الصوم مع الأكل
ناسيًا للصوم لأن الصوم عبارة عن الكف عن الأكل والشرب
والجماع، فإذا جاء الأجل ذهب الكف عنه فينعدم الأداء والعبادة
قط لا تتأدى بلا أداء عقلًا ولا شرعًا كتارك الصلاة والحج
والزكاة بعذر أو بغير عذر فصار الحكم أنه مؤدي صومه مع عدم
الأداء حكمًا معدولًا به عن القياس.
فلم يجز قياس المكره، والمخطئ عليه وهم أغيار.
ولا قياس الصلاة والحج على الصوم وهن أغيار.
وجوزنا إبقاء الصوم مع الجماع ناسيًا والنص لم يرد فيه لأنه من
جنس الأكل من حيث إذهاب الأداء فالصوم تأدية بالكف عن اقتضاء
شهوتي بطنه وفرجه في الحقيقة وذهاب الصوم باقتضائهما بطريق فوت
الأداء الذي هو ركن العبادة فكانا جنسًا واحدًا.
وإن اختلف الاسمان كالأكل والشرب جنس واحد في حق الإفطار، وإن
اختلف الاسمان وحز الرقبة وشق البطن باب واحد في أنهما قتل وإن
اختلف الاسمان.
وكذلك خروج دم الاستحاضة لا يكون حدثًا في الوقت لضرورة الدوام
وثبت في حق سلس البول لأنه من حيث أنه حدث باب واحد.
فإن قيل: وكذلك الأكل والشرب خطأ وناسيًا جنس واحد في أن الآكل
ما قصد الفطر بأكله.
قلنا: ويجب أن يثبت أولًا أن حكم الفطر يسقط من الناسي لأنه لم
يقصد الفطر وليس كذلك فالذي أغمي عليه ولم ينو الصوم لا يكون
صائمًا، وما قصد ترك الصوم ولما ذكرنا أن إثبات الأداء بلا
أداء خلاف الرأي فلا يثبت إلا بالنص والثابت بالنص ما قاله
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله أطعمك وسقاك" أي هو
الذي ألقى النسيان عليك حتى أكلت
(1/283)
بذلك السبب، ولم نجد في المخطئ لأن الخطأ
جاء من قبل الصائم بأن قصد المضمضة فسبق الماء حلقه أو من جهة
المكره وما يكون مسقطًا من قبل صاحب الحق لا يدل على أنه يكون
مسقطًا من قبل غيره.
ألا ترى أنه يسقط أصلًا بالمرض ولا يسقط أصلًا بمنع المكره عن
أصل الصوم أو أصل الصلاة فصار حد ما لا يعقل سببه بالقياس أن
يثبت شرعًا بخلاف ما يوجبه العقل في نفسه، والقياس على سائر
أصول الشرع فإنه متى ثبت على قياس ما ثبت شرعًا صار معقولًا
بالرأي الذي أوجبه الشرع.
والقياس الشرعي بمثله يكون ومن هذا القبيل قياس من ذبح وترك
التسمية عمدًا على من ترك التسمية ناسيًا لأن التسمية شرط
الحل.
وإنما أحللنا ذبيح من ترك ناسيًا بالحديث على أنا جعلناه
مسميًا حكمًا بخلاف القياس كمسألة الكل في الصوم ناسيًا سواء.
ومن الناس من ظن أن المستحسنات من هذا السبيل، وليس كذلك فمن
المستحسنات ما هو قياس محض لكنه خفي على ما بيناه في آخر
الكتاب.
ومن الناس من ظن أن الأصل الواحد إذا عارضه أصول بخلافه كان
الواحد بحكمه معدولًا به عن القياس، وليس كذلك، لما ذكرنا أن
حد المعدول عن القياس أن يجيء بخلاف ما يوجبه العقل والقياس
الشرعي والعقل لا يوجب أن يكون للفرع أصول حتى يعلل بعد ذلك،
ولا القياس الشرعي يوجب ذلك.
وهذا لأن الأصل بمنزلة راوي الحديث على ما يأتيه بيانه، والوصف
الذي يجعله علة بمنزلة الحديث ورواية الحديث تصح من راوٍ واحد
إلا أن الأصول إذا كثرت ربما أوجبت ترجيحًا عند المقابلة
كالخبر يكثر رواته في مقابلة حديث يشد روايته فثبت أن المعدول
به عن القياس إنما يعرف بالحد الذي بيناه.
ومن جملة ذلك حديث الأعرابي الذي واقع امرأته في نهار رمضان
فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكفر به فذكر حاجته
إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كله وأطعمه عيالك"
لأن التكفير إنما يكون بما يقع عليه من بدني أو مالي لا بما
يقع له والله أعلم.
وأما فصل تعدي الحكم، ففصل عظيم الفقه، عزيز الوجود ومثاله
فيما قال الشافعي: إن كفارة اليمين تجب بالغموس قياسًا على
المعقودة لأنها يمين بالله تعالى مقصودة لأن التعليل لم يقع
لتعديه حكم المعقودة إليها، وهو الكفارة المشروعة بل لتعدية
اسم اليمين الثابت لغة.
(1/284)
وبيان ذلك أنا أجمعنا أن كفارة اليمين لا
تجب بغير اليمين، واختلفنا في الغموس أيمين حقيقة أو يمين
تسمية مجازًا كبيع الحر وطلاق الأجنبية فقلنا نحن أنها ليست
بيمين حقيقة بل هي يمين تسمية مجازًا فكانت غير اليمين حقيقة
كبيع الحر وطلاق الأجنبية، فلا تجب كفارة اليمين بما ليس
بيمين، ولم يجز إثبات اسم اليمين وهو اسم لغوي بالقياس الشرعي
بل يجب تعرفه من طريق لسان العرب، فيقال أن اليمين عقد على
الخبر لتحقيق الصدق منه وضعًا وشرعًا، فلا يكون محله إلا الخبر
المحتمل للصدق ليستحضر باليمين صدقه.
