تقويم الأدلة في أصول الفقه

القول في بيان الترجيح
أما تفسير الترجيح لغة فإظهار الزيادة لأحد الممثلين على الآخر وصفًا لا أصلًا من قولك: أرجحت الوزن إذا زدت جانب الموزن حتى مالت كفته، وطفت كفة السنجات ميلًا لا يبطل قيام كفتي الوزن، فيكون الوزن باقيًا. ولكن وزن راجح أي مائل بزيادة لو أفردت الزيادة عن الأصل لم يقم بها الوزن في مقابلة الكفة الأخرى، فكان الرجحان عبارة عما يغير صفة الوزن لا عما يقوم به الوزن على سبيل المقابلة.
وضد أرجحت: طففت، فكذلك رجحان العلة على علة يكون من هذا الطريق بما يغير صفة القياس إلى قوة لو انفردت عن العلة لم تكن حجة [مقابلة بما تكون حجة] بنفسها مقابلة للأولى لو انفردت عن أصل علتها. وهذا كالشهادتين إذا تعارضتا وإحداهما مستورة والأخرى عادلة، ترجحت العادلة لأنها صفة الشهادة.
ولا تترجح بزيادة عدد الشهود ولأنها ليست بصفة لما هو حجة من الشهادة بل مثلها، وشهادة كل عدد ركن مثل شهادة الأخرى لا يكون بعضها صفة للبعض.
وكذلك الخبر لا يترجح بخبر آخر يروى، ولا الآية بآية أخرى ويترجح الخبر بكثرة الرواة لأن الحجة هو الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، والاشتهار في النقل [وجب قوة ثبوت في النقل الذي به يثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ويصير حجة ويصير] وصفًا للرواية، لأنا نقول رواية مشهورة ومتواترة وشاذة بخلاف الشهادة لأن الحجة قول الشاهد: أشهد، وكلام كل واحد ركن مثل الآخر لا أن يكون وصفًا له، وإنما يترجح بمعنى يرجع إلى الشاهد فيقوى الصدق من قوله: أشهد، فلا جرم أنه يختلف بها أمر الشهادة نحو شهادة الفاسق، والمستور والعدل.
ولهذا لا يترجح القياس بالنص لأن النص متى شهد بصحة القياس صارت العبرة للنص.
وسقط القياس في أن يضاف الحكم إليه في المنصوص نفسه على ما مر أن تعليل النص بعلة لا تتعدى ساقط.
وكذلك لا يترجح الخبر بالكتاب، ولن النص فوق قياس آخر.
وقد مر أن القياس لا يترجح بآخر لأنه لا يصير تبعًا له فبالنص أولى.
ولهذا قالوا: لو أن رجلًا جرح رجلًا جرحًا وآخر جراحات فمات من ذلك، استويا في تحمل ضمان النفس لأن كل جرح علة كاملة لإضافة الموت إليه فلا يكون لزيادة العدد عبرة.

(1/339)


وقد قال علماؤنا رحمهم الله في شقص دار بيع وله شفعاء بأنصباء متفاوتة: كان الشقص المبيع بينهم على عدد رؤوسهم، لأن النصيب وإن قل علة لاستحقاق كل المبيع، فتضاعف ذلك النصيب لا يوجب زيادة إضافة إليه كتضاعف عدد الجرح.
وكذلك قال الشافعي: أن صاحب النصيب الكثير لا يكون أولى فلا تترجح شركته على شركة الآخر إذ لو ترجح لصار الكل له، ولكن قال: يزداد له الاستحقاق كرجلين اشتريا عبدًا بثلاثة آلاف درهم على أن على أحدهما ألفًا وعلى الآخر ألفين كان العبد بينهما أثلاثًا أيضًا كالثمن.
فهذا ليس من باب الترجيح ولكن من باب من يستحق شيئًا بطريقة، والآخر بطريقتين.
وكامرأة ماتت وتركت ابني عم أحدهما زوج فإن الزوج يرث النصف بالزوجية والربع بالعصوبة.
ولا تترجح عصوبته على الآخر بالزوجية لأنها ليست بصفة للعصوبة بل هي علة أخرى فعلمت أن الاتفاق جاري على أن الترجيح لا يقع بمثل العلة الأولى، ولا بما فوقها بل بما يكون وصفًا لها وتبعًا.
والاختلاف في مسألة الشفعة في أن زيادة النصيب هل يعتبر علة أخرى للاستحقاق أم لا؟ فثبت أن حد الترجيح ما يزيد قوة لما جعل حجة ويصير وصفًا له.
وجملة أقسامه في المقاييس تنتهي إلى أربعة:
أ- قوة تأثير الوصف.
ب- وقوة ثباته على الحكم المشهود به.
ج- وكثرة أصوله.
د- وانعدام الحكم لعدمه.
أما قوة التأثير: فإنه صار حجة يعمل بها بتأثيره، فيترجح معنى الحجة برجحان هذا الوصف كالخبر لما صار حجة بالثبوت عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك باتصال الرواية عنه إليه، وهذا الاتصال يزداد قوة بحال الراوي في صلاحه وضبطه، وباتصال الإسناد وانقطاعه وجب الرجحان بما قوى به الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: أليست الشهادة جعلت حجة بسبب العدالة ثم لا تترجح بقوة العدالة، فإن بعض الشهود يكون أعدل من بعض؟
قلنا: إن العدالة بالتقوى، والتقوى ليست بأنواع بعضها فوق بعض ليمكن التمييز بينها بأنواعها كأحوال الرواية فإنها متصلة ومنقطعة.

