تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في بيان ما أسقط من الحقوق
بعذر الصبي رحمة
حق الأداء ساقط بعذر الصبي، أما الأول فأمره للعجز الحقيقي،
وفيه الحكمة، وأما بعد ما عقل فللحرج وإنه رحمة وإنه بمنزلة
دين على معسر يكون أصل الحق على الغريم، وحتى الأداء إليه ساقط
إلى أن ينقضي الأجل الثابت بالعسرة، وحاكى أجلاً ثبت بالنص،
ولأن سقوط الخطاب يدل على سقوط، وجب الأداء للحال فإن الوجوب
في الذمة لا يوجب الأداء عقيبه بحال ألا ترى من باع عبداً بألف
وجبت الألف ولا يجب الأداء إلا بعد الطلب، وكذلك إذا استأجر
رجلاً يخيط له قميصاً بدرهم وجب العمل عليه ولا يجد الأداء
للحال حتى يطالبه به فكذلك حق الله تعالى علينا.
فإن قيل: أليس لا يحل تأثير المغرب عن أول الوقت، ولا تأخير
العصر إلى آخره ولا عن الوقت؟
قلنا: ثبت ذلك بخطاب غير الوجوب عليه بدخول الوقت ألا ترى أن
الفقهاء اختلفوا في التأخير بقدر ما ثبت عندهم من أنواع
الدلائل مع اتفاقهم على أصل الوجوب بدخول الوقت.
وأما التأخير عن الوقت فتفويت العين الواجب إلى مثله، وتفويت
الحق تعدٍ زائد غير ترك الأداء فيحرم وأنه كإتلاف عين للغير
عنده، ولهذا لا يأثم الصبي ولا يحاسب، وكذلك إذا استوصف الله
تعالى فلم يصف في حال صباه لم يكن كافراً، وهو كفر بعد البلوغ
لأن الوصف أداء لفرض الإيمان، ولا أداء عليه حال الصبا، وكذلك
إذا لم يستدل بالآيات حتى بقي على جهله كان في حكم المسلمين
كالذي لا يعقل.
فإن قيل: إذا أسلمت امرأة الصبي الكافر وهو يعقل الإسلام عرض
عليه الإسلام، وإذا أبى فرق بينهما!
قلنا: ذلك السقوط الذي ذكرنا في حق الله تعالى رحمة منه دون حق
العبد لأن النظر واجب لخصمه كما وجب له فمتى أسقط عنه الأداء
لحق الصبي تضرر به الآخر فلم يسقط، والله أعلم.
فصل في بيان ما سقط من حقوق الله
تعالى بأصله
حقوق الله تعالى على الإنسان أربعة:
أ- النظر في الآيات الدالة على الله تعالى.
(1/421)
ب- ثم الاعتقاد على ما توجبه الدلائل.
ج- ثم العبادات.
د- ثم الأجزية.
قال علماؤنا رحمهم الله: وجوب العبادات والأجزية ساقط عن الصبي
أصلاً، ووجوب النظر في الآيات والاعتقاد حق لله تعالى غير ساقط
وإنما الساقط عنه الأداء.
وقال الشافعي رحمه الله: وجوب البدن ساقط عنه، ووجوب المال غير
ساقط.
وتفسير الاعتقاد ما يتأدى بفعل القلب كأصل الإيمان بالله تعالى
وملائكته وكتبه ورسله.
وتفسير العبادات ما يتأدى بفعل البدن تعظيماً لله تعالى وطاعة
إياه.
وتفسير الأجزية: ما شرعت جزاءاً على أفعال محظورة في الجملة
معجلة في الدنيا.
والبدني من العبادات والأجزية ما لا يتأدى إلا بالبدن والمالي
منهما ما لا يتأدى إلا بالمال.
وأما الشافعي فإنه يحج له بأن أجمعنا على أن العشر يلزمه، وفيه
معنى العبادة حتى لم تجب على الكافر.
وكذلك صدقة الفطر حتى تؤدى من ماله ولا يلزمه الصلاة.