فأما الكذب الذي لا يحتمله فلا يكون محلًا كالبيع لما شرع
لتمليك المال لم يكن الحر محلًا.
وكالطلاق لما كان قطع ملك النكاح إما عاجلًا وإما آجلًا لم تكن
المرأة التي لا نكاح لها ولا عدة نكاح محلًا.
وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه أبطل قياس اللواطة على الزنا في
إيجاب الحد لأن حد الزنا لا يجب إلا بالزنا فالتعليل يقع
لإثبات الاسم، وأنه اسم لغوي وكذلك لا يجوز تحريم المثل الشديد
بالقياس على الخمر من طريق إثبات اسم الخمر له بالقياس بعلة
أنه مسكر لأن اسم الخمر اسم لغوي.
فإن قال قائل: أنا نثبت الاسم بمعناه لغة لا شريعة، فالزنا اسم
لجماع يقصد به سفح الماء دون الولد، وقد وجد في اللواطة،
والخمر اسم لما يخامر العقل.
قلنا: إن الأسامي في الأصل إعلام على المسميات سواء كانت اسمًا
للأعيان، أو للأفعال فلم يجز إثباتها بمعناها القائم في
المسميات، وقد وضع الاسم لتعريف المسمى بعينه لا بمعناه كاسم
الجبل والعظم والخنفسات، وما لا يعقل لها معنى وليس إيجابنا
كفارة الفطر بالجماع على الأكل إيجابًا بالقياس لأن تلك
الكفارة ليست بكفارة جماع بل هي كفارة إفطار الأكل والشرب
والجماع من حيث إيجاب الفطر باب واحد لما ذكرنا أن الصوم إنما
يتأدى بالكف عن اقتضاء الشهوتين.
والفطر بالاقتضاء يقع من حيث إعدام الكف، فكان الباب واحدًا من
حيث الآلات.
وإنما تختلف أسماء ما يقع به الفطر كالقتل باب واحد بأي آلة
قتل المقتول إذا استوت الآلات في إيجاب ما يكون قتلًا.
وقلنا: إن إيجاب الكفارة بجماع الميتة والبهيمة إيجاب بالقياس
لأنه من حيث اقتضاء الشهوة باب واحد لن المحل غير مشتهى طبعًا،
وكان بمنزلة الاستمناء بالكف أو في شقاق الفخذ.
وإنما يسمى جماعًا مجازًا بالصورة كيمين الغموس فيكون الإيجاب
به من غير إثبات الاسم ساقطًا.
(1/285)
ويكون التعليل والقياس الشرعي لإثبات الاسم
ساقطًا بل يجب معرفته بمعنى اللغة في أن اقتضاء الشهوة لا
يتصور إلا بمحل مشتهى لذلك الباب، وكذلك لم يوجب القطع على
النباش لأنه حد والنص ورد باسم السرقة وعدم الاسم فيه بمعناه
لأن السرقة اسم للأخذ مسارقًا عين صاحبه، وإنه لا يتصور في
الكفن لأن صاحبه الميت.
وسقط القياس الشرعي لإثبات الاسم ولا قطع بالإجماع بدون اسم
السرقة، وهذا لأن الأسماء ضربان: حقيقة ومجاز.
وسبب الحقيقة وضع الواضع وإنه لا يعرف إلا بالسماع.
وسبب المجاز استعارة العرب الاسم لاسم بطريق ثبت لسانًا لهم
فلا يعرف طريق استعمالهم اللغة بالشريعة والنظر في أصولها بل
يعرف بالنظر في كلام العرب واستعمالهم.
ومن هذه الجملة الكلام في أن ألفاظ الطلاق هل تصلح كناية عن
العتاق أم لا ولفظ التمليك هل يصلح كناية عن النكاح أم لا،
وإذا قال أنت طالق ونوى ثلاثًا يصح أم لا؟ وإذا اختلف الشاهدان
بالمال بالمائة والمائتين أتقبل على المائة أم لا؟
لم يجز إثبات شيء منها بالقياس الشرعي لأن احتمال طالق الثلاث
وعدم احتماله، وصلاح اللفظ كناية عن آخر ليس بحكم شرعي بل هو
لغة، فلا تعرف معاني اللغة إلا بالنظر فيها دون القياس الشرعي،
فهذا كله من جنس ما لا يعقل بالقياس الشرعي وقد تكلموا في هذه
المسائل بأقيسة شرعية وما تكلموا إلا لقلة النظر فيما هم فيه.
فإن قيل: والفقهاء قد تكلموا في باب الحدود والإيمان بالقياس!
قلنا: ما تكلموا بالقياس لإيجاب حد به ولا لإثبات اسم، وإنما
تكلموا لبيان الشبه المسقط للحد مع تحقق أسبابها فإنها مما
يسقط بالشبهات وسقوط الحد ليس بحد فصحت المقايسة لتعدية السقوط
من محل إلى محل آخر لاجتماعهما في الشبهة.
ومن هذه الجملة تعليلهم الرقبة الواجبة في القتل إنها تحرير في
تكفير فكان الإيمان شرطًا فيها ثم التعدية إلى كفارة اليمين
والظهار.
لأنهم بهذا التعليل يتعرضون للكفارة الواجبة باليمين والظهار
نصًا في أنه تحرير رقبة مطلقة، أو موصوفة بالإيمان، وزيادة
الوصف بمنزلة زيادة القدر ولما كان تعرضًا للحكم الثابت نصًا
امتنع.
ألا ترى أنه لم يجز لجعل الإطعام إطعام ستين مسكينًا، ولا
الصوم ستين يومًا.
ولما ذكرنا أن من شرط صحته أن نعدي حكم النص من غير تعرض للحكم
الثابت نصًا بوجه.
وكذلك قولهم حد الزنا لا يوجب رد الشهادة بعد التوبة لأنه حد
في كبيرة وأثبتوا
(1/286)
هذا الحكم في حد القذف هذا تعرض لحكم حادثة
القذف الثابت نصًا فإنا نقول: حده الجلد وتحريم قبول الشهادة
وعندكم حد الجلد لا غير، والشهادة لا تقبل لفسقه كفاسق لم
يقذف، وأنت بهذا التعليل تريد أن تنقص حد القذف عما أوجبه النص
فلم يجز إثباته بالقياس بل سبيلك إن أنكرت أن تتأمل في نص هذه
الحادثة دون القياس.
