تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
في القول بموجب العلة
أما تفسير القول بموجب العلة: فهو التزام ما أوجبته العلة،
وأنه سبب عجب لإلجاء أهل الطرد إلى القول بالتأثير، وذلك في
قولهم: إن المسح بالرأس ركن في الضوء فيسن تثليثه كالغسل.
فنقول: عندنا يسن تثليثه لأن قدر الفرص يتأدى بالإجماع ببعض
الرأس، ويسن الاستيعاب بالإجماع، وفيه تثليث قدر المفروض من
المسح لأن الباقي بعد الفرض من فعل المسح يكون مثلي قدر الفرض
وزيادة فيكون تثليثا للفعل، ولكن في أمكنة فالغسل تثليث في
مكان واحد، ألا ترى أنك تقول: دخلت ثلاث دخلات في ثلاث دور،
ودخلت ثلاثا في دار واحدة فإن غير موجب العلة، وقال: وجب أن
يسن تكراره.
قلنا: ولا نسلم هذا الحكم في الأصل، فإن تكرار الغسل غير مسنون
في أصله، بل المسنون إطالته في محله ليكون إكمالا له كإطالة
القراءة والركوع، إلا أن الفرض منه لما استوعب المحل لم يمكن
الإطالة في المحل إلا بالتكرار، ويمكن في المسح الإطالة من غير
تكرار فلم يجب التكرار.
أو نقول: إن الغسل لما كان ركنا وجب إكماله سنة، والغسل موضوع
للتنقية، وإكمال التنقية في تكراره ليزداد المحل به طهارة،
وأما المسح بالماء فلا يفعل في أصله لتنقية المحل، بل المتعلق
به طهر حكمي تعلق بعينه فكان تكميل عينه في تطويله كالقراءة
والركوع في الصلاة فيضطر إلى النظر في أثر الركنية، إذا قوبلت
بالرخصة من مسح الخف في الفرق بينهما في إكمال قدر المفروض
بالسنة فلا يجد أثرا، لأن قدر المفروض من الغسل شرع إكماله
بمثليه في محله، ومسح الخف يساويه فيه، وإن لم يكن ركنا بل شرع
رخصة فإن قدر المفروض منه مثل قدر المفروض من الرأس، وقد شرع
إكماله باستيعاب ظاهر الخف بمثلي قدر المفروض في محله أو
بأكثر.
ثم ننظر إلى المضمضة التي شرعت سنة فنجدها ثلاثا وأصل المشروع
سنة بالمرة وكمالها بالثلاث، فيعرف أن وظائف الوضوء أركانها
وسننها ورخصها سواء في إكمال قدر أصل المشروع لا عبرة للركنية
فيها فيستوي مسحها وغسلها وركنها وما شرع رخصة.
وكذلك ننظر إلى سائر المشروعات من أركان الصلاة وغيرها فنجد
الإكمال مسنونا، والإكمال أبدا يكون بزيادة من
(1/353)
جنس الأصل لا بالتكرار وقد تصور الإكمال
بالزيادة من جنس الأصل بغير تكرار في باب الممسوحات فلم يجب
التكرار بعينه، ولم يمكن في باب المغسولات الإكمال بزيادة من
جنس الأصل فوجب التكرار ضرورة.
وكذلك إذا قالوا: إن الصوم نفلا قربة لا يمضي في فسادها فلا
يجب القضاء بإفسادها قياسا على الوضوء.
قلنا لهم: لا يجب القضاء بإفسادها وإنما يجب الشروع.
فإن قال: ولا يجب بالشروع، ولا الإفساد قياسا على الوضوء!
قلنا: ولا يجب بالشروع المضاف إلى عبادة لا يمضي في فسادها،
لكن بالشروع في عبادة تلتزم بالنذر، ولابد من اعتبار إضافة
الحكم إلى ما ذكر من الوصف لأن الأوصاف تذكر عللا، وبما ذكر من
الوصف لا تصير العبادة محلا لا يلتزم بالشروع فيها، بل وصف آخر
فلابد من رجوعه إلى نصب العلة لبيان أن الشروع ليس بسبب
للالتزام الذي فيه النزاع.
وكذلك قولهم، في إسلام المروي بالمروي: أنه جائز، لأنه أسلم
مذروعا في مذروع فيجوز كالهروي في المروي.
فنقول: من حيث أنه مذروع في مذروع يجوز العقد، وتعلق الجواز
بهذا الوصف لا ينفي تعلق الفساد بأمر آخر، ألا ترى أنه لو شرط
شرطا فاسدا، ولم يقبض رأس المال في المجلس كان فاسدا فكذا
عندنا بصفة الجنس لأنه علة مفسدة كالشرط الفاسد، فيلزمه الرجوع
إلى بيان أن الجنس ليست بعلة محرمة الذي فيه الخلاف.
وكذلك قولهم: إن المطلقة طلاقا رجعيا حرام لأنها مطلقة، فأشبهه
المطلقة بمال.
فنقول: من حيث أنها مطلقة محرمة، ولكن من حيث أنها منكوحة
محللة كما لو أبانها ثم تزوجها، وكان قيام النكاح مع الطلاق
المحرم محللا فيضطر إلى الرجوع إلى بيان خلل في النكاح أوجب
التحريم الذي هو حرف المسألة.
وكذلك قولهم في المبتوتة: لا يلحقها الطلاق في العدة لأنها
منقطعة النكاح.
لأنا نقول: إن الطلاق لا يلحقها من حيث انقطاع النكاح، ولكن من
حيث العدة عن النكاح التي هي أثره.
وكذلك إذا قالوا: لا يجوز تحرير الكافرة عن كفارة اليمين لأنه
تحرير في تكفير فأشبه كفارة القتل.
