تقويم الأدلة في أصول الفقه

باب

القول في أنواع العلامة
علم حقيقة: وهو الدال على موجود، على ما مر تفسيره في بابه، ومنه علم العسكر، وعلم الثوب، والإعلام الإظهار.
وعلم: هو شرط للوجود، على ما مر في تفسير الشرط.
وعلم: هو علة، على ما بينا أن علل الشرع ليست بمحدثات ولا موجبات بذواتها بل بجعل الشرع إياها عللا لأحكامها، فمن حيث ليست بعلة بذاتها كانت علما.
وعلم تسمية مجازا لا حكما ومعنى، وهو العلة الحقيقة المغيرة بذاتها. والله أعلم.

(1/387)


باب

القول في أسماء الحجج التي هي مضلة
هذه الأسماء أربعة: التقليد، ثم الإلهام، ثم استصحاب الحال، ثم الطرد.
قال القاضي رضي الله عنه: هذه أسماء حجج مستحسنة المبادئ، مستقبحة العواقب، مداخلها هدى ومخارجها ضلال، لا ينجو عن قبح عواقبها من اعتقد الحجج حججا بهذه الأسماء إلا بعد جد صادق، وحذر دائم، وتوفيق من الله تعالى، وذلك لأنها ثبتت حججا على لا دليل.
فإن التقليد في إتباع الرجل غيره على ما يسمعه ويراه يفعله على تقدير أنه محق بلا نظر واستدلال وتأمل، وتمييز بين كونه حقا وباطلا على احتمال كونه حقا وباطلا، كأنه قلده صدق ما سمعه أو جعله عاقبة ذلك قلادة في عنقه إن كان حقا أو باطلا بلا دليل كما قالت الكفرة: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم}، وقالت: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}.
وأما الإلهام: فإتباع الرجل ما اشتهاه بقلبه، أو أشار إليه في أمره من غير نظر واستدلال أو تمييز بين كونه حقا أو باطلا، قال الله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} أي: عرفهما، وبين طريقهما فيكون عملا بلا دليل، لأن ما يقع في قلبه محتمل بين وحي الله تعالى أو الشيطان على ما نذكر كما أن خبر المخبر يحتمل الصدق والكذب، والمحتمل لا يكون دليلا وإنما رجح القائل به جهة الصدق بحسن الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
وقد مر القول في استصحاب الحال، والطرد أن القول بهما قول بلا دليل في الحقيقة، وسنذكر أقسام كل فصل في باب على حدة، وبالله التوفيق.

(1/388)


باب

القول في أقسام التقليد وما فيه من الحجة على صحته وفساده
قال جمهور أهل العلم بلا خلاف: إن القول بالتقليد باطل.
وقال بعض الحشوية: القول بالتقليد حق لأن أصل البشر آدم عليه السلام وكان يجب تقليده وإتباعه، فيبقى ما ثبت على ما ثبت إلى أن يقوم الدليل على خلافه، فالحقية في الإنسان أصل كالحرية، وكما يحكم لمجهول النسب بالحرية حتى يثبت خلافه فيحكم لمجهول الحال في قوله وفعله بالحقية حتى يثبت خلافه.
ولأن فعل العاقل وقوله على الصوب بدلالة عقله حتى يظهر خطاؤه فقبل الظهور يجب إتباعه ألا ترى أنكم تقلدون الصحابي كما تقلدون النبي صلى الله عليه وسلم، وتتركون الرأي بقول الصحابي ولم يكن معصوما عن الكذب لأنهم أصحاب من كان يجب تصديقه بسبب الوحي، فكذلك التابعون يجب تقليدهم لأنهم أصحاب من وجب تقليده فلا يزال يدور هكذا.
إلا أنا نقول: إن أصل التقليد باطل، لأن الله تعالى رد على الكفرة احتجاجهم بإتباع الآباء بنفس الرؤية والسماع من غير نظر واستدلال.
ولأن خبر هذا المخبر أو فعله يحتمل الصواب والخطأ، والمحتمل لا يكون حجة، ألا ترى أن الإيمان بالأنبياء عليهم السلام لم يجب بنفس الدعوة لاحتمال الصدق والكذب حتى تقوم المعجزة.
فكذلك غير الأنبياء لأنهم دونهم إلا أنا بدلالة المعجزة عرفنا عصمتهم عن الكذب والخطأ فاتبعناهم لقيام دلالة العصمة، وقد فقدت هذه الدلالة في غيرهم فلا يجب إتباعهم كما لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم قبل إقامة المعجزة.
فإن قيل: الأصل الحق فلا يبطل بالاحتمال.
قلنا: هذا الأصل ثابت في صاحب المعجزة بدليل المعجزة لا بكونه آدميا والمعجزة معدومة في غيره فلا يثبت الحكم الثابت بدليله.
فإن قيل: فالحقية تثبت بدلالة العقل وقد قامت في النسل.
قلنا: دلالة العقل تدل على الحقية ظاهرا ولا تدل على وجوب العصمة عن الباطل