وكذلك قولهم: كفارة الإطعام لا تصح إلا بالتمليك قياسًا على
الكسوة لأنه ضرب تكفير يقبل التمليك لأن الاختلاف وقع في قدر
الواجب بنص التكفير.
فقلنا نحن: إنه هو الإطعام بلا قيد التمليك.
وأنت تقول إنه واجب بهذا القيد فكان كاختلافنا في التحرير أنه
تحرير رقبة مطلقة أم مقيدة بالإيمان، وهذا كما لم يجز إثبات
مقادير أعداد الركعات بقياس بعضها على بعض.
وكذلك قولهم: إن الحرمة بين المتلاعنين تجب بلعنات الزوج من
هذا القبيل لأن اللعان واجب بالرمي بنصه كحد القذف، وإنها
شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة باللعنة محرمة للاجتماع بعد
التلاعن منهما بالسنة "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" فكان
إيجاب الحرمة بلعنات الزوج زيادة في الحكم وكذلك زوال الملك
بعد التلاعن لا يجب إلا بالقضاء لأن الثابت بالنص: "المتلاعنان
لا يجتمعان أبدًا" وحرمة الاجتماع مما تثبت مع قيام الملك.
كما إذا أسلم أحد الزوجين فلا نزيد زوال الملك بالقياس فيكون
تعرضًا لحكم النص بالزيادة، بل نوجبها بعد الحرمة لفوات
الإمساك بالمعروف بحرمة الاجتماع أبدًا إذا أصرا على هذه
الحالة كما أوجبناها في إسلام أحد الزوجين، وإباء الآخر فلا
يكون حينئذ من الحد الواجب باللعان.
وكذلك الملاعن إذا أكذب نفسه بعد التفريق حلت المرأة له، لأن
الشرع أثبت حرمة الاجتماع أبدًا على المتلاعنين وهو بالإكذاب
نفسه خرج عن التلاعن ألا ترى أنه يقام عليه الحد الأصلي، وهو
حد القذف وإنه لا يجب مع اللعان.
وألا ترى أن حرمة الاجتماع أبدًا ثابت باللعان قبل قضاء
القاضي، ولو أكذب نفسه قبل القضاء حلت له بسقوط اللعان حكمًا
في حق الزوج وعود الأمر إلى حال لعان أحدهما دون الآخر فمن
أوجب بالقضاء حرمة مؤبدة مضافة إلى اللعان صار متصرفًا في حكم
اللعان فلا يجوز بالقياس.
وظن مخالفونا أنا تعرضنا لحكم النص بقولنا إن حقوق الله تعالى
المالية تتأدى بالقيم، قالوا: لأن النص عين مالًا باسمه وأنت
بالتعليل تبطل التعيين.
(1/287)
وكذلك جعل الأصناف السبعة مستحقين للصدقات
وأنت بالتعليل أبطلت الاستحقاق.
وكذلك النص عين التكبير للتحريم بالصلاة وأنت بالتعليل تبطل
التعيين وعين الماء لإزالة النجاسة وأنت بالتعليل تبطل التعيين
لأن الاختلاف بيننا وبينه وقع في معرفة حكم النص.
فقلنا نحن بالنصوص التي أوجبت الحقوق المالية لله تعالى وجبت
لله تعالى بأسمائها الثابتة بالنص.
ونحن بالتعليل لم نغير الواجب لله تعالى فالواجب لله تعالى شاة
من النصاب قبل التعليل وبعده غير أنا قلنا: ما يجب لله تعالى
يجب الإخراج إليه كالصلاة وحقوق سائر المستحقين ولا يجب
الإخراج إلى غير المستحق إلا بسبب آخر فعلمنا أن الصرف إلى
الفقير وجب بأمر صاحب الحق وهو الله تعالى، فأمرنا الله تعالى
بالصرف إليهم بأرزاقهم التي استحقوها من عطاء الله تعالى وفضله
فصاروا مصارف لما وجب الله تعالى يتأدى بالصرف إليهم لا
مستحقين وهم مصارف بأجمعهم قبل التعليل وبعده.
وإنما حقهم في أرزاقهم بجنس المال، وتصير لهم الزكاة إذا
قبضوها بحقهم.
وإذا كان كذلك صارت هذه الأموال الواجبة بأسمائها صالحة لقضاء
حق الفقير في رزقه بها لا أنها صارت واجبة لهم قبل الأخذ، وهي
بعد التعليل صالحة كما قبل ذلك فما تعرضنا بالتعليل للحكم
بالتغيير بل عديناه إلى غير المنصوص عليه.
وكذلك أركان الصلاة أفعال أعضاء البدن ومن جملة الأعضاء اللسان
فكان الركن فعلًا منه سمي ذكرًا وثناء.
والتكبير كلمة صالحة لأداء هذا الحكم به وبعد التعليل بقي
صالحًا عينًا كذلك.
وكذلك الواجب في الغسل تطهير الثوب بإزالة النجاسة عنه لا
استعمال الماء والماء آلة صالحة للإزالة، وبعد التعليل بقي
صالحًا كذلك عينًا وهذا كما أمرنا الشرع بالاستنجاء بثلاثة
أحجار وحجر واحد له ثلاثة أحرف يقوم مقامها لأن الواجب إزالة
النجاسة عن الموضع لا استعمال الحجر لنفسه فلم تصر الحجارة
مستحقة الاستعمال بل صارت آلة بالنص وبعد التعليل بقيت آلة.
ومن هذا القبيل أنا متى اختلفنا من صوم يوم النحر أهو صوم أم
لا، أو في صلاة الظهر يوم الجمعة قبل الجمعة مع وجوب الجمعة
وبيع الربا أهو مشروع أم لا؟ لم يجز التكلم فيها بالقياس
الشرعي لأن الخلاف ثابت في معرفة حكم النهي أنه بأي قدر يعمل.
