تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في حين لزوم ما يتجدد بالشرع
من الأحكام
حكم هذا الشرع إنما يلزمنا بعد بلوغه إيانا لما مر أن الله
تعالى لم يكلف نفساً إلا وسعها، ولا وسع على العمل إلا بعد
العلم فسقط أصلاً ضرب ما يحتمل النسخ لقصور الخطاب دفعاً للحرج
كما سقط بالصبا.
وقد روي أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعدما حولت
القبلة إلى الكعبة فأتاهم آت وهم في الصلاة فأخبرهم أن القبلة
قد حولت فاستداروا كهيئتهم، ولم ينكر عليهم رسول صلى الله عليه
وسلم.
وقد شرب جماعة الخمر بعد التحريم قبل العلم به فأنزل الله
تعالى: {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا} وهذا فل لا خلاف فيه.
ثم البلوغ نوعان: حقيقة بسماع الخطاب، وحكماً بشيوعه في قومه،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ القرآن الناس كافة
وما أمكنه التبليغ إلى كل نفس، وإنما بلغ أكابر كل قوم في
جماعتهم، وكان مؤدياً بذلك حكم الأمر ليكون الأمر بقدر الوسع
وعلى سبيل لا حرج فيه.
ولأن الخطاب متى شاع أمكن كل إنسان العمل به متى لم يقصر في
طلب الحجة من قومه فمتى لم يطلب حتى جهل كان ذلك بتقصير منه
فلم يصر ذلك الجهل له عذراً، وصار كأنه علم ثم لم يعمل ألا ترى
أن الواحد منا لو لم يتعلم الشرائع وجهلها لم يعذر، ولزمه كلها
لشيوعها في دار الإسلام.
وكذلك الذمي إذا أسلم ولم يعلم بالصلاة لزمته ولو أسلم الحربي
في دار الحرب ولم يعلم بها لم يلزمه قضاء ما فات منها لأن
الخطاب فيها غير شائع.
وهذا لما قال علماؤنا-رحمهم الله-فيمن أذن لعبده في التجارة
وشاع إذنه، ثم حجر عليه: لم يثبت الحجر في حق أهل السوق حتى
يحجر عليه حجراً عاماً في أهل سوقه، وإذا أشاعه ثبت الحجر في
حق من سمع ومن لم يسمع.
ولهذا قالت الأئمة في الحربي تزوج أختين معاً، أو على التعاقب،
ثم فارق إحديهما، ثم أسلم: بقي نكاح الباقية صحيحاً، وإن بقيت
الأخيرة.
لأن خطاب التحريم قاصر عنهم فبقوا على الحل الثابت قبل الخطاب.
(1/431)
وكذلك لو تزوج خمساً ثم فارق الأولى منهم
ثم أسلم بقين على الصحة.
ولو وقع فاسداً من الأصل لما انقلب صحيحاً بالإسلام بل كان
يتأكد، وكذلك لو تزوج في عدة من كافر أو بغير شهود.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو تزوج الكافر محرماً ودخل بها
لم يسقط إحصانه، وكان بمنزلة ما لو تزوج مجوسية.
كذلك علل في الكتاب الجواب في أهل الذمة في مسائل الجمع
والنكاح بغير شهود بلا خلاف، لأن أهل الذمة وإن كانوا في دار
الإسلام فالخطاب قاصر عنهم لأن الخطاب إنما يصح بعد ثبوت
الرسالة وهم ينكرون الرسالة فلا تصر حجة عليهم بحق الشرع بل
بقدر ما عوهدوا عليه.
ولأن الخطاب من الله تعالى أن أمر رسوله بدعوة الكفار إلى
الإيمان بالله وبرسوله فإن أبوا فإلى الذمة فيمن جعل لهم
الذمة، وإلى أن يتركهم وما يدينون به إلا ما استثني عليهم فإذا
دعاهم إلى الذمة بشرطها فقد بلغهم الخطاب الشرع في حقهم فلا
يلزمهم ما تبدل من أحكام الله تعالى بهذا الشرع إلا ما استثنى
عليهم، لأن الخطاب الأصلي قصر عنهم إلى خطاب الذمة فيبقون فيها
على ما كانوا عليه قبل شرعنا، وإن كانت فاسدة كالكفر.
وما لا يحل بحال كانوا فيها على الفساد وإن كانت صحيحة عند
الله تعالى كحل أنكحه حرمت بشرعنا، وشرب الخمر ونحوها بقيت
كذلك صحيحة، ولهذا لا يحدون على شرب الخمر، وإذا تبايعوا فيما
بينهم ثم أسلموا على تلك الأيمان وأقروا بها لا تنتزع من أيدي
مشتريها، ولم تنقض تلك البيوع، ولو وقعت فاسدة لأبطلت عليهم
بعدها أسلموا وصاروا بحيث لا يقرون على الفساد كما لو زنوا ثم
أسلموا.
وقالوا علماؤنا رحمهم الله: إذا أتلف مسلم عليهم الخمر ضمن لهم
كما لو أتلف الخل لبقاء الخمر في حقهم على ما كان قبل التحريم.
وإنما قال الشافعي: لا يضمن لأن الحرمة ثابتة في حق المسلم
وديانتهم لا تكون حجة على المسلم ولا قصور الخطاب في حقهم يبدل
حكم الخطاب في حق من بلغه.
وكذلك إذا أتلف ذمي على ذمي ثم اختصموا إلى قاضينا لا يلزم
قاضينا الحكم بما عندهم وجوابنا أنا نحكم بما عندنا، وعندنا
أنه مال متقوم في حقهم.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا نفسد نكاحهم المحرم بمرافعة
أحدهما لأن ديانة المرافع لا تكون حجة على الآخر، وشبه هذه
الفصول مذكورة في كتاب (الأسرار)، والله أعلم.
(1/432)
باب القول في
الأعذار المسقطة للوجوب بعد البلوغ
هذه الأعذار أربعة أنواع:
أ-الجنون والعته نوع: وهو عذر عدم العقل ونقصانه.
ب-والنوم والإعماء نوع: وهو العجز عن استعمال نور العقل بفترة
عارضة مع قيام أصله كاملاً.