(1/389)


إما غفلة، وإما قصدا فلا يصير قوله حجة موجبة على أن دلالة العقل مما لا يدل إلا بالنظر والاستدلال.
ولم يثبت أن الأول قال وعمل عن نظر واستدلال أو لا عن نظر واستدلال.
ولئن كان عن نظر واستدلال وبه كان حقا فللسامع من آلة النظر مثل ما للأول فيلزمه النظر برأيه ولا يصير نظر غيره حجة عليه كمن عاين القبلة، وأخبر غيره بجهتها، والسامع يمكنه عيانها لم يكن خبر الأول حجة عليه ولا يجوز له العمل به إلا على تقدير أنه صادق، حتى إذا تبين كذبه كان باطلا ويقال له: ميزت بنظرك بين محتج ومحتج فصير بين حجة وحجة، فالمحتج إنما يصير إماما بالحجة.
ولأن قوله: إن الحقية أصل فتميز منه بينه وبين الباطل وأنه أمر غائب لا يدرك بالحواس فثبت أنه معلوم بالنظر والاستدلال فيكون إقرارا من حيث لا يشعر به أن الحجة هي النظر والاستدلال.
ولأن الحق إما يصير للآدمي بعقله، وصفة العقل لا تسري من أحد إلى أحد والخلاف وقع في ولد آدم عليه السلام.
ولأنا نقول للمقلد: إنك مبطل فقلدني لأني عاقل، فإن قلدك فقد رجع عن مذهبه وأقر أنه مبطل، وإن لم يقلدك فقد رجع عن حجته لأنه لما لم يقلدك فقد زعم أن التقليد باطل.
ولأنا نقول له: أتقلد إمامك على أنه محق أم على أنه مبطل، أم على أنك جاهل بحاله؟
فإن قال على أنه مبطل، أو على أني جاهل بحاله لم يناظر لأنه ممن لم يميز الحق من الباطل فيكون مجنونا، أو ممن زعم أن الباطل متبع فيكون سفيها.
فيبقى قوله على أني أتبعه على أنه محق وقط لا يعرف المحق من غيره بنفس الخبر.
فالمقلد في حاصل أمره ملحق نفسه بالبهائم في إتباع الأولاد الأمهات على مناهجها بلا تمييز فإن ألحق نفسه بها لفقده آلة التمييز فمعذور فيداوى ولا يناظر، وإن ألحقه بها ومعه آلة التمييز فالسيف أولى به حتى يقبل على الآلة فيستعملها ويجيب خطاب الله تعالى المفترض طاعته.
وقد ذم الله تعالى الكفرة على قولهم: "اتبعنا أكابرنا وسلفنا" ذما لا يخفى على من آمن بالله، وأقر بالكتاب إلا أن يعاند بخلاف الكتاب، وكفره بعد الإيمان به فثبت أن القول بالتقليد باطل، وأنه ليس باسم يصلح اسما للحجة بل حجة على الإنسان في الأصل برأيه واستدلاله.

(1/390)


