تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في أقسام استصحاب الحال
قد مر في ما مضى أن استصحاب الحال قول بلا دليل، وأنه من باب
الجهل بالأدلة، وباب الجهل لا يكسب العلم فلابد أن يكون مدرجا
إلى الضلال، وإن كان ابتداؤه حسنا وهو التمسك بما كان حتى يزول
بالبرهان، وأنه أقرب إلى الحق من التقليد والإلهام.
لأن الملهم رجع إلى قلبه، وجهل الأدلة وأعرض عنها، وما القلب
بحجة بل الحجة رأيه، وهذا علم الدليل ورجع إلى رأيه إلا أنه لم
يفرق بين الثابت بالحجة وبقائه كذلك ثابتا، فظن أن الحجة
المثبتة حجة مبقية ولم يدر أن البقاء محكوم به لعدم الدليل
المزيل لا بوجود الدليل المثبت، أو لم يفرق بين حكم وجود العلة
وحكم عدمها.
وأقسامها أربعة:
أ. استصحاب حكم الحال لضرورة عدم ما يزيله، وثبوت العدم بطريق
أوجب العلم به كالخبر به من جهة صاحب الوحي، أو من طريق الحس
إذا كان الشيء مما يعرف به.
ب. واستصحاب حكم الحال لعدم الأدلة من طريق النظر في الأدلة
برأيه بقدر وسعه مع احتمال قيام الدليل من حيث لا يشعر هو به.
ج. واستصحاب حكم الحال قبل النظر والاستدلال.
د. واستصحاب الحال لإثبات حكم مبتدأ.
أما الأول: فصحيح وقد علم الله تعالى الاحتجاج به فقال: {قل لا
أجد في ما أوحي إلى محرما} الآية وهذا لأن العدم لما ثبت يقينا
انعدم حكم العلة أيضا ضرورة على ما مر من قبل كما أن العدم كان
ثابتا أصلا قبل الإحداث لما سوى الله تعالى.
وأما الثاني: فصحيح إبلاء للعذر لا احتجاجا على غيره لاحتمال
قيام العلة عند غيره على ما مر.
وأما الثالث: فجهل محض والجهل لا يكون حجة، ولا يكون عذرا عند
إمكان طلب الدليل كالجهل بالشرائع عذر في دار الحرب، لمن أسلم
ولم يهاجر إلينا. ولم يكن عذرا لذمي أسلم في درانا.
(1/400)
وأما الرابع: فضلال محض لأن استصحاب الحال
كاسمه وهو التمسك بما ثبت حتى يقوم دليل الزوال، وما لم يكن لا
يمكن التمسك بوجوده بل يحتاج إلى إثباته فلا يثبت لعدم الدليل
كالمفقود أصله حي فيتمسك به حتى يقوم دليل الموت، وكذلك ملكه
ثابت فيتمسك به حتى يقوم دليل الموت وملك أبيه لم يكن له فإذا
مات أبوه لم يثبت له، لأن التمسك بالحال التي كانت توجب أن لا
يثبت له ملك أبيه بل يبقى على ما كان حتى يقوم دليل الثبوت.
وقد جعله بعض شيوخ الشافعية حجة لإثبات الإرث على ما مضى من
قبل، لكنه قال به من حيث لم يشعر به لا قصدا إليه فإنه استصحب
الحياة له بحكم التمسك بها وإذا بقي حيا انتقل الإرث إليه فلم
يثبت الإرث باستصحاب الحال في الإرث نفسه ولكن بواسطة بقاء
الحياة له.
وأبينا نحن ذلك لأن الحياة ثابتة له بلا دليل فيبقى ثابتا دفعا
عن نفسه، فأما استحقاقا بها لما لم يكن ثابتا فلا على ما مر في
بابه، وعلى هذا اختلافهم في شاهدين شهدا أن الملك كان لأب
المدعي والأب ميت فإنه لا يقبل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله، ويقبل عند أبي يوسف رحمه الله: لأن الملك ثبت لأبيه بهذه
الشهادة فيبقى بلا دليل وملك الوارث هو ذلك الملك بعينه.
ولهما: إن البقاء بعد الثبوت إنما يكون باستصحاب الحال فثبت
دفعا عن المشهود عليه بحق الشهادة، لأنه كان لهذا المدعي فأما
لإيجاب حكم لم يكن فلا وملك الوارث حكم لم يكن فإن الملك وإن
كان ذلك الملك بعينه، فالمالك مالك آخر كما قلنا في المفقود
أنه لا يرث أباه، وإن كان الملك ذلك الملك بعينه يبقى للوارث
لأن المالك غير الأول، والله أعلم.
(1/401)
باب
القول في أقسام الطرد
حد الطرد ما قد مضى ذكره، وإنما أعدناه لنبين كيف يؤول إلى
الضلال أمره، وأنه على الحقيقة قول استصحاب الحال إلا أنه أقرب
إلى الحق من الأول.
