تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في الفرق بين العلة والسبب
والشرط والعلامة
أما السبب في اللغة: فالطريق، والسبب الحبل أيضا، ثم استعير
لكل شيء هو مدخل لغيره، من غير أن يكون ذلك الغير واجبا به بل
بعلة أخرى غير حادثة بما كان سببا، فكان بمعنى الطريق لا يوصل
إلى المقصود من الأمصار بدونه، ولكن لا يوصل به بالمشي الموجود
باختيار الماشي على الطريق.
وكالحبل الذي لا يوصل إلى الماء الذي هو المقصود بدونه، ولا
يوصل به بل باستيفاء النازح بقوته والحبل آلة، وإرسال الله
تعالى إلى خلقه رسوله صلى الله عليه وسلم سبب هداهم والتخويف
بالنار سبب الانزجار عن المعاصي، والترغيب في الجنة سبب
الطاعة، ووسوسة إبليس سبب العصيان، ودلالة السارق على المال
سبب السرقة، والاستغناء سبب الطغيان، وأما العلة فقد مر
تفسيرها وحدها في أول الكتاب.
وأما الشرط في اللغة: فعلم على الشيء من حيث أن الوجود يكون
مضافا إليه دون الوجوب بخلاف العلة فإنها اسم لما يضاف إليه
الوجوب، فمن حيث كان وجوب ذلك الشيء بعلة غير الشرط كان الشرط
علما، ومن حيث أن الوجود يضاف إليه كان علة فكان بين العلم
والعلة، فكان اسما لما يمتنع وجود العلة إلا بوجوده لا لما يجب
به العلة أو الحكم.
وأشراط الساعة أعلامها.
وسمي الحجام شراطا لأنه يعلم مواضع الحجامة.
ومنه الشرطي لأنه خص نفسه بضرب لبسة جعلها علما على نفسه.
والصكوك شروط لأنها أعلام على التذكير.
وكلمة "إن" في اللغة كلمة شرط نحو قولك: إن أكرمتني أكرمتك،
لأن قولك: أكرمتك إخبار عن كرامة فعلتها ولما علقتها بكلمة
"إن" انعدم، وصار إن إذا تحقق علما على الكرامة؛ إن فعلت كذا
فعبده حر، صار الفعل علما على العتق.
ولهذا قالت العلماء في علة التلف وشرطه إذا اجتمعا: إن الضمان
يجب على صاحب العلة ما أمكن نحو حافز البئر على الطريق والدافع
فإن الضمان على الدافع، لأن الحافز صاحب شرط لأنه بحفره أزال
ما كان الماشي يستمسك عليه فبالأرض كان الآدمي يستمسك عليها،
فإذا زالت الأرض لم يكن السقوط بزوالها بل بثقل الآدمي حيث لا
(1/371)
يمسكه الهواء، وإنما زال بالحفر المانع من
السقوط والدفع علة السقوط لأن المسكة التي بالآدمي في مقامه
تزول بالدفع فإذا اجتمع الدفع والحفر وجب الضمان على الدافع.
وإذا عدم الدفع ومشي بنفسه فسقط كان الضمان على الحافر لأن
المشي ليس بسبب سقوط على مكان مستو فلم يصر تعديا إذا لم يعلم
بالحفر فلم يمكن أن يجعل سببا يضاف إليه التلف بغير حق فأضيف
إلى صاحب الشرط وهو الحافز.
فأما العلامة: فاسم لما يدل على غيره، من غير أن يكون لوجوده
أو وجوبه به تعلق، ولا في ذاته ما يدل عليه بل صارت دلالة بضرب
اصطلاح أو إخبار من صادق لأشراط الساعة، فإنها تدل على حضور
الساعة من غير أن يكون للحضور بها تعلق وجوبا أو جودا، أو
كالميل علم على الطريق.
والتكبيرات في الصلاة أعلام على الانتقال من ركن إلى ركن.
والأذان علم الصلاة والتلبية شعار الحج وعلمه فهذه ضروب
متشابهة.
ففي السبب معنى العلة.
وفي العلة الشرعية معنى العلامة على ما مر تفسيرها.
وفي الشرط معنى العلة والعلامة.
والعلامة علامة تشتبه بالشرط والعلة ففيهما معنى العلامة لا
يمتاز بعضها عن بعض إلا بجد تأمل، وسنذكر كل نوع على حدة هداية
للشادي وتبيينا للناشي، والله أعلم.
(1/372)
باب
القول في أنواع السبب
الأسباب التي تسمى أسبابا شرعا أربعة أقسام:
أ- سبب اسما لا معنى.
ب- وسبب محض اسما ومعنى.
ج- وسبب هو علة العلة.
د- وسبب هو علة معنى.
أما السبب اسما لا معنى وحكما: فنحو اليمين بالله في حق
الكفارة فإنها بعد الحنث تجب باليمين لا بالحنث على ما عرف.
وكذلك النذر المعلق بالشرط فإنه يلزم بعد الشرط بالنذر لا
بالشرط فسمي النذر المعلق بالشرط سببا.
وكذلك اليمين إلا أنه اسم مجاز لتصوره بصورة الأسباب لا حقيقة
لعدم معنى السبب فيه، لأن معنى السبب ما يكون مؤديا إلى غيره،
وطريقا واليمين تعقد للبر، وإنه مانع من الحنث الذي عنده تجب
الكفارة وليس بطريق.