والصوم لان الجنس الأول مالي والآخر بدني ولأنا ذكرنا أن الصبي
أهل للوجوب عليه بذمته وإنما سقط ما سقط لعجزه عن الأداء ما لم
يعقل ويقدر عليه بذمته، ولو لم يسقط عنه الوجوب لتضاعفت عليه
الواجبات في مدة الصبي، وهي مديدة ثم كان يلزمه القضاء بعد
البلوغ فكان يحرج فيه والله تعالى ما جعل في الدين من حرج
فأسقطها أصلاً نفياً للحرج عنه رحمة كما أسقط الصلاة عن الحائض
بعذر الحيض لأنها تحيض كل شهر عادة والصلاة تتكرر كل يوم فلو
لم تسقط لتضاعف عليها أبداً فكانت تحرج في القضاء.
ولما كان السقوط بسبب العجز عن الأداء اقتصر على البدني دون
المال لأنه مما يتأدى بالنائب فلا يقع العجز عنه لقيام ولي
الشرع مقام ولي ثبت بعد البلوغ بأمره فقال يلزمه الزكاة،
وكفارة القتل وكفارات ارتكاب محظورات الإحرام، وكل ما صح سببه
في حق الصبي.
فأما كفارة اليمين فإنها لا تلزمه لأن سببها اليمين ويمينه
باطلة شرعاً بخلاف إحرامه فإنه صحيح شرعاً.
وقال: إسلامه لا يصح لأنه بدني، والشرع إنما علق بالإسلام ما
علق من الأحكام بإسلام واجب شرعاً، ولا وجوب قبل البلوغ لأنه
بدني فلا يتأدى واجباً كما لا يتأدى
(1/422)
الصوم والحج والصلاة واجبة وإن صحت في حق
الآخرة والثواب.
وكذلك الردة لأن أحكام الردة في الدنيا علقت بترك الإسلام
الواجب ولا وجوب فلم يعتبر في حق أحكام الدنيا.
وقال: ولا يلزمنا قولنا: أنه إذا صلى الظهر ثم بلغ في الوقت أو
أحرم بالحج ثم بلغ قبل الوقوف فإنه يقع عن الفرض لأنا إنما
أسقطنا الوجوب عنه رحمة عليه ونظراً له ودفعاً للحرج عنه،
والنظر في هذه الحالة أن لا يسقط الوجوب لأن الفرض لزمه لما
بلغ قبل مضي الوقت.
وكذلك فرض الحج يلزمه إذا بلغ قبل الوقوف بعرفه فمتى جعل
الوجوب عليه في حال صباه ترفه بالسقوط عنه بما أدى ومتى لم
يجعل عليه الوجوب بقي تحت عهدة الوجوب إلى أن يؤدى ثانياً وهذا
كما قلتم في المعاملات أن قبول الهدية يصح، وهبته لا تصح لأن
في الهبة ضرراً وفي القبول نفعاً.
وقلنا نحن: إن صدقته باطلة، ووصيته بالصدقة صحيحة، لأن الصدقة
حال الحياة تضره للحال إن نفعته في الأخرة وبعد الموت تنفعه في
الآخرة، ولا تضره للحال لأن الملك يزول بالموت لولا الصدقة.
وقلنا جميعاً إن نفل الصلاة مشروع في حقه دون الفرض لأن شرع
النفل نفع محض إن فعل انتفع به، وإن ترك لم يؤاخذ به والفرض
يضره من وجه، وهو المؤاخذة على الترك ولا يلزمني إبطالي قبول
هبته لأن الشرع لما جعل ذلك النظر مستوفى له من قبل الولي،
وقعت به الغنية عن ترك الأصل الممهد في بابه لاستيفاء النظر
إليه كما لا يجوز بيعه ما يساوي درهماً بألف درهم، وفيه نفع له
لأنه مما يستوفي له ذلك بالولي، والله أعلم.
والحجة لعلمائنا رحمهم الله: أنه لما ثبت أن الصبي مثل البالغ
في أهلية الوجوب عليه، وأن السقوط عنه بعذر الحرج كما في حق
البالغ لم يسقط إلا ما احتمل أن لا يكون مشروعاً حقاً لله
تعالى كالصلوات الخمس والفروع التي تحتمل النسخ والتبديل
وثبوتها مشروعة بعد البلوغ في وقت دون وقت وحقية الله تعالى
بصفاته لا تحتمل أن لا تكون ثابتة مشروعة حقاً لله تعالى
دائماً.
