تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في بيان صحيح الممانعة من
فاسدها
قال القاضي رضي الله عنه: الممانعة أساس المناظرة من جانب
السائل وبها يتبين الحوار والمجيب من السائل والملزم من
الدافع.
وإن السائل ما دام في حد السؤال فلا تستقيم المحاجة منه إلا
بما يدفع المجيب عن نفسه، ويمتنع به عن الإلزام لأن السائل هو
الجاهل في الأصل مسترشد بدليل يلزمه.
وعلى هذا يتبين المحاجة بين المدعي والمنكر في حقوق الناس،
المنكر دافع ولا يقبل منه إلا ما يدفع المدعي عن نفسه حتى
قالوا جميعًا: إن بينة المنكر لا تقبل على إنكاره وإنما تقبل
حيث تقبل إذا جعل نفسه مدعيًا ملزمًا، فكذلك السائل متى ادعى
الحكم، وسمع منه سمعت حجته المثبتة كما يسمع من المجيب.
فنحتاج إلى بيان أقسام الممانعات الصحيحة وهي أربعة:
الممانعة في نفس الحجة التي يذكرها المجيب أهو حجة أم عدم حجة
في نفس الوصف الذي يدعيه المجيب حجة أموجود هو أم لا؟
ثم في شروطه.
ثم في كينونته واجب العمل به.
ثم بعد ذلك يحتاج إلى مدافعة الحجة لا الممانعة.
أما الممانعة في نفس الحجة فلما مر من قبل أن كثيرًا من وجوه
حجج الناس ترجع إلى لا دليل فإذا ثبت أنه من جملة ما هو صالح
دليلًا فلا بد من إثبات الوصف في الأصل والفرع جميعًا لأنه
ركنه.
ثم شروط الصحة لما مر أنها سابقة على دليل وجوب العمل به، ثم
دليل التأثير الذي يجب العمل به فتتم العلة عاملة عندها، وكل
هذه الممانعات تتم بالإنكار ومطالبة الدليل.
فأما إذا اختلطت بدعوى أمر خرجت عن حد الممانعة إلى حد
المعارضة، ولن يكون ذلك إلا بعد ترك الإنكار إلى الدعوى،
وتسليم حجة الخصم فيكون ذكره فاسدًا في جملة الممانعات، ومثال
ذلك أن السائل متى قال للمجيب بعد التعليل: إن الذي ذكرته ليس
بعلة كانت ممانعة.
(1/329)
وإذا قال: إن العلة في الأصل غير الذي
ذكرتها كانت دعوى، وكانت فاسدة لأنه لا معارضة فيها ولا مدافعة
على ما مر.
وكذلك إذا قال: إن العلة ما ذكرته ولكن بزيادة وصف لأنه لما
زعم أنها ذات وصفين فقد أنكر أن يكون الوصف الواحد علة، وإنه
يستغني عن ذكر وصف آخر لتصحيح إنكاره، ثم العبرة في هذا الباب
للدعوى، والإنكار حكمًا لا لفظًا لأن الألفاظ قوالب، وإنما
اعتبرت شرعًا وعقلًا لما فيها من أحكامها ومثال ذلك: البكر إذا
تزوجت، ثم اختلفوا؟ فقالت البكر: بلغني الخبر فرددت، وقال
الزوج: سكتت، فالقول قول المرأة عندنا.
وقال زفر: القول قول الزوج لأنه ينكر الرد والمرأة تدعي الرد،
إلا أنا نقول هذا صورة فأما من حيث الحكم فالملك يثبت عليها
بسكوتها ويمتنع الثبوت بردها، فهي تنكر الملك عليها بدعوى الرد
فكانت منكرة حكمًا، والله أعلم.
(1/330)
باب
القول في القلب والعكس
القلب عند أهل النظر على وجهين، وكذلك العكس فيكون وجوهًا
أربعة:
أما القلب فتفسيره لغة: جعل الأعلى أسفل أو البطن ظهرًا، يقال:
قلبت الإناء؛ إذا نكسته، وقلبت الجراب: إذا جعلت باطنه ظاهره.
والعرب تقول: قلبت الأمر ظهرًا لبطن، وقلب العلة مأخوذ من هذين
المعنيين، وهو نوعان:
أحدهما: جعل المعلول علة من قلب الإناء، وهذا مبطل للتعليل لأن
العلة موجبة، والمعلول هو حكمة الواجب به كالفرع من الأصل لم
يجز أن تكون العلة حكمًا، والحكم علة فلما احتمل الانقلاب دل
على بطلان التعليل.