ولكن لما كان بعرض أن يزول المانع فيصير علة كان في صورة
السبب، وبتخلل المانع ذهب عنه معنى السببية، وكذلك النذر
المعلق بشرط لا يراد كونه فهو على هذا لأنه نذر للمنع عن
الشرط.
وأما إذا علق بشرط يراد كونه فلأن قوله: على كذا تعلق بالشرط،
ولما تعلق به لم يصل إلى ذمته فصار نذرا تسمية لا معنى، لأن
الشيء في غير محله لا يثبت كبيع الحر، ولأن التعليق مانع حكما
كما لو كان شرطا لا يراد كونه والعبرة للحكم لا للغرض، غير أن
هذا لما كان بغرض الوصول إلى محله كان معتبرا بخلاف بيع الحر،
وكان قبل وجود الشرط بمنزلة الرمي قبل الوصول إلى المرمى يكون
معتبرا على أن يصير قتلا بالوصول إليه ثم السراية إلى أن يموت.
فأما قبل الوصول إلى محله فلا يكون قتلا.
وإذا كان بينهما ترس مانع فلا يكون سببا.
وكذلك الطلاق المعلق بشرط ليس بطلاق، وليس هو سبب له بل هو
للحال عقد
(1/373)
آخر وهو عقد اليمين المانع عن شرط الحنث.
ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث، ولا
تعجيل النذر قبل الشرط ويجوز تعليق الطلاق بالنكاح لأنه ليس
بطلاق ولا سبب للطلاق فلا يشترط لصحة انعقاده شرط الطلاق، وهو
ملك النكاح كما لو حلف بشيء آخر وإنما هذا تكلم بما سيصير
طلاقا إذا وصل إلى المرأة التي هي محلها بعد الشرط فيعتبر
للحال كون الرجل من أهل التكلم به، ومن أهل اليمين.
ولأن السبب ما يتقرر عند الوصول إلى المقصود لا ما يرتفع
واليمين ترتفع بعد الحنث الذي بعده يجب الطلاق والكفارة، لأنه
بعدما يدخل الدار يبقى أنت طالق أو على صدقة، وهذا القدر لا
يكون يمينا.
وكذلك اليمين بالله قبل الحنث يمين منعقدة للبر، وبعده يزول
الانعقاد للبر كعقد بيع قائم من مفسوخ.
ولا يكون البيع سببا لحكم الفسخ بحال وبالفسخ يزول معنى البيع.
وكذلك بالحنث يزول معنى اليمين المنعقدة لإيجاب البر فلا تكون
المنعقدة سببا لما يتعلق ثبوته بانفساخه.
وكذلك المتمتع بالحج إذا صام السبعة الأيام قبل الرجوع من منى
لم يجز لأن الله تعالى قال: {وسبعة إذا رجعتم} فلما علق بالشرط
لم يجز التعجيل قبله ولم يكن ما قبله سببا له والمسافر إذا عجل
الصوم قبل الإقامة يجوز لأن الله تعالى يقولك {فعدة من أيام
أخر} أجل الإيجاب عليه ولم يعلقه بالشرط فتأجل، ولم يخرج الشهر
من أن يعتبر سبب الوجوب كالثمن المؤجل والزكاة قبل الحول
فالمعلقات بشروط ليست بأسباب حكما ومعنى لما يجب عند الشروط
وقد تسمى أسبابا تسمية ومجازا، فهذا ضرب مجاز لكنه معتبر شرعا،
لأنها للحال تعتبر أسبابا لحكم شرع اليمين له فكان عقدا صحيحا
لحكم صحيح، وإنما أبطلنا كونه سببا بحكم يتعلق بانفساخ العقد
المنعقد للحال.
وأما السبب المحض فنحو: حل قيد العبد حتى أبق، فإن الحل سبب
محض فلا يضمن به العبد لأن الهلاك من الإباق، فكان الإباق
باختيار من العبد لا بقوة حدثت من الحل، وكذلك إذا دل سارقا
على مال حتى سرق لم يضمن الدال لأن أخذ المال باختيار السارق
الأخذ، لا بقوة حدثت من الدلالة.
ولهذا قال علماؤنا: إن الدابة إذا أتلفت زرع إنسان ليلا لم
يضمن صاحب الدابة لأن التلف كان بأكل أو وطء فعلت الدابة
باختيارها لا بقوة حدثت من تسييب صاحبها، وكذلك من فتح باب
اصطبل حتى خرجت الدابة أو باب قفص حتى طار الطير لم يضمن لأن
الخروج كان باختيار من الطير والدابة لا بقوة حدثت من الفتح
أوجب له الاختيار ولا بإلجاء الدابة إليه ليفسد الاختيار
بالكره.
(1/374)
ولا يلزمنا قولنا: إن المحرم إذا دل على
صيد فقتل ضمن لأن الدلالة سبب محض في حق جناية الأخذ ولا ضمان
عليه من حيث أخذ الصيد، ولكنه يضمن من حيث إزالة أمنه عن
الاصطياد وقد لزمه بالإحرام أن لا يزيل أمنه فتكون الإزالة
جناية عليه كما يكون ترك الحفظ من المودع جناية على الوديعة
يضمن به، أو يضمن من حيث جنى على إحرامه، فإن إزالة الأمن عن
الصيد محظور إحرامه كالحلق ولبس المخيط والدلالة مباشرة ما
يزيل الأمن عنه، لأن أمنه بسبب تواريه عن العيون فأما بعد
العلم فلا ينجيه إلا الفرار على خوف، ولهذا قلنا: إن حافز
البئر إذا تلف فيها إنسان لم يضمن الكفارة ولا يحرم الإرث،
لأنهما يجبان جزأين بإزاء فعل القتل مباشرة والمباشرة من
الحافز في حفره وقد انقضى قبل الاتصال بالساقط.