فإن الأول استصحاب حكم الحال الثابت بالدليل والعلة الموجبة
للثبوت لا توجب البقاء، فكان استدلالا لعدم العلة، وهذا استصحب
صحة الدليل فإن أوصاف الأصول المعلولة أدلة وحجج، ولكن لضرب من
الاحتمال أوجبنا التوقف عن العمل بها قبل بيان التأثير.
وصاحب الطرد استصحب الحالة الأولى في كونه دليلا حتى يتبين له
وجوده، ولا حكم معه فيكون حينئذ فاسدا فيكون في استصحابه هذا
عاملا بدليل لكنه دليل احتمل الفساد، ومثاله من سمع من النبي
صلى الله عليه وسلم نصا فاستصحب صحته ما لم يقم عليه دليل
النسخ وعمل به كان عاملا بدليل احتمل الانتساخ والتبدل، إلا أن
مخرجه إلى الضلال لحكمنا ببقائه صحيحا بعدم الدليل، وهذا صالح
للدفع لا للإلزام على ما مر في الباب الأول.
وأقسامه أربعة في الاطراد:
اطراد ثبت بإقرار الخصم أو إجماع الناس.
واطراد ثبت بالعرض على الأصول في نفسه بقدر وسعه، والمراد
يدعيه بوجود الحكم معه في الأصل المعلل قبل العرض على الأصول
لكن بعد تثبيت أن الوصف صالح علة بدليله.
واطراد يدعيه لتصحيح الوصف علة.
فأما الأول: فحسن لما ذكرنا أن الثابت من الأصل لا يتغير إلا
بدليل وعلة، إلا أنا نقول أن الوصف صالح علة ولكن لما لم يجب
العمل بها بالصلاح على ما مر، فلا يثبت المعنى الموجب للعمل
بها لعدم الدليل.
وكذلك ثبوت الاطراد بعرضك على الأصول حجة تعذر أنت بها، ولا
يكون حجة على الغير لجواز أن يكون عند الخص ما ينقضها على ما
مر.
وأما الثالث: فحكم بالظن لأنه زعم أن وجود الوصف بلا حكم في
أصل آخر مما
(1/402)
يبطله، وقد احتمل ولزمه التفحص عنه بقدر
الوسع وقد أعرض عنه بحسن ظنه أنه مطرد فكان كمن قام إلى
الصلاة، واشتبهت عليه القبلة فصلى بلا تحر إلى جهة بحسن الظن
كانت صلاته فاسدة كأنه تحرى ثم خالف الجهة، وهذا لأن الظن لا
يغني من الحق شيئا فعاد الأمر في الدرجة الثالثة إلى الباب
الأول.
وأما الرابع: فلأنه جعل استصحاب الحال علة لتصحيح الوصف لا
لتقريره على الصحة فكان من قبيل الرهط الرابع من الباب الأول،
فصار القول بالطرد مدخل الفقهاء إلى باب مآله إلى الجهل
والضلال ومن نظر فيما أحدث المتسمون بالعلماء في زماننا هذا من
أنواع الطرد من المسائل تيقن بما أشار إليه كلامنا، حتى صار في
مسألة واحدة عشرة من المقاييس إلى مئة ونيف.
وكان الواحد من السلف رحمه الله يتفكر زمانا طويلا فلا يجد لما
ابتلي به من علم الحكم إلا قياسا أو قياسين، ولهذا صارت أئمة
السلف أصحاب المذاهب كأنهم أصحاب شرائع لأن الخلف اعتمدوا
الطرد، وهو ليس بحجة يجب العمل بها فلم يستغنوا معه عن إتباع
أئمتهم وتقليد سلفهم، وكان ذلك أحسن من العمل بالطرد باستصحاب
الحال.
فمستصحب الحال اتهم الأصول فأعرض عن القياس فالأصول شهود
كالمقلد اتهم قلبه فأعرض عن الرأي.
والقلب هو الحاكم المحكم من الإنسان وصاحب الطرد صدق الأصول
بأي وصف شهدت من غير تأمل فيما شهد كالملهم صدق قلبه من غير
تأمل فيما رأى، وكل ذلك سبيل غير سبيل الهدى وبالله التوفيق
والعصمة من العمى، والله أعلم.
(1/403)
باب
القول في الاستحسان ما هو لغة؟
وحكمه؟
أما الاستحسان لغة: فوجود الشيء حسنا، يقال استحسنت كذا،
اعتقدته حسنا واستقبحته على ضده، وعن هذا ظن بعض الفقهاء أن من
قال بالاستحسان فقد ترك القياس، والحجة الشرعية باستحسانه
تركها من غير حجة شرعية فطعن بهذا على علمائنا وإنما هذا تفسير
الاستحسان لغة.
فأما عند الفقهاء الذين قالوا بالاستحسان: فاسم لضرب دليل
يعارض القياس الجلي، حتى كان القياس غير الاستحسان على سبيل
التعارض، وكأنهم سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك القياس أو
الوقف عن العمل به بدليل آخر فوقه في المعنى المؤثر أو مثله،
وإن كان أخفى منه إدراكا ولم يروا القياس الظاهر حجة قاطعة
لظهوره ولا رأوا الظهور رجحانا بل نظروا إلى قوة الدليل في
نفسه من الوجه الذي يتعلق به صحته.