ج-والنسيان والخطأ والكره والجهل بأسباب الوجوب ونحوها من
الأعذار الطبيعية نوع: فإن الفعل ينعدم معها مع قيام القدرة
بسبب الترك مختاراً.
د-والرابع: قسم الحيض والرق فإنه مما ينعدم به شرط بعض
العبادات حكماً فيثبت العجز شرعاً لا طبعاً.
فأما الجنون: فبمنزلة الصبا قبل أن يعقل الصبي إذا طال الجنون،
وبمنزلة النوم إذا قصر على ما مر.
والعته بمنزلة الصبا بعدما عقل الصبي لأن المعتوه هو الذي
اختلف كلامه فصار بعضه ككلام العاقل، وبعضه ككلام المجنون فكان
ذلك الاختلاط لنقصان عقله، كما يكون في الصبي فيكون حكمه حكم
الصبي إلا في حق العبادات فإنا لم نسقط به الوجوب احتياطياً في
وقت الخطاب وهو البلوغ، بخلاف الصبا لأنه وقت سقوط الخطاب على
ما مر بيانه.
وأما السفه بعد البلوغ، فلا يوجب الحجر عند أبي حنيفة رضي الله
عنه وكذلك عند غيره، لأن ظهاره وطلاقه وما لا يبطله الهزل ينفذ
منه.
لأن السفه ليس بعبارة عن نقصان العقل بل عن مكابرة العقل بغلبة
الهوى، وقد نهانا الشرع عن اتباع الهوى فلا يصير اتباعه الهوى
بخلاف موجب العقل عذراً له يوجب الحجر نظراً له، وبالإجماع لم
يوجب سقوط الخطاب نظراً، ولم يجعل السفيه وإن كان مغلوب هواه
كالمكره الذي هو مغلوب بغيره لأن ذلك عذراً عند الله تعالى
وهذا لم يجعل عذراً عند الله تعالى لقدرته لا محالة على الدفع
لو لم يساعد نفسه، وإنما يصير مغلوباً بالمساعدة مختاراً.
وأما النوم والإغماء: فنوع واحد فترته تعارض منع استعمال العقل
مع قيامه، وحكم
(1/433)
النوم تأخير حكم الخطاب في حق العمل به لا
سقوط الوجوب أصلاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من
نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها"ولما
ذكرنا أن نفس العجز لا يسقط الوجوب أصلاً وإنما يسقط وجوب
العمل به إلى حين القدرة إلا أن يطول فيسقطه دفعاً للحرج.
والنوم لا يمتد عادة بحيث يحرج العبد في قضاء ما يفوته في حال
نومه لأنه عادة لا يمتد مع الليل يوماً كاملاً لا يستيقظ فيه
وإنما يكون بالليالي.
والإماء بمنزلته إلا في حق الصلاة فإنه إذا كان مدة ست صلوات
سقط القضاء لأن الصلاة تتكرر بست، وفي ذلك حرج.
والإغماء في العادات يمتد هذا القدر من المدة فجعل مسقطاً
لوجوب الصلاة دفعاً للحرج بمنزلة الجنون فكان الإغماء كالنوم
في حق الصوم والزكاة لأنه لا يمتد في العادات شهوراً وسنين.
فإن قيل: إن السكر بمنزلة الإغماء ولم يتأخر به حكم الخطاب.
قلنا: السكر إنما يحصل بسبب هو معصية وهو شرب المسكر، واجتماع
ذلك الحرام في معدته فلم يجعل عذراً شرعاً على ما عرف في غير
هذا الوضع.
وأما باب النسيان: فيتعلق به انعدام فعل ما أمر به لعدم القصد
إليه بسبب النسيان لا للعجز، إلا أن القصد لا يتصور منا إلى
فعل بعينه قبل العلم به، كقصد زيارة زيد، لا يتصور بدون زيد،
وقصد صوم رمضان قبل العلم به لا يتصور، وكذلك قصد استعمال
الماء لا يتصور إلا بعد العلم به، فصار في حكم العجز وإن بقيت
القوى الغريزية معه فصار في حكم النوم، لأنه آفة مخلوقة فيه
جعلته كالنوم، وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسيان
الصلاة والنوم عنها على ما مر ذكره. إلا أن يكون نسياناً عن
لهو أو لعب فيؤاخذ به، كالنوم عن سكر.
ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إن من نسي الماء في
رحله وهو مسافر فتيمم أجزأه، لأنه يعجز عن استعماله بالنسيان،
كما يعجز بعدم الماء فيسقط به خطاب استعمال الماء فيسقط إلى
خطاب التيمم.
إلا أن أبا يوسف لم يجوزه، لأن رحل المسافر معدن الماء، فلا
يعذر في ترك الطلب فيه، وإن لم يتذكر، كما لو كان بقرية عامرة
وعدم الماء مكانه، ونسي أن يطلب وتيمم، فإنه لا يجوز، لأنها
معدن الماء، فلما كان العجز بسبب هو مقصر فيه لم يجعل عذراً
كعجز عن السكر.
(1/434)
ولهذا قلنا: إن كلام الناسي يبطل الصلاة،
لأن أصل وجوب الحظر لا يرتفع بالنسيان، وإنما يرتفع وجوب الكف
عن الحرمة، فلا يأثم، وبقي الكف شرطاً لصحة الصلاة لما بقي
الوجوب فلا يتأدى بدونه، كما إذا نسي الطهارة فصلى بدونها لم
يأثم، ولا تجوز.
وقلنا أيضاً: القياس أن يفسد الصوم بأكل الناسي، وكذلك الخطأ
في حكم النسيان، بدليل أن المخطئ لا يأثم إذا ترك خطأ أو ارتكب
خطأ، كأن الحظر لم يبق معه، ولهذا استثنى الله تعالى الخطأ من
الحظر، فقال: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً} وما
كان للتحريم، وقد استثنى منه ما يكون خطأ فثبت أنه في حكم
المباح في حق الفاعل، ولهذا لم يأثم إذا لم يكن خطأ عن تلهي
وتلعب، بل كان خطأ بعد تحري الإصابة، وهذا لأن المخطئ حده: من
قصد فعلاً على تحري الصواب فأخطأ فوقع غير صواب بلا قصد منه
إلى الخطأ، ولهذا كان الخطأ ضد العمد، فهو كالناسي الذي لم
يقصد ترك ما أمر به، بل ترك على تحري أنه لم يؤمر به لنسيانه
المأمور به، فصار تاركاً ما أمر به بغير قصد، فهما باب واحد.