ومثاله: تعليل مخالفنا لإيجاب الرجم على الكفار بأنهم جنس يجلد
بكرهم مئة فيرجم ثيبهم قياسًا على الأحرار من المسلمين، وعكسهم
العبيد لما لم يرجم ثيبهم لم يجلد بكرهم مئة، فيقال لهم: إن
المعنى في الأصل أنهم جنس رجم ثيبهم فجلد بكرهم مئة.
ولذلك قالوا: إن القراءة لما تكررن فرضًا في الأولين تكررن في
الآخرين كالركوع.
فيقال لهم: لا بل لما تكرر الركوع فرضًا في الآخرين تكرر في
الأولين، وهذا القلب إنما يتحقق فيما إذا جعل الحكم علة لحكم
أن كل واحد منهما كما استقام علة، استقام حكمًا.
فأما إذا جعل الوصف علة، فلا يحتمل القلب لأن الوصف لا يصلح أن
يكون حكمًا بوجه.
ثم المخلص عن هذا القلب بأن يجعل أحد الحكمين دليلًا على الآخر
لا علة له، وهذا إنما يستقيم إذا ثبت أنهما نظيران شرعًا فيدل
ثبوت أيهما كان على الآخر، كتوأمين عتاق أيهما كان من الأصل
يدل على عتاق الآخر، ورق أيهما كان من الأصل يدل على رق الآخر.
كقولنا: كل عبادة تلتزم بالنذر التزمت بالشروع لأنهما سببا
تحصيل قرب زوائد شرعًا سواء.
(1/331)
والقربة لله تعالى لا تحصل إلا واجب
الإمضاء قربة، ولذلك لا يحل الرجوع فيها بعد الأداء.
وكذلك من ولي عليه في ماله ولي عليه في نفسه، ومن يول عليه في
ماله لم يول عليه في نفسه لن كل واحد من الولايتين نظير الأخرى
ثبوتًا على ما بينا في كتاب النكاح.
ولا كذلك جلد البكر مئة فإنه ليس بنظير للرجم لتعلق الرجم
بشروط لا يتعلق بها الجلد فلم يكونا نظيرين وكيف؟ وهما لا
يجبان إلا في حالين متضادين.
وكذلك القراءة ليست بنظير الركوع في الأصل المعلل لأن الركوع
ركن أصلي والقراءة ركن زائد، ولم تكن ثابتة أصلية، وبعد
الزيادة لم تشرع كالركوع فإنها تسقط بالاقتداء وبخوف فوت
الركعة وسقط شطرها، وهو السورة في الأخرين، وكذلك الركعتان
ليستا مثل الأولين في حق القراءة بالإجماع.
وأما القلب الآخر: بأن تقلب الشهادة على خصمك لك من قلب
الجراب، فإنها كانت لخصمك عليك ظاهرًا فانقلبت وصارت لك على
خصمك، وكان ظهرها إليك فصار الآن وجهها إليك، وأنه يبطل بحكم
معارضة فيها مناقضة لأنه لما شهد لك وعليك بحكم واحد فقد عارض
بهذا ذاك، بل نقض كل واحد منهما صاحبه فبطلا أصلًا بخلاف
المعارضة بقياس آخر، فإنها تخلو عن المناقضة فلا يبطلان ولكن
يمنع الحكم بها للاشتباه.
ومثال ذلك قولهم: إن صوم رمضان فرض فيشترط لصحته نية التعيين
قياسًا على صوم القضاء.
فنقول: لما كان صوم فرض لم يشترط له نية التعيين بعد التعين
إلا أنه إنما يتعين بعد الشروع، وهذا متعين قبل الشروع.
وقالوا أيضًا: إن مسح الرأس ركن في الوضوء فيسن تثليثه قياسًا
على الغسل فنقول: لما كان ركنًا في الوضوء لم يسن تثليثه بعد
إكمال الفرض بزيادة يجوز بدونها في محل الفرض قياسًا على
الغسل، فإنه متى أكمل فرضه بما ليس بفرض في محل الفرض لم يثلث
فإن أكمل الغسل بمحل الفرض بالتثليث وبعده لا تثليث، والمسح قد
أكمل بالسنة في محل الفرض بالاستيعاب مرة، وأنت تثلثه بعد ذلك.