قلنا: وعندنا لا يجوز لأنه تحرير في تكفير، ولكن من حيث أنه
ائتمر بالأمر كما يجوز إذا كسا مساكين، ولا يجوز في كفارة
القتل فيضطر إلى الرجوع إلى بيان أن المطلق يحمل على المقيد أم
لا؟
(1/354)
وكذلك إذا قالوا: إن السرقة توجب الضمان
لأنه أخذ لمال الغير بلا تدين كالغصب.
لأنا نقول: إنها موجبة للضمان إلا أن القطع ينفيه كما ينفيه
الإبراء فيضطر إلى بيان أن القطع لا ينفي الضمان الذي هو حرف
المسألة، وقد يجيء هذا الاعتراض على أكثر العلل الطردية
لمقايستهم بأوصاف صالحة محتملة أن لا تكون عللا، وإنما قدمنا
هذا لأن المنازعة إنما تجب إذا لم يمكن الموافقة، والله أعلم.
(1/355)
باب
القول في الممانعات
الممانعات على هذا الطريق أربعة:
ممانعة في نفس الوصف.
والأخرى: في صلاحه للحكم.
والثالثة: في الحكم.
والرابعة: بالحكم مضافا إلى الوصف لأنهم يشترطون الصلاح، وتعلق
الحكم بالعلة وجوبا.
أما الوصف: فنحو قولهم في كفارة الإفطار: أنها عقوبة متعلقة
بالجماع فلا يشاركه غير الجماع كالحد.
لأنا نقول: أنها غير متعلقة بالجماع بل متعلقة بالإفطار، لكن
إذا كمل تعديا.
وكقولهم، لمسح الرأس: أنه طهارة مسح فيثلث كالاستنجاء.
لأنا نقول: في الأصل هي طهارة عن النجاسة الحقيقية لا طهارة
مسح فيضطر إلى بيان أن الكفارة غير متعلقة بالإفطار الذي هو
حرف المسألة فإنها تجب بالفطر عندنا، والفطر سواء بالأكل
والشرب والجماع، ويضطر في الأخرى إلى الرجوع عن صفة المسح
الدال على التخفيف إلى صفة أخرى يرده بها إلى الغسل الذي هو
حرف المسألة في التسوية بين المسح والغسل فيما هو سنة أو
التفرقة بينهما فيما يوجب خفة في المسح.
وكقولهم: بيع تفاحة بتفاحة حرام لأنه باع مطعوما بجنسه مجازفة
فأشبه بيع صبرة حنطة بصبرة حنطة.
لأنا نقول: ما تعنون بقولكم: مجازفة، أتريدون مجازفة ذات أم
وصف؟ فلابد من القول بمجازفة الذات.
ثم نقول: أتعنون بمجازفة ذات من حيث صورته التي بها عرفت
تفاحة؟ أم من حيث المعيار الذي وضع لبيان القدر منه؟
فلابد من القول بمجازفة من حيث المعيار، فإن بيع الحنطة
بالحنطة كيلا بكيل حلال، وإن كان ذات أحدهما من حيث الصورة
عددا أكثر، ولأن الجوار يتعلق بالمساواة كيلا، وبها يقع الخلص
عن فضل كان ربا ولا يزول بالمساواة كيلا إلا فضل من حيث
(1/356)
الكيل، فثبت أن الحرمة متعلقة بالمجازفة
كيلا لا بمجازفة مطلقة.
وإذا فسروا بالمجازفة كيلا لم يجدوها في التفاحة لأن المجازفة
كيلا فيما لا كيل له محال، فيضطرون إلى الرجوع إلى قولهم: إن
الطعم علة تحريم البيع في الجنس إلا بزيادة شرط وهو المساواة
كيلا وهو حرف المسألة فإن الحرمة عندنا متعلقة بالفضل كيلا،
وقد حرم الفضل كيلا بصفة الكيل والجنس على ما بينا في موضعه.
ومن ذلك قولهم، للثيب الصغيرة: أنها ثيب يرجى مشورتها فلا تزوج
كرها قياسا على البالغة.
لأنا نقول: يرجى مشاورتها برأي قائم، أو برأي مستحدث، أم
بأيهما كان.
إن قلت: بأيهما كان فبطل بالمجنونة فإن حدوث رأيها غير مأيوس
عنه.
وإن قال برأي قائم لم نجده في الفرع، وتبين حرف المسألة، وهو
أن القاطع لولاية الغير رأي قائم لا رأي سيحدث، فإن ما سيحدث
من علة أو مانع لا يوجب حكما قبل الحدوث، والرأي هو القاطع فلم
يجز أن يتعجل القطع على الرأي ولأن رأيا سيحدث لو قطع الولاية
لما ثبتت الولاية على صبي ولا صبية، ولما لم يلتفت للحال إلى
طلبها ورضاها وردها علم أن الرأي ساقط العبرة شرعا دون رأي
الولي فلم يجز أن يبطل به حكم رأي الولي، ورأيها ساقط العبرة
دون رأيه، وعلى هذا الوجه يتبين عوار من دخل في الأمر على حسن
الظن بلا رؤية تميز له الصواب من الخطأ.
وأما الحكم: فنحو قولهم: إن المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه
قياسا على الغسل، لأنا لا نسلم أن سنة الغسل في التثليث بل في
الإكمال كما يكمل القراءة والقيام، والإكمال صفة الأصل فلا
تثبت إلا بما هو جنس الأصل، والأصل لم يتصور إلا في محل مخصوص،
فكذلك الإكمال كإكمال القراءة لا يكون إلا بالقرآن الذي يتأدى
به أصل الفرض في القيام.