ألا ترى أنا لا نجد شيئاً من العبادات والأجزية إلا ويسقط بعد
البلوغ بعذر ما فكان السقوط بعذر الصبي أولى لأنه رأس الأعذار
لأنه لأول أمره لا يقدر أصلاً ولا تتم قدرته ما لم تعتدل قواه.
ولأن سقوط ما يسقط عن الصبي لم يكن إلا للعجز عن الأداء دفعاً
للحرج عنه حتى لا يتضاعف عليه القضاء بعد البلوغ
(1/423)
ووجوب أصل الإيمان على الصبي لا يوجب تضاعف
الأداء بعد البلوغ ولا زيادة.
ولأن الصبي مثل البالغ في حق صحة الوجوب عليه متى تقرر سبب
الوجوب في حقه كما في حقوق العباد، وإنما لم يصح الوجوب عليه
إذا لم يصح السبب لأن السبب لا يعتبر صحيحاً شرعاً لنفسه بل
لحكمه فمتى وجد صحيحاً لا بد أن يكون حكمه معه فإنه متى تخلف
عنه أصلاً لم يكن سبباً.
وما عرف سبباً لذلك الحكم إلا بحكمة كبيع الحر وطلاق البهيمة
ونحوهما لا يكون بيعاً ولا طلاقاً شرعاً ثم الآيات الدالة على
الله تعالى لا تتصور أن لا تكون آية على حدوث العالم
للمستدلين، ولا حدوث العالم يتصور أن لا يكون دلالة على محدث
فكذلك ما تعلق بها من وجوب النظر فيها علينا لا يجوز أن يون
ساقطاً بحال وإن كان يسقط الأداء عنا لفقد شرط الأداء من
القدرة.
فأما وقت الصلاة فيجوز أن لا يكون سبباً للوجوب ولم يكن كذلك
قبل الشرع فجاز أن لا يثبت سبباً في حق الصبي، وكل معذور سقط
عنه الوجوب.
وكذلك أسباب الأجزية وكل ما صارت أسباب شرعاً، ولولا الشرع لما
كانت أسباباً ولا عللاً في أنفسها فثبت أن الصبي إنما يسقط عنه
وجوب ما يحتمل أن لا يكون في نفسه حقاً لله واجباً دون ما لا
يحتمل.
ثم المالي والبدني من العبادات سوء وكذلك الأجزية: لأن
العبادات اسم لنوع ابتلاء الآدمي بفعله تعظيماً لله تعالى
مختاراً لطاعته على خالف هوى نفسه لا على سبيل الجبل والإكراه
لأنه يجازى على وفاق فعله، ولا جزاء يستقيم في الحكمة مع الجبر
لأنه لا فعل للجبر على الحقيقة فلا يستحق الجزاء ألا ترى أن
الحقوق التي نستحقها فيما بيننا بأداء الأفعال لا تثبت إلا لمن
يفعل مختاراً بنفسه أو نائباً عنه ثبت نائباً عنه بأمره
واختياره.
إلا أنا في البدني ابتلينا بفعل يتأدى بالبدن.
وفي المالي بفعل يتأدى بالمال.
أما فعل لسان من نحو الإعتاق أو فعل يد كالإعطاء إلا أن المالي
مرة يتأدى بمباشرتي ومرة بغيري كما زعمت، ولكن لا بد أن يكون
الفعل مضافاً إلى على سبيل الاختيار مني، ولن يتصور الاختيار
إلا أن يكون الولي علي بأمري فأما متى ثبت، ثبت شرعاً بلا
اختيار مني فيكون كإعطار مني جبراً فلا يكون عبادة فالخصم زل
خاطر قلبه عن اعتبار صفة الاختيارية.
وأما الأجزية فلا تجب إلا على ارتكاب ما يلزم العبد الانتهاء
عنه حقاً لله تعالى، والانتهاء أداء حق النهي كالائتمار أداء
حق الأمر.