فأما الجواب عن قولهم إنكم تقلدون الصحابي أو النبي صلى الله عليه وسلم فلا كذلك بل عرفنا صاحب المولى صديقا معصوما عن الكذب بالنظر والاستدلال، إذ بالنظر والاستدلال عرفنا المعجزة معجزة ثم عرفنا بالنظر أن صاحب المعجزة لا يكون إلا صديقا، فإن الله تعالى لا يأتمن الكاذب ولا يؤد بالمعجزة بلا معارضة من يضل الناس ثم عرفنا بخبره أن رأي الصحابة مقدم على رأي غيره إن أسلمنا وجوب ترك الرأي بقول الصحابي.
ثم التقليد ينقسم إلى أقسام أربعة:
ا. تصديق الأمة صاحب الوحي.
ب. وتصديق العالم صاحب الرأي، ونظر في باب الفقه ظهر سبقه على أقرانه من الفقهاء.
ج. وتصديق العامة علماء عصرهم.
د. وتصديق الأبناء الآباء والأصاغر الأكابر في الدنيا.
والوجوه الثلاثة صحيحة لأنه يقع عن ضرب استدلال فإن التمييز بين النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لا يقع إلا بضرب استدلال فلم يكن تقليدا محضا.
وكذلك تقليد العالم عالما هو فوقه لأن زيادة المرتبة لا تعرف إلا بضرب استدلال.
وكذلك تقليد العامي العالم لأنه ما ميز بين العالم وغيره إلا بضرب استدلال إلا أنه ترك ما هو الأولى به من النظر في الحجج وربما يعاتب عليه فما ترك الأولى إلا بكسل فإن التمييز بين الحجج لصعب والكسل في الدين مذموم.
والباطل هو الوجه الرابع لأنهم اتبعوه بهوى نفوسهم بلا نظر عقلي واستدلال وعملوا عمل البهائم كما سمى الله تعالى أنعاما بل أضل لأنهم وجدوا آلة التمييز فلم يستعملوها فلم يكونوا معذورين والبهائم قد فقدت الآلة فكانت معذورة بل لم تكن مأمورة، والله أعلم.

(1/391)


باب

القول في الإلهام
الإلهام: ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة.
قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم.
وقال بعض الحبية: إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتج بقوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها} عرفها بالإيقاع في القلب، وبقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وشرح الصدر بنور العلم، والحرج بظلمة الجهل فالله تعالى أخبر أنه هو العاجل لذلك بلا واسطة ولا صنع من العبيد.
وبقوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا} فالحياة هي العلم، والنور الهدى فالله تعالى أخبر أنه الجاعل بلا صنع منا.
وبقوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها} فأخبر أن الناس مخلوقون على الدين الحنيفي بلا صنع منهم.
وقال: {وأوحى ربك إلى النحل} الآية حتى عرفت مصالحها بلا نظر منها فلا ينكر مثله للآدمي.
وقال: {وأوحينا إلى أم موسى} حتى عرفت بلا نظر واستدلال أن حياة موسى في الإلقاء بالبحر ولم يكن ذلك وحيا بملك تكلم بل بالإلهام وعلمت بذلك وكان حقا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" أي: على الدين الحق وما للمولود نظر ولا استدلال.
وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" وما الفراسة إلا خبر عما يقع في القلب بلا نظر في حجة.

(1/392)


وقال صلى الله عليه وسلم لوابصة وقد سأله عن البر والإثم: "ضع يدك على صدرك فما حال في صدرك فدعه، وإن أفتاك الناس وأفتوك" جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة قلبه بلا حجة أولى من الفتوى عن حجة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر" أي: ملهم، كأنه يوحى إليه ويحدث ربه أو الملائكة.
وروينا عن الصحابة أقوالا بخلاف النص وأكثرها عن عمر بالإلهام فكانت حقا، وانتسخ بها ما كان وحيا نزل بخلاف ما كان، إلا أن الملهم متى خالف النص برأيه اليوم رد عليه لأنه لا نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبين بالغلط أنه محروم نور الإلهام من الله تعالى.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألقي إلي أن ذا بطن بنت خارجة جارية، وما الإلقاء إلا الإلهام.
وأكثر أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام كانوا يلقى في قلوبهم من غير إرسال ملك.
وقالت الأمة فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلى بغير تحري بغلبة الظن، أنه لا يجوز، وإذا صلى بتحريه بقلبه أجزته وقلتم أنتم إن صلاته تجزيه، وإن خالف جهة الكعبة بيقين وإذا خالف جهة تحريه لا تجزيه وإن أصاب الكعبة.
وكذلك اللحم الحلال إذا اختلط بالحرام والحلال غالب لم يحل أكله لغلبة الحلال إلا بتحري القلب.
فثبت أن الإلهام حق من الله تعالى، وأنه كرامة لبني آدم عليه السلام، وأنه وحي باطن إلا أنه إذا عصى ربه وعمل بهواه حرم تلك الكرامة وسلط عليه الشيطان فصار الوحي منه، قال الله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك}، وقال: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} فثبت أن الآدمي معصوم قبل المعصية عن وحي الشيطان، إلا على سبيل الاستراق فلا يخفى على العبد وحيه عن وحي الملك إلا على سبيل الغفلة التي تعتري القلوب فتزل ثم تنتبه من ساعته فلا تقر عليه فيمتاز له جهة الحق بالقرار عن جهة الباطل، ومثل هذا الالتباس قد يقع للمستدل بالحجج والقياس بالرأي فثبت أن الإلهام باب من أبواب الحجج.
والحجج لأهل السنة والجماعة: قول الله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصار تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فألزمهم الكذب بعجزهم عن برهان يمكنهم إظهاره، فلو كان الإلهام حجة لما ألزمهم