والنهي لغة كالأمر فلا يعرف حكمه بالقياس الشرعي.
(1/288)
وكذلك إذا اختلفنا في حكم النكاح المملوك
للرجل على المرأة أنه في حكم ملك العين أو المنفعة لم يجز
إثباته بالقياس لأنه ملك عرف ثبوته شرعًا بخلاف القياس لأن
المرأة بعينها وأجزائها، ومنافعها لها بعد العقد كما كانت قبله
فكان إثبات الملك عليها من غير إمكان الإشارة إلى شيء منها
شرعًا حكم معدول به عن القياس فلا يعرف بالقياس على ملك ثابت
بالقياس لأنهما غيران، وكان بمنزلة إباحة الميتة عند الضرورة
من إباحة الذكية ولكن يجب التأمل في الدليل الذي أوجبه.
ولأن من شرطه أن يكون الفرع نظيرًا للأصل في الحكم الذي وقع
التعليل له.
والنكاح عقد تمليك لا نظير له من سائر التمليكات لأن سائره ما
شرعت إلا في الأموال التي خلقت محلًا لملك الآدمي، وهذه شرعت
في الحرة التي خلقت مالكة لا محلًا للملك ولا تباين في حكم
الملك أكثر من أن يكون أحدهما محلًا للملك والآخر لا.
وكذلك إذا اختلفنا في حكم الرهن أنه يد تثبت للمرتهن في حكم يد
الاستيفاء الحقيقي أو حق بيع بالدين.
واليد شرط لتتميم السبب عاملًا، كاليد في الهبة بها يتم.
وحكمها إيجاب الملك للموهوب له صلة لم يجز إثباته بالقياس لأن
العقود ليست بنظائر.
وكل عقد شرع أو وضع لمقصود على حدة شرعًا ولغة فلا يعرف حكمه
بالقياس على غيره بل بالتأمل فيه كما لا تعرف معاني اللغة
بالقياس الشرعي والتأمل يوجب ما قلناه.
لأنه شرع وثيقة لما لصاحب الدين من حق الاستيفاء دون تأكيد
الوجوب لأن الوجوب يختص بالذمم.
والاستيفاء بالمال وهو مشروع في المال الصالح للاستيفاء من
ماليته ومعناه فعلم أنه مشروع وثيقة لجانب الاستيفاء.
والاستيفاء مخصوص ثبوته باليد فيزداد بالوثيقة اليد التي تثبت
بها الحقيقة لتصير الحقيقة موثقة بما ازداد كالكفالة لما كانت
وثيقة لجانب الوجوب ازداد بها شغل ذمة هو في حكم الذمة الأصلية
بالمطالبة التي يتوصل بها إلى الواجب في الذمة الأصلية من غير
تغير وقع في الأصل فكذلك هذا.
ومنها قولهم: المعتدة عن طلاق بائن لا يلحقها الطلاق لأنها
بائنة فأشبهت المنقضية عدتها لأن الخلاف بيننا وبينهم في أنها
هل تبقى محلًا للطلاق بالعدة عن النكاح أم لا وقد
(1/289)
عدمت العلة في الأصل المعلل.
وكذلك قولهم: إن إسلام المروي في المروي جائز لأنهما ثوبان
فصار كالمروي في الهروي.
لأن الخلاف بيننا وبينهم في أن الجنس علة لتحريم النساء أم لا
وقد عدم في الأصل المعلول وكان التعليل لغير ما وقع فيه الخلاف
ولأن النافي منكر أن يكون ما ادعاه المدعي مشروعًا وما لم يشرع
لا يكون حكمًا شرعيًا ليمكن إثباته بالقياس.
وكذلك قولهم: الطلاق البائن لا يقطع الرجعة قياسًا على الطلاق
المطلق لأنه طلاق بلا عوض لأن الخلاف بيننا وبينهم أن صفة
الإبانة مملوكة للرجل بالنكاح أم لا؟
عندنا: مملوكة صفة للطلاق.
وعندهم: لا، وهذا الحكم وهو أنه غير مملوك له غير ثابت في
الأصل ليصح التعليل لتعديته إلى الفرع بل إنما لم تنقطع الرجعة
في الأصل لأنه سكت عن الإبانة القاطعة لا لأنه لم يملكها.
وكذلك الإجارة لا يجوز قياسها على البيع في إيجاب ملك المنفعة
للحال لأن محل الملك قائم في البيع قابل للملك فلم يتأخر عنه،
والمحل في باب الإجارة معدوم غير متصور ملكه قبل وجوده.
ومنها ما ذكرنا أن المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض فمتى وجدت
في الفرع نصًا يمكنك العمل به من غير أن تقيسه على أصل آخر كان
القياس فاسدًا لعدم شرطه على ما مر، وقد مرت لها أمثلة ونزيدها
ههنا إيضاحًا.
فنقول: لا يجوز قياس القتل عمدًا على القتل خطأ في إيجاب
الكفارة لأن كل حادثة منصوص عليها.
ولا قتل المسلم في دار الحرب قبل الهجرة إلينا على المسلم في
دارنا في إيجاب ضمان الدية لأن كل حادثة منصوص عليها.
ولم نستجز قياس المحصر على المتمتع في إيجاب الصوم بدلًا عن
الهدي عند العدم، لأن كل حادثة منصوص عليها ولم نستجز قياس
المطلقة التي لها مهر مسمى على التي طلقت قبل الدخول بلا فرض
مهر في إيجاب المتعة لأن كل حادثة منصوص عليها، إلى أمثلة
كثيرة لئلا يلتبس الطريق على المتأمل.
وأما الفصل الرابع: فمثاله، ما قلنا إن الماء إنما طهر الثوب
النجس لأنه مزيل لما هو نجاسة جاورت الثوب.
والخل بمنزلته فتعدى الحكم إليه وهو إيجاب الطهارة.