(1/424)
وقد ذكرنا أن الصبي غير مخاطب بأداء حقوق
الله تعالى لا ائتماراً ولا انتهاء ولهذا لا يأثم بالإجماع ولا
تقام عليه العقوبات البدنية وإن لم يحتج لإقامتها إلى قدرة
المقام عليه على فعل ما وإذا لم يكن عليه الانتهاء لم يلزمه ما
شرع من الجزاء على مخالفته واعتبره بإثم الآخرة.
ولهذا لا يحرم الصبي القاتل الميراث لأنه شرع جزاء على قتل
محظور كالكفارة على ما بينا في موضعه.
ولأن هذه الأجزية مما يحتمل النسخ ولم تكن مشروعة على هذا
الوجه قبل شرعنا والصبي مما يلحقه بوجوبها ضرر فيسقط عنه بعذر
الصبا كالعبادات رحمة عليه.
ولهذا قلنا: إن الصبي إذا أحرم صح في حقه أن يثاب عليه ولا يجب
الكف عن محظوراته ولا تلزمه الكفارة ويمكنه رفضه لأن اللزوم من
حيث الإحرام حكم ثبت بشرعنا ويحتمل أن لا يكون ولأنه مما يزول
بعد البلوغ بعذر الإحصار، والرق والنكاح، وكذلك الكفارة عندكم
تسقط بعذر الكره والنسيان فلأن تسقط بعذر الصبا أولى.
ولهذا قلنا: إن الصبي إذا أحرم ثم ترك، وجامع لم يلزمه القضاء،
كما قال الشافعي في البالغ المتطوع إذا أحصر فتحلل.
ولأن اللزوم حق ثبت لله تعالى شرعاً ويجوز أن لا يكون فلم يثبت
في حق الصبي، ولهذا لا يجوز أن ينوب عن الفرض ما أداه في الصبا
لأن وقت الوجوب شرعاً في حقه البلوغ وكان بمنزلة رجل صلى أربع
ركعات بعد الزوال ثم نزل شرع الظهر بعد ذلك فإنه لا ينوب عن
المشروع بعد أداء ما سبق.
وأما الجواب عن شبهة النظر فإن سقوط الوجوب في حق نفسه هو
النظر وإنما انقلب في مسألتنا هذه ضرراً باتفاق حاله فلا يعتبر
تيسيراً فإن التمييز مما يندر من الحالات يتعذر على الطالبين
كما قلنا في الخطاب أنه متأخر إلى حين اعتدال العقل والشرع
قدره بالبلوغ تيسيراً وسقط ما يتفق في نادر الأحوال من اعتدال
قبله أو نقصان يبقى معه.
ولهذا قلنا إن وصيته بالصدقة باطلة لأنها تمليك بلا عوض وأنه
ضرر في وضعه كما في حالة الحياة، وإنما انقلبت نفعاً باتفاق
حال الموت فلم تعتبر وقبول الهبة يصح من الصبي إذا عقل القبول
لأن الحجر بعد معرفة التصرف ما ثبت إلا نظراً له كي لا يخدع في
ماله ونفسه ولا يغبن، وليس في قبول الهبة مخافة غبن، فلم يثبت
الحجر في حقه فالأصل في الشرع إثباته في حقه على وجه النظر،
والنظر في الإطلاق فيما هو نفع محض فبقي مطلقاً، وثبت للولي
لأن الولاية أثبتت له نظراً للصبي أيضاً، وفي إثبات ولاية قبول
الهبة للصبي نظر ولم يجز بهذا النظر حجر الصبي عن نظره لنفسه
بقبوله بل وجب إطلاقه لأن تمام النظر فيه.
(1/425)
ولهذا قلنا: يصح إسلامه استحساناً لأن أصل
الوجوب كان ثابتاً على ما مر أنه لا يحتمل السقوط بخلاف ما
يحتمل السقوط، فإذا جاء الأداء كما وجب كان عن الواجب لا محالة
وإن لم يكن مخاطباً بالأداء كالصلاة لأول الوقت، والصوم في
السفر، وأداء الدين المؤجل وما للأداء في الشرع حد للصحة إلا
أن يعتقد وحدانية الله تعالى عن معرفة، ويشهد بلسانه كما
اعتقدوا الخلاف فيما إذا تصور منه ذلك ما لو كان بالغاً.