(1/393)


الكذب بعجزهم عن إظهار الحجة فالإلهام حجة باطنة لا يمكن إظهارها.
وقال تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه} وبجهنم بدعوى إليه غير الله لا برهان لهم به، ولو كانت شهادة قلوبهم لهم حجة لما لحقهم التوبيخ فثبت أن الحجة التي يصح العمل بها ما يمكن إظهاره من النص والآيات التي عرفت حججا بالنظر التي يمكن إظهارها وكانت الحكمة من قيد لا برهان به وإن كان الشرك باطلا أصلا ليشتغل السامع بالبرهان نفيا للتوبيخ عن نفسه فيدله البرهان الصحيح على بطلان الشرك وحقية أن الله تعالى خالق لا شريك له.
وقال الله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فالله تعالى جعل تبين أن الله تعالى حق غاية لرؤيتهم الآيات فثبت أن العلم بالله تعالى لا يكون بدون الآيات، والآيات لا تدلنا إلا بعد الاستدلال بها عن نظر عقلي.
فإن قيل فيه: إن الله تعالى هو الذي يرينا الآيات بلا صنع منا فيلهم العبد حدوث العلم، وأن له محدثا هو الله تعالى.
قلنا: لو كانت المعرفة صحيحة على ما ابتلينا بها بدون صنع منا لأوقعها الله تعالى بلا واسطة الآيات.
والآيات مما تدلنا على الله تعالى من طريق النظر والاستدلال كالبناء على الباني، والحدث على المحدث وإنما تأويل الإضافة إلى الله تعالى على معنى أن الله تعالى هو خالق الآيات للنظر والاستدلال، وهو الموفق لعبده، والملقي في قلبه سمة التفكر في الآيات ومرينا أفول الشمس بلا صنع منا لنستدل بانعزالها على أنها ليست برب.
وكذلك فسر الله تعالى في قصة إبراهيم: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين} إلى أن قال: {إني برئ مما تشركون} ثم قال الله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} ثم دلت هذه الآية أن لا حجة فوق هذه، فلو كانت لما حرم إبراهيم عليه السلام وهو خليل الله.
ثم قال: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} فأخبر أن الإراءة ما كان من إراءته إياه انعزالها عن سلطانها بالأفول حتى تيقن به على أنه مخلوق وأن الله تعالى من خلقها، وأخبر أن الإيقان بالله تعالى متعلق بالوقوف على الآيات الدالة على حدوث العالم ليتبرأ منه أولا ثم يوقن بالله تعالى كما قال إبراهيم عليه السلام: {إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا}.
وقال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} وكانت كلمة التوحيد لا إله إلا الله فالله تعالى يرينا بفضله الحجج الدالة على حدوث العالم حججا

(1/394)