ولهذا قلنا: إن كلام المخطئ صحيح حكماً، ككلام العامد، فإن
يمين المخطئ صحيحة توجب الكفارة، كيمين العامد وتفسيره؛ من
أراد أن يسبح فسبق لسانه يمي، وكذلك نكاح المخطئ، وطلاقه،
وعتاقه، ونذره، وكل ما لا يبطله الهزل لم يبطل بالخطأ، لأن
الموجب بصحة كلامه شرعاً قائم أصلاً مع الخطأ، فأما البيع خطأ،
فلا ينبغي أن يلزم كما لا يلزم مع الهزل والكره وشرط الخيار
لنفسه، لأن الشرع بنى لزومه على التراضي بعد صحة المعاقدة، ولا
رضاء إلا بعد قصد صحيح فأما عقد يلزمنا حكمه بلا شرط رضا فلا
يبطل لعدم القصد، كما لا يبطل باستثناء الخيار، فإن مستثنى
الخيار غير راض بلزومه بنص الخيار لنفسهن فكان فوق الذي لم يرض
وبقي الخيار بعدم الرضا لنفسه.
وأما إذا سلم الشفعة خطأ بطلت شفعته لا بالتسليم، فإنه مخطئ
غير راض به، ولكن بترك الطلب، كما لو سكت ولم يسلم، ولهذا يلزم
القاتل خطأ الكفارة، ويحرم الإرث، ولو سقط بالخطأ حرمه القتل
أصلاً لما لزمه حكم القتل المحظور.
وكذلك الكره بمنزلة الخطأ أو دونه، لأن المكره مختار لما فعله
قاصد إياه، لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما عليه عن علم وقصد،
إلا أنه قصد فاسد، لأنه قصد راضياً به ومريداً إياه، بل لدفع
الشر عن نفسه فلحق بحكم الفساد بعدم القصد فلا يقع هدراً،
وإنما يبطل به ما يتعلق لزومه بالرضا، كالبيع، والإجارة، وما
لا يلزم مع استثناء الخيار أو مع الهزل.
(1/435)
وأما يمين المكره، ونذره، ونكاحه، وطلاقه،
وعتاقه، فلازم، وكذلك الكلام مكرهاً في الصلاة يبطلها، وكذلك
الأكل في الصوم مكرهاً، أو سبق الماء حلقه خطأ يفسده، وكذلك من
ارتكب محظوراً من محظورات الحج مكرهاً أو مخطئاً لزمته
الكفارة.
فإن قيل: أليس المكره على القتل لا يقتل عندكم ولا يضمن شيئاً،
وكان فعله هدراً؟
قلنا: لم يهدر حكم الفعل فإن القصاص واجب به، لكن لم يجب على
الفاعل كرهاً بحكم انعدام الفعل منه بأن جعل آلة للذي حمل عليه
كأن قبض على يديه فقتل بيده إنساناً على ما بينا في موضعه،
ولذلك وجب على الذي أكرهه لأن الفعل أضيف إليه.
ومتى انعدم الفعل لم يكن عدم حكمه بالكره لكن بعدم الفعل كما
لو لم يفعل بغير كره.
فأما فعل لا يستقيم أن يجعل المكره المباشر آلة للآمر فالفعل
لا ينتقل عنه ويبقى مقتصراً عليه على ما بين في موضعه، فإذا
بقي وصار فاعلاً لزمه حكمه إلا ما يبطله الهزل فالأقوال كلها
لا يمكن أن تجعل الفاعل عن كره آلة فيها للآمر إذ الرجل لا
يمكنه التكلم بلسان غيره وكذلك الأكل والزنا ونحوهما.
فأما القتل فممكن بيد غيره وكذلك الإتلافات كلها ولهذا قرن
النبي صلى الله عليه وسلم بينهما فقال:"رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه".
وأما الجهل: فمثل الخطأ والنسيان لأن الجهل بالحق لا يكون إلا
للجهل بدليله، وسبب وجوبه فيكون الإعراض عن إقامته لا عن قصد
العصيان والخلاف بل كما يكون من المخطئ والناسي فيكون الجاهل
عاجزاً حكماً كالناسي فيكون الجهل عذراً يؤخر حكم الخطاب ولا
يسقط الوجوب أصلاً كالخطأ والنسيان، ولهذا قيل: إن العبد إذا
عمل باجتهاده في حادثة لا نص فيها عنده ثم بلغه نص بخلاف رأيه
لم يأثم على ما مضى ولزمه نقض ما أمضى باجتهاده ولو سقط أصلاً
بالجهل لما لزمه النقض كما لو نزل النص بعد رأيه في زمن الوحي.
وأما باب الحيض والرق: فإنا نقول إن الحيض لا يوجب عجزاً من
حيث ذهاب قدرة البدن أو قدرة القلب بعلمه وعقله، ولكن يوجب
عجزاً حكمياً من حيث فوت شرط الأداء من حيث الظهر عن دم الحيض
في حق الصوم أو عدم الطهارة في حق الصلاة ونحوها فإنه دون
العجز الذي يثبت بالنوم فكان القياس أن لا يسقط أصل الوجوب بل
يؤخر حكمه إلى حين القدرة، إلا أنا تركنا هذا القياس في باب
الصلاة فأسقطنا به
(1/436)
الوجوب لشرع ورد فيه، وذلك لعلة الحرج فإن
الحيض يصيبها في كل شهر عادة والصلاة تتكرر في كل يوم فلو
أمرنا بالإعادة لتضاعف الوجوب عليها ولحرجت في ذلك فيسقط بسبب
الحرج كما يسقط بالجنون الممتد وبالصبا، وهذه العلة معدومة في
حق الصوم فلم يسقط.
وكذلك وجوب التتابع في باب الصيام لا يسقط إذا كان الصوم عشرة
أيام أو ثلاثة وما يوجد عادة بلا حيض لأنها لا تحرج في إقامة
هذا الشرط، وإذا كان شهرين سقط الوجوب أصلاً لأنها لا تجد
شهرين لا تحيض فيهما عادة إلا نادراً أو بعد اليأس وربما لا
تبلغ اليأس والنادر لا عبرة له فلو ألزمناها الإعادة بسبب
الحيض متتابعاً لحرجت أو عجزت وسقط الوجوب دفعاً للحرج.