(1/340)


وكذلك أحوال الرواة في الضبط وغيره، والرواية في تواترها وشذوذها طرق شتى ليست من جنس واحد على ما بينا في أبوابها.
وكذلك تأثير العلة إنما يكون بأدلة معلومة متفاوتة الأثر بعضها فوق بعض ممكن العمل بها، ومثال ذلك اختلاف العلماء في طول الحرة هل يمنع الحر نكاح الأمة؟
قال الشافعي: يمنع لأنه استغنى به عن تعريض جزء منه للرق فلم يحل نكاح الأمة لما فيه من إرقاق ولده وهو جزء منه، والإرقاق كالهلاك حكمًا حتى يخير الإمام في الكافر المغنوم بين القتل والإرقاق، فكان حرامًا إلا لضرورة ما، وهو أن لا يجد طول الحرة ويخاف الزنا أو فساد أمر المعيشة، ويقيس بهذا المعنى على من تحته حرة.
ونحن نقول: الطول لا يمنع لأنه يجوز معه نكاح العبد بالإجماع. فإن المولى إذا دفع إليه مالًا يجد به الحرة فتزوج به الأمة يجوز بالإجماع.
ولما جاز معه نكاح العبد الأمة جاز نكاح الحر كذلك قياسًا على وجود الحرة في دار الدنيا، وهذا لأن العبد ما فارق الحر إلا بتصنيف حاله في المعنى القابل لعدد الأنكحة، حتى حل للحر أربع نسوة حرائر ولم يحل للعبد إلا نصفها فأما سائر شروط النكاح من المهر والولي والخلو عن العدة فقائمة، والنصوص لا توجب التفرقة بينهما.
وإذا بقي العبد فيما بقي من النكاح الحلال على ما كان بحكم تنصف السبب لم يجب التفريق بينه وبين الحر في ما بقي من الشروط المانعة المبيحة، وكان هذا الأثر أقوى من أثرهم لأنه أشار إلى إرقاق مائه، وفيه هلاك حكمًا.
والحر له أن يعزل مختارًا بلا ضرورة وفيه تضييع مائه وهلاك حقيقة، فلما لم يحرم السعي إلى الهلاك الحقيقي بلا ضرورة فلأن لا يحرم السعي إلى الهلاك الحكمي بلا ضرورة أولى، فضعف أثر وصفهم بنظيره من الهلاك الحسي الحقيقي فقد شهد عليهم.
وكذلك نكح الأمة الكتابية عندنا حلال للمسلم، وعنده حرام لأنها أمة كافرة فأشبهت المجوسية.
قال: لأن للرق أثرًا في التحريم وكذلك الكفر فإذا اجتمعا التحقا بالكفر الغليظ، أو لأن طول الأمة [من أهل الكتاب والإسلام سواء، ونكاح الأمة] جائز لدفع ضرورة الزنا فإذا وقعت الغنية بالمسلمة لم تحل الكافرة، ولهذا قال: لا يجوز أن تنكح الأمة على الأمة لأن الضرورة اندفعت بالواحدة.
إلا أنا نقول: نكاح الحرة يجوز له مع هذا الدين فكذلك نكاح الأمة قياسًا على دين الإسلام، وهذا لما ذكرنا أن الرق لا يحرم أصل النكاح بل ينصف بقدر الإمكان فلا يتغير حكم أصل النكاح لما بقي النصف على ما كان، وإنما يظهر أثره في القدر ولا قدر لنكاحها من حيث التزوج برجال، كما يتزوج الرجال بنساء ليظهر حكم التصنيف في ذلك

(1/341)