ولما استوعب الفرض كل محل لم يمكن إكمال فعل الغسل في ذلك
المحل إلا بالتكرار، فكان التكرار لضرورة ضيق المحل لا لكونه
ركنا، وقد أمكن الإكمال في المسح بغير تكرار فلم يجب فيضطر إلى
الرجوع إلى حرف المسألة، فإنا أسقطنا التثليث لأن المرة
المستوعبة من المسح كالغسل بالتثليث.
ولا يلزم على ما قلنا إكمال مسح الرأس بمسح الأذنين، ولا يتأدى
الفرض بهما لأن الأذنين صارا من الرأس بالسنة إكمالا للرأس
الذي هو محل ثم المسح شرع في المحل لأن المسح بهما شرع إكمالا
بنفسه لمسح الرأس.
وكقولهم: إن صوم رمضان صوم فرض، فوجب أن يشترط لصحته نية تعيين
الفرض قياسا على القضاء.
(1/357)
لأنا نقول: أيشترط تعيين النية قبل تعينه،
أم بعد تعينه أم مطلقا في الحالين جميعا؟ فلابد من أن يقول:
قبل تعينه فلا يجد في صوم رمضان لأنه متعين، ويضطر إلى الرجوع
إلى حرف المسألة فإنا أسقطنا نية التعيين لتعينه.
وكقولهم في بيع تفاحة بتفاحة: أنه باع مطعوما بجنسه مجازفة
فوجب أن يرحم قياسا على الصبرة بالصبرة.
لأنا نقول: أتعنون حرمة مطلقة أم حرمة تزول في هذا المحل
بالمساواة كيلا؟ فإن قالوا: حرمة مطلقة، لم نسلم لهم لأن
الحرمة في الأصل تزول بالمساواة كيلا، وإن قالوا: حرمة تزول
بالمساواة لم يجدوا في الفرع إذ ما للتفاحة بالتفاحة حال
مساواة يجوز البيع معها عند الخصم، فتبين به حرف المسألة فإن
الحكم عندنا حرمة نزول بالمساواة، لا حرمة مطلقة فلا يثبت إلا
في محل قابل لمفاضلة محرمة، ومساواة مبيحة في نفسه.
وكقولهم للثيب الصغيرة: إنها ثيب يرجى مشورتها فلا تزوج كرها.
لأنا نقول: ما تعنون بقولكم: كرها فلابد أن تقولوا بدون رأيها
إذ ليس ههنا إكراه تخويف، فنقول: بدون رأيها، ولها رأي معتبر
شرعا أو غير معتبر، فلابد من قولهم معتبر لأن ما لا يعتبر شرعا
لغو اعتباره، ومتى قالوا: معتبر لم يجدوه في الفرع وتبين به
حرف المسألة.
وكذلك إذا قالوا: إن الحيوان يثبت دينا في الذمة مهرا فيثبت
سلما قياسا على المكيل.
قلنا: أيثبت دينا مهرا معلوما بالوصف أم بالقيمة؟
فإن قالوا: بالوصف، لم نسلم لهم بالمهر.
وإن قالوا: بالقيمة، لم يجدوه في الفرع.
وإن قالوا: بنا غنية عن هذا التفسير.
قلنا لهم: لا غنية لكم لأنكم جعلتم أحد الدينين نظيرا للآخر،
وإنما يكونا نظيرين إذا كان طريق ثبوتهما واحدا، وإنهما
مختلفان عندنا فالسلم لا يثبت إلا معلوما بوصفه، والحيوان لا
يصير معلوم المالية بالوصف، وأما المهر فيثبت بالتسمية مطلقا،
وكينونته معلوم المالية بالوصف ليس بشرط لدليل، قام لنا فيه
فيظهر حرف المسألة.
وكذلك إذا قالوا: إن الطعام بالطعام جمعهما علة ربا الفضل
فيشترط القبض في المجلس كالثمن بالثمن.
قلنا لهم: إن القبض عينه ليس بشرط فيما هو ثمن، إنما الشرط هو
التعيين حتى لا يكون دينا بدين لأن الأثمان لا تتعين، وإن عنيت
إلا بالقبض، والطعام مما يتعين فيظهر به
(1/358)
حرف المسألة، وهو أن القبض في الصرف أمشروط
لدفع الدينية أو لزيادة صيانة؟
وكذلك إذا قالوا: إذا اشترى إياه ناويا عن الكفارة لا تجوز لأن
العتيق أب فأشبه الإرث.
لأنا نقول: ما حكم علتكم؟
فإن قلتم: وجب أن لا يجوز عتقه نسلم لكم.
وإن قلتم: وجب أن لا يجوز إعتاقه فغير موجود في الإرث، فيظهر
به حرف المسألة وهو أن الشراء إعتاق أم لا.
وكذلك إذا قالوا: إن التفكير بإطعام الإباحة لا يجوز لأنه ضرب
تكفير يقبل التمليك فلا يجوز بدونه قياسا على الكسوة.
لأنا نقول: فلا يجوز بدون التمليك مع الائتمار بما أمر أو قبل
الائتمار به.
فإن قال: أنا مستغن عنه لم ينفعه لأن سقوط الفرائض كلها متعلق
بالائتمار بما أمر فلابد أن يقول بدون الائتمار فلا نسلم له،
لأنه إذا أطعم طعام الإباحة فقد ائتمر بالأمر فيرجع إلى حرف
المسألة، وهو أن تفسير الإطعام هو التغذية والتعشية أم
التمليك.
وأما الحكم مضافا إلى الوصف فما مر من القول بموجب العلة، فإن
الأحكام في العل الطردية مما لم تقم الدلالة على وجوبها بتلك
الأوصاف وإن وجدت معها، وجملة العلل التي ركبت من نفي تبطل
بهذا الاعتراض كقولهم لا يعتق الأخ على الأخ لأنه لا بعضية
بينهما كابن العم فإنا نقول: عدم عتاق ابن العم ليس لعدم
البعضية، فإن العدم لا يوجب حكما على ما مر بيانه.