(1/290)
ثم قلنا إن الماء طهور لأعضاء المحدث في حق
الصلاة دون الخل، لأن هذه الطهارة لم تجب بإزالة النجاسة بل
وجب باسم الماء عرف طهورًا في حقها بالنص فلم تتعد إلى الخل.
وتعليلنا بالإزالة لم يوجب قصر الحكم على العلة في النص بل وجب
الحكم بالطهارة باستعمال الماء بالماء المنصوص عليه كما قبل
التعليل، ووجب في الفرع بالعلة ليعلم أن التعليل ليس إلا
لتعدية الحكم إلى ما لا نص فيه، وإنه لغو اعتباره مع النص سواء
كان النص في الفرع أو الأصل المعلول.
فإن قيل: أليس عللتم خبر الربا بالكيل وخصصتم به القليل، والنص
جاء باسم الحنطة بالحنطة من غير تخصيص.
قلنا: إن النص جاء بالحنطة هي مثل بمثل كيل بكيل لا بحنطة
مطلقة لأن قوله: "كيل بكيل" تفسير لما ذكرنا من الحنطة
بالحنطة، ولا يتصف بالكيل القليل، وكثير من الإشكالات تزول
بمحافظة ما قلنا: إن النص وإن علل بعلة صحيحة فالحكم في الأصل
المعلول لا يجب بالعلة بل بالنص كما قبل العلة فيثبت مع
انعدامها باسم النص على ما بينا فلا يكون ذلك قدحًا في العلة
لجواز بقاء حكم العلة مع انعدامها بعلة أخرى، فكذلك جاز بقيام
النص.
بل الممتنع الفاسد ما قاله الشافعي أن خبر الربا معلول بالطعم،
والربا في النص ففضل ذات بقدر الكيل لأنه قال صلى الله عليه
وسلم: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل كيل بكيل والفضل ربا" والفضل
بعد المساواة كيلًا بكيل لا يكون إلا بفضل أحدهما على الآخر
بكيله أو نقصانه عنه وبعلة الطعم يحرم فضل من حيث أجزاء الذات
والصورة لأنه يتعدى إلى ما لا يكال فلا يتصور فيه فضل ذات بقدر
الكيل.
وما روي أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا سواء بسواء تحريم
يسقط بالتسوية بينهما والتسوية بين الشيئين إنما يكون بالتصرف
في أحدهما لأن المفاضلة بين الشيئين في قدر الكثرة لا تكون إلا
بزيادة أحدهما على الآخر.
فالتسوية لا تقع إلا برفع تلك المفاضلة، وذلك بنقص الزائد أو
زيادة الناقص فصار الحكم وهو الحرمة حرمة تزول بالتصرف في أحد
العوضين بنقصان أو زيادة، وهو بالتعليل بالطعم يعدي حرمة إلى
فروع لا تزول بالتصرف في أحدهما فلم يعد حكم النص بعينه بل غير
وصفه وأنه فاسد بلا خلاف فثبت أن النظر في شروطه صحة التعليل
وخاصة في الحكم باب عزيز الوجود كثير الفقه وإن من وفق للنظر
في هذه الشروط وسبر العلل بها وجد أكثر علل الأحداث هباء،
والله أعلم.
(1/291)
باب
القول في ركن العلة
ركن العلة: ما جعل علمًا على حكم النص من جملة ما اشتمل عليه
اسم النص، وجعل الفرع نظيرًا له في حكمه بوجوده فيه كما وجد في
الأصل.
لأن العلة به تقوم فكان ركنًا.
وإنه يجوز أن يكون وصفًا لازمًا أو عارضًا أو اسمًا أو حكمًا.
ويجوز أن يكون عددًا واحدًا أو عددين وأعدادًا لا تعمل حتى
ينضم البعض إلى البعض.
ويجوز أن تكون العلة في النص وفي غيره، وذلك لأن العلة إنما
تصير علة بدلالة أثرها في الحكم على ما نبين، والتأثير متى ثبت
لضرب من هذه الضروب كان علة ويجب العمل بها ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال للمستحاضة: "إنه دم عرق انفجر، توضئي لكل
صلاة" فقوله إنه دم عرق انفجر تعليل، والدم اسم علم وانفجر صفة
عارضة، وقال للتي سألته عن الحج عن أبيها: "أرأيت لو كان على
أبيك دين فقضيته أما كان يجزيك؟ فقالت: نعم. فقال: فدين الله
أحق" علل بحكم آخر لحكم سئل عنه لأن قولنا دين عبارة عن ثابت
في الذمة وذلك بالوجوب وإنه حكم.
وقال علماؤنا: بيع المدبر باطل، لأن عتقه تعلق بمطلق موت
المولى فأشبه أم الولد والتعلق حكم.
وقالوا: الزكاة تجب في الحلي لأن الذهب والفضة أثمان وله وصف
لازم لا عارض لأنهما لم يخلقا إلا أثمانًا. وأما قولنا بجواز
أن يكون في النص فظاهر لأن النص هو المعلول.
وأما قولنا: يجوز أن يكون في غيره فنحو ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في
السلم" فالرخصة معلولة بإعدام العاقد وإنه غير مذكور في
الرخصة، ونهى عن بيع الغرر لعجز البائع عن تسليمه أو جهالة
المبيع ولا ذكر لهما، وقال: "لا تنكح الأمة على الحرة".
(1/292)
وعلل الشافعي لتحريم نكاح الأمة على الحرة
بتعريض الحر جزءًا منه للرق على غنية، ولا ذكر للزوج وهذا لأنه
لا بد للنكاح من الزوج وللبيع من البائع والمبيع، فصار ما لا
بد منه كالمذكور فيه فصح التعليل بمعنى فيما ثبت مقتضى به كما
صح بمعنى في النص وكذلك النهي عن صوم يوم النحر معلول بدعوة
الله العباد إلى الفطر بقرابينه، وكذلك كل أمر أو نهي جاء
لمعنى في غيره كان معلولًا بمعنى في الغير لا في المذكور نفسه،
والله أعلم.