وإنما اتصل به عمق حادث بفعله فصار مشيه سقوطا للعمق الحادث به
إلا أنه شرط لسقوطه لا علة فسقوطه بسبب ثقله الذي لا يحمله
الهواء، والأرض كان تحمله ولما صار العمق الحادث بفعله شرطا
للتلف والكفارة جزاء علة التلف لم يضمن صاحب الشرط لعدم العلة
والكفارة جزاؤها.
وهذا كما قالوا فيمن قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فدخل
ونوى عن الكفارة: لم يجز لأن التكفير تعلق جوازه بمباشرة
الإعتاق وهو بالدخول أوجد شرط العتق فلم يكن مباشرا فلا تتأدى
به الكفارة.
فأما ضمان التلف ليس بجزاء علة التلف لينعدم بعدمها بل عوض
التالف بتلف مضاف إليه.
والحكم يضاف إلى الشرط وجودا وإن لم يضف إليه وجوبا.
وإذا أضيف إليه ضمن إلا أنه إذا اجتمع علة التلف مع شرط التلف
وصلح كل واحد منهما أن يجعل سبب ضمان كانت الإضافة إلى العلة
أولى، وههنا العلة ثقله أو مشيه وذلك مما لا يصلح سبب ضمان
لأنه ليس يتعدى من حيث الإضافة إلى صاحب الشرط.
وكذلك زوائد الغصب المنفصلة والمتصلة أمانة عندنا، لأن الضمان
الغصب ضمان فعل خاص، وهو أخذ مال مملوك ولا يتصور الأخذ على
هذا الحد إلا بإزالة يد بيد عن شيء واحد وهذا الحد وجد في الأم
ولم يوجد في الزوائد لأنها حدثت في يد الغاصب ابتداء بسبب بقاء
الأصل في يده، وذلك ليس بغصب بل حكم الغصب فلا يجب ضمان الغصب
به، وإن سلمنا أن البقاء تعدى حكما وهو آثم على الإدامة لأنه
تعدى غير الغصب كالإصرار على الزنا ولما كان تعديا آخر لم يجب
به ضمان الغصب فإن ادعى ضمانا آخر غير ضمان الغصب تكلما فيه.
وقلنا: إن المحرم إذا أخذ ظبية فولدت في يده حدث الولد مضمونا
عليه لا ضمان
(1/375)
أخذ فإنه لم يوجد، ولكن ضمان الجناية على
الصيد من حيث إزالة الأمن عن الصيد بسبب هو تعد لأن الصيد آمن
في حقه عن أيدي الناس بالإحرام، وفي نفس الحدوث في يده زوال
الأمن الواجب له بالإحرام، فمتى كانت يده متعدية صارت سببا
لضمان تعد هو إزالة أمن لا ضمان تعد هو أخذ كالمودع يضمن بترك
الحفظ، وكان ذلك تعديا منه بحكم عقده.
وهذا كما يوجب الضمان على الدال والدلالة سبب محض للقتل
والأخذ، ولا يوجب الضمان به بل بمباشرة الجناية من حيث إزالة
الأمن كما يضمن المودع بدلالة السارق على الوديعة لأنه مباشرة
جناية من حيث ترك الحفظ وزيادة لا من حيث الغصب والأخذ.
وكذلك شهود القصاص إذا رجعوا بعدما قتل المشهود عليه بشهادتهم
لا يضمنون الكفارة، ولا يحرمون الإرث ويضمنون الدية كالحافز
سواء لأن المباشرة منهم في أداء الشهادة، وقد انقطعت بالفراغ
عن الأداء ثم حكم الحاكم وما وجب به مضاف إليهم لأنهم ألزموا
الحاكم ذلك، إلا أن التلف الواقع بالحكم تلف حكمي والكفارة
جزاء إتلاف حقيقة، وذلك بمباشرة الولي، وهو فيه مختار غير ملجأ
حكما فيقتصر فعله عليه، ولا ينتقل إلى الشهود فلا يلزمهم ضمان
القتل حقيقة.
وكذلك الرجل يكون له امرأتان صغيرة وكبيرة، فترضع الكبيرة
والصغيرة حتى بانتا، فإن الزوج يغرم للصغيرة نصف الصداق ويرجع
بما غرم على الكبيرة إن تعمدت الفساد، ولا يرجع إن لم تتعمد
الفساد لأن المرضعة مسببة للفرقة.
وليست بصاحبة علة كالحافر سواء، لأن فعلها في التمكين من
الارتضاع لا غير، والفرقة تتعلق بوصول اللبن إلى الجوف، وذلك
إنما يحصل بارتضاع الصغيرة وهي مختارة في ذلك كالطير في طيرانه
والماشي في مشيه، غير أن مصة الصغيرة إنما تكون ارتضاعا ببقاء
أثر فعل الكبيرة وهو بقاء الثدي في فمها بإلقاء كان منها
ابتداء.
فإن كان الإلقاء تعديا كان البقاء تعديا.
وإن لم يكن تعديا فكذلك البقاء كالحفر سواء.