والرق من هذا القبيل لأنه ربما ينعدم به شرط بعض العبادات
كالكفارات المالية فإن ملك المال شرط لأدائها وإنه لا يملك
المال ما دام رقيقاً.
وكذلك وجوب الحج يسقط عنه أصلاً لا لعدم ملك الزاد والراحلة
فإن الفقير الذي لا يملكهما إذا أدى جاز وكان فرضاً بخلاف
العبد ولكن لعدم ملك المنافع التي يتأدى الحج بها فإنه عبادة
بدنية ومنافعه صارت لمولاه إلا ما اسثتنى الله تعالى في باب
الصوم والصلاة ولم يستثن في باب الحج لأنه لا وجوب بلا زاد ولا
راحلة ولما لم يستثن صارت للمولى فلا تعود إليه بتمليك المولى
كما لا يملك منافع غيره، ولا سائر الأموال بتمليك المولى فلا
يصح الأداء بمنافع المولى كما لا يصح التكفير بمال المولى.
وكذلك يسقط بالرق إباحة نكاح الأربع من النساء إلى النصف،
وكذلك الحدود التي تحتمل التنصيف تنتصف وكذلك العدة والتطليقات
وحق القسم ونحوها ويبطل الولاية، وما يبتنى على الولاية من
الإرث والشهادة.
فإن قال قائل: الكفر قسم خامس لم تذكره.
قلنا له: إن الكفر ليس من جملة الأعذار ثم إنه غير مسقط للخطاب
عند أهل الكلام وهو مذهب الشافعي من الفقهاء، ومذهب عامة
مشايخنا من أهل العراق لأن الكفر رأس المعاصي فلا يستفيد به
حفة سقوط الخطاب كما لا يستفيد بالسكر وبالجهل إذا كان عن
تقصير من قبله.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة فخطابه
يعمهم إلا حيث خص بدليل، ألا ترى أنهم يخاطبون بأحكامنا في
المعاملات والعقوبات والإيمان فكذلك العبادات.
وقال الله تعالى حكاية عن أهل الجنة: {يتساءلون عن المجرمين ما
سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} فأخبروا أنهم استحقوا
النار بترك الصلاة لما ذكر أن الإنسان يصير أهلاً للإيجاب عليه
بالذمة ولخطاب الأداء بالعقل والكافر له ذمة
(1/437)
وله عقل مثل المسلم إلا أنهم لا يؤاخذون
بالقضاء إذا أسلموا لأن الله تعالى وعدهم المغفرة بقوله: {قل
للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت
سنت الأولين} ترغيباً إياهم في الأيمان وقوله: {يغفر لهم ما قد
سلف} دليل على أنهم كانوا مؤاخذين به وإنما غفر لهم بالإسلام.
ومن يقول أنهم غير مخاطبين، يقول إنهم لم يكونوا مؤاخذين فلا
تتصور المغفرة.
ولا معنى بأن يقال: إن الكافر عاجز لأن عجزه بسبب كفره فلا
يعتبر عذراً كعجز السكران، ولأنه قادر على أن يسلم فيصلي،
كالجنب عاجز في حال جنابته ومخاطب لأنه قادر على أن يتطهر
فيصلي.
وقال مشايخنا ببلادنا: إن الكفر يسقط الخطاب بالديانات في
الشرائع التي تحتمل السقوط في الجملة وليست عن أصحابنا
المتقدمين رواية وإنما استدلوا بمسائل منها أن المرتد إذا أسلم
لا يقضي ما فاته لسقوط الوجوب عنه، وعند الشافعي: يقضي.
والثاني: أن المسلم إذا صلى وحج ثم ارتد-والعياذ بالله-ثم أسلم
في الوقت.
لزمه عندنا قضاء الصلاة والحج لأن الخطاب انقطع بالردة فصار
حال الإسلام ثانياً حال ابتداء الخطاب بعبادة الوقت.
وعند الشافعي لا يقضي لأن الخطاب لم ينقطع وقد أدى الواجب
بالخطاب الأول إلا أن شيئاً من هذه المسائل لا يدل على سقوط
الوجوب فإن المرتد كافر، والله تعالى وعد المغفرة للكافر إذا
أسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يجب ما قبله"ولم يفصل
وأما إذا كفر بعدما صلى فإنما لزمه ثانياً لأن الأول قد بطل
لقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} فيصير ما مضى
كصلاة أداها مع الكفر.
ومنهم من جعل هذه المسألة فرعاً لمسألة الإيمان أنه قول وعمل
أو قول بلا عمل فمن جعله قولاً وعملاً جعل الكل من الإيمان،
وهو مخاطب بالإيمان فيكون مخاطباً بالعبادات أيضاً.
ومن جعله قولاً بلا عمل لم يخاطبه بها إلا أنه ساقط بأن سائر
المعاملات والعقوبات ليست من الإيمان بالله تعالى، والكافر
مخاطب بها ابتداء لا تبعاً للإيمان.
وقد ذكر محمد بن الحسن رحمه الله أن من نذر بصوم ثم ارتد
والعياذ بالله ثم أسلم لم يلزمه قضاؤه لأن الشرك أبطل كل عبادة
وإنما أراد وجوبها لأنه لم يؤده بعد، ولما كان منافياً للوجوب
وثبت فيه نص الرواية ثبت المذهب.
(1/438)
ولم أر لهذا القول حجة يعتمد عليها وقد
تفكرت في ذلك فلم أنل إلا واحداً وهو أن الكافر ليس بأهل لأداء
العبادة لأن أداء العبادة لاستحقاق ثواب الآخرة بحكم الله
تعالى، والكافر ليس بأهل له حكماً من الله تعالى على سبيل
العقوبة، كما مل نجعل العبد أهلاً لملك المال والمرأة أهلاً
لملك المتعة على الرجل بملك اليمين أو النكاح.
ولما لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل لأن
الخطاب بالعمل للعمل كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من
الكفارة وغيرها.