القدر فظهر الأثر فيما يتعدد ويتقدر من حال وقوع نكاحها فإن الوقوع قد يكون ابتداء وقد يكون على حرة.
ولا يلزم نكاح الأمة على الحرة فإن نكاح الحرة لا يمنع نكاح الحرة.
ويمنع نكاح الأمة لأن الامتناع بحكم فوات نصف الحل كما في جانب العبد.
وبيانه: أن التصنيف يثبت في جمع يقبل التجزيء، ولا جمع لنكاح المرأة من حيث الرجال فإنها لا تتزوج برجال، وإنما الجمع من حيث الاجتماع مع الضرة فينصف بالرق فجاز للحرة في الأحوال كلها مع الأمة قبلها أو بعدها، ولم يجز للأمة إلا النصف وهو أن يكون قبل الحرة.
وأما إذا جمع بينهما معًا، وكان عددًا وسطًا فكان يجب أم يتنصف الجواز لو قدرنا، إلا أنه يشيع لأن النكاح لا يتجزأ صحته فشاع كمان طلق امرأته تطليقة ونصفًا يقع اثنتان والأمة تعتد بنصف ما تعتد به الحرة.
وإذا كانت بالقرء اعتدت الأمة بقرءين والحرة بثلاثة لأن القرء لا يتجزأ في تعلق العدة به.
والحر عندنا ينكح الأمة على الأمة لأن العبد يحل له ذلك.
فكذلك الحر فالأثر الذي اعتمدناه في تنصيف ما يبتنى عليه جواز النكاح بالرق من حيث يمكن أثر قوي لم يحتمل بوجه فإن كل شيء يقبل التنصيف بقي النصف منه على ما كان عليه حكم الكل.
وكذلك قولنا: إن الرق سبب منصف للحل مؤثر، فالحرية لها شرف في مقابلة الرق وقد وجدنا لشرف النبوة أثرًا في زيادة إطلاق لعدد النكاح فصح إضافة زيادة الإطلاق، فيما نحن فيه إلى الحرية إظهارًا لشرفها في مقابلة الرق، وقد بينا ضعف أثر في اعتبار الضرورة.
وكذلك بيان الأثر لضم الرق إلى الكفر ضعيف لأنا لا نسلم أن للرق أثرًا فى تغيير شرط الجواز.
وأصل النكاح إنما أثره في قدر ملك النكاح من الوجه الذي يتعدد، ولا عدد إلا في النساء يجتمعن عند رجل فلا يظهر أثر الرق إلا في حال اجتماعهن من الجانبين جميعًا على وجه يظهر به شرف الحرية في زيادة إطلاق.
ولأن منع الكفر النكاح بطريقة غير طريقة منع الرق والعلتان لحكمين مختلفين تمامًا إذا اجتمعتا لم تقو إحداهما بالأخرى.
وكذلك اختلفنا فى إسلام أحد الزوجين وردة أحدهما؟

(1/342)


قال علماؤنا رحمهم الله: إن الفرقة بالردة تقع بنفسها، وفى الإسلام لا تقع إلا بالقضاء إذا أبى الآخر والإسلام لا عبرة للدخول بها.
وقال الشافعي: إن للمرأة تبين بنفس الاختلاف إذا كان قبل الدخول، وتبين بالعدة بعد الدخول لأن الطارئ وهو اختلاف الدينين سبب تعلق به الفرقة بالإجماع، لا على سبيل منافاة أصل الملك حكمًا، فإذا أجمعنا على أنهما إذا ارتدا بقيا على النكاح وردة أحدهما موجودة ويعد الإسلام بعد الدخول الملك قائم لو أسلم الباقي منهما بقيا على النكاح، وما ينافي في أصل الملك حكمًا لا يتصور مع بقاء الملك كالمحرمية وملك اليمين، فصار من هذا الوجه نظير الطلاق فإنه غير مناف لأصل الملك حكمًا، فإنه يراجعها ويبقى الملك مع الطلاق وتتعلق به الفرق فتعلق بالخلو عن العدة.
وقلنا نحن فى إسلام أحدهما: أن الطارئ من السبب وهو الإسلام لا يُضاف إليه الفرق لأنه سبب لعصمة الأملاك دون إزالتها.
ولأن القرار يتوقف على إسلام الآخر لا زوال هذا الإسلام.
وقرار العقد لا يتوقف على قرار ما يوجب قطعه وهذا أثر قوي معقول.
ولا يجوز أن يضاف إلى كفر الباقي لأنه غير حادث، ولكنه دوام لما كان ودوام ما لم يكن قاطعًا لا يوجب قطعًا ضرورة.
فإن قيل: إنما لم يكن كفر هذا قاطعًا مع كفر الآخر دون إسلامه، ألا ترى أنه لم يكن مانعًا لابتداء العقد مع كفر الآخر والآن هو مانع.
قلنا: نعم [يمنع ولا يقطع والنزاع وقع في القطع كأن الحالة لم تتبدل] بأن صار مانعًا يتبدل الحال لا يدل على أنه يصير قاطعًا فإن كثيرًا من الأشياء يمنع ولا يقطع، والنزاع وقع في القطع فصار في حق القطع كأن الحالة لم تتبدل.
فالشافعي أضاف فرقة وجبت عقيب الاختلاف إلى الاختلاف وبين أثره بمنع ابتداء العقد وحرمة الوطء، وإنه ضعيف لأن العدة تمنع الابتداء وتحرم الوطء ولا توجب الفرق.
ونحن قلنا: إن الاختلاف ليس بسبب يوجب الفرقة لما ذكرنا من الدليل، وإنه قوي الأثر مجمع عليه على ما مرَّ، ولما لم يكن الحادث سببًا وجب عليه طلب سبب آخر تحته له أثر في إيجاب الفرق، وما ذلك إلا فوت غرض النكاح فإن هذا الاختلاف يحرم الوطء ويجعلها معلقة، والله تعالى حرم التعليق وجعله ظلمًا يقع على النكاح بانعدام الغرض الذي شرع النكاح له، وأمر بالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان.
وهذا كما قال الشافعي في الإيلاء بعد المدة: إن الزوج يصير ظالمًا ظلم التعليق

(1/343)