وكذلك قولهم: الوكالة لا تثبت بشهادة النساء مع الرجال لأنها
ليست بمال كالحد، لأنا لا نرد شهادة النساء في الحد لعدم
المالية.
وكذلك قولهم: لا إحصار بالمرض لأنه لا يفارق الحال بالإحلال،
والمبتوتة لا يلحقها الطلاق لأنها ليست بمنكوحة، والله أعلم.
(1/359)
باب
القول في بيان فساد الوضع
وإنه من باب الشهادة يجري مجرى فساد الأداء، وإنه فوق النقص
لأنه إنما يشتغل بإطراده بعد صحته علة، كالشهادة إنما تشتغل
بتعديل الشاهد بعد صحة الأداء، وإنه أقوى من النقض لأن الوضع
متى فسد لم يبق إلا الانتقال، والنقض خجل مجلس يمكن الاحتراز
عنه بمجلس آخر.
وبيان ذلك أن الشافعي رحمه الله متى علل لوجوب الفرقة بعد
إسلام أحد الزوجين بأنها فرقة وجبت لاختلاف الدينين فأشبهت
الفرقة بالردة، كان فاسد الوضع.
لأن الاختلاف إنما يثبت فيما نحن فيه بإسلام المسلم منهما فقد
كان الاتفاق ثابتا قبله، وإنما حدث الاختلاف بالحادث من الدين
وهو الإسلام، والإسلام في الشرع جعل عاصما للأملاك لا مبطلا
فكان الوصف ثابتا.
وكذلك متى علل لمسح الرأس بأنه ركن في الوضوء فيثلث كالغسل،
كان فاسد الوضع لأن الشرع بنى المسح على التخفيف في مقابلة
الغسل، وهو سعي ليزيد غلظا على الغسل، فإنه أوجب تثليث المسح
بعد إكمال الفرض بما فوق قدر الجواز.
وكذلك قولهم: الصرورة إذا حج نفلا كان عن الفرض، لأن نية مطلق
الحج تقع عن الفرض، فكذلك نية النفل كما لو تصدق بالنصاب ينوي
الصدقة مطلقا، أو ينوي النفل لأنه قصد أن يحمل المفسر على
المجمل والمقيد على المطلق وإنه فاسد وضعا، لأن المجمل مما
يحمل على المفسر، وكذلك المطلق يحمل على المقيد على أصل
الشافعي رحمه الله.
وكذلك عندنا إذا كان حكما واحدا كما في كفارة اليمين حملنا
مطلق الكتاب بثلاثة أيام على مقيده بقراءة عب الله بن مسعود
رضي الله عنه "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" ألا ترى أن مطلق
تسمية الدراهم ينصرف إلى نقد البلد، ومفسره بنقد آخر لا ينصرف
إليه؟
وعلل خبر ربا الفضل بالطعم، قال: لأن الطعم يتعلق به القوام
فكان له زيادة حرمة على غيره، فعلق جواز البيع فيه بشرط زائد
وهو المساواة إظهارا لحرمته، وإنه فاسد وضعا لأن المال خلق
بذلة لحاجتنا إليه، وأشد الحاجات حاجة البقاء فزيد هذا المعنى
في ابتذاله وتوسع أمر كسبه لا أن يزيد تضيقا، حتى حل أكل طعام
الغنيمة قبل أن تخمس بخلاف سائر الأموال.
(1/360)
وعلل لحرمة نكاح الأمة بالطول بأن الحر
يستغني بطول الحرة عن تعريض جزء منه للرق، فلا تحل له الأمة
كما إذا كان تحته حرة، وهذا فاسد وضعا لأنه يثبت حجرا عن
النكاح بسبب الحرية، والشرع جعل الحرية مؤثرة في الإطلاق فإن
الحر تحل له أربع وللعبد ثنتان.
وكذلك قولهم: إن الجنون إذا تم وقت الصلاة في بعض اليوم، أو
يوم من الشهر أسقط الفرض، قياسا على الجنون المطبق، وهذا فاسد
وضعا لأنه ليس تحت الجنون إلا العجز عن تفهم الخطاب والائتمار
به.
فأما المجنون في نفسه فأهل للعبادات فإنه لو كان صائما فجن
يبقى صائما ومؤديا ومؤمنا، كذلك فإن الإيمان رأس العبادات،
ويبقى في عباداته كالنائم والمغمى عليه مستحقا بحكم حاله كما
يستحق أملاكه.
ثم النوم أثره في تأخير لزوم الفعل حتى لا يأثم دون أصل
الإيجاب، فكذا الجنون فجعل ما يسقط الخطاب بالفعل علة لإسقاط
أصل الإيجاب حكم بخلاف النص والإجماع فيكون فاسدا.
ولأن الائتمار لا يتصور إلا عن اختيار وتمييز فسقط بفوت شرطه.
وأصل الإيجاب في الذمة يكون جبرا وإلزاما من الله تعالى فيكون
شرطه الذمة لا غير.
فأما إذا طال الجنون فالسقوط بحكم الضرورة والوقوع في الحرج،
إذ لو ألزمناه تضاعفت عبادات تلك المدة، وهذا معنى مسقط
للإيجاب أصلا لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
ولقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ألا ترى أن
الصلاة تسقط بالحيض لدفع الحرج من حيث أن الحيض يصيبها كل شهر
عادة، والصلاة تجب كل يوم فلو ألزمناها قضاء أيام الحيض لتضاعف
الوجوب عليها ولحرجت فيها، فسقط الإيجاب به لا لمنافاة الحيض
للإيجاب، ألا ترى أن قضاء الصيام يلزمها لأنه لا حرج في إيجاب
قضاء الصيام.