فتبين بهذا أن الكافر ما له ذمة الجنة والعبادات ثمن الجنة،
فأشبه في حقه من لا ذمه له أصلاً من البهائم بخلاف الإيمان
لأنه ثبت له به ذمة الجنة والكافر أهل أن يكتبه فصح الخطاب
باكتسابه.
فإن قيل: هو من أهله إذا أسلم، والله تعالى خلقه على طلبه
الإسلام منه.
قلنا: لا يجوز أن يخاطب بناء على طلبه الإسلام منه لأنه في
حالة ليس بأهل لعمل يثاب عليه ولا أعد للإسلام مآله فيعطى حكم
مآله بالإعداد له، كما قلنا في المني في الرحم والطفل وبيض
الحرم، فإن الكافر مآله مآل الإسلام جبلة من الله تعالى ولا
عادة منهم بل العادة في الكافر التمسك به كالمسلم وإنما يختار
الإسلام نادراً كالمسلم يختار الكفر نادراً.
وليس الكافر كالجنب فإن الجنب يخاطب بالصلاة لأنه أهل بنفسه
لعمل يثاب عليه غير أنه لا يصلح للصلاح لفقد شرطه، وهو
الطهارة، كما لا يصلح لصلاة مع استدبار الكعبة مختاراً فهذا
شرط لصحة الأداء ليصير أهلاً لعمل يثاب عليه في الآخرة فصح
الخطاب به على أن يفعله بشرطه.
فأما الكافر فليس بأهل لعمل يثاب عليه في الآخرة وسبيله سبيل
المولى يقول لعبده: أعتق عن نفسك عبداً أو كفر عن يمينك
بالمال، كان لغواً لأن ملك المال شرط التصرف بهذا الخطاب
والعبد ليس من أهل ملك المال.
وبمثله لو قال لآخر: اعتق عبدك عني بألف درهم فأعتق صح عنه
لصحة الأمر به لأنه أهل للإعتاق إلا أنه فقد للحال شرط الأداء
وهو الملك فصح الأمر به على ما يؤدي عنه المأمور به.
فإن قيل: العبد الماذون أو المكاتب يشتري فيصح منه تملك المال
وهو ليس بأهل له!
قلنا: إنما يصح على معنى أن المولى يقوم مقامه في الملك أو
يعتق بنفسه فيملك بذلك السبب إن كان مكاتباً، ولأن للعبد ضرب
ملك، وكذلك للمكاتب على ما بينا في موضعه، وهو ملك التصرف بحكم
ملكه ذلك المال يداً إن لم يملك رقبة فلا يخلو في
(1/439)
الأحوال كلها خطاب التمليك صحيحاً لأحد عن
رجاء الملك له أو لمن يقوم مقامه، والكافر يخلوا أداؤه للعبادة
عن ثواب يكون له أو لغيره على طريق القيام مقامه.
والأسباب إذا خلت عن أحكامها لغت الإيمان لأنه من أهل أن يؤمن
للحال فيثاب به عليه بخلاف المعاملات لأنه إنما يخاطب بما
يتأهل لاستحقاق حكمها.
وبخلاف العقوبات لأنه أهل للإقامة عليه حتى لم يكن عندي خطاب
الكفارة ثابتاً في حق الكفار، لأنه لا يخلو عن معنى العبادة
واستحقاق الثواب، كالعبد لا يخاطب بالتكفير بالمال لأنه ليس من
أهل ملك المال.
فأما الجواب عن قولهم: إن الكفر معصية فلا يجعل عذراً فكذلك،
ولسنا نسقط الخطاب مرحمة ليكون بسبب العذر بل أسقطنا الخطاب
نقمة ليكون بسبب المعصية.
وإنما قلنا: يسقط نقمة، لأنه سقط لخروجه عن صلاحه للجنة وهذا
نقمة.
فإن قيل: إذا لم يخاطب بها لم يؤاخذ بتركها.
قلنا: إن الخطاب للأداء لا للإثم بالترك فلو لم يجز التصحيح
لكان الإثم بالترك على أن الكافر يترك الطاعات مستحلاً، وكذلك
يرتكب المعاصي مستحلاً فيكون ذلك كفراً على كفر، وتزداد
العقوبة بذلك كله على أنه إن لم يكن من أهل فعل العبادة لأنها
من ثمن الجنة فلم يخاطب فهو من أهل المعصية التي هي سبب النار
فيستقيم إثبات الخطاب في حقها، ولهذا نجدهم على المعاصي في
الدنيا وهي عقوبة.
ولأن إخراجهم أنفسهم بالكفر عن أهلية الخطاب في إيجاب الإثم
عليهم فوق تركهم ما يلزمهم بالخطاب فلا يكون فيه خفة كالذي
يقتل نفسه لا يؤاخذ بما يفوته من العبادات بعده، وإن كان القتل
معصية لأن إثمه في قتله نفسه يربى على ذلك كله.
ومعنى قول الله تعالى: {لم نك من المصلين} [المدثر: 43] أي
المسلمين فسمى الإسلام باسم شريعة منه كما سمى الصلاة باسم
الركوع والسجود، لأنهم لم يكونوا من المصلين مستحلين وبهذا
يؤاخذون.
ولأنا لا نسقط الخطاب بالكفر، ولكنا لا نوجب لفقد الشرط الذي
يصح معه الخطاب وهو الأهلية لحكمه، وهذا كما لا يخاطب بعد ما
قتل نفسه.
والذي يدل عليه أن هذه الأعمال للفكاك عن قيد الاستعباد كمال
الكتابة يؤديه العبد للفكاك عن قيد الرق، وقبل الإيمان بالله
تعالى لا يتصور منه أعمال يتعلق بها الفكاك ويتعلق بنفس
الإيمان الفكاك أو يثبت به عقد الكفاك فاستقام الخطاب بالإيمان
دون الأعمال.
ألا ترى أن المولى يستقيم منه خطاب العبد بعقد الكتابة ولا
يستقيم الخطاب بأداء
(1/440)
مال الكتابة لأن ما لا يتعلق به الفكاك لا
يتصور قبل العقد وعقداً يتعلق به الفكاك يتصور مع الرق ثم سقوط
المطالبة بمال يتعلق به الفكاك عن العبد القن لا يكون خفة إذا
قوبل بمطالبة المكاتب بمال الكتابة، لأن ما تحت سقوط هذه
المطالبة من ذل الرق فوق هذه المطالبة وما تحت المطالبة
بالكتابة من العتاق والنفع الذي فيه فوق نفع سقوط المطالبة
فيصير عند اعتبار العاقبة.