فيوجب التفريق إذا أصر على الظلم، فكذلك ههنا وإذا كان كذلك صار مفوضًا إلى القاضي لأنه فرقة لإزالة الظلم والقاضي ولي لإزالة الظلم عن الناس.
فأما ردة أحدهما فسبب مناف للملك حكمًا فيتعجل الفرقة كملك أحد الزوجين صاحبه أو المحرمية.
وإنما قلنا: إنه مناف حكمًا لأن الردة ليست لقطع ملك النكاح، ولا تملك بملك النكاح وتصح قبل الملك بل لتبديل الدين فإذا وجبت الفرق عقيبها ولها أثر فى إزالة العصمة أضيفت إليها، ولما أضيفت إليها ولم تكن الردة موضوعة لها علمنا أنها وجبت حكمًا أي الشرع حكم بالمنافاة بينهما كملك اليمين مع ملك النكاح، والمتنافيان حكمًا لا يتغير حكم المنافاة بها بالدخول وعدم الدخول.
وقول الشافعي: إنها ليست بمنافية حكمًا لأنهما إذا ارتدا معًا بقي النكاح غير قوي أثره، لأن الردة إن لم تناف حال اتفاقهما في الكفر لم تدل على عدم المنافاة حال الاختلاف ألا ترى أن اتفاقهما في الكفر الأصلي لا يمنع ابتداء العقد، ولا يقطع وحال الاختلاف يمنع بلا خلاف ويقطع عنده فلم تكن إبانة التأثير دليلًا على إفساد ما قلنا بحال الاتفاق قويًا، لما بينا أن لحال الاختلاف أثرًا في إعمال العلل المحرمة حكمًا.
وكذلك إذا قلنا إن عدد الطلاق بالنساء وقالوا: إن العدد بالرجال، لأن الملك لهم فيعتبر بحالهم كابتداء الملك عدد المنكوحات اعتبر بحال الرجل دون المرأة لأن الملك صفة المالك فيعتبر بحاله.
وكملك اليمين يعتبر بحال المالك فيملك إذا كان حرًا ولا يملك إذا كان عبدًا.
وقلنا نحن: الطلاق لقطع الملك الثابت على المرأة فيعتبر عدد القاطع بمحل الملك قياسًا على عدد العتاق يعتبر بعدد ملك اليمين في المماليك لا بالمالك، وهذا أولى لأن الملك يزداد بزيادة المحل المملوك بالمالك والقطع بناء على الملك فإنما يزداد بما يزداد به الملك.
فإن قيل: هذا فيما يتصور الازدياد بالمحل وذلك بزيادة عدد النساء لا بالحرية والرق فملك الرجل في الحرة والأمة واحد.
قلنا: لا كذلك بل ملكه في الحرة ضعف ملكه في الأمة من حيث الحكم، ألا ترى أن القسمة إذا وجبت بين الحرة والأمة بحكم هذ الملك كان للأمة ليلة وللحرة ليلتان فنزلت الحرة منزلة أمتين.
وكذلك العدة التي تجب قضاء لحق هذا الملك على ما بينا في موضعه: يجب على الحرة ضعف ما يجب على الأمة إلا أن التضعيف لا يتبين في أصل الاستحلال لأنه مما لا يتجزأ، ولكن يظهر فيما يتجزأ من الأحكام التي تتفرع من هذا الملك من العدة، والقسم،

(1/344)


فكان الأثر الذي صرنا إليه أقوى من أثره بالملك بل أثر الملك في إطلاق التصرف والحجر لا في قدر عدد المملوك من التصرف المزيل للملك، وإنما الأثر للمحل على ما بينا.
وكذلك مسح الرأس لا يثلث استدلالًا بمسح الخف لأن هذا الوصف يفرق بين جنس الغسل، والمسح في حكم التخفيف فإن المسح أخف منه في نفسه، وكذلك في حكمه حتى تأدى الفرض منه ببعض محله فصار وصف المسح مؤثرًا وضعًا وشرعًا في الفرق بينه وبين الغسل.
وقولهم: إنه ركن فصار نظير الغسل لا أثر له في جعل الركن بابًا واحدًا فيما هو تغليظ لا من حيث نفسه ولا من حكمه.
وكذلك صوم رمضان عندنا يتأدى بمطلق نية الصوم لأنه صوم عين أي ليس معه غيره في وقته فأشبه صوم النفل في سائر الأيام فإنه لم يشرع معه غيره في أصل الشريعة، وإنما يثبت بعوارض وتأثيره أن النية ما شرعت أصلًا إلا لتعيين العبادة عن العادة فلا يشرع زيادة الوصف عليه إلا لتعيين عبادة عن عبادة أيضًا، فإذا لم تشرع العبادة وكانت الواحدة عينًا لم يفتقر إلى التعيين.
وقال الشافعي رحمه الله: إنه صوم فرض فيكون تعيين نية الفرض شرطًا قياسًا على القضاء، لأن للفرضية أثرًا في تغليظ حكمها متى قوبل بالنفل، وإنه ضعيف لأنه أشار إلى أثر مجمل مع اتفاقنا على المساواة بينهما في كثير من الأحكام، واختلافنا في شيء بعينه وهو النية، ونحن بيّنا الأثر في نفس النية فهذا أقوى وجه يجب اعتباره.
وأما الوجه الثاني: وهو قوة ثباته على الحكم المشهود به فلأنه جعل علة لإيجابه فيكون زيادة وجوب الحكم بها رجحانًا من حيث الوصف، مثال ذلك أنا قلنا: إن المنافع لا تضمن بالإتلاف لأن ضمان مثل، والمثل بنبئ عن المساواة إما مطلقة صورة ومعنى أو معنى بالإجماع، والمنافع لا مثل لها فلم يجب ضمان المثل للعجز عن الوصول إليه، كما لا يجب ضمان المثل صورة فيما لا مثل له من صورة، وكذلك المنافع لا تضمن بمنافع مثلها لعدم المماثلة، فكذلك لا يجب من حيث القيمة لأنه لا مماثلة بينهما أيضًا، فإسقاطنا ضمان المثل للعجز عن المثل إسقاط بمعنى مؤثر لأن التكليف مبني على الطاقة في جميع أنواع التكليف.
فحكم هذه العلة يتبعها في جميع أنواع التكليف، ودلالة أنه لا مثل لها أن القيمة دراهم أو دنانير، وهما جواهر والمنافع أعراض.
والجوهر في ذاته خير من العرض لأنه يقوم بنفسه والعرض يقوم بغيره فكان كالتبع له بل وصفًا للجوهر، لأن الجوهر مما يبقى زمانين والعرض مما لا يبقى صفة ذات،