وكذلك خطاب تتابع صيام كفارة القتل يسقط بالحيض، لأنها تقع في
الحرج لو ألزمناها التتابع لأنها قلما تجد شهرين لا تحيض فيهما
في العادات الغالبة، ولا يسقط في صيام كفارة اليمين أو نذر
بصوم عشرة أيام متتابعة لأنها تجد هذا القدر عادة بلا حيض فلا
تحرج، فكان إضافة سقوط الإيجاب إلى الحرج أمرا مجمعا عليه،
والإضافة إلى العجز عن الفعل أمر بخلاف الإجماع وقياس الأصول
فكان فاسدا.
وكيف يسقط إيجاب العبادة والأداء منه صحيح، والأداء قبل
الإيجاب لا يصح.
ولا يقال إن الصائم إذا جن بطل صومه لأن الجنون آفة سماوية
تعجزه عن إقامة فعل المميزين وبقاؤه صائما ليس من فعل المميزين
فلا يبطل صومه، ولا يخرجه عن جملة المؤمنين بحكم حاله، ألا ترى
أنه يرث بحكم اتفاق دين الإسلام؟
(1/361)
وكذلك المحرم إذا جن لا يبطل إحرامه، فكان
من قبل الإغماء والنوم وصحة أداء الصوم بعد صحة الشروع لا
يبتنى إلا على ترك المفطرات، وما في الترك فعل فذهاب شرط صحة
الفعل لا يمنع تأدية، وإنما يشترط كونه من أهل العبادة لا غير
لأن ما يحصل يحصل له عبادة، فأحسن ما قالوا قولهم: إن الجنون
يسقط الخطاب، وبهذا التفحص يتبين لك أن لا يسقط الإيجاب، وإن
سقط الخطاب بالفعل عن المجنون.
ومن ذلك قولهم: إن الأثمان أموال تتعين في التبرعات، فكذلك في
المعاوضات قياسا على الحنطة وسائر السلع، وهذا فاسد وضعا لأن
التبرعات ما شرعت لإيجاب الأموال في الذمم بل للإيثار بعين
ماله، والمعاوضات شرعت لإيجاب الأثمان في الأمم لأن مطلق
المعاوضات المتعارف بين الناس عقدها بلا إشارة إلى الأثمان بل
بتسمية مطلقة، وإنها توجب في الذمة، ولما كانت للإيجاب في
الذمة كانت الذمة محل هذا الإيجاب فلم تصح الإضافة إلى العين
كما لو أضاف هبة الألف إذا ذمته فإنه لا يصح.
وكما لو أضاف بيع المبيع إلى الذمة فإنه لا يصح إلا سلما رخصة
بخلاف القياس لضرب من العذر لأن البيع شرع لإيجاب العين لغيره.
وإنما تصح الإشارة إلى عين الثمن على معنى بيان نوعه وقدره
فأما استحقاقا فلا، فصار جعل التعيين في الهبة والعين محل
الهبة علة لتعين الثمن في البيع، ومحل الثمن في البيع الذمة
فاسدا وضعا.
وكذلك قولهم: إن البائع يثبت له خيار الفسخ بإفلاس المشتري لأن
الثمن أحد عوضي البيع فالعجز عن قبضه يوجب خيار الفسخ، كالعجز
عن قبض المثمن، نحو أن يأبق العبد أن يكون السلم رطبا فيذهب
حينه هذا فاسد وضعا لأن القدرة على تسليم المبيع شرط لجواز
البيع ابتداء.
والقدرة على تسليم الثمن ليس بشرط للجواز ابتداء، لأن البيع
وضع لإيجاب الملك، واليد في العين للمشتري، ولإيجاب ملك الثمن
ابتداء في الذمة على المشتري للبائع.
ولما كان البيع لإيجاب الملك واليد في العين للمشتري كان شرطه
قيام الملك واليد للبائع ليعمل العقد عمله فلم يصح قبل أن يقدر
ملكا ويدا.
ولما كان الشراء لإيجاب ثمن ابتداء في ذمة المشتري لا غير
اشترط لصحته قيام ذمة قائمة لثمن يجب فيها بحيث يقبل القبض
بمثلها، من غير شرط القدرة على التسليم بالمثل، لأنه لا قدرة
إلا بملك ولم يشترط للجواز قيام ملك ولا يد في عين مثله.
ولما لم تكن قدرة التسليم شرطا للجواز ابتداء لم يوجب العجز عن
التسليم خللا فصار فاسدا وضعا، لما فيه من اعتبار ما لم يجعل
شرطا بما جعل شرطا.
(1/362)
هذه الجملة أحسن عللهم وأظهرها للقلوب صحة
وأبينها فقلها، ليعرف بهذه الجملة أن أكثر عللهم لا يخلو عن
فساد الوضع، وتبين بهذا أنه لابد من القول بالتأثير الذي كان
عليه السلف بلا خلاف، والله أعلم.
(1/363)
باب
القول في المناقضة
قال القاضي رحمه الله: قد ذكرنا فيما مضى تفسير المناقضة
وحدها، وإنما أعدناها لنبين أن الاعتماد على الاطراد ليس
بصواب، بل هو واهي الإطناب، لأنه بناء على عدم الدليل، على ما
أوضحنا فيه السبيل، والرد بالمناقضة مما يلجئهم إلى القول
بالتأثير.
قال الشافعي رحمه الله: إن النية شرط لصحة الوضوء قياسا على
التيمم، وقال: طهارتان فكيف يفترقان.