(1/293)
باب
القول في حكم العلة
قال القاضي رضي الله عنه: هذا باب سهل على القلوب علمه، صعب
استعماله لشدة ما ثبت من عادات المناظرين بخلافه، ليروض مريده
قلبه بالصرف عن العادة إلى الحجة ثم يستعمله، وما التوفيق إلا
بالله.
اختلف العلماء في العبارة عن حكم العلة التي نسميها قياسًا، أو
نسميها معلومة بالنظر والرأي؟
وقال علماؤنا: حكم هذه العلة تعدية حكم النص المعلل إلى فرع،
ولا نص فيه، ولا إجماع، ولا دليل فوق الرأي.
وقال قائلون: حكم العلة؛ تعلق حكم النص بالوصف الذي تبين علة.
وإنما يتبين هذا الجواب بقول علمائنا: إن العلة متى لم تكن
متعدية كانت فاسدة، ومتى تعدت إلى فرع منصوص عليه كانت باطلة
أيضًا، وقد مر فصل الفرع المنصوص عليه، وإنما هذا الباب لبيان
نفس حكم العلة الصحيحة.
فأما الذين قالوا: إن حكم العلة هو تعلق الحكم بها، فقد شبهوا
هذه العلة بالعلل العقلية، فإنها لا تعرف عللًا إلا بتعلق وجود
أحكامها بها.
وكذلك العلل الشرعية إذا كانت منقولة عن صاحب الشريعة فالأحكام
تصير متعلقة بها.
وكذلك أسباب وجود العبادات والكفارات والعقوبات ونحوها علل
شرعية للوجوب وقد تعلقت بها.
والجواب عنه وهو الطريق في الباب: ما ذكرنا أن هذه العلة التي
نحن فيها صحتها منوطة بشرط أن تكون بعد النص على ما قال النبي
صلى الله عليه وسلم، فإن لم تجد في سنة رسول الله فبالرأي على
ما مر في باب إثبات القياس، وبالإجماع يجب عليه طلب الحكم
بكتاب الله تعالى ثم بالخبر ثم بالرأي، وكذلك ثبت بالإجماع على
ما مر في الباب الأول أن النص لا يجوز تعليله بعلة تغيير حكم
النص في نفسه.
وإذا كان كذلك وجب أن يبقى الحكم بعد التعليل على ما كان
مضافًا وجوبه إلى النص دون العلة، فإنك متى قصرت الإضافة إلى
العلة كنت غيرت حكم النص عما كان
(1/294)
قبل التعليل، وأخرجت سائر أوصافه عن تعلق
الحكم بها، وكما لم يجز أن يخرج بالتعليل بعض المحال التي
تناولها النص عن حكم الجملة لم يجز كذلك في حق الأوصاف.
ولأن هذه العلة لما لم تشرع علة إلا بعد النص صار لغوًا مع
النص، وإذا صار لغوًا لم يجز التعليق بها كما إذا عارضها نص
آخر مخالف لم يجز اعتبارها حجة معارضة بل سقطت، وتبين لنا أنها
ليست بحجة وإنما تظهر حجة في الفرع، ولن يوجد فيه حكم الأصل
إلا بالتعدية إليه فصار حكم العلة التعدية لا غير، ونظيره من
العقود الحوالة ما لها حكم تعلق وجوب الدين بها بل التحويل عن
ذمة إلى ذمة لأنها لا توجب أصل الدين بل تنقل من ذمة إلى ذمة،
ولأنا ذكرنا أن العلة اسم لما يتغير به حكم الحال، والذي يتغير
من حكم النص بالتعليل بأن كان الحكم مقصورًا عليه فتعدى
بالتعليل.
وإذا ثبت هذا علمت بفساد ثلاثة أرباع المقاييس جملة بل حجة لكل
فرع على حدة، ولا لكل قياس، وسقط عنك أعباء حفظها وفهمها
والعمل بها.
وبيان ذلك أن جملة أقسام ما يختلف فيها الفقهاء ويتناظرون فيها
من الشرعيات أربعة أنواع:
الاختلاف في الموجب للحكم أو صفته أهو مشروع أم لا؟
أو في شرط العلة أو صفته؟
أو في حكم من الأحكام أو صفته؟
أو في حكم مشروع معلوم بوصفه بلا منازعة في محل هل هو مقصود
عليه أو هو متعدي عنه إلى غيره؟
والقياس لم يشرع حجة إلا لهذا النوع لما ذكرنا أنه لا حكم له
غير التعدية، والتعدية لا تتصور إلا في هذا القسم الرابع ففسد
فيما عدا هذا القسم لانعدام حكمه، ولأنه لم يصادف محله فمحله
أصل فيه حكم مشروع ليمكن التعدية فيما ليس بموجود لا يمكن
تعديته كالحوالة حيث لا دين يلغو.
ولأن الاختلاف متى حصل في الموجب للحكم أو شرطه، أو نفس الحكم
فقد وقع الاختلاف في أصل الشرع أكان أم لم يكن؟ لأنا أجمعنا
أنه ليس إلينا نصب الأحكام الشرعية ولا رفعها بالرأي، ولا نصب
أسبابها وفي نصب الأسباب نصب للأحكام، ولا شروطها، ففي نصب
الشروط المانعة رفع للأحكام، وإذا لم يكن إلينا ذلك بالرأي بطل
تعليل مدعيها لأنه يعلل للنصب، لأن الآخر منكر أن تكون هي
مشروعة، وبطل تعليل منكريها لأنهم يقولون هي لم تشرع أصلًا إذا
أنكروا الثبوت.
(1/295)
وما لم يشرع لا يكون حكمًا شرعيًا ليمكن
إثباتها بالقياس.
وإذا ادعى الارتفاع بعد الثبوت فكذلك لأن النسخ لا يثبت
بالقياس، فإذا عرفت هذه الجملة عقدًا خرجت على كل قسم ما يخرج
عليه مما غلط غير المتأملين فيه.