(1/345)


والاتصاف بالبقاء معنى منبئ عن الجودة بل تفاوت ما بين التبع والمتبوع أكثر مما يكون بين الجيد والرديء.
وقال الشافعي: تضمن بالإتلاف لأن المنافع مما تقوم بالعقد، فكذلك بالإتلاف قياسًا على عين المال وأوجب المماثلة بقدر الإمكان.
فإذا لم يمكن إلا بأدنى تفاوت تحمل كما تجب القيمة عن الأعيان وإنما يستدرك بالظن.
والحرز لما لم يمكن إيجاب المثل صورة، وكان هذا التفاوت أولى بالتحمل من إسقاط حق المتلف عليه أصلًا ورأسًا، وهذا حكم لازم فإنا أمرنا بدفع الضرر ما أمكن.
فإذا دار الأمر بين أن يسقط الضمان فرارًا عن إيجاب زيادة متيقن فيها على المتعدي على أضرار بالمتعدي عليه بإبطال أصل حقه، وبين أن يتحمل الزيادة لحق المتلف عليه بعذر العجز كان الأولى ما صرت إليه فالمظلوم أولى بالنصرة ودفع الضرر عنه، وأكثر الضررين أولى بالدفع عند المقابلة.
وقلنا نحن: حكم علتنا من حيث نفي الزيادة عن المتعدي أثبت لأنا وجدنا في أصول الشرع إتلاف مال متقوم لا يوجب ضمانًا كإتلاف الباغي أموالنا ونفوسنا في حال المتعة، وإتلاف الكفار كذلك، ولم نجد تعديًا أوجب الزيادة على المثل بعذر من الأعذار في الدنيا لا في الآخرة بل الزيادة جور لا وجه إليه بحال فكان حكم علتنا ألزم من حكم علتهم.
وهذا لأن في الزيادة جورًا وفي الإسقاط تأخير الانتصاف إلى الآخرة فكان التأخير أهون من إبطال حق المتعدي في الزيادة.
ولأن الزيادة راجعة إلى ما يتبين من حكم الله تعالى، وحكم الله تعالى مصون عن الجور، وأما الضرر فيبقى غير مجبور للمظلوم لعجزنا عن الخبر والعجز عذر لنا.
ثم الظالم مساو للمظلوم في احترام حقوقه إلا من حيث الانتصاف منه له بالمثل والكلام في الزيادة فسقط أثر التعدي فيها، وليس هذا كضمان القيمة عن العين لأنا لا نوجب زيادة بالفتوى بحال، بل نوجب قيمة عدل على الحقيقة فلكل عين متقوم قيمته مثل على الحقيقة عند الله تعالى وإنما يقع التفاوت بقدر ما يقع في استيقاء الواجب لأنه لا يقع مثلًا على الحقيقة، وذلك عمل بما وجب والعمل يلزمنا بقدر الوسع فسقط اعتبار ما ليس في وسعنا دفعه فثبت أنا ما أوجبنا بالشرع زيادة على المثل في موضع.
وكذلك قلنا: ملك النكاح لا يضمن بالإتلاف، وكذلك ملك القصاص، حتى لو شهد شاهدان بالطلاق بعد الدخول أو العفو عن القصاص، وقضى القاضي ثم رجعا لم يضمنا لأن المال ليس بمثل لهذين الملكين لا صورة ولا معنى لأن معنى المال غير معنى ملك النكاح، وملك الحياة.