فإن جعل موجب علته المساواة مطلقة لم يصح فإنهما يفترقان من
وجوه، ويكون وجه المفارقة نقضا فإن قيد بالنية، وذلك غرضه
انتقض بالطهارة عن نجاسة حقيقية فيضطر إلى الرجوع إلى موضع
التأثير، وهو أن الطهارة حكمية أي حصولها عرف حكما وشرعا لا
حقيقة، وهو حرف المسألة فإن الماء عندنا طهور خلقة فتحصل
الطهارة باستعماله بطبعه فلا يتغير بالنية.
وأما التراب فطهور حكما فلا تحصل بطبعه طهارة ما لم يقترن به
الشرط الشرعي الذي جعله طهورا أو إرادة الصلاة.
وقال أيضا: الطلاق ليس بحال فلا يثبت بشهادة رجل وامرأتين
قياسا على الحدود، وهذا بظاهره يبطل بالبكارة فلا يجد بدا من
الرجوع إلى طلب التأثير عند الاقتصار على هذا الوصف، وهو أن
الأصل أن لا شهادة للنساء لنقصان عقلهن بكثرة غفلتهن، لكن جوز
في باب المال لكثرة الحاجة إليه، وتكرار المعاملات فيه في
الأسواق وغيرها حتى لا يضيق على الناس، وإنه معدوم فيما ليس
بمال فلم يقبل كما ثبتت الولادة بشهادة النساء وحدهن لضرورة أن
الرجال لا يحضرونها، ولم تكن حجة فيما يطلع عليه الرجال.
وهذا حرف المسألة فإن شهادة النساء مع الرجال شهادة أصلية
عندنا كشهادة الرجال على ما نبين في موضعه، إلا أن فيها ضرب
شبهة فلم يثبت بها ما يسقط بالشبهة كالحدود فأما ما لا يدرأ
بالشبهات فهذه الشهادة حجة فيها والطلاق متى قوبل بالبيع كان
أقوى ثبوتا منه، وكذلك الوكالات والوصايا، وكذلك النكاح فإنه
يثبت عندنا مع الكره والهزل، وسائر الشروط الفاسدة.
(1/364)
وقال أيضا: إن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة
لأنه وطء رجمت عليه، والنكاح فعل عقد حمدت عليه.
فإن قال: وجب أن لا يشارك هذا في حكم هذا بطل بوجوب الاغتسال
والمهر. وإن قال: في حكم المصاهرة.
قلنا له: ولم؟
فإن قال: لأن الصهر نعمة والزنا حرام، رجع إلى التأثير فبطل
بالوطء عن نكاح فاسد.
فإن قال: ثم إنما يثبت لما فيه من جهة الحل على حسب اختلاف
الناس فيه، فقد رجع عن الطرد إلى طريقتنا من بيان التأثير.
وقلنا له: إن المصاهرة لا تثبت بالزنا عندنا لأنه معصية،
والمصاهرة كرامة فلا تضاف إلى المعاصي، ولكنه سبب لحراثة الولد
في هذا المحل على ما بينا في موضعه، ولا معصية من حيث الحراثة
فإنه أمر مشروع بسببه.
وكذلك قولهم: إن الغصب عدوان فلا يكون سببا للملك كالقتل، هذا
باطل باستيلاد الأب أمة ابنه، واستيلاد أحد الشريكين أمة
بينهما.
فإن قالوا: أوجبنا الملك فيهما لما لهما من تأويل الاستحلال
شرعا، لا من حيث العدوان كان رجوعا إلى التأثير، وحرف المسألة
فإنا نوجب الملك بالغصب لأنه سبب ملك البدل، وهذا حكم شرعي
وليس بعدوان.
وكذلك قولهم: إن المنافع أموال فتضمن بالإتلاف قياسا على
الأعيان.
قلنا: هذا باطل بالمتلف إذا كان معسرا.
فإن قالوا: هناك يضمن لكن الاستيفاء يتأخر إلى الميسرة كان هذا
رجوعا إلى التأثير، لأن المتلف ضامن عندنا ههنا، لكن الاستيفاء
يتأخر بعذر العجز عن إصابة المثل إلى حين الإصابة في الآخرة،
وإنه حرف المسألة فإن العدوان موجب ضمان المثل، فلا يمكن
الاستيفاء إلا بعد القدرة على المثل.
وعندنا الأعيان أجود من المنافع وليسا بمثلين، وعنده هما مثلان
فيرجع الكلام إلى هذا ويبطل الطرد الذي اعتمده.
وكذلك قولهم: إن إسلام الهروي في الهروي يجوز، لأنه أسلم
مذروعا في مذروع، هذا يبطل بما إذا شرطا شرطًا فاسدا.
فإن قالوا: إنما بطل بالشرط الفاسد لا بالوصف الذي قلنا، كان
رجوعا إلى حرف المسألة، فإن الفساد عندنا بعلة محرمة وهو الجنس
لا بالذرع فيرجع الكلام إلى أن الجنس محرم أولا ويبطل الطرد،
والله أعلم.
(1/365)
باب
القول في بيان الطرد الفاسد ظاهرا
الطرديات الفاسدة أربعة أنواع:
نوع منها معروف ببداهة العقول من غير تأمل في الأصول، كقولهم:
الفاتحة فرض قراءتها في الصلاة، لأن الصلاة عبادة ذات أركان
مختلفة لها تحريم وتحليل، فوجب أن يكون من أركانها ذو عدد سبع
قياسا على الحج ووجوب الطواف فيه.
وكقولهم: إن السبعة إحدى عددي صوم المتمتع، فوجب أن لا تجوز
الصلاة إذا قرأ بدونها قياسا على الثلاث.
وقولهم: الثلاث أحد مدتي المسح فلا يتأدى بها فرض القراءة
قياسا على الواحدة، فالواحدة ناقصة القدر عن السبع فلا يتأدى
بها فرض القراءة قياسا على نصف الآية.