وإذا لم يكن تعديا لم يكن وجوب نصف المهر على الزوج بتعد كان
منها فلا يكون سبب ضمان لأن الوجوب لا يكون فوق التلف، والتلف
إذا لم يكن بتعد من الحافر لم يضمن فكذل الوجوب ههنا.
وعندنا يجب الضمان بإيجاب المهر لا بإتلاف ملك النكاح فإنه غير
متقوم عندنا، ولو شهد الشهود بالفرقة بعد الدخول وقضى القاضي
ثم رجعوا لم يضمنوا شيئا، ومتى كان البقاء تعديا وارتضاع
الصغيرة مباح لها كمشي الماشي على الطريق أضيف الإيجاب إلى ما
هو التعدي فوجب الضمان على ما مر.
(1/376)
ومن الأسباب المحضة وجود بعض ما يتم علة
بانضمام معنى آخر إليه كأحد شطري البيع، وأحد وصفي علة الربا
فهي من الأسباب المحضة، لأن الحكم لا يجب ما لم يتم العلة فكان
المبدأ معتبرا لتمامه، وكان كالطريق إليه فلا يضاف الحكم إليه
بوجه.
فإن قيل: قد ذكرت أن حد السبب ما يكون بينه وبين الحكم الذي هو
سببه محضا علة تامة يضاف الحكم إليها، والجزء الباقي من العلة
في مسألتنا قط لا يكون علة بانفرادها.
قلنا: نعم، ولكن العلة لا يجب حكمها ما لم تتم العلة فالوصف
الأخير يجعل ما مضى علة فيكون الحكم مضافا إليه وحده ويصير
منزلة علة العلة كالرمي علة النفوذ.
والنفوذ علة الإصابة.
والإصابة علة السراية.
والسراية علة الموت.
ولكن لما حدثت العلل المتوسطة بالأولى أضيف الحكم إلى الأولى
فكذلك ههنا ما قبل التمام من الأوصاف، إنما تصير موجبة بالوصف
الأخير، ثم يجب الحكم بكل العلة فيصير الكل مضافا إلى الوصف
الأخير، حتى قالوا فيمن حمل سفينة مائة من، وهي لا تطيق أكثر
منها، ثم إن رجلا طرح فيها منا زائدا فغرقت السفينة، ضمن طارح
المن جميع السفينة بمنزلة ما لو طرح الأمناء كلها.
وقال علماؤنا - رحمهم الله - فيمن أصاب من الماء قدر ما لا
يكفيه لوضوئه: أنه يتيمم ولا يبالي بذلك الماء كأنه نجس أو لم
يجد شيئا وذلك لأن التراب جعل طهورا شرعا بشرط عدم ماء طهور في
حق الصلاة.
وحكم الطهارة في حق الصلاة لا يتجزأ ثبوته بل يثبت جملة فإن
الحكم إباحة أداء الصلاة وهذا حكم لا يتصور تجزيه وكان بعض
الماء بعض علة ليصير علة، طهورا للصلاة عند تمامه فكان في حكم
السبب المحض ماله حكم العلة المانعة من التيمم بوجه.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إن الأشربة التي حرمت
لعلة السكر، لا يحرم منها القليل لأن السكر مضاف إلى الشربة
الأخيرة التي بها تصير ما مضى من الشراب مسكرة، وإنما ترك محمد
- رحمه الله - هذا الأصل احتياطا لباب الحرمة فحرم القليل منه
لأنه سبب داع إلى الكثير، وإن لم يكن علة.
وقالوا أيضا: لا تجب صدقة الفطر عن نصف عبد لأن علتها الرأس
فلا يكون للبعض حكم العلة بل يكون له حكم العدم، وكذلك الحفنة
بالحفنة لا ربا فيها لأن العلة هي المكيل وهذه بعض ما يكال
وليس بمكيل.
(1/377)
وقالوا: إن المحرمية بالرحم مع الملك علة
للعتق بمنزلة التحرير.
ثم قالوا في العبد بين اثنين إذا ادعى أحدهما أنه ابنه عتق
عليه، وضمن، وإن ثبت الملك بهما جميعا لأن تمام العلة
بالقرابة، وهي ثبتت بالدعوة وبمثله لو كانت البنوة ظاهرة وهو
بين رجلين فاشترى الأب نصيب أحدهما ضمن لأن تمام العلة كان
بالملك، وإنما يثبت بصنع الأب فأضيف الحكم إليه وسقط اعتبار
الأول.
وقالوا إذا قال لامرأته: إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق،
فأبانها وانقضت عدتها فدخلت إحدى الدارين، ثم تزوجها فدخلت
الدار الأخرى: طلقت، لأن تمام الشرط علة حلول الطلاق، والتمام
وجد في الملك فصار ما قبل التمام من الشرط كأنه ليس بشرط
الطلاق فصح وجوده حكما بلا ملك النكاح، والله أعلم.
فصل
وأما السبب الذي هو علة العلة فهو السبب الموجب، لأنه أوجب علة
الحكم فمن حيث لم يوجب إلا بواسطة علة كان سببا.
ومن حيث حدثت العلة الموجبة للحكمة به أضيف الوجوب إليه فصار
موجبا.
ولهذا السبب حكم العلة من كل وجه.
لأن علة الحكم لما حدثت بالأولى صارت العلة الأخيرة حكما
للأولى مع حكمها لأن الحكم الثاني مضاف إليها، وهي مضافة إلى
الأولى فصارت الأولى بمنزلة علة لها حكمان.