فإن قيل: إنكم زدتم على وصف الحكم فلم تستقم المعارضة.
قلنا: إنا بالزيادة فسرنا الحكم الذي فيه النزاع، فإن النزاع
في التثليث بعد الاستيعاب دون تثليث قدر المفروض من المسح، وفي
رمضان كان الخلاف في فرض عين شرعًا ما معه في وقته غيره لا فرض
مطلقًا، وإذا كانت تفسيرًا لم يوجب تغييرًا بل أوجب تقريرًا.
(1/332)
وأما العكس لغة فتفسيره: رد حكم الشيء عن
سننه، من عكس المرأة إذا نظرت إليها، فإنها ترد حكم نظرك عن
سنن مقابلتك إليك حتى ترى بارتداد رؤية عينيك عليك وجهك، كان
لك عينًا في المرآة.
وعكس الماء نور الشمس حتى يظهر شعاعه لو كان مقابلة الماء جدار
كان في الماء شمسًا.
وهو على وجهين في النظر عكس حكم العلة بقلبها، وهو ضد الطرد
نحو قولنا: الصوم عبادة تلتزم بالنذر فتلتزم بالشروع طرده
الحج.
وعكسه الوضوء لما لم يلتزم بالشروع لم يلتزم بالنذر، فعكست
الحكم بقلب الوصف.
وهذا مما يقوي حكم الاستدلال بالحكم لحكم هو نظيره حيث استويا
ثبوتًا طردًا وسقوطًا عكسًا.
وأما الآخر فرد الحكم إلى خلافه لا على سننه بل بسنن غير سننه
كقولهم: الصوم نفل قربة فلا يمضي في فاسدها فلا يلتزم بالشروع
كالوضوء، وعكسه الحج فيعكس فيقال: لما كان بهذا الوصف وجب أن
يستوي عمل النذر والشروع فيه قياسًا على الوضوء، فإن الشروع
فيه لا يلزم لما لم يلزم نذره وههنا يلزمه النذر، فكذلك الشروع
وهذا عكس ضعيف في الاعتراض لأنه قلب في الحقيقة بحكم آخر نصًا.
والقلب بحكم آخر باطل نظرًا لأنه لا مناقضة إذا اختلفا، ولأنه
جاء بحكم مجمل لا يتصل بالمسألة إلا بعد البيان وليس ذلك
للسائل، ولأن الحكم المفسر أولى من المجمل ولأن الاستواء بين
الحكمين في الأصل من حيث سقوطهما، وفي الفرع من حيث ثبوتها،
والحكم هو المقصود من إثبات الاستواء المجمل لا عين الاستواء،
ومتى فسر الحكم كان على التضاد، والله أعلم.
(1/333)
باب
القول في الموانع
الموانع أربعة:
أ- مانع يمنع انعقاد العلة.
ب- ومانع يمنع تمامها.
ج- ومانع يمنع أصل الحكم.
د- ومانع يمنع تمام الحكم.
والوجوه كلها تتبين حسًا في الرمي فإنه قتل إذا أصاب، والرامي
يلزمه أحكام القتل، والرمي عبارة عن فعل الرامي، وله حد معلوم
وهو إغراق القوس بسهمه وإرساله.
ثم انقطاع الوتر أو انكسار القوس مانع يمنع انعقاد العلة حتى
إن شيئًا من حكم الرمي لا يظهر مع هذا المانع من مضي السهم، أو
إصابته شيئًا بقوته، وجدار في مسافة مرور السهم يعارض السهم
فيمنعه من المرور.
ومانع يمنع تمام العلة لأن الفعل انعقد رميًا لكن الرمي إنما
يكون قتلًا إذا أصاب المرمى بامتداد السهم إلى المرمى بقوته.
وهذا المانع منع تمام الامتداد إليه فيمنع تمام العلة والدرع.
والترس على المرمي مانع أصل حكم العلة لأن السهم لما امتد إليه
فقد تمت العلة، وكان من حكمه الجرح الذي هو قتل وهذا المانع
منع أصل الحكم.
والمداوات بعد الجرح حتى التئام الجرح مانع يمنع تمام حكم
العلة فالجرح إنما يتم قتلًا إذا سرى ألمه إلى الموت فما يقطع
السراية يكون مانع تمام حكم العلة.