ولم يكن غرضهم من هذه التسمية والله أعلم إلا ليميزوا بين
الحكم الأصلي الذي يدل عليه القياس الظاهر، وبين الحكم الممال
عن تلك السنن الظاهرة بدليل أوجب الإمالة فسموا الذي يبقى على
الأصل قياسا، والذي يمال استحسانا هذا كما قال أهل النحو، هذا
نصب على التفسير، وهذا نصب على الظروف، وهذا على المصدر، وهذا
على التعجب، وهذا لأنه مفعول ليمكنهم التمييز بين الأدوات
الناصبة.
وقال أهل العروض هذا من البحر الطويل، وهذا من المديد، وهذا من
المتقارب في أشباه لهذه كثيرة، وسموا أحرف التقطيع سببا ووتدا
وفاصلة.
قال محمد بن الحسن - رحمه الله - في كثير من المواضع: بالقياس
كذا، وبالاستحسان كذا، وبالقياس نأخذ وأخذوا في الأكثر
بالاستحسان فعلم أنهما اسمان لدليلين متعارضين كالكتاب والسنة.
وقال في بعض المواضع القياس كذا، ولكني استقبح مكان قوله:
استحسن واستقباح العمل بدليل الشرع كفر فثبت أنه استقبحه لدليل
آخر يعارضه فمتى تعارض الدليلان في حكم الحادثة وأحدهما رأي
ظاهر طريقه واضح سبيله والآخر خفي أثره، سر خبره، فالظاهر قياس
والآخر استحسان، والترجيح بينهما بالطرق التي مرت في باب مراتب
القياس وسائر الأدلة والأخذ واجب بالراجح منهما، فصار الفصل
المستحسن هو
(1/404)
الممال بحكمه عن الطريق الظاهر إلى الخفي
بدليل شرعي لا بهوى النفس فإنه كفر.
وإنما سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك الظاهر بالخفي الذي ترجح
عليه فلما كان العمل به مستحسنا شرعا سموا الدليل به وكان اسما
مستعارا كالصلاة سميت باسم ما فيها من الصلاة، وهي الدعاء
والثناء والصوم سمي باسم ما فيه من الإمساك.
ولهذا لم نعد هذا الاسم في الأسماء المضلة لأنه على الوجه الذي
بينا غير مضل والتقليد والإلهام واستصحاب الحال والطرد على
الوجه الذي سميت الأدلة بها مضلة.
ثم الاستحسان:
أ. قد يكون نصا.
ب. وقد يكون ضرورة.
ج. وقد يكون إجماعا.
د. وقد يكون قياسا خفيا.
أما النص: فنحو قول أبي حنفية رضي الله عنه فيمن أكل ناسيا
لصومه: لولا قول الناس لقلت يقضي. أي القياس الظاهر يوجب
القضاء إلا أني استحسنت تركه بنص خاص ورد فيه بخلاف قياس سائر
النصوص الثابتة، والمعقول الضروري في حصول الصوم مع عدم
الإمساك عن الأكل وأنه عبارة عن تركه، وهذا لأن النص فوق الرأي
فاستحسن تركه به وإن ظهر.
وأما الإجماع: فنحو جواز الاستصناع فيما ظهر تعامل الأمة به من
غير نكير والقياس أن لا يجوز لأنه بيع عين بعمله، وهو معدود
عينا للحال حقيقة، ومعدوم وصفا في الذمة والقياس الظاهر أن لا
يجوز بيع الشيء إلا بعد تعينه حقيقة، أو ثبوته في الذمة
كالسلم.
فأما مع العدم من كل وجه فلا يتصور عقد وليس ثم معقود عليه
لكنهم استحسنوا تركه بالإجماع الظاهر بتعامل الأمة من غير نكير
لأن الإجماع دليل فوق الرأي، وقصروا الأمر عليه لأنه معدول به
عن القياس.
وأما الضرورة: فنحو الحكم بطهارة البئر بعد تنجسها.
والقياس يأبى ذلك لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء فلا يزال يعود
وهو نجس إلا أن الشرع حكم بالتطهر للضرورة لأنه لا يمكننا
غسلها بماء طاهر إلا من طريق نزح الماء النجس وخروج الماء
الطاهر، فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس بعذر العجز فإن الله
تعالى جعله عذرا في سقوط العمل بكل خطاب.
(1/405)
وكذلك جوزوا الإجارة وهو بيع منافع غير
موجودة لأنها لا تبقى زمانين فلا يمكن بناء البيع فيها على
الوجود فبنوا على كون العين بحيث يوجد منه منفعته ليكون بناء
على الوجود الذي هو الأصل للجواز بقدر الإمكان، وأسقطوا ما
وراء ذلك بعذر العجز.