وأما إذا ارتد فردته صحيحة استحساناً عند أبي حنيفة ومحمد، ولا
تصح قياساً عند أبي يوسف.
قال أبو يوسف: لأن الردة من المضار والإيمان من المنافع،
فالصبي محجور عن المضار دون المنافع شرعاً في حق أحكام الدنيا.
فأما في حق الآخرة فما ينبغي أن يستحق الجنة وقد اعتقد الشرك
وترك اعتقاد الدين الصحيح، والجنة ثمن الدين كما لا يستحق ثواب
الصوم إذا أفطر إلا أنهما استحسنا، أي تركا هذا القياس الظاهر
فإنه مسلم لهم هذا الأصل فيما يحتمل النسخ والتبديل فيكون
الصبا عذراً مانعاً من ثبوت الشرع فلا يصير مشروعاً إذا احتمال
أن لا يكون مشروعاً حقاً لله تعالى.
فأما ما لا يحتمل أن لا يكون مشروعاً حقاً مستحقاً لله تعالى،
فلا تعتبر فيه المضرة والمنفعة بل يكون مشروعاً في حق الصبي
والبالغ على السواء على ما مر وإنما يختلفان في وجوب أداء
المشروع فإن الأداء يلزم البالغ دون الصبي وإذا صار الإسلام
مشروعاً وجوبه حقاً لله تعالى في حق الصبي لأنه لا يحتمل غير
ذلك فكذلك وجوب حرمة الردة، وإذا ثبت الشرع صح الأداء شرعاً
فلزمه ما تعلق به من الأحكام الشرعية إلا ما شرع جزاء على
الفعل المحظور، لما ذكرنا أن الجزاء المعجل يحتمل أن لا يكون
مشروعاً على أن القتل على المرتد عندنا مشروع لصيرورته حربياً
لا كافراً حتى لم تقتل المرأة لأنها ليست من أهل الحرب، والصبي
بمنزلتها.
فأما حرمان الإرث، وفساد النكاح فليسا بجزاء فعل الردة لا
محالة فإنهما يثبتان ببقاء الكفر الأصلي فهذا وجه الاستحسان،
والله أعلم.
فإن قيل: أليس أن الصبي يؤدب إذا أساء أفعاله؟
قلنا: التأديب لا يقام جزاء على ما مضى حقاً يجب بإزائه عليه
لغيره بل تقويماً في المستقبل حقاً له، ألا ترى أن الدابة تراض
وتؤدب تقويماً وإصلاحاً وأنه لتسوية الأخلاق بمنزلة الدواء
لطلب الشفاء وبمنزلة الحجامة.
فإن قيل: أليس الصبي يسرق فإن عقوبة جزاء للكف؟
قلنا: إن الاستيلاء على المباح شرع سبباً للملك كما في حق
الصيود، وأهل الحرب
(1/426)
ما لهم عصمة فلا يكون تملكهم بسبب
الاستيلاء عقوبة كما في حق البهائم وإنما لم يملك غيرهم
بالاستيلاء لعصمة ثبتت لهم من الله تعالى كرامة فيكون زوال
العصمة بالكفر حقيقة أو تبعاً لأبويه بمنزلة زوال النعمة، فلا
يكون عقوبة واجبة على أحد بمنزلة زوال الصحة والحياة والمال
وسائر الكرامات.
فأما الجواب عن استدلالهم بالعشر وصدقة الفطر: أما صدقة الفطر
فتجب على الأب بسبب ولايته على رأس الصبي ومؤنته كما تجب على
المولى بسبب رأس عبده حتى أوجبنا على العبد الكافر، وأما جواز
الأداء من مال الصبي فلأن وجوبها بمنزلة وجوب المؤنة عن رأسه،
والمؤن تتأدى بولاية جبرية كالعشر والخراج وأنه شبهه لا في هذه
المسألة وقد خالف محمد أستاذه فيه.