والمعنى توجه الخطاب بأداء الكتابة ضرب كرامة وكان من تعاطي
أمور الدنيا نظير شرب الدواء للمريض في مقابلة مريض بمريض لا
دواء له فلم يسق فلا يكون حطاب المريض الذي يرجى شفاؤه بسقي
الدواء تشديداً.
ولا سقوط الخطاب عن الذي لا يرجى شفاؤه تخفيفاً متى تؤمل في
معنى السقوط والثبوت بل كان السقوط شدة لأنه سقط ليأس الطبيب
عن حياته وكأس المنية أمر من كأس الدواء والذي خوطب بالدواء
خوطب للشفاء، ومرارة الدواء تسقط متى قوبلت بحلاوة الشفاء.
فعلى هذا الكافر سقط عنه خطاب الله تعالى بالعبادات ليأسه عن
الجنة على كفره، وخوطب المؤمن لاستحقاقه الجنة وشدة النار فوق
ثقل الخطاب، وراحة الجنة فوق تعب أداء ما خوطب العبد به، وهذا
كما يسقط عن الكفار خطاب الإيمان بعد البعث إذ لو بقي لقبل
منهم إذا أجابوا، ولم يكن هذا السقوط تخفيفاً بل تنكيلاً وهذا
كما لا يخاطب البهائم والجمادات وليس ذلك لإرادة التخفيف عليها
بل لأنها ليست بأهل فكان للإزراء.
ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله: بأن من صلى فرض الوقت ثم ارتد
ثم أسلم في الوقت أعاد الفرض، وكذلك يعيد الحاج إن كان حج قبل
الردة لأنه بالردة صار غير أهل والعبادة كما لا تصح إلا من أهل
لا تبقى لغير أهل كملك المال لما لم يثبت للعبد لا يبقى لمن
استرق.
وكذلك ملك الأربع من النساء كما لا يثبت للعبد لا يبقى له إذا
استرق، ولكن مع هذا كله لم نعد الكفر في ما بيننا مسقطاً لأنه
ليس من جملة الأعذار والخطاب ما سقط به تخفيفاً فأما سائر
الأعذار فمما يكون بآفات أصلية جبلية أو شرعية فاستقام أن يكون
سبب تخفيف، والله أعلم.
(1/441)
باب
القول في الحجج العقلية
قد أجمع العقلاء على إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل
العقول، كإجماعهم على إصابة الحاضر بالحواس، حتى إنك لا تكاد
تجد أحداً خالياً عن الاستدلال لمصالحه برأيه عن عقله، وحتى لم
تكن الحجج السمعية حججاً إلا باستدلال عقلي، ولا يقع الفرق بين
المعجزة وبين المخرقة، والنبي والمتنبئ إلا بنظر عن العقل،
وكذلك تعرف النار مرة ببصرك ومرة بدخانها مستدلاً عليها بعقلك،
لا طريق للعلم إلا طريق الحواس أو الاستدلال بنظر عقلي في
المحسوس ليدرك لما غاب عنها.
[قالوا: ولا خلاف في هذا بين العقلاء].
وإنما اختلفوا بعد هذا؟
فقال بعضهم: لا يعرف الله بمجرد دلائل العقول حتى تتأيد
بالشرع.
وقال بعضهم: يعرف ولكن لا يجب الاستدلال إلا بالشرع.
وقال بعضهم: يعرف ويجب الاستدلال قبل الشرع.
وقال بعضهم: لا نشتغل بهذا لأن الله تعالى لم يدعنا والعقول،
فلا معنى للاشتغال بشيء لم نبتل به.
وقد قال علماؤنا: لا يقاتل من الكفار من لم يبلغه دعوة إلا بعد
الدعوة، وإن قوتلوا وقتلوا لم يضمن لهم شيء.
وقال الشافعي: يضمن، وقال أيضاً: إنهم يعذرون في الآخرة فجعلهم
كأطفال المسلمين.
ولا نص عن علمائنا في"المبسوط"إلا ما ذكرنا من هدر الدماء،
وإنه لا يدل على إلزام الكفر بترك الاستدلال حكماً فإن المسلم
منهم عندنا هدر دمه ما لم يحرز نفسه بدار الإسلام.
وقد قال علماؤنا في الصبي إذا عقل وأسلم: صح إسلامه ولو لم
يستدل بعقله، ولم يجز كلمة الشهادة على لسانة لم نحكم بكفره
وإن امتنع بعد الاستيصاف بل كان في حكم المسلم ما لم يبلغ، ولو
امتنع بعد البلوغ كفر بالله لأن خطاب الشرع بالأداء ساقط قبل
البلوغ فصار معذوراً، وإن عقل فاحتمل مثله بعد البلوغ قبل أن
يبلغه دعوة أحد فلا
(1/442)
يحكم بكفره بجهله بالله وغفلته عن
الاستدلال بالآيات.
ويحكى عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا عذر لأحد في
الجهل بالخالق، لما يرى في العالم من آثار الخلق. ويحتمل أن
يكون المراد به: بعد إمهال الله تعالى لا لابتداء العقل فقد
حكينا عنهم أنهم عذروا الصبي بجهله، والتحديد بالبلوغ ثبت
شرعاً فلا يلزم إلا بعد السماع.
فأما الذين قالوا: إن الله تعالى لا يعرف بدون الشرع فقد ذهبوا
إلى أن الفقهاء أجمعوا على أن الأداء لا يجب إلا بعد خطاب
الشرع.
ولو كان العقل حجة كافية لوجب قبل الشرع.
ولأنا نرى العقلاء مختلفين في إثبات القديم مع شدة تأملهم
واشتهارهم بالحكمة، ولا نقف على أحد منهم إصابة ما تبين
بالشرع، ولو كان بالعقل كفاية لما اختلفوا كما لم يختلف
الأنبياء عليهم السلام ومن سلك طريقهم.