وأما القياس الخفي: فنحو البائعان يختلفان في الثمن والسلعة
غير مقبوضة. القياس الظاهر أن يكون القول قول المشتري مع يمينه
لأنهما اتفقا على حق المشتري وهو المبيع واختلفا في حق البائع
فالبائع يدعي زيادة ثمن والمشتري ينكرها فيكون القول قول
المشتري مع يمينه، والبينة على المدعي بناء على السنة الثابتة.
والقياس الخفي يوجب التحالف لأن المشتري يدعي على البائع، وجوب
تسليم السلعة بتسليم الثمن الذي يدعيه والبائع ينكر الوجوب
عليه بذلك القدر حتى يوفيه ما يدعيه فهذا إنكار باطن لا يعرف
إلا بضرب تأمل.
والأول يعرف ببديهة الحال فاستحسنوا العمل بالإنكارين جميعا
لأن لا تعارض بينهما لاختلاف محلي اليمين حتى قاس أبو حنيفة
رضي الله عنه على هذا الفصل كل عقد اختلف فيه في بدله والمعقود
عليه غير مسلم، والتسليم فيه لا يجب إلا بعد تسليم البدل من
النكاح والإجارة والكتابة، وقاس الكتابة على البائعين يختلفان
في الثمن ورثتهما إذا اختلفوا إذا كان قبل القبض.
ولو كان الاستحسان بخلاف القياس بالنص لما قاس عليه غيره كما
لو كان الاختلاف في الثمن بعد قبض السلعة، وهي قائمة فإن
اليمين على البائع بالنص بخلاف القياس لأنه لا إنكار منه لشيء
من المبيع ولا لليد ولا يمين قياسا إلا على المنكر، وإنما يحلف
بالنص بخلاف القياس فلم يثبت التحالف بين الورثة إذا اختلفوا
بعد القبض، ولا بعد هلاك السلعة لأن النص ورد في حال القيام،
والله أعلم.
(1/406)
باب
القول في صفة المجتهد في الأحكام
التي تجوز الفتوى فيها بغالب الرأي
قال فريق من المتكلمين: الحق في هذه الحوادث التي يجوز الفتوى
بأحكامها بالقياس والاجتهاد حقوق، وكل مجتهد مصيب للحق بعينه.
ثم إنهم افترقوا؟ فقال قوم: الحق عند الله تعالى حقوق على
التساوي.
وقال قوم: الواحد من الجملة أحق، وسماه تقويم ذات الاجتهاد
وقال أهل الفقه، وبعض أهل الكلام: الحق عند الله واحد. ثم
افترقوا؟
فقال قوم: إذا لم يصب المجتهد الحق عند الله كان مخطئا ابتداء
وانتهاء، حتى أن عمله لا يصح.
وقال عملاؤنا رحمهم الله: كان مخطئا للحق عند الله تعالى مصيبا
في حق عمله حتى إن عمله به يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند
الله تعالى.
بلغنا عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال ليوسف بن خالد
السمتي: كل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد فبين أن الذي أخطأ
ما عند الله مصيب في حق عمله.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله في كتاب الطلاق: إذا تلاعن
الزوجان ثلاثا ثلاثا ففرق القاضي بينهما نفذ قضاؤه، وقد أخطأ
السنة فجعل قضاءه في حقه صوابا مع فتواه أنه مخطئ الحق عند
الله تعالى.
وقال في غير موضع: إذا قضى القاضي برأي نفسه في حادثة اختلف
فيها الفقهاء نفذ على الكل، وثبتت صحته في حق من يخالفه، وإن
كان عند المخالف هذا القاضي مخطئا للحق عند الله.
وكذلك قالوا فيمن اشتبهت عليه القبلة في موضع لا لدليل له غير
التحري بالقلب فتحرى وصلى وتبين أنه أخطأ وصلى إلى دبر الكعبة:
صحت صلاته وقد أخطأ الكعبة يقينا فصار قولها هذا القول الوسط
بين الغلو والتقصير.
(1/407)
فأما الذين قالوا إن الحق حقوق: فإنهم
ذهبوا إلى أن المجتهد كلف الفتوى بغالب رأيه وما كلف إلا
الفتوى بالحق.
فلولا أنه يصيب الحق به، وإلا لما توجه التكليف عليه بإصابته
بغالب الرأي لأن الله تعالى ما كلف ما ليس في الوسع ولن يصير
كل مجتهد مصيبا للحق إلا ولاحق حقوق.
وهذا كاستقبال القبلة، فإنه شرط لصحة الصلاة، وهي إلى جهة
واحدة حالة التبين وعند الاشتباه تصير الجهات كلها قبلة على ما
قال الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} حتى قيل: إن
المتحرين إذا صلوا إلى أربع جهات مختلفة أجزأتهم صلاتهم قالوا
وغير ممتنع أن يكون الحق حقوقا في أناس مختلفين في بعضهم حظر،
وفي بعضهم إباحة إذا كان لا يلزم كل واحد منهم ما لزم الآخر.
كما صح عند اختلاف الأزمنة نسخ الإباحة بالحظر ونسخ الحظر
بالإباحة.