ومثاله: الرمي المصيب القاتل، فإنه سبب موجب للموت لأن فعل
الرمي ينقطع قبل الإصابة، لكنه أوجب حراكا في السهم وصل به إلى
المرمى، وأوجب نقض بنيته ثم انتقاض البنية أحدث آلاما قتلته
فكان الرمي سببا موجبا، وله حكم حز الرقبة من كل وجه فصار
الموت وسراية الألم وانتقاض البنية ونفوذ السهم أحكاما للرمي.
وقلنا نحن: إن شراء القريب إعتاق.
ويجوز به التكفير لأنه سبب موجب للعتق لأن الشراء علة الملك.
وملك القريب علة العتق فكان الشراء علةَ علةِ العتق فكان له
حكم العلة وصار الملك مع العتق حكمين للشراء.
ولهذا قلنا: إن الحكم يضاف إلى آخر أوصاف العلة لأن ما مضى
إنما يصير موجبا بالأخير ثم الحكم يجب بالكل فيصير الوصف
الأخير كعلة العلة من هذه الجملة قطع حبل القنديل حتى انكسر،
وشق زق الدهن حتى سال، لأن قوامه بمسكته ومسكة القنديل
(1/378)
بالحبل، ومسكة الدهن بالزق فالقطع أو الشق
علة مزيلة للمسكة وزوال المسكة علة التلف.
فصل
وأما السبب الذي هو علة للحكم فهو الموجب للحكم بنفسه في
الثاني بلا واسطة علة، لكن الحكم في الحال لم يجب لعدم تمامه
لا ببعض ما هو علة بل بوصف لما هو علة فمن حيث لم يوجب بنفسه
حتى تم بوصفه كان سببا وطريقا إليه.
ومن حيث أن الحكم في الثاني يضاف إلى العلة دون أوصافها، لأن
الأوصاف إتباع لم يكن سببا محضا بل كان سببا ابتداء وعلة
انتهاء، وهذا أدق وجوه الأسباب.
ومثاله النصاب فإنه سبب الوجوب.
وعلته إذا تم الحول لأن الزكاة تجب بسبب الغنى.
والغنى في النصاب دون الحول فسقط اعتبار الحول بعضا من أبعاض
العلة.
ولما لم تجب الزكاة بالنصاب نفسه علم أن معه معنى آخر تعلق
التمام به، وهو أن يوصف بأنه حولي في ملكه لأن الشرع علق
الزكاة بمال نامي معنى، والنمو لا يكون إلا بمدة فشرط صفة
النماء حولا لتحقيق النمو فصار المال المرصد للنمو أصل العلة،
والولي وصفا فلم يعمل أصل العلة ما لم يتم بوصفه، ولا يقال إن
حولان الحول شرط الوجوب لأنه يثبت بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وحتى ليست بكلمة شرط بل
توقيت.
ولا يقال إن الحول أجل مانع لأن الأجل لو منع لكان رخصة لصاحب
الحق فكان يسقط بإسقاطه، وأخذه بالعزيمة بتعجيل الأداء كما في
صوم المسافر لما كان المانع من الوجوب أجل الله تعالى: {فعدة
من أيام أخر} صح التعجيل.
وههنا إذا عجل لم يكن فرضا بل يقع موقوفا إلى أن تتم العلة
بوصفها، على ما مر بيانه، علم أن عدم الوجوب لعدم تمام العلة
وأن السقوط عزيمة كما هو في بعض العلة.
ولهذا السبب حكم السبب المحض، وحكم بعض العلة في أن لا يجب
الحكم عنده حتى يوجد الباقي.
وله حكم العلة في تجويز تعجيل الأداء بشرط التمام بوصفه في
الثاني.
فقالوا جميعا: إن الزكاة لا تجب قبل الحول ومتى عجل صاحب المال
الأداء، وهلك المال ولم يبق حولا لم يكن المعجل فرضا، كما لو
عجل قبل تمام النصاب لأنه
(1/379)
عجل قبل التمام.
وإذا بقي المال حولا صح الأداء عن الفرض كأنه عجل بعد تمام
العلة بوصفها وركنها، ولكن تأخر الحكم لمانع لما لو عجل الدين
المؤجل وهذا لأن الحول متى تم واتصف النصاب الحول، والوصف لا
يقوم بنفسه بل بالموصوف، وهو المال من حين صار سببا لأنه لا
يتصف المال بالحولي إلا إذا بقي حولا فاستند الوصف إلى أصل
المال، وصار ذلك المال من أول الحول متصفا بأنه حولي كرجل يعيش
مائة سنة فيكون الموصوف بهذا البقاء ذلك الوليد بعينه، لا شخص
آخر.
فإذا استند الوصف إلى أول أوقات النصاب استند الحكم والوجوب
إلى أوله أيضا فيصير المعجل مؤديا في الثاني بعد الوجوب
فيجزيه، وأما بعض العلة فلا يستند إلى ما قبل بل يقتصر على حين
وجوده، لأنه ليس يتبع لما قبله فيقتصر على حين التمام فيبقى
الأداء قبله أداء قبل الوجوب فلا يجزيه.
وهذا كما قيل في المريض صاحب الفراش إذا وهب جميع ماله: أنه
ينفذ ويصير ملكا للموهوب له إذا سلم إليه كما لو كان صحيحا،
وإذا مات نقضت الهبة في الثلثين لأن العلة الحاجرة عن هبة
الثلثين مرض مميت لا نفس المرض.
