تقويم الأدلة في أصول الفقه باب
القول في أقسام دلائل العقل
الموجبة
منها ما يدل عليه ببداهة العقول كحدوث العالم ودلالة البناء
على الباني.
ومنها ما لا يكون دلالة إلا بجد تأمر ونظر كدلالة العالم على
صانع هو الله تعالى، ولهذا اختلف العقلاء في ذلك لاختلافهم في
استعمال النظر ولم يختلفوا في حدوث العالم المحسوس ووجوب القول
ببانٍ للبناء.
ومنها ما لا يكون دلالة إلا بالتجربة كمعرفة الأدوية والأغذية،
ولكن إذا دق المطلوب اختلف فيه للشبهة.
ومنها ما لا يكون دلالة إلا بمعونة الحس كالنجوم على الطريق
والجبال والأميال حتى شاركت البهائم العقلاء في هذه المعرفة
لمشاركتها إيانا فيما ينال بالحواس، والله أعلم.
(1/448)
باب
القول في مباحات العقول للحياة
الدنيا
لا للدين قطعاً واجب القول بالإباحة
وهذه المباحات قطعاً أربعة أقسام:
فعل ما تقوم به النفس من حيث التنفس والأكل والشرب بقدر ما لا
يحيى بدونه يجب أن يكون مباحاً أصله.
وفعل ما يدفع عن نفسه أسباب التلف من آفات خارجة، وفعل ما يقوم
به الجنس نحو الجماع.
وفعل ما تقوم به التربية بعد الوجود في نحو الحضانة إلى أن
يستغنوا، لأن العقل يستحسن السعي لإبقاء نفسه بقدر الإمكان
فالبقاء رأس المال إلا بدليل يبين له خيراً في هلاكه، والبقاء
فيما يجلب له القوى التي فيها حياته وفيما يدفع عنه ما يقطع
عليه حياته بعد وجود العلل، فلا بد أن يقال بحسنها وأدنى درجات
الحسن أن يقال بإباحتها له ليفعله.
وكذلك فعل ما يتفرع عنه من يبقى بعده لأنه لا يمكنه السعي
لإبقائه بعد موته إلا بفرعه، والعقل يستحسن السعي للإبقاء بقدر
المكنة ثم السعي بحضانته لأن قوامه بعد موته بفرعه فيلزمه
لفرعه ما يلزمه لنفسه ما لم يستغن عنه بنفسه، ولهذا ركب الله
تعالى في الطباع دواعي إليها من الشهوات وغيرها حتى شاركت
البهائم العقلاء في فعل هذه الأمور بحكم الطباع ولأنا لما
وجدنا هذا مما يدعو إليه الطبع والطباع رأس مال الحياة لم يجز
القول بحرمة دواعيها إلا بعارض يغير حكم الحال فصارت الإباحة
أصلاً والحرمة عارضة إلا أن ما يجعل حقاً لنا ينافي الوجوب
علينا، فلذلك وصفنا بالإباحة، ولهذا لم يبح الزنا وإن كان
التناسل به أكثر لأن التربية في بني آدم أكثر ما يكون بالرجال
حتى تكون نفقة النساء على الرجال.
وكذلك نفقة الأولاد شرعاً، والآباء يشتهون بالزنا فتوف تربية
الرجال والنساء لا يمكنهم التربية بأنفسهم فيضيع الأولاد
وينقطع النسل إلا نادراً ويدل عليه أن شهوة الجماع
(1/449)
مخلوقة والخلق لغير حكمة عبث ولا حكمة إلا
في الاقتضاء لما فيه من التلذذ وشفاء الصدر إذ في كف نفسه عن
ذلك طاعة لربه فيثاب عليه كما يجب عن الزنا فتكون الحكمة أمراً
من أمور الآخرة وكلامنا في الحكمة العاجلة قبل أن يأتي أمر
الدين والآخرة، ولأن في الكف عن اقتضاء الشهوة بعد الحاجة إليه
ضرراً ومكروهاً ولا يجب تحملها إلا بدليل يلزمنا لنفع العاقبة
فثبت أن الإباحة أصل والحرمة بدليل عارض، والله أعلم.
(1/450)
باب
القول في موجبات العقول الواجبة
ديناً
نعني بالوجوب الوجوب في الذمم حقاً لله تعالى بوقوعه علينا لا
وجوب الأداء والتسليم إلى الله تعالى فقد ذكرنا أن الأداء لا
يجب قبل الشرع، هذه الواجبات أربعة: معرفة نفسه بالعبودية.
ومعرفة الله بالألوهية.
ومعرفة العبيد للابتلاء إلى حين الموت بطاعة الله تعالى على
أوامره ونواهيه للجزاء الوفاق خالدين.