وكما صح في باب قبلة الصلاة حالة الاشتباه إذا اختلفوا كانت
قبلة كل فريق ما أدى إليه تحريه، ولأنه جائز من الله تعالى بعث
رسولين في زمان واحد إلى قومين مختلفين على اقتصار رسالة كل
واحد منهما إلى قومه خاصة مع كينونة كل واحد منهما محقا.
فكذلك جاز بالاجتهاد مثل ذلك، فيختلف عالمان بالاجتهاد ويلزم
قوم كل واحد منهما إتباع إمامه مع كينونة كل واحد منهما محقا.
وهذا لأن الله تعالى ابتلى عباده بهذه الأحكام ليمتاز الخبيث
من الطيب ويجوز اختلاف هذه الحكمة من الناس باختلاف الأزمان
فيختلف الابتلاء لأجله وكذلك يجوز الاختلاف، باختلاف الطبقات
في زمان واحد ألا ترى أن مصالح الأطعمة كما تختلف باختلاف
الأزمنة كذلك تختلف باختلاف الناس في زمان واحد.
ولأن من قال أن الحق واحد عند الله تعالى، ولكن العمل صواب حق
بكل اجتهاد فقد أثبت الحظر والإباحة حقا في حق العمل به كما
أثبتنا نحن في حق الله تعالى.
ثم الذين قالوا إن الحقوق على مرتبة واحدة قالوا: لأن الرجحان
لا يثبت إلا بدليل.
والذين قالوا إن الواحد أحق، فذهبوا إلى أنا لو سوينا بينها
لبطلت مراتب الفقهاء، وساوى الباذل كل جهده في الطلب المبلى
عذره بأدنى طلب، ولأن المجتهدين ما اجتهدوا إلا لإصابة ما تشهد
النصوص بالحقية خلفا عن شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى حكم واحد ما
نرى بين أعدادهم اختلافا. إلا باختلاف أحوالهم كالمرض والسفر
والغنى والفقر ونحوها.
فكذلك الاجتهاد يجب أن يكون كذلك، وكان يقتضي هذا أن يكون الحق
واحدا في حق الكل، إلا أنا تركنا القول به ضرورة أن لا يصير
الآخر مكلفا بما ليس في وسعه،
(1/408)
وهذه الضرورة ترتفع بإثبات نفس الحقية
لفتواه فبقي الواحد أحق بناء على أصل الشريعة الثابتة بالوحي.
ولهذا استقامت المناظرة ودعوة كل واحد منهما صاحبه إلى حجته مع
الإقرار بأن الحق مع كل واحد منهما بقوله إنما قلته أحق ألا
ترى أنه لا مناظرة بين المسافر والمقيم في أعداد ركعات
صلاتيهما لما ثبتت الحقية على السواء.
وقد روي أن علقمة ومسروقا سبقا بركعتين من صلاة المغرب، فلما
قاما إلى القضاء صلى مسروق ركعة وجلس، ثم ركعة وجلس، ثم سلم،
وصلى علقمة ركعتين ثم جلس فذكرا ذلك لعبد الله بن مسعود رضي
الله عنه فقال: كلاكما أصاب، ولكن صنيع مسروق أحب إلي.
وقال محمد لأبي حنيفة رضي الله عنه: طول القيام أفضل في الصلاة
أم كثرة السجود؟ فقال: طول القيام أحب إلي، وكل ذلك حسن.
واتفقوا في صلاة الليل على أن المصلي إن شاء صلى ركعتين وإن
شاء أربعا ولا يكره ثم قال أبو حنيفة: الأربع أحسن، وقال
صاحباه: ركعتان أحسن.
وأما الحجة على أن الحق عند الله واحد؛ فما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن فقال له: بما تقضي؟
فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد فيها رأيي فإن أصبت فمن الله، وإن
أخطأت فمني ومن الشيطان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الحمد لله الذي وفق رسول رسوله".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المجتهد "إن أصاب فله أجران
وإن أخطأ فله أجر".
وقال عبد الله بن مسعود - فيمن تزوج امرأته ولم يسم لها مهرا
ثم مات عنها قبل الدخول بها -: أجتهد فيها رأيي فإن يكن صوابا
فمن الله، وإن يكن خطأ فمن ابن أم عبد.
قالوا: ولأنه ممتنع في العقول كينونة الحظر والإباحة والصوم
والفطر حقين يلزمان في ساعة واحدة، لأنه لا يمكن العمل بهما.
ومن جعل الحق حقوقا ما شرع إلا هكذا إذ وجبا بالاجتهاد، وكل
اجتهاد يوجب ما يؤدي إليه بلا تمييز بين عبد وعبد ألا ترى أنه
امتنع ذلك بالنصين، إذا اختلفا فأباح أحدهما وحظر الآخر لم يجب
العمل بهما بل وجب الوقف إلى أن يظهر الرجحان لأحدهما، أو
التاريخ.
ولهذا قيل: إذا اختلفت الشرائع انتسخت الأولى بالثانية، وكذلك
في شريعة
(1/409)
واحدة، ولأن الحق لو كان حقوقاً لجاز
للعامي الذي يعمل باتباع العلماء أن يختار من كل مذهب ما تهواه
نفسه.