أما القسم الموجب: فنحو اختلافنا في الجنس بانفراده أهو علة
محرمة للبيع نسيئة أو لا؟ وهذا مما لا يجوز فيه التكلم
بالقياس، بل يجب على مدعيها إقامة الدلالة على صحة ما ادعاه من
نص أو دلالة نص أو إشارته أو اقتضائه، على ما مر أن الثابت بها
ثابت بالنص لا بالقياس، وعلى المنكر الامتناع عنه لعدم دليل
الصحة.
كما نقول فيمن ادعى أن الوتر فرض عملًا زائدًا على الخمس،
وأنكره آخر لم يكن على المنكر إلا التمسك بعدم قيام الدليل،
ولزم المدعي إقامة الدليل سوى القياس وكان بمنزلة من يدعي أن
فرض الفجر أربع ركعات وأنكر الآخر.
وكذلك إذا اختلفنا أن السفر أهو سبب مسقط لشطر الصلاة بنفسه أو
لا؟ لم يستقم التكلم فيها بالقياس بل الذي يدعيه مسقطًا لزمه
إثباته وإنما يظهر الفقه في مثل هذه المسائل بإفساد أدلة
الخصم، لأنه لا يمكنه إفسادها إلا بفقه طرق الأدلة حتى علم بها
أن هذه الأدلة جائزة وليست بعادلة، وكذلك إذا اختلفت في الخف
هل هو سبب مانع من سريان الحدث إلى القدم؟ لم يصح الكلام فيه
بالمقايسة نفيًا ولا إثباتًا.
وكذلك إذا اختلف في الحربي يسلم، أهو سبب موجب لجعل نفسه وماله
مضمونين قبل الإحراز بالدار أم لا؟ لم يعرف بالقياس.
وكذلك إذا اختلفنا في أن العقل قبل الشرع أهو حجة قاطعة لعذر
الكفار أم لا؟. وخبر الواحد أهو حجة يجب العمل به أم لا؟
والقياس أهو حجة يجب العمل به في الأحكام الشرعية أم لا؟
وأما صفته فنحو اختلافنا في المال الذي هو سبب الزكاة، أهو سبب
بصفة النماء أم دونها؟
واليمين بالله سبب للكفارة بصفة أنها مقصودة أم معقودة؟
وقتل النفس بغير حق سبب للكفارة بصفة الحرمة وحدها أم بصفة
الإباحة مع الحرمة؟
والإفطار سبب لكفارة باسم الجماع، أم باسم اقتضاء إحدى
الشهوتين؟
وهذا لأن وصف الشيء منه، فما لم يكن أصله مما يثبت بالقياس لم
يكن وصفه كذلك من قبيل ما يثبت به.
وأما أصل الشرط فنحو الاختلاف في شهود النكاح لا يثبت بالقياس
أنهم شرط أم لا؟ وكذلك الولي.
(1/296)
فأما ثبوت الولاية للمرأة على نفسها فمما
يعرف قياسًا، لأنا وجدنا الثبوت حكمًا ثابتًا مع البلوغ
والحرية في أصل مجمع عليه فيصح القياس لتعديته إلى المرأة.
وكذلك إذا اختلفنا في الزكاة أن التسمية شرط أم لا؟ لم يجز
التكلم فيه بالقياس، وكذلك إذا قلنا شرط نفوذ الطلاق على
المرأة من جانبها النكاح أو العدة عنه.
وقال خصمنا: العدة ليست بشرط النفوذ وبها وحدها لا تصير محلًا،
وكذلك إذا اختلفنا في البلوغ عن عقل أهو شرط لوجوب حقوق الله
تعالى التي تحتمل النسخ والتبديل كالزكاة والصلاة والكفارات
ولزوم الإحرام، وكذلك وجوب العقوبات كحرمان الإرث بالقتل
والحدود؟ لم يكن للقياس فيه مدخلًا، وكذلك إذا اختلفنا في
البلوغ بعد العقل أهو شرط لصحة أداء ما لا يحتمل النسخ من أصل
الدين أم لا؟
فإن قيل: أليس اختلفنا في بيع الطعام بالطعام إن القبض في
المجلس شرط أم لا، وتكلمتم فيها بالقياس؟
قلنا: البقاء على الصحة بلا شرط قبض حكم ثبت في أصل منصوص عليه
من البيوع، وهو بيع العبد بدراهم وكل ما عدا الطعام بالطعام من
السلع، فيصح التعدية بالتعليل إلى الفرع المختلف فيه ما لم
يمنعنا عنه نص بخلافه، فيجب على مدعي الفساد بمعارضة النص
إقامته.
ومتى أمكن المعلل في ما مضى من الأمثلة أن يبين لقياسه مثل هذا
المحل صح، فإنا ما أنكرنا الصحة إلا لتعليله لنفي ما لم يشرع
أو إثباته.
ومن أنكر شرط الشهود في النكاح لا يجد جوازه بدونه إلا في نكاح
أهل الذمة.
لأن أحكام شرعنا لا تلزمهم إلا ما يدينون بها أو استثني عليهم،
فلم يستقم القياس عليهم، والمسلمون يلزمهم أحكام الشرع.
وكذلك من أنكر التسمية في الزكاة لم يجد حل الزكاة بدونها إلا
إذا تركه ناسيًا.
على هذا الأصل القياس صحيح بصورته لكنا لم نقبل، لأنا أحللنا
زكاة التارك ناسيًا بناء على أنه في حكم المسمى بدلالة النص،
كما نجوز صوم الآكل ناسيًا، بناء على أنه في حكم من لم يأكل،
بخلاف القياس بدلالة النص.
ثم لا يجوز القياس عليه إذا ترك عمدًا، لأنه معدول به عن
القياس، وبمثل هذا يظهر الفقه في بيان طرق القياس.
وأما صفة الشرط: فكشهود النكاح أنهم رجال، أو نساء ورجال، وصفة
الطهارة للصلاة أمرتبة أم غير مرتبة؟ ما يصح إثباتها من
الشروط. أو نفيها بالقياس، وإنما يصح تعريفها بالنظر في النصوص
الموجبة للشرط، وإلى ما خص منها بزيادة وتكون المقايسة
(1/297)
بعد ذلك لمعرفة حادثة اختلف فيها أنها في
العموم أو الخصوص.