ومعرفة الدنيا وما فيها للعبيد المبتلين لضرب نفع يعود إليهم
منها.
ونعني بموجب العقل ما دل عليه العقل قطعاً إذا استدل به العبد
إلا أن ما يكون منه ديناً يجب فعله لله تعالى لأنه مبتلى به،
وما يجب للحياة الدنيا فلا نصفه بالوجوب عليه بحق الدنيا لأنه
فيها كالبهائم وإنما فارقناها في حق الدين، ولهذا بنينا الباب
الأول على إثبات الإباحة قطعاً وههنا على الوجوب.
وقد يقال بالوجوب في الباب الأول أيضاً للدين إذا كان قوامه
للتدين ما تقوم به الحياة الدنيا فيجب الأكل والشرب تديناً،
وكذلك التنفس، والتحصن عن شر الأعداء وشر البرد والحر ولو ترك
حتى قتل أثم.
فأما الجماع فحظ الدين فيه بقاء الجنس إلى يوم القيامة، لأن
الله تعالى حكم ببقائه إلى تلك المدة وعلقه بالجماع، وفرض
علينا ديناً السعي لإقامة حكم الله تعالى فإنه لا تبديل لحكمة
غير أن هذا الحكم يتأدى بجماع البعض فلم يجب على كل واحد بخلاف
الأكل فإن الله تعالى حكم ببقاء كل شخص إلى حين، وعلق بأكله لا
بأكل غيره فتعين كل شخص لوجوب الأكل عليه ديناً قطعاً ثم
إثماً.
قلنا: إن هذه الأحكام الأربعة واجبة بالعقل ديناً لله تعالى
أما معرفة نفسه بالعبودية لأن قوامه باجتماع أجزاء، والاجتماع
عرض يضاد القدر فيلزمه القول على نفسه بالحدث ثم يرى نفسه
بفوته محاباة مما أصابه مع شدة حرصه على إمساكه، وبفوته أغراضه
مما يطلب مع شدة عزمه على الإصابة، ويجد نفسه تعيش بما ليس له
من قوت يخرج من الأرض بماء وطبائع هواء ليست في يده فيعلم أنه
مقدور عليه وله.
(1/451)
وإذا علم هذه الأوصاف علم أنه مملوك لأن
المملوك لغة ما قهر بيد الاستيلاء وإنه مقهور بالتكوين
والإنشاء.
وإذا عرف أنه مملوك عرف أنه عبد لأن العبد اسم خاص للملوك من
العقلاء الصالح لفعل العبادة وهو صالح لها ومملوك فإذا علم
نفسه بهذه الصفات عرف ربه ضرورة لأن كونه محدثاً لا يخلو عن
محدث، وكونه مقدوراً عليه لا ينفك عن قادر، والمضروب لا يخلو
عن ضارب وكونه مملوكاً لا يخلو عن مالك، وكونه عبداً لا يخلو
عن إله العبد اسم لمن خلق للعابد ولا بد للعباد من معبود.
الإله لغة: اسم لمن يستحق العبادة، ولهذا سمت العرب الأصنام:
آلهة فيعرف بضرورة هذه الصفات التي ظهرت عليه من حيث لا شك فيه
أن له إلهاً مالكاً قادراً محدثاً، ولهذا قال النبيصلى الله
عليه وسلم:"من عرف نفسه فقد عرف ربه"، وإذا عرف أنه خلق لعبادة
ربه، ولا يجوز في الحكمة خلو الصنع عن عاقبة حميدة، وعاقبة
الصنع لدى العقلاء. أحد أمرين: فائدة تعود إليهم من جلبة نفع
أو دفع ضر أو ظهور الفاعل بعظمته وجلالته وكرمه وصفاته الحسنى
بذلك الصنع لدى غيره.
وتعالى الله عن الحكمة الأولى فإن الله غني عن العالمين فتعينت
الأخرى وهي ظهور عظمته وقيام الثناء والحمد منهم إياه بالإحسان
إليهم ولما وجب أن يكون الخلق لهذه الحكمة وهو أن يعرفوه
ويشكروه.
ثم وجدنا الناس بين شاكر وكافر علمنا أن الله تعالى خلقهم
ليعبدوه بأمره إياهم على ذلك لا بجبره.
وقد جعلهم مختارين في الإباحة مبتلين بشهوات معلومة فيهم تصدهم
عن الإجابة.
ولأن الأحياء يجدون من أنفسهم في أفعالهم حد الاختيار ضرورة
ويجدون في أنفسهم ما يصدهم عن طاعة الله تعالى ضرورة ويدعوهم
إلى خلافها.