كما أن الله تعالى لما أثبت الكفارة في باب اليمين أنواعاً كان
للعبد الخيار بينها على ما يهواه بلا دليل.
ومن أباح هذا فقد أبطل الحدود، وشرع طريق الإباحة وبنى الدين
على الهوى، والله تعالى ما نهج الدين إلا على دليل غير الهوى
من نص ثابت بوحي أو قياس شرعي على ما بينا.
ومن جعل الحق حقوقاً أثبت الخيار للعامي بهوى نفسه.
ومن قال الحق في واحد ألزم العامي أن يتبع إماماً واحداً وقع
عنده بدليل النظر أنه أعلم ولا يخالفه في شيء بهوى نفسه.
فإن قيل: أليس القياسان إذا تعارضا ثبت للمجتهد الخيار يعمل
بأيهما شاء؟
قلنا: نعم، ولكن لا بهوى نفسه بل بالضرورة. فإن الحق في
أحدهما، ويلزمه العمل به، ولم يبق قبله لله تعالى دليل يوصله
إليه غير شهادة قلبه فلزمه العمل بها على ما مر أنها من حجج
الشرع في مثل هذا الموضع، فإذا عمل بأحدهما لزمه الإعراض عن
الآخر إلا بدليل يدل على الحقية فيه، ولما ذكرنا أن القياس خلف
عن الوحي والثابت بالوحي من الأحكام ثابتة على أنها لا تخص قوم
دون قوم على ما قاله الأولون فكذلك بالقياس لا يجوز أن يثبت
على الخصوص وعلى العموم إجماع على امتناع الحظر والإباحة في
ساعة واحدة على وجه يجب العمل بهما، لأنه لا يمكن، ولا يجتمعان
لأنهما ضدان، والقياسان إذا اختلفا فأوجب أحدهما حظراً فإنما
أوجب على وجه يجب العمل به.
وكذلك الذي أوجب الإباحة أوجب على هذا السبيل اعتقاداً، وهذا
قول لم يقل به أحد إلا أنهم جوزوا ذلك في قومين مختلفين، وأنه
قول ساقط لأن الدليل هو القياس، وأنه حجة على الكل ولأنا ذكرنا
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص قوماً بحكم فالقياس لا
يكون حجة إلا على ما ورد به النص.
فأما الجواب عن قولهم أن فيه تكليف ما ليس في الوسع: فإن لا
نكلفهم إصابة الحق عند الله تعالى لما لم يكن لله تعالى عندهم
دليل يوصلهم إلى الحق بعينه، ولكن نكلفهم الاجتهاد للإصابة فإن
أصابوا أجروا وإن أخطأوا عذروا.
والحجة للذين قالوا من أخطأ يقيناً صار مخطئاً من الأصل قول
الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول معاذ وقول عبد الله: وإن
أخطأت، والخطأ المطلق هو الخطأ ابتداء وانتهاء.
وإنما ألزمنا المجتهد العمل بقياسه على تقدير نه صواب كما
يلزمنا العمل بالنص على تقدير أنه غير منسوخ، ومتى ظهر انتساخه
بطل العمل به.
(1/410)
وكذلك متى عمل بالقياس ثم روي له نص بخلافه
حتى تبين خطأه يقيناً بطل ما أمضى بقياسه.
وكذلك من حضرته الصلاة ومعه ثوب أو ماء شط في طهارتهما فإنه
يستعملهما على تقدير الطهارة بحكم استصحاب حال الطهارة فيلزمه
ذلك وإذا تبين نجاستهما فسد عمله من الأصل.
وما روي من إطلاق الإصابة على المجتهدين فعلى ما إذا لم يتبين
وجه الخطأ واشتبه فإن الواجب عند الاشتباه العمل بأي قياس كان
فيكون العمل من كل مجتهد بقياسه صواباً ظاهراً ما لم يتبين
خطاؤه.
وهكذا نقول في قوم اختلفوا في جهة الكعبة عند الاشتباه وصلوا
أن صلاة كل واحد منهم جائزة حتى يتبين عليه خطاؤه فيحنئذ نأمره
بالإعادة، ولا يلزمنا ما ألزمنا الأول من القول بالحظر
والإباحة لأنا أبينا ذلك حقاً من الله تعالى.
نحن بإيجاب العمل على كل مجتهد بقياسه ما أثبتنا الحقية في حق
الله تعالى بل هو في حق العامل لضرورة عدم الحجة على الذي هو
حق عند الله، وخطاب الله تعالى يسقط بحال الضرورة بقدرها ألا
ترى أنه جاز مثله في النصوص فإن العلماء اختلفوا في الأحكام
لاختلاف الأخبار على حسب الثبوت عندهم مع علمنا أن الثابت واحد
من الجملة.
وأما الحجة للذين قالوا بأنهم مصيبون في حق العمل: فما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المجتهد:"إن أصاب فله
أجران وإن أخطأ فله أجر"والأجر لا يجب إلا بالعمل على سبيل
الائتمار بأمر الآمر فثبت أن المخطئ للحق عند الله تعالى مؤتمر
بعمله بأمر الله تعالى، والائتمار بالأمر يكون صواباً لا
محالة.
