تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في المخطئ من جهة المجتهدين
في هذه الأبواب التي لا نص فيها
قال بعضهم: هو مأجور.
وقال بعضهم: هو معذور.
وقال بعضهم: معاتب مخطأ.
وقال علماؤنا: إن كان طريق الإصابة بيناً عوتب عليه وخطئ، وإن
كان خفياً صوب وأجر عليه ولا يضلل بحال.
فأما الذين قالوا: إنه مأجور فاحتجوا بما مر أنه مصيب في حق
نفسه وبالحديث المروي (وإن أخطأ فله أجر واحد).
وأما الذين قالوا: إنه معذور فذهبوا إلى أن الخطأ ضد الصواب،
هو في الأصل محظور إلا أن حكم الحظر يزول بعذر الخطأ فأما أن
ينال أجر الصواب ولا صواب فلا كالنائم لا يأثم بترك الصلاة،
ولكن لا ينال ثواب المصلي.
وأما الذين قالوا: إنه مخطئ معاتب فاحتجوا بأن الخطأ إنما يقع
لتقصير في الطلب على ما مر فمتى لم يعاتب لم ينزجر عنه فلا
ينال الصواب.
وقال عبد الله بن عباس لزيد بن ثابت: ألا يتقي الله زيد بن
ثابت حيث يجعل ابن الابن مكان الابن، ولا يجعل أب الأب مكان
الأب.
وقال: من شاء باهلته إن الله تعالى لم يجعل في مال واحد نصفين
وثلثاً ولا ثلثين ونصفاً.
وقال أبو حنيفة في الوارث: إذا أقام البينة على أنه وارث دفع
القاضي المال إليه ولم يأخذ منه كفيلاً وهذا شيء احتاطه بعض
الفقهاء وهو جور.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله في المتلاعنين إذا تلاعنا ثلاثاً
ثلاثاً وفرق القاضي بينهما: نفذ قضاؤه وقد أخطأ السنة.
وأما علماؤنا فإنهم قالوا: بهذا القول؛ إذا كان طريق الإصابة
بينا لعلمنا أنه ما أخطأ إلا بتقصير من قبله.
(1/415)
فأما إذا كان خفياً فقد جاء الخطأ لخفاء
دليل الإصابة، وذلك من الله تعالى.
والخفي مما لا يدركه كل فهم وكل قلب فإن آلات البصر على
التفاوت كالعيون أبصارها متفاوتة بحكم الخلقة فلا يجوز العتاب
على فعل الله تعالى فيصير معذوراً فيما لم يدرك مصيباً فيما
استعمل من الاجتهاد مأجوراً.
وما روي من التخطئة والتشنيع فعلى النوع الذي ظهر طريقة عند
الذي خطأ وشنع فإنا قد روينا التصويب للفريقين أيضاً فنحمل ذلك
على الذي خفي طريقه ليكون قولاً عدلاً وسطاً جامعاً بين المقصر
والغالي، والله أعلم.
(1/416)
باب
القول في حين أهلية الآدمي لوجوب
الحقوق المشروعة عليه، وهي الأمانة التي حملها الإنسان
قال القاضي رحمه الله: لا خلاف أن الآدمي يخلق هو أهل لإيجاب
الحقوق عليه كلها.
فإنه يخلق وعليه عشر أرضه وخراجها بالإجماع، وعليه الزكاة على
قول أهل الحجاز.
وإنما اختلفوا فيما سقط عنه بعذر الصبا كما يسقط عن الحائض
الصلاة بعذر الحيض، لا لأنها ليست بأهل للإيجاب عليها فإن
الصوم قد لزمها وهذا لأن الآدمي من أهل الوجوب عليه بالذمة
فمحل الوجوب الذمة يقال: وجب في ذمته كذا، ولا يضاف الوجوب إلى
غيرها.
والآدمي كما يخلق يخلق وله ذمة ألا ترى أن الطفل إذا انقلب على
مال فأتلفه يلزمه ضمانه بخلاف البهيمة، وكذلك يلزمه مهر امرأته
وسائر حقوق الناس، وإنما عرف وجوبها بالشرع.
ولأن الذمة عبارة عن العهد في اللغة فالله تعالى لما خلق
الإنسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار بها أهلاً
لوجوب الحقوق له وعليه فثبت له حق العصمة والحرية والمالكية
بأن حمله حقوقه وثبت عليه حقوق الله تعالى التي سماها أمانة ما
شاء كما إذا عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة يثبت لهم حقوق
المسلمين وعليهم في الدنيا.
والآدمي لا يخلق إلا وله هذا العهد والذمة فلا يخلق إلا وهو
أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا يخلق إلا وهو حر مالك لحقوقه
وإنما يثبت له هذه الكرامات بناء على الذمة، وحمله حقوق الله
تعالى.