ويحكى عن كثير من شيوخهم أن الوطء فعل ينطلق مرة ويتعلق أخرى،
فلا تثبت به الرجعة قياسا على القتل.
وسمعت واحدا من شيوخنا يحتج لإبطال النية في الوضوء بأن الوضوء
فرض عين تقام في أعضائه فلا تكون النية شرطا لأدائه قياسا على
قطع اليد قصاصا أو في السرقة، هذا مما يعرف ببداهة العقول
فسادها فإنه لا مشابهة بين القطع والوضوء بوجه، ولا بين مدة
المسح ومقدار القراءة، ولا بين أركان الحج وأركان الصلاة، وإن
هذا الضرب مما لا يوجد في كلام السلف له نظير، ولكنه شيء
أحدثته حشوية أهل الطرد، وأما السلف فما جوزوا إلا بأوصاف
مخيلة أو ملائمة.
وأما النوع الثاني: فرد فرع إلى أصل لا يكاد الأصل يمتاز عن
الفرع إلا بضم ما هو علة الحكم إليه، نحو قولهم: إن مش الذكر
حدث، كما إذا مس وبال فإنه لا زيادة فيما جعله أصلا إلا البول
وإنه حدث بالإجماع، وقد عدم ذلك في الفرع فيسقط اعتباره لإيجاب
الحكم في الفرع فلا يبقى بعده إلا المس المختلف فيه، وإعتاق
المكاتب لا يجوز عن الكفارة قياسا على ما إذا أدى بعض النجوم
لأنه لا زيادة في الأصل إلا أخذ بعض العوض وإنه علة مانعة من
التفكير، وقد عدمت في الفرع فتبقى العبرة لما بعده، وما بعده
إعتاق المكاتب وإنه مختلف فيه. وشراء الأب لا يكون تكفيرا
قياسا على ما إذا حلف بعقته إن اشتراه لأنه لا زيادة في الأصل
إلا اليمن بعتقه وهو علة مانعة من التفكير
(1/366)
بنية توجد عند الشرط عندنا وقد عدمت في
الفرع وما بعده إلا شراء الأب وهو مختلف فيه.
ومن ذلك أن الوضوء بغير نية لا يباح به أداء الصلاة كما إذا
توضأ وهو يبول، والفطر عن نفل الصوم لا يوجب القضاء كما إذا
أكل وارتد لأن الردة عندي مسقطة لقضاء الواجب، وقد عدمت في
الفرع فتسقط العبرة فبقيت العبرة للإفطار وهو مختلف فيه.
وأما النوع الثالث: فرد فرع إلى أصل بوصف اختلف في كونه علة
وظهر ذلك بين العلماء، لأن الاختلاف لما ظهر فيه حل محل الحكم
المختلف فيه ووجب نقل الكلام إليه، كقولهم: إن الكتابة الحالة
فاسدة لأنها لا تمنع التكفير به كالكتابة على القيمة لأن
الاختلاف ظاهر بيننا وبين خصمنا في الكتابة الصحيحة.
قال علماؤنا: لا تمنع التكفير، وعنده تمنع فلم يصر عدم المنع
دليلا علينا على الفساد.
ومن ذلك قولهم: إن الأخ يجوز إعتاقه عن الكفارة فلا يعتق بسبب
القرابة قياسا على ابن العم، لأن الأب عندنا يجوز إعتاقه عن
الكفارة ويعتق بالقرابة، وعنده لما عتق بالقرابة لم يجز إعتاقه
عن الكفارة.
ومن ذلك قولنا: إن رهن المشاع باطل لأنه لا يمنع صاحبه
الانتفاع به كالرهن الفاسد لأن الصحيح عند الشافعي لا يمنع
الانتفاع به.
ومنها التعليل بعدم الوصف، كقول الشافعي: النكاح ليس بمال فلا
يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحد لما ذكرنا غير مرة أن
العدم لا يوجب حكما، وهذه العلل تذكر موجبات وقد ذكرنا أن
الإجماع ثابت أن العلة توجد ولا تعدم، وإنما الاختلاف في
الشرط.
وقالوا: الأخ لا يعتق على الأخ لأنه لا بعضية بينهما، والإحصار
بالمرض لا يوجب الإحلال لأنه لا يفارق الحال بالإحلال فأشبه
الضلال والمبتوتة لا يلحقها الطلاق لأنه لا نكاح بينهما،
وإسلام الشيء في جنسه لا يحرم لأنه لا يجمعهما صفة الطعم ولا
الثمنية.
فإن قالوا: قد قال محمد بن الحسن - رحمه الله -: إنه لا ضمان
في إتلاف ملك النكاح لأنه ليس بمال، ولا خمس في اللؤلؤ لأنه لم
يوجف عليها المسلمون، وقال في الصائم يأكل الحصاة لا كفارة
عليه لأنه ليس بطعام وولد الغصب أمانة، لأنه لم يغصب.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: العقارات لا تضمن بالغصب لأنه لم
ينقلها في أمثال لهذا كثيرة.
قلنا لهم: وإنما قالها محمد بن الحسن على سبيل الاستدلال دون
التعليل، فإن
(1/367)
حكم العلة لا بد أن ينعدم إذا عدمت العلة
كما كان معدوما قبل العلة وإنما أثبتنا إضافة العدم إلى عدم
العلة واجبا به فإذا بطلت الإضافة لم يكن علة، وإنما يبقى
الحكم عند عدم العلة لعلة أخرى فتكون مثل الأولى لا عينها في
حق الوجوب، والتعلق بها.
وإذا كان كذلك صح الاستدلال بعدم العلة على عدم الحكم إذا وقع
الاختلاف في حكم علة بعينها فمتى وقع الاختلاف في ضمان الغصب
لم يجب بدونه، وإن كان ربما يجب ضمان آخر مثله كضمان الإتلاف
وضمان بيع الفاسد ونحوهما.