وقد اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في أسارى بدر، فأشار
أبو بكر إلى الفداء، وعمر إلى القتل فشبههما رسول الله صلى
الله عليه وسلم بنوح وإبراهيم عليهما السلام حيث سأل نوح
العذاب وإبراهيم المغفرة، وكان أحدهما مخطئ الحق عند الله
تعالى لا محالة فلو كان يصير مخطئاً غير مصيب لما صح التشبيه
بالرسولين عليهما السلام وسؤالهما كان صواباً.
فإن قيل: أليس الله عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم على الفداء،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو نزل العذاب ما نجى إلا
عمر"فدل على أن أبا بكر كان مخطئاً؟
(1/411)
قلنا: هذا لا يجوز أن يعتقد فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمل برأي أبي بكر ولا بد أن يقع عمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أقر عليه، والله تعالى قد قرره
عليه فقال: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} وتأويل العتاب
والله أعلم: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}
وكان ذلك كرامة خصصت بها رخصة لولا كتاب من الله تعالى سبق
بهذه الخصوصية لمسكم العذاب بحكم العزيمة على ما قال عمر.
والوجه الآخر ما كان لنبي أن يكون له أسرى قبل الإثخان، وقد
أثخنت يوم بدر فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء عليهم
السلام، ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة
فلولا الكتاب السابق في إباحة الفداء لك لمسك العذاب.
وقال في قصة داود وسليمان: {فهمنها سليمان وكلا ءاتينا حكماً
وعلماً} فبين الله تعالى أن سليمان أصاب الحق الذي عند الله
دون داود ثم أخبر أنهما جميعاً، أوتيا من الله حكماً وعلماً
والخطأ المحض لا يكون حكم الله تعالى فثبت أن تأويله أنه حكم
الله من حيث أنه صواب في حق العمل لولا الوحي بخلافه.
وقال عبد الله بن مسعود لمسروق وعلقمة لما اختلفا؛ كلاكما
أصاب، ولكن صنيع مسروق أحب إلي.
والاستدلال يدل عليه فإن الخطاب مبني على قدر الوسع وقد أمرنا
بالعمل بالقياس وأنها لا يوصلنا إلى الحق الذي هو عند الله
قطعاً بلا خلاف.
والنزاع فيما لا يعلم يقيناً بالرأي فثبت أنا لم نؤمن بالعمل
به على شرط إصابة الحق حقيقة لأنه لا يوصلنا إليه، ولكن على
تحري الإصابة لأن الدليل مطمع في الإصابة غير موجب ليكون
اللزوم بقدر الحاجة.
فإن قيل: إذا جعلناه معذوراً غير مأخوذ به إذا لم يصب الحق فقد
أخرجناه عن عهده الإيجاب.
قلنا: إن كلامنا هذا في حقوق تحتمل النسخ والتبديل، فالفتوى
بغالب الرأي لا يجوز إلا فيها، ومثل هذا الحق يسقط أصلاً
بالحرج وعدم الوسع على ما ذكرنا في الباب الذي بعده وإذا سقط
عنا ذلك لم نصر مخطئين بالاقتصار دونه.
ومثال ذلك أمر الله تعالى بقتال الكفار لإعلاء كلمة الله،
وإذلال الشرك ونحن لا ندري إصابة النصرة إلا بغالب الرأي فمن
قاتل على تحري إصابة النصر كان مصيباً في قتاله متمثلاً بأمر
الله تعالى قتل أم قتل، وكان مستحقاً للأجر العظيم لأنه مصيب
لما قاتل على تحري إصابة النصرة أصاب أم لم يصب حتى لو تيقن
بأنه يقتل لا محالة من غير أن ينكأ نكاية وقصد بالقتال أن يقتل
لا غير كان آثماً.
(1/412)
وعلى هذا الرماة إذا نصبوا غرضاً فرموا على
تحري الإصابة كانوا كلهم مصيبين في تحريهم الإصابة.
وإذا أرسلوا أخطأ بعضهم الغرض وأصاب البعض ولم يصر واحد منهم
مخطئاً في تحريه الإصابة بطريقه.
فإن قيل: خطاؤه في تقصيره في طلب طريق الإصابة لا في قصد
الإصابة، وهكذا نقول في الرامي أنه أخطأ جهة الاستعمال للإصابة
والتقصير من العبد آفة من قبله فأما الله تعالى فأعطاه من
الرأي ما لو بذل مجهوده كل البذل لأصاب الحق على الحقيقة،
ولكنا عند التعيين لا نجعل أحد مصيباً يقيناً لأنا لا نعلم
بعدم تقصيره في الطلب.