ولأن هذه الحقوق الشرعية التي تلزم الآدمي بعد البلوغ تجب بلا
اختيار منه جبراً شاء أو أبى.
وإذا لم يتعلق الوجوب عليه باختياره وتمييزه لم يفتقر الوجوب
إلى قدرة العقل، ولا قدرة التمييز ألا ترى أن الصالة تلزم
النائم والمجنون على أصلنا إذا كان الجنون أقل من يوم وليلة.
فإن قيل: الوجوب مما يثبت بلا اختيار منه، ولكن سببه الخطاب
فإنه لا يصح قبل العقل.
(1/417)
قلنا: هذا غلط فإن وجوب الحقوق الشرعية
كلها بأسباب جعلها الشرع أسباباً للوجوب دون الأمر.
والخطاب كالزكاة بملك النصاب والعشر بالأراضي العشرية والخراج
بالأراضي الخراجية، والحج بالبيت، والصلوات بأوصاتها، والصوم
بشهر رمضان، والإيمان بالآيات الدالة على الله تعالى، والمهر
بالنكاح، والثمن بالشراء، والنفقة بالقرابة ونحوها على ما بينا
في باب أسباب حقوق الله تعالى فيما مضى ثم الخطاب بعد ذلك لطلب
أداء الواجب بسببه نحو قولك: اشتريت عبداً بألف درهم فأد ثمنه
فيكون وجوب الثمن في الذمة بالشراء لا بقوله أد الثمن بل أنه
طلب للخروج عن الواجب بالأداء إلى مستحقه فكذا قوله تعالى:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} أي: فليؤد الواجب عليه بشهود
الشهر.
وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي أدوا ما يلزمكم بأوقاتها.
وهذه الأسباب قائمة في حق الصبي والبالغ على السواء فلا ينبغي
أن يقع الفرق بينهما في صحة الوجوب فعلمنا أن سقوط ما يسقط عن
الصبي كان بعذر يسقط بمثله بعد البلوغ تيسيراً علينا لا لأنه
ليس بأهل له.
وإنما يفارق الصبي الذي لا يعقل العاقل في وجوب أداء ما لزم
ذمته فإنه متعلق بالطلب من صاحب الحق بالأمر والخطاب، وغير
العاقل ليس من أهلها فلا يلزمه الأداء على ما نذكر بعد هذا.
وهذا كما قيل: إن النائم يلزمه حقوق الله تعالى، ولا يلزمه
أداؤها حتى يستيقظ لأنه لا يقدر عليه ولا يعلم به، وهذا لأن
الأداء إنما يكون بفعل منا على سبيل الاختيار فلا بد من العلم
به ثم القدرة عليه فأما الوجوب في الذمة فصحيح من غير اختيارنا
فلم يكن من شرط صحته قدرتنا ولا علمنا به.
فإن قيل: أليس الوجوب للأداء لا لنفسه فكيف جاز الإيجاب على من
لا يقدر عليه؟
قلنا: إن الوجوب للأداء لا حال الوجوب بل يجوز بعده بزمان إما
أداء، وإما قضاء فصح الإيجاب على من يرجى له قدرة الأداء
والقضاء في الجملة والصبي من تلك الجملة كالنائم والمغمى عليه.
فإن قيل: فأي واجب علينا سوى الأداء في باب العبادات البدنية؟
قلنا: إن الوجوب حكم إيجاب الله تعالى علينا بسببه، والواجب
اسم لما لزم ذمته بالإيجاب والأداء فعل العبد الذي يسقط الواجب
عنه، وإنما هذا بمنزلة رجل استأجر خياطاً ليخيط له هذا الثوب
قميصاً بدرهم فيلزم الخياط فعل الخطاية بالعقد، والأداء
الخياطة نفسها وبها يقع تسليم ما لزمه بالعقد فكان الفعل
المسمى واجباً في الذمة غير
(1/418)
الموجود مؤدى حالاً بالقبض وإنما من باب
الأموال كدرهم في الذمة من الدراهم المؤداة عيناً فيكونان
غيرين لا محالة.
فإن قيل: أرأيت لو مات الوليد قبل أن يعقل حتى لم يقدر على
الأداء أتجعله أهلاً لحمل أمانة الله تعالى واستحقاق جزائه في
الآخرة؟
قلنا: اختلف في جواب الجزاء أهل الملة روي عن أبي حنيفة أنه
توقف في جواب هذه المسألة.