وفي ذلك ما يفوت هذه العاقبة وفوت العاقبة من الصنع دليل على
عجز الصانع وتعالى الله عن ذلك فعلمنا أن تعليق وجوب الطاعة
بالاختيار من العبد مع خلق الله الهوى والشهوات الصادة عن
الإجابة، كان لحكمة أخرى هي فوق حصول الطاعة بلا فوت وهو أن
خلقهم لهذه الأعمال ليجازيهم عليها بوفاق أعمالهم. الإحسان
بالإحسان، والسيئة بالسيئة، وما كان يجب الجزاء مع الجبر
فالفعل من المجبر غير مضاف إليه بل إلى الذي أجبره فكانت الدار
تصير داراً واحدة، وهي الدنيا فكان لا يتم للعبيد من الله نعمة
لكونهم مبتلين بالعبادة، والكف عن اقتضاء الشهوات متصرفين تحت
الأمر والنهي وكان لا يصفو عن الشبهة
(1/452)
علمهم بصفات الله تعالى فالدنيا على ما
نراها ما فيها آيات قاهرة للحق على المعرفة.
ولأن لله تعالى صفتين عدل وفضل، ولو كان التخليق على سبيل لا
يكون فينا ما يصدنا عن الطاعة لكان لا يقع منا معصية، والله
تعالى لا يعذب أحداً ابتداء فكان لا تعرف صفة عدله بدلالة صنعه
وصفات الله تعالى مما وجب القول بها بدلائل صنعه عليها فخلق
الخلق على هذا الوصف ليصير الناس بين شاكر وكافر ليجازيهم على
ذلك في دار أخرى ذات آيات قاهرة لا يبقى فيها أحد منكراً له
عاصياً لأمره جاهلاً بصفات بدلالات صنعه لتحصل العاقبة
المطلوبة من المعرفة والطاعة بآثار صنعه فيعرفه أهل الجنة بصفة
إحسانه بآثار صنعه بمكانهم، وأهل النار بصفة عدله وغضبه
وانتقامه بآثار صنعه بمكانهم.
فتكون المعرفة بجميع صفاته بأبلغ أسباب المعرفة تعالى الله من
حكيم لا يحاط بحكمته ولما وجب القول بدار أخرى، وهي دار الجزاء
على هذه الأعمال وجب البقاء والخلود لأنا أثبتنا هذا الترتيب،
لأن تناهي الحكمة المطلوبة من الصنع فيه وكان الخلق بدونه
عبثاً فلم يجز أن يفوت فيصير عبثاً.
ألا ترى في الشاهد كما لا تفوت العاقبة المطلوبة من الصنع عن
الصانع إلا لعجزه، كذلك لا تفوت بعد الوجود إلا لعجزه وتعالى
الله عن ذلك، وبذلك نطق كتاب الله تعالى: {وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون} وقال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم
إلينا لا ترجعون} أي حسبتم أنا عبثنا بخلقكم، ثم نفى صفة العبث
بحكم الرجوع إليه، فبين أنه لا يجوز أن تكون الدنيا بلا دار
جزاء.
وقال: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا
وعملوا الصالحات} الآية فبين أن التسوية بين الكافر والمؤمن
حكم سيء والكافر والمؤمن سواء في حظوظ الدنيا، وأخبر الله
تعالى أنه غير حق والله تعالى خلق بحق، وأخبر أن الحق في
المجازاة على وفاق العمل.
وقال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض} الآية فأخبر أن
الآدمي حملها عن اختياره لعاقبة تعذيب المشتركين ومغفرة
المؤمنين وهما في دار أخرى للجزاء.
وقال: {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.
وقال: {وليبتلى الله ما في صدوركم} والابتلاء لا يتصور إلا
بفعل يكون الفاعل مختاراً فيه، وقال الله تعالى في حكاية تمام
الإيمان: {ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن
بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فثبت أنه لا تتمه إلا
بالمصير إليه وليس التتمة بالفناء.
ولما ثبت أن الصنع من الله تعالى لا يجوز إلا لعاقبة الاستعباد
للجزاء وما سوى
(1/453)
الإنسان من المحسوسات لا يصلحون للعبادة
ولم يخاطبوا بها علم أنهم خلقوا لفائدة تجلب منهم أو ضر يدفع
بهم، وتعالى الله عن ذلك فعلم أنه خلقها لعود ضرب هذه الفائدة
إلى عبده المبتلى بعبادته وإنه حسن في الشاهد فعل شيء لفائدة
تعود إليه أو إلى عبده.
وبذلك نطق الكتاب وقال: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
جميعاً منه} وقال: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر}
وقال: {فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} وقال: {فأنبتنا به
حدائق ذات بهجة} وقال: {الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً
طرياً} الآية، إلى آيات كثيرة.
(1/454)
|