فأما العشر عندنا فمؤنة الأرض كالخراج، ولهذا لا يجتمعان وإذا
كان العشر من حقوق غير الله صح تأديه بولاية جبرية على من عليه
الحق كما صح أخذ القاضي من البالغ كرهاً ولا يكون لمن أخذ منه
ثواب فعل العبادة، وإنما يكون له ثواب ذهاب المال في وجه الله
تعالى بمنزلة ثواب المصائب.
فأما إذا كان الحق لله تعالى صار الأصل فيه الفعل فإن العبادة
اسم للفعل دون المال، وإنه اسم لفعل يأتي به من عليه على سبيل
الاختيار ليثاب عليه فلا يجوز تأديه بدون فعل منه على اختياره.
ولهذا قلنا: ليس للسلطان أن يأخذ الزكاة من صاحبه كرهاً كما
يأخذ ديون الناس.
ولهذا قلنا: لا تؤخذ من تركته بعد موته بدون الوصية بخلاف
العشر وحقوق الناس فصار المعنى الذي اعتبره الخصم للفرق بين
المالي والبدني حال عجز الصبي عن الأداء بنفسه معتبراً في حقوق
غير الله تعالى فالمالي منها يلزم الصبي دون البدني.
وأما ما يجب لله تعالى فالمالي والبدني سواء ويسقط عن الصبي ما
احتمل للسقوط ولا يسقط عنه ما لا يحتمله والأداء ساقط في
الأحوال كلها، والله أعلم.
(1/427)
باب
القول في حين صحة عبارات الصبي
شرعاً
لا خلاف أن عباراته فاسدة قبل أن يعقل ويميز لأن الكلام وضع
للتمييز بين المسميات ولن يتصور ذلك إلا بعد المعرفة عن عقل،
ولهذا لم يتعلق بكلام النائم والمغمى عليه والمجنون حكم، ولا
خلاف أنها تصح إذا عقل وميز لوجود شرط الصحة حتى إذا قال: أنا
جائع سمع منه، وأطعم أو دعا ربه أثيب عليه وأذكاره في صلاته
تصح كما لو كان بالغاً.
وإنما اختلفوا فيما أفسد عليه شرعاً نظراً له ورحمة، كما لا
يصح منه فرض العبادات نظراً له؟
قال علماؤنا: عباراته صحيحة في الأصل إلا فيما يضره أو يتوهم
لحوق الضرر به.
وقال الشافعي: عباراته فاسدة شرعاً فيما صار مولياً عليه فيها،
فأما ما لم يصر مولياً عليه فيها ففاسد فيما يضره صحيح فيما
ينفعه.
واحتج بأن الشرع لما جعله مولياً عليه في باب دل على سقوط
ولايته في نفسه إذ لو بقيت له لما ثبتت لغيره كما بعد البلوغ
فأما ما لم يصر مولياً عليه فيه فباق معه إلا أن الشرع حجزه عن
الاستيفاء نظراً له حتى لا يخدع كما سقط عنه الفرض نظراً له
فلم يثبت الحجر في حق ما يتمحض نفعاً كما لم ينعدم الشرع في حق
نوافل العبادات التي تتمحض نفعاً.
فقال: لا يصح قبوله الهبة لأنه مولى عليه فيها، وكذلك إسلامه
وكفره لأنه مولى عليه فيهما، وتصح وصيته بالصدقة لأنه غير مولى
عليه فيها وهي نفع محض لأنها تزول إلى خلف له ومتى فسدت الوصية
زالت إلى خلف، وإذا وقعت الفرقة بين الأبوين، وقد بلغ سبع سنين
خير وعمل باختياره أيهما اختاره لأن له معرفة صحيحة بالذي هو
أرق له واختياره ذلك نفع محض والشرع لم يجعله مولياً عليه فيه
فإنه لا ولاية لأبيه عليه فيه، وقال: لا تصح عباراته بالبيع
لنفسه ولا لغيره لأنه مولى عليه فيها ولا يصح طلاقه وإقراره
بالإجماع لأنه ضرر.