وعن محمد أنه قال: أما أنا فأعلم أن الله تعالى لا يعذب أحداً
بغير ذنب، وقد جاءت الأخبار بجنة الأطفال وكونهم شفعاء لآبائهم
من المسلمين فأما الاختلاف بينهم في ووقع الحمل عليهم على ما
مر واختلافهم في الجزاء لا يدل على اختلافهم في الحمل فالجزاء
يقابل الأداء لا حمل الأمانة فإنه يقع علينا بإيجاب الله تعالى
شئنا أو أبينا كما بعد البلوغ لا يجب الجزاء بوجوب الصلاة
علينا بل بالأداء.
ويحتمل أن يقال: بأن الله تعالى لما حمل الأطفال أمانته
بالإيجاب عليهم أهلهم بذلك لاستحقاق الجزاء ولم يؤاخذهم بتركهم
الأداء لعذر العجز، وأثابهم كرماً إلحاقاً بالمؤدي حكماً بعذر
العجز بمنزلة البائع يدرك وقت الصلاة وهو لا يجد ماء يتطهر به
فإنه تلزمه الصلاة، ولا يؤاخذ به إذا مات قبل القدرة على
الأداء ويثاب عليه إذا تألم لذلك، وهذا لأن الإيجاب شرعاً مبني
على اهر الحال لا على ما يكون في الغيب وبظاهر الحال كل صبي
ممن يرجى منه الأداء.
أرأيت طفلاً له أرض عشرية ولا ولي له؟ أليس العشر يلزمه أو
الخراج إن كانت خراجية، وإن مات قبل أن يلي عليه أحد أو يقدر
بنفسه يسقط، وكم من بالغ يلزمه حقوق الله تعالى ثم لا يقدر على
الأداء فيسقط عنه، وكذلك الحرمات الشرعية متعلقة بأسباب كحرمة
الأكل بالموت وحرمة النكاح بالنسب والصهر والرضاع.
فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" رفع القلم عن ثلاث؛
عن الصبي حتى يحتلم".
قلنا: رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة إنما يدل على
سقوط أداء الواجب لأن القلم للحساب، والحساب على ترك ما عليه
من الأداء لا على الوجوب في الذمة.
فإن الواجب متى تأجل لم يؤاخذ العبد به والوجوب قائم ألا ترى
أنه قرنه بالنائم، والنائم يلزمه الصلاة في ذمته.
ولا يلزمه الأداء حتى يستيقظ فكذلك الصبي لأنهم دخلوا جميعاً
تحت رفع واحد، والله أعلم.
(1/419)
باب
القول في حين الخطاب شرعاً
لا خلاف أن حين الخطاب شرعاً حين البلوغ عن قدرتين:
قدرة فهم الخطاب: وهو بالعقل.
وقدرة العمل به: وهو بالبدن بدليل قوله تعالى: {لا يكلف الله
نفساً إلا وسعها} ولا وسع إلا بعد هاتين القدرتين، وقال: {وما
جعل عليكم في الدين من حرج} أي ضيق، وقال: {ويضع عنهم إصرهم}
أي الثقل فدل رفع الحرج والإصر على رفع ما لا يطاق من طريق
الأولى، فدلت آية الوسع أن لا تكليف لأول حال الآدمي لأنه لا
قدرة له أصلاً.
ودلت الآية الثانية على سقوطه لأول ما يعقل لأنه يحرج للفهم
بأدنى عقله ويثقل عليه الأداء بأدنى قدره البدن أيضاً فلم
يخاطب شرعاً لأول أمره حكمة، ولأول ما يعقل رحمة إلى أن يعتدل
عقله وقدرة بدنه فيتيسر عليه الفهم، والعمل به ثم وقت الاعتدال
يتفاوت في جنس بني آدم، ولا يمكن الوقوف عليه إلا بعد تجربة
وتكلف عظيم، فوقت الله تعالى بحال تعتدل لديه العقول في الأغلب
على سلامة الفطرة عن الآفات وهو البلوغ.
فقام البلوغ شرعاً مقام اعتدال العقل فتوجه لديه الخطاب وإن لم
يعتدل وسقط قبله، وإن اعتدل دفعاً للحرج الذي كان يلحقنا
بالوقوف على الاعتدال بالتجربة لكل صبي على ما مر من قبل في
فصل بيان إقامة الأسباب مقام العلل الموجبة، وتعطيل العلل في
أنفسها تيسيراً، وقد أيد هذا القول قول النبي صلى الله عليه
وسلم: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى
يفيق وعن النائم حتى يستيقظ"فلا قلم إلا للحساب، ولا حساب إلا
بعد الخطاب على ما بينا أن الحساب لا يكون على الوجوب في الذمة
بل هو بعد طلب الأداء بالخطاب، والله أعلم.
(1/420)
|