وقولنا: مميت صفة للمرض كما في الجرح قد يكون مميتا فيكون قتل،
وقد لا يكون فحين تصرف، والوصف معدوم نفد من غير حجر لعدم
التمام بوصفه ولما دام حتى أماته تم الوصف فصار أصل المرض
متصفا بالإماتة والسراية إلى الموت لا آخره لأن المرض يضعف
القوى، وكل جزء من المرض بعد ما خرج عن عداد الأصحاء مضعف
بمنزلة جراح متفرقة سرت إلى الموت، فإنه يضاف إلى الكل دون
الأخير فتمت علة الحجر من حين أصل المرض الذي أضناه، والتصرف
وجد بعده فصار تصرف محجور عليه فنقض عليه إذا لم يجزه صاحب
الحق.
وقال علماؤنا يرحمهم الله: إذا جرح رجل رجلا خطأ فكفر ثم مات
المرجوح أجزأه بالمال وبالصيام جميعا، لأن علة الوجوب هو القتل
وذلك اسم لرجح سرى ألمه إلى الموت، والسراية صفة لأصل الجرح
فعدم الوصف يمنع الوجوب، ولا يمنع التعجيل موقوفا على تتمة
العلة بوصفها في الثاني.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه فيمن قال: آخر عبد أملكه فهو حر،
فملك عبدا ثم عبدا ثم مات: عتق الأخير من حين ملكه، وكذلك هذا
في الطلاق لأن الشرط آخر عبد يملكه والآخر صفة للعبد المشترى
فلا يقع العتق حين اشتراه لأن صفة الآخرية، لم تثبت لجواز أن
يشتري عليه آخر فيكون هو أوسط عبد.
ولكن: إذا مات، ولم يشتر آخر صار الآن آخر عبد اشتراه لأنه
يصير آخرا بتركه
(1/380)
الشراء عليه والترك لآخر عمره ليس بصفة لما
قبله بل البعض منه فاقتصر الحكم عليه، وحكمه ثبوت صفة الآخرية.
ولما ثبت وهو وصف استند الوصف إلى الموصوف، وهو العبد الذي وقع
عليه الشراء من حين وقع لأن الحالف جعله صفة للذي يشتريه لا
للقائم للحال فيصير الشرط بوصفه موجودا من حين اشتراه فيستند
حكم الوجود إليه، وهو حلول العتق كما استند حكم العلل وهو
الوجوب فيما مضى.
فإن قيل: لو عجل الزكاة عن خمس من الإبل العوامل ثم أسأمها لم
يجز.
قلنا: إن المال ليس بسبب في نفسه لأنه للبذلة والنوى، وإنما
يصير سببا بالإسامة التي هي سبب نماء تعلق به البقاء من
التناسل، وإذا كان يصير سببا بالإسامة كانت هي العلة في
الحقيقة لأن المال به يصير سببا، وكان بمنزلة آخر أجزاء العلة
ففي معرفة هذه الأقسام بحدودها ضرب فقه يدق طرق الوقوف عليها،
فلا يسلكنها أحد بكسل، ولا يقفن عنها بفشل، والله معين من أناب
إليه، وهادي من جاهد فيه، والله أعلم.
(1/381)
باب
القول في أنواع العلل المعتبرة
شرعا
العلل المعتبرة شرعا أربعة أنواع:
أ- علة موجودة اسما ومعنى وحكما.
ب- وعلة موجودة اسما ومعنى لا حكما.
ج- وعلة موجودة حكما لا اسما ومعنى.
د- وعلة موجودة اسما لا معنى وحكما، نحو طلاق المرأة إن دخلت
الدار كان عقد طلاق اسما، ولم يكن معنى ولا حكما لما مر في
الباب الأول.
وأما المعتبر من كل وجه فنحو إعتاق المكاتب عبده، وطلاقة
امرأته وبيعه ماله، ونذره بصدقة درهم، وهذا ضرب لا إشكال فيه
وهو الأصل.
وأما الضرب الثالث: فكالنصاب قبل الحول فإنه علة الوجوب اسما
ومعنا لا حكما، لأن الزكاة لا تجب إلا بعد الحول على ما مر.
وكذلك الجرح علة القتل وقد وجدت صورة ومعنى لا حكما.
وكذلك البيع بشرط الخيار موجود علة للملك اسما ومعنى لأنه
منعقد للحال شرعا لا حكما، لأن الملك لا يجب للمشتري معه،
والمبيع باق في ملك البائع كما كان من قبل من غير خلل.
وكذلك الطلاق الرجعي علة إبانة انعقدت اسما ومعنى لا حكما.
وأما الضرب الرابع: فكالسفر فإنه سبب للرخص، والعلة هي المشقة
فأثبت حكم العلة، وهو السقوط ولا مشقة وهي العلة على الحقيقة.
وكذلك الاستبراء يجب باستحداث ملك الوطء بملك اليمين، وإن كانت
الأمة بكرا أو اشتراها من صبي أو امرأة والعلة صيانة الماء عن
الاختلاط بماء قد وجد ولا ماء في هذه الفصول.
وكذلك الوضوء يجب عن النوم وإن لم يوجد الحدث، والعلة هي خروج
نجس عندنا أو خروج شيء من المخرج على أصل غيرنا.
وكذلك إذا باشر امرأته وانتشرت آلته، وليس بينهما ثوب وجب
الوضوء، وإن لم
(1/382)
يخرج شيء بيقين والعلة هي الخروج.