ولعلمائنا أن كون الإنسان فاسد العبارة من أعظم النقصان
فالآدمي امتاز عن فيره من سائر الحيوانات لصحة العبارة حتى
قيل: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
(1/428)
وقيل:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلا يجوز أن يفسد على الصبي عباراته بعد إصابته شرط الصحة إلا
على سبيل النظر له وذلك في دفع ما يتعلق به من المضار عنه كما
قاله الخصم وكما سبق القول في باب حقوق الله تعالى.
وإذا ثبت هذا الأصل قلنا: لا ضرر عليه في صحة قبول الهبة
والوصية والصدقة فتصح كما قاله الخصم في صحة وصيته بالصدقة.
فأما قوله: إن كونه مولياً عليه ينافي ثبوت الولاية له فليس
كذلك لما مر في باب بيان حقوق الله تعالى، ولا تصح هبته ولا
صدقته لأنهما من المضار، وكذلك بعد الموت لما مر في ذل الباب،
وكذلك لا يصح اختياره في باب الحضانة لأنه يتردد بين نفع وضر،
ولربما يختار الذي يضره لعاقبة أمره بل يميل إليه لا محالة فإن
الطبع ينفر عمن يؤدبه، ويحمله على التخلق بأداب الشرع والمروءة
إلى من يدعه للهو وارتكاب الهوى فكانت عباراته في هذا الباب
كعباراته في باب التجارات التي تتردد بين ضر ونفع فلا يجب
العمل به.
وقال علماؤنا: يصح إسلامه لأنه نفع محض فإن العصمة في الدارين
لحق الإسلام وكرامات الآدمي كلها لحق الدين وتأهله لذلك، وإن
لم يقبل ولا شك أن الخير فيه فوق ما في نقل العبادات.
فإن قيل: وربما يبتنى عليه حرمان الإرث وفساد النكاح!
قلنا: لا عبرة لزوائد هذه الأحكام التي ليست بأحكام أصل الدين
بل تثبت بواسطة أخرى، وحالة تتفق لما مر أنه لا عبرة في هذا
الباب للتغير بالحال ولأنك تفسد إسلامه وإن تعلق بها الإرث
وصحة النكاح نحو إن كانت أسلمت امرأة الصبي الكافر، وعمه ولا
وارث للعم غيره فإنه بالإسلام يعصم ملك نكاحه، ويرث عمه على أن
حرمة النكاح والإرث حيث ثبتت ثبتت مضافة إلى كفر الكافر منهما
على ما بينا في موضعه.
وقالوا: تنعقد التصرفات كلها بعبارته، كما تنعقد بعبارة
البالغ، وتنفذ إذا كان وكيلاً عن أهلها لأنه لا ضرر عليه في
انعقاد التصرف بحق الوكالة لأن العهدة لا تلزمه ونفس فساد
العبارة ضرر على ما مر فلا يثبت الحجر في حقها، وإذا ثبت أنها
تصح في مال الغير بإذن الولي صحت كذلك في مال نفسه بإذن الولي
من طريق الأولى لأنهما لا يفترقان إلا فيما يلزمه إذا كان في
ماله.
وهذا اللزوم جعل من المصالح إذا حضره رأي الولي بدلالة أن
الولي لو فعله بنفسه
(1/429)
أو أمر غيره به صح وما أثبت له ذلك إلا
مصلحة للمولى عليه نظراً له.
وقد مر أن الفساد لا يجوز أن يثبت من طريق أنه مولى عليه بل
لما جعل مولياً عليه لما له من النفع في تصرف الولي عليه بذلك،
ولا ضرر في صحة عبارته في ماله مع ذلك عليه كان تمام النظر في
أن تبقى صحته مع ثبوت الولاية للولي ليثبت له نفعها من طريقين
فيثبت أن ما قلناه أولى الوجهين، والله أعلم.
فإن قيل: لو شهد الصبي لم تقبل شهادته وكانت العبارة فاسدة وإن
لم يلزمه بها حكم.
قلنا: العبارة صحيحة ولكن مع ذلك لا تكون حجة على غيره كما لو
شهد العبد أو شهد الكافر على مسلم، وهذا لأن الشهادة بمنزلة
الولاية على غيره، وإنها تتعلق بكمال الحال في ولاية نفسه بعد
صحة العبارة، والله أعلم.
(1/430)
|