يمكننا التكلم بها، والمناظرة بها وإلزام الخصوم فنتبرأ منها إلى خالق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما الاختلاف في المعرفة بلا حجة يمكن المناظرة بها.
وأخبر الله تعالى في غير موضع أن القرآن هدى.
وكذلك الآيات لقوم: يتفكرون، يتذكرون، يعقلون، يفقهون، لوم يقل في موضع: لقوم يلهمون، ولو كان الإلهام أحد طرق العلم لبينه الله تعالى في كتابه فإنه أنزل تبيانا لطرق العلم وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} وقال: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف} الآية.
ولو كان الإلزام بالإلهام لما عوتبوا على ترك النظر والسير وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد فيه رأيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله" ولم يقل: بالإلهام ولم يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استقصينا هذا الباب في أبواب القياس. وقال صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" وأنه جائز برأي النظر والاستدلال بأصول الدين بالإجماع.
فثبت أن المراد به الرأي بلا نظر له، ولأن الرأي بلا نظر لو كان حجة يجب العمل بها كالوحي لحل لكل إنسان قبل الوحي أن يدعو الخلق إلى ما عنده بل كما يجب على نفسه العمل به.
وكما كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ومن قال هذا فقد كفر.
ولأنا نقول له الإلهام حجة على الحق بخلاف الشرع أم بموافقته، فإن قال بخلافه كفر، وإن قال بموافقته فلا تثبت الموافقة إلا بعد النظر في أصول الشرع، والاستدلال كما يكون بالقياس.
ولأنا نقول: إن هذا الإبهام قد يكون من الله تعالى، وقد يكون من الملك، وقد يكون من إبليس على ما قال الله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}، ومن نفسه على ما قال: {ونعلم ما توسوس به نفسه}، ولن يقع التمييز بينهما إلا بعد نظر واستدلال بأصول الدين.
ولأنا نقول: لو سلمنا أن الإلهام ثابت بمنزلة الوحي فبماذا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أنه موحى إليه، وأن ما تراءى له وحي من الله تعالى وبماذا يلزم الناس إتباعه فلا يجد فيمن مضى وظهر منهم إلا بحجة وآية ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه عرف بها أنه من الله تعالى، وإنما عرف هذه الآية أية بنظره واستدلاله.

(1/395)


وكذلك لا يلزم الناس إتباعه ولا يحل إلا بعد ظهور الآية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول برأيه وكان ينزل الوحي بخلافه، وكان يرجع عنه بقول الصحابة فلما جاز الغلط على الرسول إلا فيما أقر عليه لكونه معصوما عن شرع ما لا يحل كان على من دونه أجوز وقد أمر الله تعالى رسوله بمشورة الصحابة ولم يأمره بالرجوع إلى قلبه في فصل المهمات.
ولأن الخصم يقول له إنك مبطل لأني ألهمت ذلك وأنه حجة فلا يمكنه الخروج عنه إلا بأن يقول: إنك لست من أهله فيقابله خصم بمثله ثم لا يمكنه التمييز بين الأهل وغيره إلا ينظر واستدلال.
ثم نقول: إن الإنسان مبتلى بكسب العلام كما ابتلي بالعمل بالعلم قال الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} بل كسب العلم هو الأصل، وكسب العلم عمل القلب، وكل عمل ابتلي الآدمي به فهو عمل يأتي الآدمي على سبيل الاختيار عن تمييز عقلي فلو كان العلم يقع بالإلهام جبرا من الله تعالى لم يكن مما ابتلينا به ولم يكن عليه ثواب، ولا على تركه عقاب على مثال معرفة البهائم والطيور ربها تعالى فلما كان الثواب مشروعا على العلم بالله تعالى علم أنه لا يحصل إلا عن عمل منا وما ذلك إلا النظر والتمييز سواء سمعنا رسولا يتكلم به أو لم نسمع فإنا لا نعرفه رسولا ولا كلامه حقا إلا بعد النظر فيما معه من الآية الدالة على الرسالة.
قال العبد رحمه الله: وقد ابتليت بقوم قد زعموا أن العب يرى ربه بقلبه فيعرفه بلا نظر ولا استدلال بالآيات، فكأنه قل لم يكن في السلف، فإن القلب بضعة لحم ما لها حاسة رؤية كسائر الأعضاء، دون العين فلا يقع الفرق بين قولهم هذا.
وقول من يقول: رأيت الله بأذني أو بيدي معرفته، إنما رؤية القلب علمه بنظره، ونظره التفكر فيما أحس لا يتصور غير ذلك لإفادة علم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {تفكروا في الآيات ولا تتفكروا في الذات} لأن الآيات محسوسة فالتفكر فيها يدلنا على الله تعالى والتفكر في الذات يوجب التعطيل كنظر العين إلى ما لا يرى.
وإنما مثاله نجار في بيت لا يرى ويخرج منه الخشب المنجورة فيفيد نظر الناظر إلى الخشب المنجورة العلم بالنجارة، والنظر إلى النجار نفسه يجهله بحاله.
وحكي لنا عن محمد بن زكريا رحمه الله؛ أنه قال لأصحابه: إذا كلمكم الموحدون في الآيات فكلموهم في الذات، وإليه دس فرعون في محاجته موسى عليه السلام فقال: {وما رب العالمين} فأعرض موسى عن جواب المحال، وأجاب بالوصف فقال: {رب السموات}. وما كفر حكماء الزنادقة إلا بتفكرهم في الذات والمائية.