ومثاله من العلل الشرعية الإبل السائمة جعلت علة لوجوب الزكاة
والصرف عن جهة الأسامة إلى وجه آخر عند التملك يمنع انعقاد
العلة وهلاك السائمة في أثناء الحول يمنع تمام العلة.
وكذلك زوال صفة السوم في أثناء الحول والدين يمنع أصل حكم
العلة، وغيبة المالك عن ماله تمنع تمام حكم العلة فإن الزكاة
لا تجب ولا يطالب بالأداء حتى يصل إلى ماله.
(1/334)
وكذلك البيع علة لإيجاب الثمن والمثمن.
والإضافة إلى الحر يمنع أصل الانعقاد عليه والإضافة إلى مال
الغير تمنع التمام فإنه في حق المالك كأنه لم ينعقد لعدم ولاية
العاقد عليه.
وشرط الخيار يمنع أصل الحكم فالبيع قد انعقد في حقهما على
التمام، وإنما امتنع الحكم بالخيار لتعلق الثبوت بسقوطه وخيار
الرؤية والعيب يمنع تمام الحكم فإن الحكم وهو الملك يجب غير
لازم.
وكذلك الأجل فإن الثمن يملك مع الأجل، ولكن لا يجب المطالبة
به.
فهذا باب لا بد للفقيه منه فإن الحكم ينعدم بهذه الوجوه
المختلفة والعدم لعدم العلة أو لنقصانها غير العدم لمانع، فلا
يمكن رد الفروع إلى نظائرها إلا بعد معرفة حد العلة شرعًا ثم
الموانع الطارئة عليه.
ألا ترى أنهم قالوا أن ابن السبيل إذا عجل الزكاة قبل أن يصل
إلى وطنه صح لأنه لا مانع عن أصل الحكم، وهو الوجوب فصار أداء
بعد الوجوب فصح.
ولو عجل وعليه دين لم يكن زكاة بل كان نفلًا لأنه منع أصل
الوجوب فلا يصح الأداء قبل الوجوب.
وكذلك لو عجل الزكاة قبل حولان الحول وهلك المال قبل المضي، لم
يكن زكاة لأن الحول منع أصل الوجوب، ولو عجل العبد الصلاة لأول
الوقت وحده، ولم ينتظر الجماعة كما أمر بالتأخير إليها صح لأن
الوجوب قد حصل، وإنما أمر بالتأخير إلى جهة هي أفضل، والله
أعلم.
(1/335)
باب
القول في أقسام المعارضات الصحيحة
والفاسدة
قد مر تفسير المعارضة فيما مضى وحدها، وهذا الباب لبيان
أقسامها في باب المقاييس وتمييز الصحيح من الفاسد منها.
المعارضة نوعان: نوع في علة الأصل، والثاني في حكم الفرع.
فأما الذي في حكم الفرع: فأنواع خمسة:
معارضة بضد ذلك الحكم نصًا في ذلك المحل.
أو بضرب تغيير تفسير للحكم المختلف فيه وتقريره إياه.
أو بضرب تغيير فيه إخلال بالحكم المختلف فيه.
أو نفي لما لم يثبته الأول.
أو إثبات لما لم ينفه الأول.
ولكن تحته معارضة للأول.
أو إثبات للحكم الأول في غير محل الأول.
والمعارضة في علة الأصل أنواع ثلاثة:
معارض بعلة أخرى غير متعدية.
أو متعدية إلى فروع اختلف في الحكم بها.
أو متعدية إلى فروع اتفق على حكمها، فتصير الجملة ثمانية
أنواع، خمس منها صحيحة أو فيها معنى الصحة، وهي التي تكون في
حكم الفروع، وثلاث منها فاسدة أصلًا، وهي التي تكون في علة
الأصل.
فأما الصحيح بأصلها فالنوعان الأول نحو قولهم: المسح ركن من
الوضوء فيسن تثليث وظيفته كالغسل.
وقولنا: أنه مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخف فيكون نفيًا
لما أثبته الأول بعينه في محله.
وقولنا: إنه ركن من الوضوء فلا يسن تثليثه بعد إكمال الفرض في
محله قياسًا على الغسل معارضة بزيادة هي تفسير للحكم المتنازع
فيه فيكون صحيحًا.