وكذلك الاغتسال يجب بالتقاء الختانين وإن تيقن بعدم الماء،
والعلة خروج المني عن شهوة، والنسب يثبت بالنكاح وأصله الماء،
وإن لم يطأها علم أنه لم يخلق من مائه، وهذا لأن السفر سبب
ظاهر للمشقة عادة، والمشقة أمر باطن يتفاوت الناس فيها وليس
لها حد معلوم فلو علق الحكم بحقيقة المشقة لتعذر الأمر علينا
فعلقه الشرع بسببها في العادات تيسيرا علينا فيثبت الحكم وإن
عدمت العلة لأن السبب خلفها وصار علة شرعا.
وكذلك خروج الحدث حال النوم أمر باطن لو علق الحكم به لتعذر
فعلق بالسبب المؤدي إليه ظاهرا وهو النوم الذي يرخي مفاصله
تيسيرا واحتياطا لأمر العبادة أيضا، وكذلك الاستبراء لو علق
بالماء، وهو أمر باطن تعذر علينا مراعاته فعلق بالسبب المؤدي
إلى خلط المياه، وهو استحداث ملك الوطء بملك اليمين لأن هذا
الاستحداث يصح من غير استبراء لزم المالك الأول، وظهور البراء
عن مائة فلو أبحنا الثاني بنفس الملك لأدى إلى خلط المياه
بخلاف ملك النكاح فإن الملك لا يزول بحق النكاح بعد الماء إلا
عن تربص موجب للبراءة، فالإطلاق للثاني بنفس الملك لم يؤد إلى
الخلط.
وإذا كان كذلك أقيم سبب الخلط وهو الإباحة بنفس الملك مقام
الخلط حقيقة في حق وجوب الاستبراء تيسيرا للعباد بتعليق الحكم
بسبب ظاهر دون الماء الباطن، وكذلك وجوب المبيع مملوكا شرط
لصحة البيع وجوزت الإجازة، وهي بيع المنافع وليست بموجودة ولا
مملوكة، لأنا لا يمكننا بناء بيعها على الوجود لأنها لا تبقى
زمانين بل تتلاشى كما وجدت فأقيم سبب الملك مقام الملك، وكذلك
سبب الوجود من قبل العين المنتفع به مقام الوجود وابتنى جواز
العقد عليه، والله أعلم.
(1/383)
باب
القول في أنواع الشروط
أ- شروط محض.
ب- وشرط هو في حكم العلة.
ج- وشرط هو في حكم العلامة المحضة.
د- وشرط صورة ماله حكم.
فأما الشرط المحض: فما يمتنع به وجود العلة إلا بوجوده على ما
مر تفسيره في باب الفرق بين الشرط والعلة، وهو كلمة أن نحو
قولك: عبدي حر إن دخل الدار، فإن التحرير قد انعدم حكما،
وامتنع وجوده بكلمة إن حتى يوجد الشرط وهو الدخول.
وحكمه ما ذكرنا: أن وجود العتق يضاف إلى الشرط دون الوجوب بل
الوجوب يضاف إلى قوله أنت حر.
وعلى هذا شروط العبادات، فإن الوقت علة الوجوب وعلم العبد
بالخطاب شرطه فلا يوجد ابتداء الوجوب إلا بعد العلم، أو ما
يقوم مقامه ولكن يجب بالوقت.
وكذلك الأداء إنما يثبت بالفعل من قيام وقراءة وركوع وسجود
ولكن الوجود شرعا يتعلق بالطهارة، والنية وسائر الشروط.
وكذلك في المعاملات عقد النكاح إنما يكون بالإيجاب والقبول ولا
يوجد شرعا إلا بشهود.
وأما الشرط الذي هو في حكم العلة: فنحو شق زق الدهن وقطع حبل
القنديل، فإن الشاق يضمن كأنه أكل الدهن أو أحرقه بالسراج وإن
كان الشق مباشرة إتلاف للزق، وإزالة لما يمنع سيلان الدهن
فيوجد السيلان عند الشق لا به بل يكون الدهن مائعا سيالا.
لكنه في حكم العلة لأن تماسك الشيء يعتبر بقدر الممكن في
العادات وتماسك الدهن محفوظا عن التلف في العادة لا يكون إلا
بالأوعية.
وكذلك تماسك القنديل على الوجه الذي يحفظه عن التلف حال
الانتفاع به على الوجه الذي صنعت القناديل له لا تكون إلا
معلقة بالحبال فلم يكن إرسال القنديل بحبل علة تلف بل كان
حفظا.
وكذلك صب الدهن في الوعاء كان حفظا فيكون شق الوعاء أو قطع
الحبل والحفظ
(1/384)
بهما إتلافا هذا كالقتل مباشرة إتلاف
والقتل اسم لما يزيل الحياة لا لما يفيت جزءا عينا من الشخص
فإنه قطع والقاطع يسمى قاتلا إذا مات منه المجروح، لأن الحياة
ليست بعين يمكن أخذها بمد اليد إليها أو إتلافها بالقصد إليها،
ولكن علق بقاؤها محفوظة بسلامة البنية فكان نقض البنية وبها
قوامها إتلافا للحياة.
فأما الطلاق فمما يحفظ بترك التكلم به وبه يبقى ملك الطلاق
للزوج، فإذا تكلم به وعلق بالشرط لم يعتبر الشرط حافظا بل
اعتبر مانعا من الوقوع، واعتبر الإرسال عن لسانه إيقاعا وعلة
فلم يكن للشرط حكم العلة إذا انفردت العلة وهي الإيقاع.