وأما الحكم: فنحو اختلافنا في الركعة الواحدة أمشروعة صلاة أم
لا؟.
والأربع مشروعة على المسافر أم لا؟ والسمح بالخف مشروع أم لا؟.
وكذلك بالعمامة؟ وصوم بعض اليوم مشروع أم لا؟.
والقراء تسقط بالاقتداء أم لا؟.
والصوم يسقط بالجنون أم لا؟.
وإنما يتكلم في مثل هذه المسائل بالنص وبدليله على ما ذكرنا.
فإن قيل: اختلافنا في صوم يوم النحر أمشروع أم لا؟ وتكلمتم فيه
بالقياس!
قلنا: لا كذلك، فإن كون اليوم سببًا لصيرورة الصوم مشروعًا
ثابت أصلًا، ووقع الاختلاف في انتساخه بصفة أنه يوم عيد
فأنكرناه، لا أنا أثبتنا كون اليوم سببًا بالقياس.
وأما وصف الحكم: فنحو اتفاقنا على أن القراءة مشروعة في الشفع
الثاني واختلفنا أنها فرض أم لا؟ وأنها فرض في الأول واختلفنا
أنها فاتحة أم لا؟ واتفقنا أن من حكم النكاح أن يملك الرجل
طلاق امرأته واختلفنا في وصفه أنه يملكه مباحًا، والكراهة
بعارض أو يملكه مكروهًا، والإباحة بعارض وهو مذهبنا على ما
بيناه في موضعه.
وكذلك يملك الطلاق مبينًا قصدًا إليه عندنا، وعنده لا يملك، لا
يعرف بالقياس فإنا لا نجده بعينه أصلًا آخر لنعديه إلى الفرع.
وكذلك إذا اختلفنا في ملك النكاح في حق المتعة أهو خاص للرجل
على المرأة أو مشترك بين الزوجين؟ لا يعرف بالقياس لأنه غير
موجود في أصل آخر لنعديه إليه بل يعرف بالاستدلال بما ثبت
بالنصوص.
وكذلك إذا اختلفنا في حكم خبر الربا وهو قوله: "والفضل ربا"
إنه فضل ذات الحنطة أو فضل كيل؟ لم يجز إثباته بالعلة لما
قلنا، ولا جاز الاشتغال بعلة الحكم قبل إثبات الحكم على الخصم
إذا أنكره.
وكذلك إذا اختلفنا في حكم الرهن الثابت للمرتهن إذا تم العقد
بالتسليم إليه أنه في حكم يد الاستيفاء الذي يتم بالتسليم
إليه، أم هو حق بيع بالدين إذا تم العقد باليد كما يتم عقد
الهبة باليد.
وحكمه وقوع الملك للموهوب له لم يجز إثباته بالقياس لأنا لا
نجد حكم الرهن في عقد آخر لتعديه إليه بالقياس.
وكذلك النفي لأن الانتفاء من حيث لم يكن لا يكن حكمًا شرعيًا
يمكن تعديته إلى غيره بالقياس على ما ذكرنا.
(1/298)
وكذلك إذا اختلفنا في وجوب المهر بالنكاح
بلا تسمية؟ لم يكن للقياس فيه مدخل لأنا لا نجده في غيره
لنعديه إليه.
وكذلك إذا اختلفنا في وجوب المتعة بعد الطلاق بعد الدخول؟ لأنا
اختلفنا فيه لاختلافنا في المتعة بأصله على وحشة الفراق، أم
عوض عن ملك النكاح؟ واجب بالعقد مقام المهر الساقط بالطلاق، لا
يمكن إثباته بالقياس.
وهذا لأن أحكام الشرع بصفاتها لا تثبت ابتداء إلا بالشرع فلا
يمكن معرفتها مشروعة بصفاتها إلا بالنظر في المنصوص، حسب
المعاني التي تثبت بالأسامي الغريبة لا يمكن معرفتها إلا
بالنظر في كلام العرب والتعرف من قبلهم.
وأما القسم الرابع: فنحو قولنا: إن المسح في الوضوء لا يسن
تثليثه لأنه مسح قياسًا على مسح الخف لأنل وجدنا مسحًا في
الوضوء، وله فرض وسنة ووجدنا حكم إقامة سنته بإفراده لا
بتثليثه فعديناه إلى الفرع.
وكذلك قولهم: الرأس عضو من أعضاء الوضوء فيسن تثليث وظيفته
قياسًا على الوجه، فكان في محليهما فيجب طلب الفساد بطريق آخر.
وكذلك قولنا: صوم رمضان صوم عين، فيتأدى بنية مطلق الصوم
كالنفل في غير رمضان، وقولهم: إنه صوم فرض فيشترط عليه نية
الفرض قياسًا على القضاء.
وكذلك قولنا: المديون لا زكاة عليه لأن الصدقة تحل له فلا تجب
عليه الزكاة كالمكاتب، والذي له دار يسكنها تساوي كثيرًا،
وقوله: إن ملكه كامل فيلزمه الزكاة كغير المديون.
فإن قيل: إنا نقول في النكاح أنه عقد معاملة فيصح بلا شهود
كالبيع، كان هذا فاسدًا بطريق آخر لأنا نقول: من حيث أنه عقد
معاملة لا يفسد عندنا بعدم الشهود، وإنما فسد من حيث أنه عقد
لم يشرع إلا للتناسل فخص بالشهود.
فالشهود ثبت عندنا شرعًا لهذا الوصف الخاص إظهارًا لكرامة بني
آدم، ولا نجد جوازًا مع هذا الوصف بدون الشهود لتعدي ذلك
الجواز إلى ما ها هنا بالمعلل في أمثالها.
أما أن ينقطع بوضعه العلة في غير محلها أو يميل إلى محلها بأن
وجده فتقوم المناظرة ببيان الصحة والفساد بطريق آخر، والله
أعلم.
(1/299)
|