وكذلك متى وقع الاختلاف في ضمان هو مال مثل الأول لابد أن يكون
الأصل مالا ليكون الثاني مثله معنى على ما مر البيان فيه.
وعند اختلاف المعاني تزول المماثلة فلا يجب ضمان المثل على
اختلاف المعاني.
وكذلك الخمس حكم الغنائم لا غير، والغنيمة لا تثبت إلا بإيجاف
الخيل بدليل عرف، وكذلك الكفارة بجنس الأكل إنما تجب إذا كان
إفطارا كاملا، وإنما يكمل إذا اجتمع الاسم والمعنى وهو اقتضاء
الشهوة بالتغذي، واسم الطعام يعمه فعدمه يدل على زوال المعنى،
وإنما نجوز من الخصم مثلها ولكنه يحتاج إلى أن يثبت أن شهادة
النساء متعلقة صحتها بالمال لتنعدم بعدمه، وأن العتق من حكم
البعضية لا غير، ولأن أكثر ما في الباب أن يقال بعدم البعضية
ينعدم العتق المتعلق به، ولا يقع ذلك عندنا، وإنما يقع ما تعلق
بالمحرمية بالرحم فهو كرجل يقول لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر
ثم قال له: إن تكلمت فأنت حر فلم يدخل وتكلم عتق.
ولا يقال لم يدخل فلا يعتق قياسا على عدم الدخول والكلام، فهذا
باب لطيف، وأنه باطل تعليلا إجمالا، ولا يثبت استدلالا إلا بعد
بيان أنه علة الحكمة لا علة معها غيرها، ولا يمكنه إلا بإقامة
الدلالة على الصحة والفساد، والله أعلم.
(1/368)
باب
القول في وجوه الانتقال
الانتقالات على وجوه أربعة:
أ. انتقال عن العلة إلى أخرى ليثبت الأولى.
ب. وانتقال عن الحكم إلى حكم آخر بالعلة الأولى.
ج. وانتقال عن العلة والحكم إلى حكم آخر وعلة أخرى.
د. وانتقال عن العلة إلى علة أخرى ليثبت الحكم الأول.
والوجوه كلها قويمة إلا الأخير.
أما الأول فلأنه ما ضمن بالعلة ابتداء إلا تصحيح الحكم بها،
فما دام يسعى في تصحيح تلك العلة فهو ساع في إبقاء ما ضمن كمن
احتج بقياس فنوزع فاحتج بقول الصحابي ليثبت القياس فنوزع،
فاحتج لتصحيح قول الصحابي بخبر الواحد فنوزع، فاحتج لتصحيح خبر
الواحد بالكتاب.
وأما الانتقال عن الحكم فلأنه إنما يلزمه الانتقال إذا سلم له
الحكم الأول ولم يثبت الخلاف فيه، وهذا يؤكد قصده من علته لأنه
علل لإثبات ما ادعى من الحكم، وقد ثبت إلا أنه لم يكن على
الخلاف، وكان الاختلاف في حكم آخر فإن أمكنه إثبات ذلك الحكم
بهذه العلة فحسن، وإن لم يمكنه إلا بعلة أخرى فحسن لأنه ما ضمن
بعلته الأولى إثبات حكمين.
وأما الوجه الثالث: فهو الانتقال من العلة والحكم إلى علة أخرى
وحكم آخر، فهو صحيح لما ذكرنا أن عوضه قد حصل، وهو إثبات الحكم
الذي ادعى بتلك العلة، إلا أنه زعم أنه على الخلاف.
وأما الوجه الرابع: فمن الناس من زعم أنه غير قبيح لأن إبراهيم
عليه السلام حاج اللعين بقوله: {ربي الذي يحي ويميت} فعارضه
اللعين بقوله: {أنا أحي وأميت} فقال إبراهيم: {فإن الله يأتي
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} فانتقل إلى حجة أخرى،
وحكى الله تعالى عنه على وجه المدح دون الذم، وكذلك المدعي
يقيم بينة فتجرح فيقيم أخرى، وعامة أهل النظر سموا هذا انقطاع
في المجلس، لأنا لو أطلقنا هذا لطال المجلس ولما ظهر الانقطاع،
ومجالس النظر
(1/369)
لا تعقد إلا للإبانة فيه، وهذا كالعلة تنقض
فيعد انقطاعا وإن أمكنه الاحتراز عنه في المجلس لأنه صار لا
يطرد إلا بوصف آخر، وكان انقطاعا فإذا صار لا يثبت إلا بعلة
أخرى فأولى إلا أن يكون الانتقال إلى علة أخرى لضرب شبهة في
الأولى يخاف بها الاشتباه على السامع، فينتقل إلى ما لا شبهة
فيه قطعا لتلك بالشبهة كإبراهيم عليه السلام انتقل مع كون
الأولى صحيحة فإن اللعين ما كان يحي حقيقة، ولا يميت وإنما
عارضه بالشبه والمجاز، فخاف إبراهيم عليه السلام الالتباس على
العامة فانتقل إلى حجة لا شبهة فيها.
وكذلك أهل النظر استحسنوا قولهم بعد الجواب، على أنا نقول
شروعا في جواب آخر: ما الحجج إلا أنوار، وحسن ضم السراج إلى
مثله لتنوير المكان، وإنما يقبح ضم ما ليس ببرهان، وهذا الذي
ذكرناه كله حسن من المجيب، فأما السائل فلا يحسن منه المعارضة
بوصف مختلف فيه على أن يثبته بدليل لأنه دافع وليس ببان وقد
أعياه الدفع بوصفه إلا بناء على أصله، وبالله التوفيق.
(1/370)
|