وعن هذا الأصل اختلفوا في الطلاق المعلق بالولادة إذا أنكر
الزوج الولادة، وشهدت القابلة لم تطلق عند أبي حنفية رحمه الله
لأن للشرط حكم العلة في إيجاد الحكم فلا يثبت وجود الطلاق
بشهادة امرأة.
وهما قالا: الوجوب لا يضاف إلى الشرط فيبقى علامة محضة في حق
الوجوب فيثبت بشهادة النساء، ألا ترى أن الزنا إذا أثبت على
رجل واختلف في إحصان يثبت الإحصان بشهادة رجل وامرأتين، وإن
كان الحد لا يجب بشهادة النساء مع الرجل لأن الوجوب مضاف إلى
الزنا والإحصان شرط.
والانفصال لأبي حنيفة أن الإحصان لا يتعلق به الوجوب ولا
الوجود بل يتبين بالإحصان أن الرجم كان واجبا.
وقالوا جميعا: إن الزنا إذا ثبت على مسلم واختلف في عتقه وكان
عبد نصراني فشهد نصرانيا على مولاه أنه أعتقه صار حرا، ولم يجب
الرجم عليه لأن الإحصاء شرط يوجد إقامة الرجم عنده لا أن يتبين
الإقامة به ولما كانت الإقامة توجد عند الإحصان صار الوجود على
الزاني مضافا إليه.
وشهادة الكافر ليست بحجة في حق المسلم المشهود عليه فلم يعمل
في حقه والحق الوجود بالوجوب.
فأما شهادة النساء مع الرجال فحجة في حق الناس أجمع وإنما لها
خصوص في حق المشهود بها وهي الحدود، والحد لا يجب بالإحصان ولا
يثبت وجود الوجوب به بل يتبين به أنه كان واجبا فكان الإحصان
علما مظهرا للواجب شرطا موجدا للإقامة.
وكذلك قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا ولدت المعتدة وأنكر
الزوج الولادة وشهدت القابلة لم يثبت النسب بشهادتها إلا أن
يكون الحبل ظاهرا أو كان الزوج أقر بالحبل أو كان النكاح قائما
حال الولادة.
وعندهما: يثبت لأن النسب ثبت بالفراش القائم عند العلوق
والولادة شرط ظهور الولد قالا فهذه الولادة في حق النسب علم
محض مظهر لنسب قد كان.
(1/385)
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: إن كان
الحبل ظاهر حال قيام الفراش أو كان أقر الزوج به فقد أوجب علة
ثبوت النسب بالولادة وبالولادة يظهر ولد كان ثابت النسب فلم
يمتنع الظهور لمكان ثبوت الولادة بشهادة المرأة.
وكذلك إن كان النكاح قائما لأن الولادة تثبت بشهادة المرأة
والنسب يثبت بعلة قائمة وهي النكاح فلا يصير مضافا إلى شهادتها
فأما إذا لم يكن إقرار الزوج، ولا حبل ظاهر ولا نكاح قائم
فابتداء الوجود في حقنا إنما يثبت بشهادة المرأة بالولادة لأن
ما قبله من الوجود وجود باطن في حق الله تعالى لا سبيل لنا إلى
علمه فيعتبر بالعدم في حقنا، كالخطاب النازل من السماء يعتبر
عدما في حق من لم يبلغه ولم يقصر في طلبه، وحال البلوغ إليه
معتبر في حقه بابتداء الشرع ليكون التكليف بقدر الوسع فكذا
هذا.
وإذا اعتبر بالابتداء والعلة غير قائمة للحال بقي مضافا حكما
إلى الشهادة فلم يثبت بشهادة القابلة لأنها ليست بحجة على
النسب بحيث يضاف إليها.
وكذلك الميراث لا يثبت للولد بشهادة القابلة أنه كان حيا لأن
الإرث لا يثبت إلا بكونه حيا، وما قبل الولادة من الحياة أمر
باطن لا سبيل لنا إلى علمه فصار الظاهر بعد الولادة في حكم
ابتداء الحياة وإنما يثبت وجوده بالولادة فيصير لهذا الشرط حكم
العلة من وجه، ولهذا يتعلق الضمان به إذا امتنعت الإضافة إلى
ما هو علة.
وأما الشرط الذي هو في حكم العلامة: فالإحصان بعد الزنا فإنه
يتبين بالإحصان أن الحد كان رجما، فيصير ثبوت الإحصان علما على
موجود واجب قبله فلا يكون لهذا الشرط حكم العلة بوجه، حتى أن
أربعة لو شهدوا على زنى، واثنان على الإحصان فرجم المشهود عليه
ثم رجع شهود الإحصان وحدهم لم يضمنوا شيئا وإن لم يوجد ههنا
سبب ضمان آخر والولادة بعد حبل ظاهر علم على النسب.
وأما الشرط الذي هو شرط صورة لا معنى: فالشرط الخارج على وفاق
العادة كقوله تعالى: {وربائبكم التي في حجوركم}، {فكاتبوهم إن
علمتم فيهم خيرا}، {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} لأن العادة
جارية بترك نكاح الإماء إلا عند عدم الحرة والعجز عنها، وليس
لهذا الشرط حكم ويكون ذكره والسكوت عنه بمنزلة، والفائدة في
تخصيص الله تعالى حال الابتلاء بتلك الحادثة في العادات بالذكر
كونها أولى بالبيان لأن الحاجة إليها أمس. والله أعلم.
(1/386)
|