(1/336)
وأما النوعان اللذان بعدهما: فالتي فيها
منافاة لما أثبته المجيب بضرب تغيير فصحيحة من وجه نحو قولنا:
اليتيمة تزوج لأنها صغيرة فيولى عليها نكاحًا قياسًا على التي
لها أب.
فيقولون هي يتيمة فلا يولى عليها بقرابة الأخوة قياسًا على
ولاية المال، فزاد زيادة فيها إخلال بالمتنازع فيه.
لأن النزاع بيننا وبينه في إثبات أصل الولاية على اليتيمة لا
في تعيين مستحق الولاية فنحن أثبتنا أصل الولاية، وانه نفى أصل
الولاية بسبب خاص فلم يعارض تلك الجملة.
ولكن قد عارض البعض فإن الخلاف ثابت في ولاية الأخ وغيره.
ولأنه يقول تحت ثبوت هذا نفي لما تقولونه لأنا بهذا نفينا
ولاية الأخ، وولاية من وراءه منفية بالإجماع بالأخ.
وأما النوع الرابع فالعكس الذي ذكرناه نحن قولنا: أن الكافر
يملك بيع العبد المسلم فيملك شراءه قياسًا على المسلم.
وقولهم لما ملك بيعه وجب أن يستوي حكم الشراء والتقرير عليه
كالمسلم ثم هذا لا يقر على الملك بل يرد عليه.
فكذلك يرد شراؤه وهذه فاسدة لأنا لم نعلل للتفرق بينهما لتكون
التسوية معارضة بل حكم علتنا جواز الشراء.
والتسوية بين الشراء والإدامة حكم آخر لم نتعرض له، غير أنه
تجنب هذه التسوية دفعًا للحكم الأول من وجه على سبيل البناء
[وليس للسائل البناء]، فتصلح مثل هذه المعارضة لترجيح العلة
التي لا تنعكس على التي انعكست هكذا. وأما المعارضة ابتداء فلا
على ما مر في باب العكس.
وأما النوع الخامس فنحو قولهم، في امرأة لها زوج غائب فنعي
إليها فتزوجت، وولدت من الثاني، فحضر الأول، فإن أبا حنيفة
يقول: الولد للأول لأن فراشه صحيح، وقد ولدت على فراشه فيقول
الخصم للحاضر فراش بالنكاح الفاسد وقد ولدت على فراشه لأن
المحل.
وإن اختلف فيجب إثبات النسب في محل آخر، وهو نسب واحد نفي
للأول لأن الشيء الواحد لا يكون في محلين وهذا كالخارج وذي
اليد يقيم كل واحد منهما بينة أن هذا الشيء نتج في ملكي يثبت
بينهما معارضة وترجحت بينة ذي اليد.
ولو قال الخارج: هو عبدي ولد في ملكي ودبرته أو أعتقته صار
أولى من ذي اليد. .
(1/337)
وأما المعارضات في علة الأصل بعلة أخرى
فلغو من الكلام: لأنه جائز اجتماعهما جميعًا علتين في الأصل.
وإذا جاز الاجتماع بلا تدافع لم تقع بينهما معارضة.
ولأن ما لا تتعدى من العلة فباطلة بنفسها عندنا على ما مر وما
يتعدى فعدمها لا يوجب عدم الحكم ليثبت بالعدم معارضة في حكم
الفرع.
والتعليل كان لإثبات حكم الفرع فالمعارضة إنما تصح بما ينفيه
الكلام فيما مضى في باب أن العدم شرط لصحة العلة أم لا وفي
غيره، وكذا ما يتعدى إلى فرع مختلف في حكمه نحو قولنا فيمن باع
قفيز جص بقفيز جص: أنه ربا لأنه باع مكيلًا بجنسه متفاضلًا فلا
يجوز قياسًا على الحنطة.
فيقولون: المعنى في الأصل أنه باع مطعومًا بجنسه، قالوا:
وتتعدى علتنا إلى فروع لا يقولون بها كالتفاحة والحبة فمن
الناس من زعم أنه ممانعة حسنة لأن المسلمين أجمعوا على ترك
القول بهما فصارتا متدافعتين إجماعًا.
والجواب: أنا جمعنا على جواز الجمع بينهما من حيث ذاتيهما
فيكون الكيل علة والطعم علة، وغنما نفى كل واحد منهما علة خصمه
بدليل قام على فسادها لا بصحة علتها فتكون ممانعة بصحة علته
فاسدة بالإجماع، والله أعلم.
(1/338)
|