(1/346)


وكان القياس أن لا تجب الدية مثلًا عن الآدمي بالقتل خطأ إلا أنا أوجبناها بالنص معدولًا به عن القياس فلا يقاس عليه غيره.
وكذلك إذا غصب ساحة فبنى عليها لا ينقض عليه لأن في النقص إبطال ملك قائم بعينه للغاصب بلا عوض وفي الإبقاء إتلاف ملك المغصوب منه بعوض، وهو مالك من وجه على ما بينا في موضعه فكان هذا أهون، ويكون الغاصب متعديًا لا يستوجب زيادة غرْم على مثل ما تعدى، ولا تبطل حرمة ماله بوجه وراء الانتصاف منه.
وكذلك إن صوم رمضان صوم عين من بين سائر الصيام فلا يشترط تعيينه عن سائر أنواعه قياسًا على النقل في غير رمضان.
وقولهم: أنه صوم فرض فأشبه القضاء لأن سقوط التعيين فيما هو عين حكم لازم موجود في المعاملات وسائر الفرائض من الزكوات، وكل عين يتصف بالتعيين وحكم علتهم يختص بصوم فرض لا يدور مع كل فرض على ما بينا أن فرض الزكاة يتأدى بلا تعيين نية الزكاة.
وكذلك فرض الإيمان والشهادة باللسان.
وكذلك فرض الحج على أصله يتأدى بلا نية التعيين فهو قريب من الباب الأول.
ومنه قولنا: إن ربا الفضل حرام للكيل والجنس فيحرم بهما فضل القدر كيلًا، وقولهم حرام للطعم، والحرام فضل القدر ذاتًا في الحبة بالحبة، فإن أجزاء الخلقة على التفاوت كانت علتنا أولى لأن حكمها، وهو حرمة فضل القدر كيلًا لازم معها أبدًا، وحكم علتهم يزول إذا جاءت المساواة كيلًا فإنه حلال مع تيقننا بتفاوت الأجزاء بينهما ذاتًا، والله أعلم.
وأما النوع الثالث: فبكثرة الأصول لما مرَّ أن الوصف هو الحجة بأثره في الحكم لا الأصل فيكون في كثرة الأصول زيادة لزوم الحكم معه من وجه آخر غير ما مرّ، كزيادة صحة الخبر بزيادة الرواة حتى يصير مشتهرًا ومتواترًا، وقلما يوجد نوع ترجيح من هذه الأنواع إلا ويتبعه الآخران.
وأما الرابع: فأخف الوجوه ترجيحًا، وهو العدم لما مرّ أن العدم لا يوجب عدمًا ولكن لما عدم الحكم بعدمه بعدما صار علة بدليله أوجب زيادة علم بتعلق الحكم به يفوت ذلك إذا نفي الحكم مع عدمه من حيث الظاهر.
ومثال ذلك: إنا نقول في من اشترى طعامًا بعينه بطعام أن القبض ليس بشرط في المجلس لأنه مثمن عين فأشبه الثياب.
وقالوا: القبض شرط لأنه من أموال ربا الفضل مع الجنس فأشبه الذهب والفضة.

(1/347)


قلنا لهم: إن علتنا أولى لأن الحكم ينعدم بعدمها، وهو صرف الدراهم بالدراهم أو إسلام الدراهم في الحنطة لما كانا دينًا بدين أو ثمنًا بثمن شرط القبض في المجلس كي لا يكون كيلًا يكون كاليًا بكالي، لأن الأثمان لا تتعين بحال بيعًا.
وعلتهم لا توجب العدم لعدمها فإن القبض شرط في المجلس في باب السلم، وإن لم يشتمل على أموال الربا.
وكذلك إذا قلنا: إن الرجل إذا ملك أخاه عتق عليه لأن بينهما قرابة محرمة للنكاح فأشبه الأب والابن كان أولى من قولهم: لا يعتق لأنه يحل له وضع الزكاة فيه فأشبه ابن العم، لأن علتنا تنعدم لانعدامها في ابن العم وعلتهم لا توجب العدم فإن الكافر يحرم وضع الزكاة فيه، ولا يعتق على المسلم إذا ملكه.
وأما الترجيحات الفاسدة فما عدا هذه الأقسام.
منها ترجيح القياس بالقياس لما ذكرنا فيما مضى، وقد أجمع المسلمون في ابني عم أحدهما زوج ورثا امرأة أن الزوجية لا توجب ترجيحًا للعمومية لأنها علة بانفرادها، ولو كانا أخوين لأب أحدهما أخ لأم يرجح بالأم الأخوة لأب لأن هذه الوصلة رجعت إلى الأولى فصارت وصفًا له، فصار كعلة ثبتت بأصلين، وخير ثبت برواة كثيرة، وقال عامة الصحابة رضوان الله عليهم في ابني عم أحدهما أخ لأم: أن ابن العم الذي ليس بأخ يرث.
وقال بعضهم: لا يرث لأن الكل قرابة، إلا أنا نقول: الأخوة غير العمومة فلا يصيران علة واحدة بل كان كل واحدة علة منفردة فأشبه ابني عم أحدهما: زوج.
ومن الترجيح الفاسد: غلبة الأشباه، كقولهم: إن الأشباه بين الأخ وابن العم أكثر من حيث جريان القصاص في الطرفين وحرمان الإرث بالأولى وحلّ وضع الزكاة وقبول الشهادة لصاحبه، ولا شبه بينه وبين الأب إلا المحرمية بالرحم، وذلك لأن هذه الأشباه أوصاف أو أحكام تجعل عللًا، وكثرة العلل لا توجب ترجيحًا ككثرة الأخبار، وكثرة الآيات فلا فرق بين أوصاف تستنبط من أصل، أو من أصول ولو كانت من أصول شتى لم توجب ترجيحًا فكذا هذا بل أولى لما ذكرنا أن زيادة الأصول ترجيح للوصف الواحد.
ومن الترجيح الفاسد قول بعضهم: إن علتي أعم لأن العلل خلف النصوص، والنقض لا يترجح بعمومه فكذا العلة بل الخاص من النص أولى عند الخصم فيجعل العلة الخاصة أولى.
ومن الترجيح الفاسد: أن تكون إحدى العلتين بوصف، والأخرى بوصفين فيقال: إن التعليل بوصف أولى لأنها خلف النص، والنصان إذا تقابلا لم يترجح أحدهما بكونه أوجز عبارة.
فهذه وجوه أربعة متداولة بين أهل النظر.