(1/396)


ولأن التفكر في الشيء قبل الوقوف عليه لا يتصور والتفكر للوجود لا يتصور إلا في موجود يدل عليه، على أن التفكر نفسه نظر واستدلال وما دعوناك إلا إليه، وإنما أنكرنا كينونة الرأي حجة بلا نظر أصلا.
فأما الجواب عن تمسكه: {فألهمها فجورها وتقواها}: أن تأويله، والله أعلم عرفها بطريق العلم، وهو الآيات والحجج على ما فسر في قوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق} الآية.
وكذلك شرح الصدر بنور التوفيق حتى ينظر في الحجج.
وكذلك أحياه بالأدلة وبما أراه من الآيات فلا اهتداء للعبد إلا بعد هداية الله تعالى، وذلك بطريقين بالهداية بعد جهاد العبد كما قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال: {ويهدي إليه من ينيب} هو أدنى الدرجتين والأعلى بالاصطفاء والاجتباء، كما قال الله تعالى: {يجتبي إليه من يشاء} وقال: {ووجدك ضالا فهدى} ولم يذكر جهاده والله تعالى يجتبي إليه من يشاء بروح القدس، وكمال نور العقل وذكاء الطينة والتوفيق.
وإراءة الحجج كرامة ابتداء حتى يصير موكلا على النظر في الآيات فيتبين له أنه الحق كما يتبين للكافة يوم القيامة، وهم رهط الأنبياء والصديقين ويهدي من يجاهد في سبيله إليه بإراءة الآيات والتوفيق رحمة وجزاء، حتى ينظر فيها فيعرفها آيات، فهذا تأويل الإضافات إلى الله تعالى.
وأما الفطرة: فتأويلها أن الآدمي يخلق، وعليه أمانة الله التي قبلها آدم عليه السلام فيكون على فطرة الدين ما لم يخن فيما عليه من الأمانة، وكان على عذر في ترك الأداء عن عجز على ما بينا في باب: حمل الأمانة.
وأما وحي النحل: فما هي بمستنكر في نفسه، وإنما أنكرنا ذلك في علم خوطبنا بكسبه وابتلينا به.
وأما وحي أم موسى عليه السلام: فأمر نقول به، وبيانه أن أم موسى خافت على موسى القتل من فرعون على ما ظهر من سنته، ومن خاف على نفسه الهلاك حل له إلقاء نفسه في البحر أن رجى فيه النجاة بوجه وراكب السفينة إذا ابتلى بالحريق حل ركوب لوح في البحر، وأنه من باب ما لزمنا العمل به عند الضرورة بلا علم.
ولأن من ابتلي بشرين لزمه اختيار أهونهما لديه عقلا وشرعا، على أنها ما عرفت أن الإلقاء في البحر أهون إلا بنظر فقد كانت عرفت بطريق النظر أن راكب اللوح ممن ينجو برأسه غالبا.
وكان الوليد لا ينجو في الأغلب من فرعون فلم تعرفه بإلقاء الله تعالى علم ذلك في

(1/397)