وأما الذين قالوا: إن الكفاية تقع بالعقل فذهبوا إلى أن
إبراهيم صلوات الله عليه قال لأبيه: {إني أراك وقومك في ضلال
مبين} ولم يقل أوحي إلي فثبت أن العقل بنفسه مما يهدى.
وكذلك الله تعالى أخبر عن إبراهيم أنه استدل بالنجوم فعرف ربه
وكان حجة على قومه فقال: {وتلك حجتنا ءاتينا إبراهيم على قومه}
وليس في الآية من باب الوحي ذكر، وقال: {سنريهم ءاياتتا في
الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ولم يقل نسمعهم أو
نوحي إليهم.
وقال: {ومن يدع مع الله إلهاً ءاخر لا برهان له به} الآية، ولم
يقل: بعدما أوحي إليه، أو بلغته الدعوة فثبت أن العذر ينقطع
بالعقل وحده ولو لم يكن به كفاية المعرفة لما انقطع به العذر.
ولأن المعجزة بعد الدعوة لا تعرف إلا بدليل عقلي وآيات الحدوث
في العالم أدل على المحدث من علامات المعجزة، على أنها من الله
تعالى فلما كان بالعقل كفاية معرفة المعجزة والرسالة كان به
كفاية معرفة الله تعالى من طريق الأولى.
(1/443)
فصل
ولما ثبت أن بالعقل كفاية كان بنفسه حجة بدون الشرع، ولزم
العمل به كما يجب بالشرع وبسائر الحجج إذا قامت.
والجواب عن قولهم: إن الله تعالى لم يدعنا والعقول، فإن ذلك من
الله رحمة أو لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات
والحدود التي بها تتمة الدين أو كان أمر البعث والجزاء مما
يشكل مع العقل وحده إلا بجد تأمل، فيه حرج يعذر الإنسان بمثله
ولا إيمان بدونه فكان حقاً على الله تعالى بعث الرسل لبيان ما
به تتمه الدين لا لمعرفة الخالق.
وقال بعضهم: بعث الرسل رحمة أو نقول: إن الله تعالى لم يدعنا
ورسولاً واحداً من أوله إلى آخره، والحجة كانت قائمة بالواحد
كما بقي لمحمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ورب قوم بعث
الله إليهم رسلاً فلم يدعهم ورسولاً واحداً ولم يدعنا الله،
والبيان بآية واحدة بل بآيات متكررة فلا يدل أن الآية الواحدة
لم تكن كافية.
على أن نصور المسألة في رجل نشأ في شعفة من الجبل لم يسمع من
أمر الرسل شيئاً، وبلغ مبلغ العقلاء والجواب عن قولهم لو كان
بالعقل كفاية لما اختلف العقلاء فيه أن ذلك الاختلاف لاختلافهم
في جهة الاستعمال كما اختلفوا بعد دعوة الرسل.
وكما اختلف الأطباء في الأدوية فالمقتصر في اجتهاده لا ينال
الحقيقة.
وكذلك الغالي يتعداها فإذا جاء الوحي والعصمة عن التقصير
والغلو صار الدين واحداً، وكما اختلفوا في معرفة الرسل والعذر
ينقطع بهم.
فصل
وأما الذين قالوا: إن الاستدلال لا يجب قبل الشرع فاحتجوا
بالشرع والعقل.
أما الشرع: فلأن الاستدلال ليس يدوم وجوبه شرعاً فإنه ساقط
شرعاً عن الطفل والمجنون ومن لا يهتدى إليه لأنه ليس في وسعه
فجاز كذلك السقوط حال عدم الشرع، فالهوى غالب في الإنسان وطرق
الدين مختفية تحت غلبة الهوى، ومنام القلب بالغفلة عن دلائل
العقل وفي تنبيهه عن نوم الغفلة بلا شرع حرج عظيم أكبر مما
يحرج الصبي العاقل بسبب نقصان عقله لإدراك ما يدركه البالغ من
الخطاب المسموع، وقد أخبر الله تعالى بأن لا حرج في الدين وإن
الخطاب ساقط عن الصبي.
(1/444)
وكذلك الاستدلال على الله تعالى بآيات
الحدوث على ما مر وكذلك بعد البلوغ لأنه لا تفرقه بين الحالين
من حيث العقل ألا ترى أن العبادات كما سقطت بعذر الصبا سقطت
بعذر الجهل عمن أسلم في دار الحرب، ولم يعلم بالعبادات.
فأما إذا اعتقد إلهاً آخر أو ما يكون كفراً من وصفه ربه بما لا
يليق به، فلا يكون معذوراً فيه كالصبي إذا فعل ذلك على ما مر
بيانه لأنا إنما عذرناه في جهله لسقوط وجوب الاستدلال عنه، ولا
معرفة بدونه كما عذرنا النائم والصبي فاعتقاد أمر لا يكون إلا
بضرب استدلال وحجة فلم يعذر فيما أحدث من اعتقاده إلا بحجة كما
في حق الصبي، ولهذا صح الاحتجاج من إبراهيم عليه السالم بما
استدل قبل الوحي.
والدليل على أنه معذور وأن ترك الاستدلال قول الله تعالى حكاية
عن خزنة النار لأهلها: {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات
قالوا}.
وفي موضع آخر حكاية عن نفسه: {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليك
ءاياتي} فألزمهم استيجابهم النار بالرسل لا بالعقول وحدها، ثم
قال بعد ذلك: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون} أخبر أن الإهلاك قبل الرسل كان يكون ظلماً وإنهم
معذورون بغفلتهم وإن عقلوا لولا تنبيه الرسل.
وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} والعذاب المطلق
هو النار.
وقال: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فكان حقاً على
الله بعث الرسل لقطع حجة الناس.
وقال: {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم} الآية إلى أن قال:
{أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما
أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل
المبطلون} فلولا أنهم كانوا معذورين بسبب جهلهم وإلا لم يكن
قطع الحجة بخطاب {ألست بربكم} ابتداء ثم إعلامهم بذلك انتهاء.
ولأن النفس بهواها غالبة لأنه لا عقل لأول الفطرة وإذا أحدث
حدثاً مغلوباً به إلا من شاء الله من الخواص.