(1/348)


باب

القول فى المناقضة
قد ذكرنا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه، ومثل هذا الدليل لا ينقض، وإنما تجيء المناقضة على الطرد لأنهم جعلوه حجة باطراده، وربما لا يطرد، فإنه دليل ما ثبت إلا بحسن الظن أو غالب الرأي، وهما لا يوجبان علمًا لا يحتمل الغلط، إلا أنا أثبتنا بالباب لنبين لك بالأمثلة أن المؤثرة لا يرد عليها نقض، ولكن يرد عليها الخصوص على سبيل أن الذي جاء ناقضًا ظاهرًا غير داخل تحت ما جعله المعلل علة معنى.
وبيان ذلك بطرق أربعة.
من حيث اعتبار معنى الوصف الذي هو ركن العلة.
ثم اعتبار معنى دلالة التأثير الذي به صار الوصف حجة يجب العمل بها.
ثم باعتبار الحكم الذي وقع التعليل لإثباته.
ثم بالغرض الذي قصد المعلل التعليل لأجله وأثبت الحكم بقدره.
أما الوصف فنحو قولنا: إن وظيفة الرأس مسح فلا يثلث كوظيفة الخف.
فلا يلزم الاستنجاء بالحجارة لأن تلك الوظيفة ليست بمسح بل هي إزالة للنجاسة الحقيقية، ألا ترى أن الإزالة بالماء أفضل لأنها أتمّ، ولو كانت الوظيفة مسحًا لكره التبديل بالغسل كما في وظيفة الرأس.
وكذلك إن الدم السائل عن الجرح حدث لأنه نجس خارج فأشبه البول، ولا يلزمنا الدم إذا لم يسل عن رأس الجرح لأنه ظاهر وليس بخارج، لأن الخروج بالانتقال عن مكان باطن إلى مكان ظاهر، وتحت كل جلد ورطوبة وفي كل عرق دم، فالذي هو على رأس الجرح ظهر بزوال الجلدة التي كانت سترة له، ولم ينتقل عن مكانه إلى مكان ظاهر من بدنه خلقة فهو كرجل في البيت ظهر بفتح الباب أو بنقض البناء، والآخر ظهر بالخروج عن الباب لم يكن الظاهر في محله الباطن في أصله بزوال البناء، أو الستر خارجًا دلّ عليه أنه لا يجب غسله في نفسه إذا لم يسبل، وهذا حكم النجاسة الباطنة لا الخارجة.
وأما التأثير: فلأنا نقول: إن صفة المسح إنما صار علة لمنع التثليث، لأنه قد ظهر أثره في نفسه من حيث التخفيف في مقابلة الغسل فعلًا وذاتًا، وكذلك قدرًا من حيث

(1/349)


التأدي ببعض المحل، وهذا المعنى معدوم في الاستنجاء، لأن أصل المأمور هو مسح موضع النجاسة ولا يتأدى ببعض محل النجاسة فكان نظير الغسل في محله سنة من مضمضة، أو فريضة من غسل وجه.
وكذلك النجاسة الخارجة إنما كانت حدثًا لأنها أوجبت تطهيرًا في نفسها، فإنه يجب غسلها إذا سالت عن رأس الجرح كما أوجب خروج البول، فلما ساوته في إيجاب الحقيقة ساوته في إيجاب الحكمية بل أولى لأنها دون الطهارة الحقيقية، وأخف منها من حيث أنها طهارة.
ولا يلزم التي لم تسل لأنها لم تصر كالبول في إيجاب الطهارة في محلها فكذا في غير محلها فتبين بدلالة التأثير أنها لم تدخل تحت التعليل بل تزيد قوة في انعدام الحكم إذا انعدم دلالة التأثير، وإن بقي الوصف.
وأما الحكم: فنحو قولنا، فيمن نذر صوم يوم النحر: إنه صحيح لأنه يوم فلا يفسد النذر بالإضافة إليه كسائر الأيام، ولا يلزم إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها لأن الفساد بالإضافة إلى الحيض فالحيض صفة لها لا لليوم.
وقولنا: إن الغصب سبب ملك بدل أصل المال فيكون سببا لملك الأصل قياسا على البيع، ولا يلزم غصب المدبر لأنا عللنا لنجعل الغصب سبب ملك ولم نعلل لبيان المحل الذي يعمل فيه، وفي المدبر الغصب سبب ملك، إلا أن التدبير منع عمله كما لو باعه.
وكذلك الكتابة عقد يحتمل الفسخ فلا يوجب ما يمنع التكفير به كالبيع والإجارة، ولا يلزم إذا أدى بعض بدل الكتابة لأن المانع أخذ بعض العوض عن العتق لا الكتابة، وهو معنى قول أهل النظر: إن المعلل للجملة لا يناقض بالإفراد.
وأما الغرض: فنحو قولنا: إن التأمين يخافت به لأنه ذكر، ولا يلزم التكبيرات من الإمام لأن غرضنا أن نجعل كونه ذكرًا علة لشرع المخافتة، وأنه كذلك في التكبيرات فإن أصل الشروع فيها المخافتة بها وإنما وجب الجهر بعلة أخرى، وهي إنما شرعت إعلاما، والعلة مع كونها علة قد تجب ضد حكمها بمعارضة علة أخرى أولى منها.
كذلك نقول: إن الدم السائل حدث لأنه نجس خارج فأشبه البول ولا يلزم دم الاستحاضة لأن غرضنا أن نسوي بين الخارجين في كونهما حدثًا ناقضًا للطهارة وقد استويا لأن السيلان متى دام منها لم يكن حدثًا ناقضًا إلا بخروج الوقت.
ولأن الغرض أن نجعله علة ناقضة للطهارة وهو علة في الاستحاضة بعد الوقت.
ولكن امتنع النقض للحالة لعلة أخرى مانعة وهي أنها مخاطبة بالأداء فيجب أن تكون قادرة، ولا قدرة إلا بسقوط حكم الحدث فسقط ومنع العلة أن تعمل عملها لدفع ضرورة العجز عن الإمكان، فلا يخرج عن كونه علة بتأخر العمل إلى حين كالبيع بشرط