قلنا: إن الله تعالى كما لم يكلف ما ليس في الوسع فما كلف ما
فيه الحرج قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
وفي بناء الخطاب على هذه المبالغة في استعمال الرأي حرج عظيم
فيصير عفواً، ويجب بناء الخطاب على المعتاد من الاستعمال، وذلك
لا يوصلنا إلى حقيقة العلم بلا خلاف وهذا كما قلنا: في الحربي
إذا أسلم ولم يصل مدة لم يلزمه القضاء وسقط الخطاب عنه لأنا لو
كلفناه طلب الدليل في دار الحرب لحرج في طلبه مسلماً يسأله،
وإن تصور فيها مسلماً فسقط الخطاب، ولو كان ذمياً يلزمه القضاء
لأن الطلب متيسر في دار الإسلام فلم يعذر بترك الطلب.
وعلى هذا الاختلاف يحرج أمر الكعبة في حق الغائبين عنها،
وانقطاع دليل العيان عنهم: فالأمر بالتوجه إليها ثابت عندنا
على تحري الإصابة دون الإصابة على الحقيقة.
وعند الشافعي رحمه الله: الأمر ثابت على تحقيق الإصابة يقيناً
لأن طريق الإصابة ما يوقف عليه في الجملة لو تكلف العبد كل
التكليف لمعرفة تركيب الأرض والسماء وكيفية جهات الأقاليم إلا
أنه عذر دونه بسبب الحرج فكان مبيحاً لا مسقطاً أصلاً فبقي أصل
الأمر متعلقاً بالإصابة حقيقة فمتى ظهر الخطأ يقيناً لزمت
الإعادة كالعمل بالرأي أبيح بشرط أن لا يخالف النص، وعذر في
العمل به، وإن لم يتحقق العدم، ولم يتكلف كل التكلف في طلب
النص ولكن لم يسقط به أصل الخطاب فأبيح له على شرط أنه إن ظهر
نص بخلافه فسد عمله.
وأصحابنا بنوا وجوب طلب الكعبة بعد الغيبة عنها على الدلائل
المعتادة للبشر بلا حرج كثير يلحقهم في طلب ما ليس بمعتاد من
العلم، ولا مأمور بالشرع من علم الهندسة وكيفية تركيب الأرض
والسماء والدلائل المعتادة من الشمس والنجوم لا توصلنا إلى
حقيقة الكعبة فقط الخطاب بإصابة الكعبة لقصور الحجة، ولزمه
العمل بالتوجه إلى جهة فيها رجاء إصابة الكعبة.
وقالوا: إذا فقدت النجوم والمحاريب المنصوبة وخبر الناس عن هذه
الأدلة، وجب
(1/413)
العمل برأي القلب وهذا الرأي لا يوصله إلى
الجهة الظاهرة حال ظهور الشمس والمحاريب أسقطت إصابة تلك الجهة
ولزمه التوجه إلى جهة فيها رجاء إصابة المحراب الظاهر فإذا عمل
بذلك القدر صار مؤتمراً بالأمر، فلا يقع عمله فاسداً بترك ما
ترك لأنه لم يؤمر به كرجل يقاتل الكفار بطريق يرجو فيه نصرة
الله فإنه يصير مؤتمراً بأمر الجهاد وإن قتل وكانت الدبرة عليه
لأنه ليس في وسعه أكثر من هذا.
بخلاف حادثة فيها نص ولم يشعر به وعمل بالرأي بخلافه لأنه كلف
العمل بالرأي بشرط أن لا يخالفه نصاً على ما قاله المخالف لأن
النص الذي يخالفه مما ينال حال الحاجة إلى العمل لولا تقصير
منه في الطلب، فإنه لو كان طلبه من قبل أمكنه العمل به حال
حاجته هذه ألا ترى أن زوال هذا الجهل مقرون بمعنى يوجد منه لا
بتبدل حال الدليل من الله تعالى.
فأما الخطأ في باب القبلة فإنما يتبين بزوال الغيم وظهور
النجم، وذلك أمر سماوي يتبدل به حال الدليل، ولهذا المعنى نقول
فيمن اجتهد وتوضأ بماء ثم تبين أنه نجس أنه يعيد الصلاة.
وكذلك الثوب لأن طريق العلم بتلك النجاسة الخبر كما في المسألة
الأولى ولقصور منه في الطلب كان الجهل والخبر عن القبلة هو إن
بلغه في موضعه لا ينفعه في هذا الموضع فلا يبقى إلا النجم.
وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن تحرى بصدقته،
ووضعها عند غني أنه يجزيه لأن الأمر متوجه عليه بالدفع إلى
إنسان على تحري الفقر لا غير لأن الدليل على حقيقة فقر الغير
مما لا ينال أصلاً، ولا ينال إلا بحرج.
فالذي قاله الشافعي قياس والذي قلناه استحسان.
وهذا بخلاف الاجتهاد في صفات الله تعالى، فإن المخطئ لما عند
الله مخطئ في حق نفسه أيضاً لأن لله تعالى دلائل عليها توجب
العلم يقيناً في أصل الوضع فلم يقع الخطأ إلا بقلة التأمل، ألا
ترى أن المخطئ فيها يضلل ويبدع بخلاف هذه الأبواب، والله أعلم.
(1/414)
|