وإذا كان مغلوباً بقيت العبرة للراجح وبقي الحكم على ما كان
قبل العقل حتى يتأيد العقل بالوحي فيترجح على الهوى حينئذ فيجب
العمل فلن يجوز في الحكمة إلزام العمل حساً، والعامل مغلوب
بالمانع حساً.
فكذلك لا يحسن إلزام العمل بالحجة والحجة مغلوبة مدفوعة
بغيرها.
والجواب عن قولهم: إن الشرع لا يعرف إلا بدليل عقلي فكذل، ولكن
إنما يجب
(1/445)
النظر في المعجزة بعد دعوة الرسول بكلام لا
تميل في موجبه بحيث يقف على موجبه إذا سمع ببديهة عقله بلا حرج
نظر فيصير ذلك الخطاب منبهاً قلبه عن نوم الغفلة إلى التأمل
فيما سمع أصدق هو أم كذب.
فأما الآيات الدالة على الله تعالى فساكنة لا تعرف آيات
بالحواس، وإنما تعرف بالاستدلال ولا استدلال مع غفلة القلب.
والغفلة بغلبة الهوى والهوى مخلوق من الله تعالى فلا يلزمه
الاستدلال ما لم يأت ما ينبهه للنظر والاستدلال من أمر محسوس،
وذلك دعوة الأنبياء عليهم السلام فصار هذا القول قولاً بين
القولين بين التقصير والغلو فمقصر من أنكر معرفة الله تعالى
بدلالات العقول وحدها وغالي من ألزم الاستدلال بلا وحي ولم
يعذره بغلبة الهوى وهو من الله تعالى.
وقرب من الإنصاف قال إن الله تعالى يعرف بدلالات العقول وحدها
ولكن لا يجب فعل الاستدلال إلا بشرع وألحقه بالصبي.
ونفس العقل لا يفرق بني امرأة عقلت وحاضت لتسع سنين وصبي عقل
وبلغ أربع عشر سنة ونصفاً، بل حال الصبي أكم من حال البالغة
بحيضها لتسع سنين.
إلا إن في هذا القول ضرب تقصير في إيلاء عذر كهل بلغ أشده
وأدرك غامضات أمور الدنيا برأيه وهي لا تنال إلا بجد تأمل ولم
يعرف لنفسه خالقاً، وإنه ينال ببداهة العقول فإنه لا يرى بناء
إلا وقد عرف له بانياً، ولا نقشاً إلا وقد عرف له نقاشاً ولا
صورة جماد إلا عرف له مصوراً فكيف يعذر بعذر رؤيته صوراً حسية
في جهله بمصورها وإذا لم يعذر ولا بد أن تقع المعرفة بفاعل
الصورة فقد تنبه بعقله للنظر فيلزمه من النظر ما تتم به
المعرفة.
وأشبه تنبه ببديهة عقله التنبيه بدعوة النبيصلى الله عليه
وسلمالتي هي كلام نص على التنبه فكيف ينكر هذا والله تعالى
يحكي عن الكفرة: {ولئن سألتم من خلقهم ليقولن الله} وكذلك لا
نرى نحن أحداً من الكفار إلا ويخبر عن الصانع وإنما كان كفرهم
بوصفهم الله تعالى بما لا يليق به من الولد والشريك وغل الأيدي
ونحوها مما حكى الله تعالى عنها، والعذر بلا خلاف منقطع عن
مثله أو كان الكفر بإنكارهم البعث للجزاء.
وكلامنا في نفس الجهل بالصانع عن ذكره وكيف يعذر والجهل جاء من
قبل استخفافه بالحجة بعدما لاحت له بلا تميل فالبناء شاهد على
الباني بلا تميل في العقول والاستخفاف بالحجة فوق الغفلة عن
سكر يقع بالخمر، وإنه لم يعذر به فبهذا أولى بخلاف أول حال
العقل لأنه لأول أمره لا ينتبه له كما لا ينتبه له الكبير إلا
بجهد وحرج لنقصان العقل وقيام فترة حال الغفلة كالنائم يتنبه
فلا يدرك لأول أمره ما يدركه بعد مدة فاستقام أن يعذره الله
تعالى برحمته ثم قدر مدة العذر إلى الله تعالى ما يعرف بالعقل.
(1/446)
وكلامنا فيمن لم يبلغه شرع على أن حد الشرع
بالبلوغ لبيان أحكام الدنيا وكلامنا في حق الآخرة، وإنهما
مختلفان على ما بينا في باب الخطاب وصحة تصرفات الصبي وردته،
والدليل عليه قول الله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من
تذكر وجاءكم} ولم يذكر الوحي، وقال: {وجاءكم النذير} وقيل: إنه
الشيب، وقال: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلف الله السموات}
ولم يذكر الوحي بل عاتبهم على ترك التفكر وقال: {سنريهم
ءاياتنا في الأفاق} الآية.
أخبر أنه يريهم الآيات حتى يتبين لهم أنه الحق فثبت أن اللبس
لا يقع إلا لاستخفاف بالحجة كما يكون بعد دعوة الرسل وعن
احتجاجهم بقول الملائكة: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} أنه
كلام توبيخ فيكون بأظهر الأمور وأعلاها وتأويل هلاك القرى في
الدنيا لأنه لا قرى في الآخرة، وعذاب الدنيا جزاء على تكذيب
الرسل زاجراً لا جزاء نقمة على الكفر على ما بينا في مسألة قتل
المرتدة ونحوها، ولأنا نسميه غافلاً بسبب فقد الحجة والذي معه
عقله غير فاقد الحجة على ما بيناه.
وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} أي حجة تقال
لا حجة تقبل وكذلك آية أخذ الميثاق لقطع حجة تقال على حسن الظن
بحالة على تقدير أنه حجة تقبل منه، والله أعلم.
وتأويل قوله:"بظلم"أي بظلم من الكفرة أي لم نهلكهم بظلمهم حتى
أرسلنا الرسل وظهر تعنتهم، ولو أهلكنا لكان عدلاً، لكنا أمهلنا
إلى حين الرسل فضلاً وبهذا التأويل يخرج عذاب الآخرة أي أخرنا
عنهم العذاب إلى بعث الرسل تأكيداً عليهم كما جعلناه بعد
الحساب والشهود.
(1/447)
|