(1/350)


الخيار ثلاثة أيام، وأهل النظر لقبوا هذا الدفع بأنه لا يفارق حكم أصله ونحن لقبنا بالغرض لأن الغرض أوجب القصر على تلك الجملة وبين أن العموم لم يدخل تحت التعليل.
وجملة الحد في الخروج عن المناقضات أن المعلل متى أمكنه الجمع بين حكم علته، وهذا الذي جاء مناقضا لم يكن نقضا، ومتى لم يمكنه كان نقضا كما في تناقض الدعاوي وهذا لأن الجمع بين النقيضين لا يتصور.
وبهذه الوجوه من البيان يمكنه الجمع بينهما من غير رجوع عن الأول أو ترك.
وبهذه الوجه يتبين الفقه: فإنه اسم لضرب معنى ينال بالتأمل والاستنباط.
وفسرت الحكمة في القرآن بالفقه، لأن الحكمة هي المعنى الباطن في المصنوع لأجله كان الصنع، فكذلك المعنى الباطن في النص الذي شرع لأجله الحكم هو العلة.
والحكمة والفقه هو الوقوف عليها، فالدافع على طرف الفقه هو أن يكون بوجه لا ينال إلا بضرب تأمل، فأما الدفع بألفاظ ظاهرة فمما يقع بها الاحتراز عن النقوض بالسماع، فلا يكون فقها.
إلا أن أهل الطرد لما كلت أفهامهم عن الفقه، وطمعوا في اكتساب اسم الفقه أبدلوا المقاييس المعنوية بمقاييس لفظية تشهيا ولم يدروا أنهم لما اعتمدوا الألفاظ، فالأولى بهم أن يقولوا بظاهر النصوص ويكونوا مع أصحاب الظواهر مع ما أطلقوا على أهل التوحيد والسنة أهل الإلحاد ببنائهم أحكام الشرع على ألفاظ ودعاويهم، وبالله نعوذ من الخذلان والكسل والعجب، ونسأله التوفيق للإصابة والجد.
وقد زاد مشايخنا من أصحاب الطرد في هذه العلل المؤثرة فعللوا لمسح الرأس بأنه مسح بالماء فأشبه مسح الخف احترازا عن الاستنجاء بلفظ ظاهر.
وعللوا للدم السائل بأنه نجس خارج إلى موضع يلحقه حكم التطهر في نفسه احترازا عن غير السائل بنص ظاهر.
وعللوا لإيجاب الملك في المغصوب بالغصب عند أداء الضمان أنه سبب أوجب ملك البدل عما يحتمل التمليك والتملك فيوجب ملك الأصل احترازا عن المدبر، وأنه سمع سماعًا ولغوًا ذكرًا لوقوع الغنية عنه بما دونه، والله أعلم.

(1/351)


باب

القول في صحيح الاعتراضات على العلل الطردية التي لا يضلل القائل بها ويجوز العمل بها بالإجماع
مما مر بيانه في التعليل بوصف ملائم القول بموجب العلة، ثم الممانعة، ثم بيان فساد الوضع، ثم المناقضة، فهذه وجوه أربعة تلجأ أصحاب الطرد إلى القول بالتأثير ضرورة.
وسنذكر كل قسم في باب على حدة ليكون أبين للمقصود، فقد أولع أهل زماننا لكسلهم في الدين بطريقة الطرد، وصار القول به عادة راسخة، وطبيعة خاصة وانتزاع الناس عن العادة أمر صعب وخطر هائل، ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك عموما بقوة الحجة، حتى انضم إليها قوة السيف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(1/352)