قلبها بلا نظر، ولكن كان إيحاء الله تعالى أن ذكرها هذه الطريقة لطلب حياة موسى.
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة سقط عنه الأمر عندنا بإصابة جهة الكعبة على الحقيقة، إلى جهة هي جهة الكعبة بتحري قلبه للضرورة، على ما بينا في موضعه.
وكذلك من أخبرك بخبر في المعاملات وأنت لا تعرفه فإنك تحكم قلبك وتعمل به، لأن في العمل بأخبار الناس في باب المعاملات عدلهم وفاسقهم ضرورة لا يستقيم أمر الناس دونه فسقط الأمر بالعمل بها بشرط إصابة الصدق حقيقة دافعا للحرج، وآل الشرع إلى قدر الممكن من الصدق وهو بما يشهد لك قلبك به.
وكذلك الحلال إذا اختلط بالحرام والحلال غالب لأن أموال الناس قلما تخلو عن الحرام فلو لم يبح إلا بشرط الحلال لا محالة لضاق الأمر على الناس فسقط الأمر عند غلبة الحلال بالتجنب عن الحرام إلا بقدر ما لا يخرج فيه من شهادة القلب بأنه حلال إذا لم يجد حجة أخرى تميز بينهما، والخلاف فيما نحن فيه في حال قيام سائر الحجج، والباب الذي لا يجوز العمل به بدون العلم به على الحقيقة نحو معرفة الله تعالى بصفاته عند ذكره.
وأما حديث وابصة: فقد ورد في باب يحل فعله وتركه فيجب ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه احتياطيا لدينه، على ما شهد له قلبه به، فأما ما ثبت حله بدليله فلا يجوز تحريمه بشهادة القلب، وكذلك ما ثبتت حرمته فلا يحل تناولها بشهادة القلب.
وأما حديث عمر رضي الله عنه: ففيه أنه كان مخصوصا به، ونحن لا ننكر هذه الكرامة، وإنما ننكر إثبات الشرع به، وعمر رضي الله عنه ما كان يعمل في المشروعات إلا بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم رأي نظر واستدلال، وما كان يدعو الناس إلى ما في قلبه.
وأما كرامة الفراسة: فلا ننكرها أصلا، ولكنا لا نجعل شهادة القلب حجة لجهلنا أنها من الله تعالى أو من إبليس أو من نفسه.
وأما أقوال الصحابة: فقد ذكرنا تأويلها فيما مضى ولم يثبت منهم قول إلا عن نظر واستدلال.
وأما الجواب عن العصمة: فإنها لم تثبت لغير الأنبياء عليهم السلام على البتات فلا يمكن البناء عليه، ولا تتصور العصمة لمن لم يعرف الحجج ولم يستدل بالآيات.
وزعم بعض الناس أن العامة لم تعرف ربها إلا بالإلهام، وأنه غلط فما من عامي إلا وهو مستدل بالآيات، ويسبح ربه إذا رأى كسوفا أو أمرا هائلا يعجز عنه البشر إلا أنه لا يهتدي إلى المحاجة بها ولهذا قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} لمعرفتهم بعجز الأصنام عن التخليق يعرفون أن الخالق هو الله تعالى.

(1/398)


قال القاضي رضي الله عنه: خلق الله تعالى بني آدم على الفطرة وإنما استدرجهم إبليس إلى الضلال بطرق الحق، ورأس الطرق التقليد فقلد العالم عالما اهتماما لرأيه، وإتباعا لفقهه وظنه دينا، وما دعاه إليه إلا الكسل فإنه لو اجتهد لوفق لمثله فرآه الجاهل فقلد عالما سمعه بغير استدلال على فقهه، فإذا قد قلد جاهلا فضل ثم قلد أباه وأهل زمانه حتى عبدوا الأحجار، وما تبدلت الأديان إلا بتقليد العامة علماء السوء فإنهم لما قلدوا وأحبوا الرياسة مباراة علماء الحق أبدعوا ما حسن لدى العامة وطعنوا في متبعي السنة حتى تبدل الدين بأصله.
فالتقليد رأس مال الجاهل وسببه جهل المرء بقدره حتى اتبع رجلا مثله بلا حجة ثم الذي يليه الإلهام فصاحبه اتبع قلبه وقلده بلا حجة له بناء على أنه خلق على نور الفطرة وجهلا بهوى نفسه حتى ادعى رتبة الأنبياء عليهم السلام لنفسه، واتخذ إلهه هواه، كما اتخذ المقلد آلهة خشبا فهذا رفع قدره جهلا والأول وضع قدره جهلا فهلكا وما هلك امرئ عرف قدره فمن رام الاحتراز عنهما فليبن أمره على الكتاب، والخبر ثم الاستدلال والنظر وما التوفيق إلا بالله.
وكان الناس في الصدر الأول أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم من أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى على حسب ما يتضح لهم بالحجة.
ولم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويا بل النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قرونا أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علمائهم ولا نفوسهم فلما ذهبت التقوى من عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علمائهم حجة واتبعوهم فصار بعضهم حنفيا، وبعضهم مالكيا وبعضهم شافعيا يبصرون الحجة بالرجال ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع وضل الحق بين الهوى، ونشأ قوم من الحبية فزعموا أنهم أحباء الله عجبا بأنفسهم، وأن الله تعالى يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فرأوا لذلك حديث أنفسهم حجة واتخذوا أهواءهم آلهة فلم يبقى عليهم سبيل للحجة، والعياذ بالله.

(1/399)